تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده وسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102] ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1] ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتُها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم فإنه قد سرّنا كثيراً لما رأيناه من الصحوة الإسلامية إذ أقبل كثير من الشباب على الله تائبين واتجهوا إليه منيبين وقرعوا أبواب الخير مخلصين .
فطمعنا أن الله ينصر بهم دينه، ويعليَ بهم كلمته، وينشر بهم الإسلام في ربوع الأرض، لكن هذا الطمع سرعان ما تبدد حينما رأيناهم قد تفرقوا شيعاً وأحزاباً يكيد بعضهم لبعض وينال بعضهم من بعض ويبغض بعضهم بعضاً..
قد قنع كل حزب بما لديه وظن أن الحق محصور فيما هو عليه، فتذكرت أن الشيطان الذي آلى على نفسه أن لا يزال يغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم والذي نذر عداوتهم وإضلالهم حين قال:
(( فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )) ([1])
قد أدخل في هذه الصحوة ما يضمن له فيهم الشقاق ويفرق الكلمة ويخلط الحق بالباطل والسنة بالبدعة وربما خلط التوحيد بالشرك، فيكون ذلك مقبولاً وإن خالف العقيدة ومستحسناً وإن ناقض الإسلام ، لأنه جاء من علماء يحسن بهم الظن وتضفى عليهم القداسة فكل ما جاءوا به فهو حسن إذ لا يتصور في نظر التابعين أن يخالفوا الإسلام وهم يدعون إليه، وأن يحصل منهم الهدم وهم يريدون البناء ، بل قد يصل بهم أو ببعضهم الظن أنهم لا يخطئون وبذلك يقعون في فخاخ الشيطان باتخاذهم لمتبوعيهم أرباباً من دون الله فيطيعونهم في معصية الله ويمشون على النهج الذي رسموه لهم وإن خالف نهج رسول الله ويلتزمون بما ألزموهم به وإن كان فيه إسخاط لله تعالى " ([2])
ومن ذلك أنهم إصطنعوا لهم وسائل الدعوة بدعية وأسسوا لهم أحزاب إسلامية ـ زعموا ـ مع أن أغراضها سياسية تنحر في جسم الأمة الإسلامية لما أحدثته من الفرقة والتمزق ، وهم في ذلك لا يخفى عليهم إن شاء الله الآيات والأحاديث التي نهى الله فيها ورسوله عن الاختلاف والتفرق والتحزب وذم أهل هذه الصفات كقوله تعالى: (( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ )) [الأنعام : 159]، وقوله تعالى: (( ولا تكونو من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً )) [الروم : 31،32] ، وكقوله تعالى: (( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )) الأنعام 153 ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))
فهل ترى أن نهي الله عزوجل عن التفرق والتحزب والتشيع وذم أهل هذه الصفات والتحذير من طريقتهم كان عبثاً أو أنزله الله عزوجل وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون ضرباً من ضروب التسلي أو ليكون حديثاً عابراً من أحاديث السمر؟
كلا. ثم كلا.. إن القرآن كله عظات وعبر وأوامر ونواهي وأخبار عن العصاة وعواقب العصيان السيئة في الدنيا والآخرة بالإخبار عما يصيبهم في الدنيا من قوارع واستئصال وما ينتظرهم في الآخرة من عذاب أليم وأنواع انتقام ونكال .
وإخبار عن المؤمنين أهل التصديق والأعمال الصالحة وما يحوزونه ويحرزونه بإيمانهم وأعمالهم ومتابعتهم للرسل من عز ونصر وفتوح وغلب وإدالة لهم على غيرهم وما سيلقونه في الآخرة من أمن واطمئنان وفرح واستبشار وعيشة راضية في جنان عالية قطوفها دانية ونعمها متوالية يبقون فيها بقاء الأبد ويخلدون فيها بلا انقطاع ولا زوال، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ما هي إلا ريحانه تهتز ونهر مطرد وثمرة ناضحة وقصر مشيد وأزواج حسان لأنهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .
وقد تبين مما ذكر أن نهي الله عزوجل عن الحزبية والتحزب والفرقة والتفرق لم يكن إلا ليعلم الله عباده بما فيها من الشر المؤكد والفشل المرتقب والعداوة المنتظرة بين من أمرهم الله عزوجل أن يكونوا أمة واحدة وحزباً واحداً يعبدون رباً واحداً ويتبعون رسولاً واحداً، ويتجهون إلى قبلة واحدة، ويدينون بدين واحد، وتربطهم رابطة واحدة، هي رابطة الدين ومما يؤكد هذا المعنى ويدل على أن التفرق مازال ممقوتاً ومحذوراً في كل زمان ومكان وعلى لسان كل نبي وحكيم، إخبار الله عزوجل عن هارون عليه السلام أنه قال لأخيه موسى حين عاتبه عند رجوعه من الطور فوجد قومه قد عبدوا العجل، فقال كما حكى الله عنه في سورة طه (( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري، قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي )) [طه : 92ـ94 ].
فقد حذر هارون من التفرقة وخافها على قومه وخاف أن أخاه يلومه عليها.
وروى عبدالله بن أحمد بن حنبل عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، قال ابن عباس، فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا في القرآن يومهم هذه المسارعة، قال فزجرني عمر رضي الله عنه ثم قال: مه، فانطلقت إلى منزلي مكتئباً حزيناً، فبينا أنا كذلك إذ أتاني رجل، فقال: أجب أمير المؤمنين. فخرجت فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذ بيدي فخلا بي فقال: مالذي كرهت مما قال الرجل آنفاً، فقلت يا أمير المؤمنين متى يتسارعوا هذه المسارعة يحتقوا، ومتى يحتقوا يختصموا ومتى يختصموا يختلفوا، ومتى يختلفوا يقتتلوا، قال لله أبوك إن كنت لأكتمها الناس حتى جئت بها " ([3] )
قلت ـ العلامة يحيى النجمي رحمه الله ـ : ما أشبه الليلة بالبارحة إن الاختلاف الذي خافه عبدالله بن عباس ووافقه عليه عمر رضي الله عنهماعلى أمة محمد قد وقع ثم وقع ثم وقع وما تفرقت أمة محمد شيعاً وأحزاباً كمن سبقهم إلا بسبب الاختلاف، وكان أول خلاف وقع في هذه الأمة هو خلاف الخوارج ثم خلاف الروافض بقيادة زعيمهم عبدالله بن السوداء الذي زعم لهم أن علياً لم يمت وأنه في السحاب ثم خلاف القدرية ثم المعتزلة ثم المرجئة ثم الجهمية.
والشاهد من هذا الأثر أن المحاقة موجبة للاختلاف، ومعنى المحاقة: أن كل واحد من المتخاصمين يقول الحق معي، وهي معنى قوله يحتقوا، ومتى يحتقوا يختلفوا، ومتى اختلفوا اقتتلوا، إما بالألسن والأقلام وإما بالأيدي والسيوف ."([4] )
ومن صور الحزبية الجديدة المستحدثة التي وضفت لها الألسن والأقلام للدفاع عنها وإحقاقها ، الجمعيات الدعوية أو قل الجمعيات الخيرية أو قل الجمعيات الإسلامية .... وقل فيها ما شيئت فالعبرة بحقيقتها وما تؤل إليه هذه الجمعيات من الفساد والإفساد ، فلا يغرنكم يا معشر أهل الإسلام بما زخرفت به هذه الجمعيات الحزبية من الهالات المصطنعة و الزخارف المكلفة والشعارات البراقة والمظاهر الخداعة مثل قولهم : إن الجمعيات ما هي إلا وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله ، وأنها مصلحة دعوية وأن الدعوة السلفية لا تتم ولا تتحقق أهدافها إلا تحت مظلتها ومباشرة الدعوة من خلالها وإلى غير تلك العبارات الرنانة الضخمة التي أصبغوها بالألفاظ الفخمة ليرعبوا بها شباب الأمة ،فمهما بنوا من القصور والعلالي وأشادوا من المباني في إطرائها ومدحها وتعداد إجابياتها المزعومة الوهمية فلا يشفع لها ذلك بأن تكون وسيلة دعوية مشروعة في دين الإسلام وخاصة إذا عرفنا حقيقتها حيث أثبت التاريخ بأنها من أقدم الوسائل التي استخدمها اليهود لنشر أفكارهم الماسونية المسمومة في تحطيم الخلافة الإسلامية وقد نجحوا في ذلك بواسطة جمعية الإتحاد والترقي في تركيا – التي أسست عام 1898 م – 1316هـ- في القضاء على هذه الخلافة .([5] ) ، وقد كان لهذه الجمعية فروعا في معظم الدول الإسلامية ، وممن باشر العمل فيها و تبناها في مسيرته السياسية ولقضاء أغراضه ومأربه المسمومة المتمثلة في منازعة حكام المسلمين والتآمر عليهم لإسقاطهم وقتلهم جمال الدين الأفغاني ، فهو أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث إلى مصر وكان حيثما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها ، كما سعى في إنشاء أحزاب سياسية ، وتبعه في هذا تلميذه محمد عبده ثم تبعه على ذلك محمد رشيد رضا وأشاد بها في كتابه المنار.
فما وجد الإخوان المسلمين من بعدهم أفضل من هذه الوسيلة يباشرون فيها دعوتهم في أراضي ينادون فيها بإعادة الخلافة المزعومة التي سعى جمال الدين الأفغاني بإسقاط حكامها ، وجعلوها طريقة من طرق الإصلاح المدعى ، وأنى لهم ذلك ، وهي قد جمعت بين أغصانها ما بين مبتدع مارق و بين رويبضة فويسق تجمعهم قاعدة "نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذُر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" ، فهدموا من حيث يريدون البناء و خربوا من حيث أرادوا التعمير والإنشاء ، وخاصة إذا عرفنا أنها بلية على الإسلام لما يترتب عليها من المعاطب وكانت سببا في كثير من المعايب وأنه ما تولد منها إلا المصائب وحسبك أنها مشغلة عن طلب العلم وإبتلاء أهلها بالتسول وجمع المال باسم الدعوة وبناء المساجد وغير ذلك ، وأنها مفتاح للتساهل في المعاملة مع البنوك الربوية وإلى تصوير ذوات الأرواح ، و أنها مما يعقد الولاء والبراء عليها ، بل ما هي إلا وسيلة من وسائل الانتخابات ، ولا نغفل ما فيها من الغش والخيانة في الدعوة إلى الله وأنها باب إلى الاستحسان في شرع الله الذي هو بوابة البدع والتشريع من دون الله وإلى غير تلك الويلات والبلاوي التي تنخر في الدعوة السلفية ، فبالله عليكم إذا كانت هذه الوسيلة وهذه هي حقيقتها ومآل أمرها فماذا يرجى منها ؟!! وأي الإسلام ستخدمه وهي تحطم في أصوله من الداخل ؟!!
فأين عقل ممن استحسن هذا السرطان ممن يدعي المشيخة والسلفية وهو يري أن هذا الداء الخبيث ينخر في جسد الأمة ويُضعفها، ويجعلها لقمة سائغة للأعداء ويفتك بأهلها ليلا ونهارا ، و هو قد مزقها وجعلها أحزابا وشيعا كل حزب بمنهجه مغرور مسرور، كما قال الله تعالى: (( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )) المؤمنون: 53
ومن أولئك الأدعياء ممن ينتسب إلى دعوتنا السلفيّة اسما ورسما وإن فارقنا منهجا ومسلكا بن حنفية العابدين المعسكري الجزائري صاحب رسالة : «الجمعيات من وسائل الدعوة إلى الله» المتضمّنة تسويغ إقامة جمعيات حزبية، والنشاط تحت لوائها ، فهذه الرسالة لهي كافية في معرفة منهج الرجل الذي يسير عليه لما تحتوي عليه من التحريف والتخريف ، فكيف لو أضفنا إليها مقالاته آخر التي حوت في طياتها تمييع أصول المنهج السلفي كما هو حال المأربي والحلبي ، بل ما كتابه " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " إلا هدم أصول المنهج السلفي وطعن في أهله ، وإن كان هذا الكتاب الأخير مضمونه رد على شبه المجوزين تعدد الجماعات والأحزاب ، وليته ما فعل وكان يكفينا منه أن يمسك فمه ويكسر قلمه ولا يخوض فيما لا يحسنه ويفهمه ، لكان هذا يوجب منا نحوه الشكر ، وعلى أقل الشيء السكوت عن تخليطه ، أما وأنه ركب الصعب والذلول، مع جهله ما أمامه من العقبات التي لايعرف كنه حقيقتها إلا من جمع المعقول والمنقول مما هو عنها عري ، فهذا مما يقطع عند أهل العقول بأن خوضه هذا الغمار غير مرضي ولا مقبول ، بل أدهى من ذلك وأكبر إذا عرفنا أنه قد جلب في رسالته هذه ، بل في جمع من رسائله وكتاباته من الداء ما أعيى الطبيب وحير اللبيب وأتى فيهم من التخليط مما قد يئس من تلافيه ، فلم يبق للعارف الذي يكره الشغب إلا السكوت والتعجب وآفته في ذلك أنه سعى دهره في البناء على غير إحكام وإتقان، فما نصر في رسالته هذه([6]) السنة ولا كسر البدعة ، بل أظهر أهل البدعة على أهل السنة وخدمهم خدمة عظيمة ، فما أشبهه في إراده شبه أهل الباطل على أحسن ما يكن وعجزه عن رد عليها وتفتيت عبارتها بالأصول والمعقول ، بالفخر بن الخطيب ، فقد جاء في ترجمته من كتاب " لسان الميزان " (4 / 427) للحافظ العلامة ابن حجر ـ رحمه الله ـ أنه قال في شأنه : (( كان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها حتى قال بعض المغاربة يورد الشبه نقد ويحلها نسيئة... وكان ينقم عليه كثيرا ويقول يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية من الوهاء )) ا.هـ
وهذا الفخر بن الخطيب وإن كان رأسا في الذكاء والعقليات ، و لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة ، وهكذا صاحبنا ، فهو صاحب القلم ، وله أن يكتب ما يحلو له ويعرف ذلك من تأمل كتاباته ، ولكنه هو عري عن معرفة منهج أئمة الحديث في طريقة إصلاحهم ودعوتهم إلى الله ، فالرجل فيما يبدو متأثر بمنهجية رشيد رضا ومحمد عبده والمودودي ومن كان في فلكهم يدور من أمثال جمال الدين القاسمي في طريقة دعوتهم التي ميعت الإسلام وأصوله و ضيعت شبابه ، ولهذا تجده ينقل عن رشيد رضا ومحمد عبده كما هو ملاحظ في رسائله ، من غير إنكار عليهما وبيان حالهما للأمة وقرائه ، بل إن لنقطع ونجزم بأن الرجل متأثر بقاعدة المعذرة والتعاون في مسيرته الدعوية وما مقاله " التأليف لا الهجران " إلا أكبر الشاهد على ذلك ، فقد سعى فيه وفي غيره على الشباب السلفي وعلى مشايخهم بخيله ورجله يستفزهم ويسخر منهم ومن دعوتهم سالكا في هذا معهم أسلوب " يد تذبح وفم يسبح " استخفافا بهم ، فهذا مما يوجب ويتحتم على ما عرف حقيقة بضاعته ، وزيف سلفيته المصطنعة التي قد وجدت في سوق الجهالة والبطالة قبولا أن يبين زيفها و يكشف حقيقة أمرها نصحا لدين الله عز وجل ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم
فأقول ومن الله أستمد العون والتسديد :
لقد حوت رسالة الشيخ بن حنفية العابدين " الجمعيات من وسائل الدعوة إلى الله " من التلبيس والتدليس مما كانت سببا ومدفعا على أن يغتر بها معظم شباب الجزائري، وهو في هذا قد ألبسها لباس الإجمال والعموميات ، وأخرج باطلها في قالب الحق ، ولا يخفى عليكم يا أهل السنة أن هذه الثلاثة من أعظم الأسلحة و أمضى الوسائل التي يملكها أهل البدع و يحسنون إستعمالها لفتك بدين الإسلام وإصطياد أهله ([7] )
قال شيخ الإسلام ابن قيم رحمه الله في״ الصواعق المرسلة " ( 925 ) : (( إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة تحتمل معاني متعددة ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحق وباطل فبما فيها من الحق يقبل من لم يحط بها علما ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع كلها فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لما قبلت ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها ولو كانت حقا محضا لم تكن بدعة وكانت موافقة للسنة ولكنها تشتمل على حق وباطل ويلتبس فيها الحق بالباطل كما قال الله تعالى " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " [ البقرة: 24 ] ، فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان معنى صحيح ومعنى باطل فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ .
وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان هو حق من أحدهما وباطل من الآخر فيوهم إرادة الوجه الصحيح ويكون مراده الباطل فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ولا سيما إذا صادفت أذهانا مخبطة فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه وأن لا يوقعك في هذه الظلمات قال الإمام أحمد في خطبة كتابه في الرد على الجهمية:״ الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بكتاب الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين״....
فقوله يتكلمون بالمتشابه من الكلام هو الذي له وجهان يخدعون به جهال الناس كما ينفق أهل الزغل النقد المغشوش الذي له وجهان يخدعون به من لم يعرفه من الناس فلا إله إلا الله كم قد ضل بذلك طوائف من بني آدم لا يحصيهم إلا الله)) انتهى
ومن تلبيسات ومغالطات الرجل لتجويز مشرعية إنشاء الجمعيات الحزبية و مباشرة العمل من خلالها أنه استدل ([8]) على مشرعيتها بالأعمال والطاعات التي شرعها الله عزوجل لعباده وأمرهم بها إما أمرا واجبا أو مستحبا ، وحثهم على أن يتواصوا عليها أفرادا كانوا أو جماعات كل فرد على حسب حاله وإمكانيته وطاقته
وهذا الاستدلال منه لا يسلم له وهو فاسد الاعتبار، لا تشهد بصحته الأخبار ولا يعرج علي مثله الأئمة الأخيار ونقلة الأثار .
وذلك لا يخفى عليكم يا معشر أهل الإسلام أن نزاع أهل السنة مع مجوزين الجمعيات الحزبية والقائلين بالإنضمام تحت لوائها ليس من أجل أنها عمل جماعي تعاوني خيري !!! إنما النزاع لما عليه هذه الجمعيات الحزبية من الأنظمة والشروط والقوانين التي تخالف الكتاب والسنة ، ولما آل أمرها من الفساد والافساد في البلاد والعباد مما لا يقره العقل ولا النقل ، فهذا مما أوجب تحريمها وصياح على أهلها ، أما العمل الجماعي المشروع القائم على منهج الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة ، فهذا مما يرغب فيه ويسعى للقيام به ولا أحد يمنعه من أهل الإسلام فضلا أن يكون هذا من طلبة العلم السني ، ومن تقول عليهم غير هذا فقد أبعد النجعة وأتى في حقهم فرية بلا مرية
سئل العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي ـ رحمه الله ـ : يقول ـ أي السائل ـ إن العمل الجماعي بدعة هل هذا صحيح ؟
فكان من جواب الشيخ رحمه الله : أما العمل الجماعي فهو واجب على المسلمين لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " [المائدة : 02] ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وكما في " الصحيحين " من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه "
ودعوة الإسلام من بدء أمرها ما قامت إلا على التعاون والعمل الجماعي ، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بدء أمره يعرض نفسه على القبائل لينصروه ويؤووه حتى يسر الله سبحانه وتعالى له بالأنصار فنصروه وآووه عند أن هاجر إليهم ثم بقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يربي أصحابه حتى وجدوا بأنفسهم قوة على مواجهة العدو فأنزل الله سبحانه وتعالى : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " [ الحج : 39 ]
ومشاروة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للأنصار في غزوة بدر عند أن كان يقول : " أشيروا عليّ أيها الناس " فقام أبو بكر فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أجلس " ثم قام عمرفقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أجلس " فقام سعد بن معاذ وقال : كأنك تعنينا يا رسول الله فوالله لو خضت بنا البحر لخضناه ، ولو ضربت بنا برك الغماد لذهبنا معك فسالم من شئت وحارب من شئت
فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم ينهض بمفرده للجهاد في سبيل الله وإن كان الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم : " فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين على القتال " [ النساء : 84] ، فلابد من تعاون على الجهاد في سبيل الله وعلى الدعوة إلى الله وعلى العلم والتعليم وفي الأمثال " يد واحدة لا تصفق " ، حتى في التعاون الأسري وفي جميع مجالات الحياة والله سبحانه وتعالى علم ضعف البشر فهيأ هذا جمع المال وهيأ هذا للجهاد في سبيل الله وهيأ هذا للعلم وهيأ هذا للزراعة وهيأ هذا للسياسة وكان الصحابة هكذا يكمل بعضهم بعضا .
فالذي يقول : إن أهل السنة يرفضون العمل الجماعي فهو يفتري عليهم ويكذب ، لكن العمل الجماعي يجب أن يقيد بما لا يخالف الكتاب والسنة ، فإذا دعيت إلى مخالفة الكتاب والسنة وجب عليك أن تتبرأ من هذا وقد اتضحت الحقيقة وبان الصبح لذي العينين أن دعوة أهل السنة إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأن الحزبية دعوة إلى الدمار وإلى الجهل وإلى استعباد الناس والتحجر على أفكارهم فهي سجن للأفكار .... وهذه الحزبية تقود البلد إلى الدمار وإلى اشتعال الفتن بل إلى الحرب المدمرة ، ولا يبالون ببلد ولا بإسلام ......
أما العمل الجماعي فهذا مطلوب ، ولكن ليس عملا جماعيا على جهل ، وعلى حزبية عمياء ، بل عمل جماعي على ما لايخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " متفق عليه من حديث ابن مسعود ، ودعوة الجاهلية تشمل الدعوة إلى الحزبية ، بل هي رأس في الجاهلية ، يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أن أختصم أنصاري ومهاجري فقال الأنصاري : يا للأنصار وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟! دعوها فإنها منتنة " ... )) ا.هـ([9])
قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في كتابه "جماعة واحدة لا جماعات وصراط واحد لا عشرات " ( 49 ـ 50 / ط مجالس الهدى ) : ((أقول إني إلى يومي هذا لا أعرف أحداً من السلفيين يحرم العمل الجماعي المشروع ([10]) ، وأكبر دليل على هذا واقع السلفيين في كل مكان ، إذ لهم مدارس وجامعات لها إداراتها ومسؤوليها وأساتذتها وميزانياتها. ولهم جمعيات في الهند وباكستان وبنجلاديش وغيرها. ولهم مساجد ومشاريع تقوم كلها على أعمال جماعية ، وفي السعودية لهم وزارات عديدة منها وزارة العدل يتبعها عشرات المحاكم ، ووزارة التعليم العام ووزارة التعليم العالي يتبعها الجامعات وكل ذلك يقوم على التنظيم الإداري والعلمي والمالي ، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، ووزارة الحج . . . إلى آخر الوزارات .
وقامت فيها مراكز ومكاتب لدعم الجهاد ولإغاثة المنكوبين والعون للفقراء والمساكين وغير ذلك من الأعمال الجماعية المنظمة .
ولأنصار السنة في مصر والسودان مدارس ومساجد وأعمال تقوم على العمل الجماعي ، وفي اليمن مدارس ومساجد قائمة على العمل الجماعي ، وما سمعنا من عالم أو طالب علم سلفي يحارب العمل الجماعي المشروع ويحرم ويبدع أهله .
وإذا كان القصد من العمل الجماعي هو ما ذكرناه وأشباهه فلا داعي أبداً إلى التأليف والتأصيل فيه والأخذ والرد الذي أدى إلى الطعن والتجريح وكان ضرره أكثر من نفعه
وأما الأمر الثاني : فإنه كما تبين لي وكما سيظهر للقاريء ، فإنه وإن سمى من يدافع عنهم جماعات فإن مقصوده بذلك الدفاع عن فرق مزقتها الأهواء الحزبية السياسية والعقائد والمناهج البدعية .
وهذا هو الذي يرى السلفيون أنه تفرق محرم حرمه اللَّـه ورسوله ز وأطبق على تحريمه وذمه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى إلى يومنا هذا)) ا.هـ
وقال حفظه الله في نفس المصدر ( 101 ـ 102) : ((ليس هناك نص من كتاب ولا سنة ولا قول أحد من سلف الأمة ينكر التعاون على البر والتقوى بل فيها دعوة حارة إلى التعاون على البر والتقوى وقد كان سلف الأمة قد وعى هذه التوجيهات وطبقوها فملؤوا الدنيا براً وإحساناً لكنه ما كان على شكل المؤسسات والجمعيات الموجودة الآن والتي استفادتها الجمعيات والمؤسسات الحالية من أهل الغرب ومع أننا نقول بجواز هذه الجمعيات القائمة على البر والتقوى إلا أنك أنت وغيرك يعجزون عن الاتيان بأمثلة وصور من تاريخ المسلمين وتطبيقهم لأعمال البر والتقوى تشابه هذه الصور.
ثم إنني أؤكد لك ما سبق ذكره أن الإسلام بكتابه وسنته لا يجيز التفرق والتشتت والتنابز والتناحر والتهالك على المصالح والاستئثار بها والتحزب لأجلها وعلماء الإسلام كانوا ولا يزالون يحرمون هذا اللون من التفرق والتحزب مهما لبس من أشكال وألوان ومهما ادعى من الانجازات لأن ذلك على خلاف ما شرعه الله وأمر به من الاجتماع على الكتاب والسنة والاعتصام بهما عقيدةً وشريعةً ومنهجاً ومصادم لما نهى عنه اللَّـه ورسوله من الاختلاف وتفرق الأمة شيعاً وأحزاباً ، وتفريق الدين وتمزيقه إلى ملل ونحل فإن ذلك يعرض الأمة للهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة ويزهد أعداء الإسلام في الإسلام ويشوهه في نظر هؤلاء الأعداء فيقولون لو كان في هذا الدين خير وصلاح لما تفرق أهله فرقاً شتى يعادي بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً كما حصل لهذه الجماعات ، وكما هو حاصل اليوم في أفغانستان التي اعطت صورة شوهاء مزرية بالإسلام إذ صورت الحزبية فيها بتناحرها الوحشي الهمجي الإسلام في أحط صور الفوضوية والوحشية والهمجية وبرأ اللَّـه الإسلام وأهل السنة والحق منها)) ا.هـ
........ يتبع إن شاء الله
([1]) سورة ص الآية: 82 ـ 83.
([2]) " المورد العذب الزلال " ( 39 ـ 40 ) للعلامة المحدث أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله مع شيء من الاختصار مني
([3]) كتاب السنة رقم (89) (ص 135،136).
([4])" المورد العذب الزلال " ( 99 ـ 101 )
([5]) انظر إلى كتاب " دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام / ص 93 " ، و رسالة الأخ أبي الحسين محمد بن محيي الدين الجاوي الأندونيسي " الجـمعـيّـات حركة بلا بركة "
([6]) أي " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله "
([7]) و لقد جال وصال أهل الباطل على أهل الحق بهذه الوسائل الخبيثة ، واستطلوا عليهم بخيلهم ورجلهم ، مع ما هم فيه من المكر والدهاء والكذب والخيانة للسنة وأهلها ، فكم ضاع شباب الأمة وكان أسير شباكهم من جراء هذه الوسائل الخسيسة ، إلا أنه فليبشر أهل الإسلام من أنه مهما كتم أصحاب الأهواء الحق و مهما سعوا في إظهار باطلهم في صورة الحق ، وكيفما كانت وسائلهم ، فالحق أحق أن يظهر ويعلو فوق الباطل ويضمحل معه الزغل وينكب أهله بإذن الله والعاقبة لأوليائه
قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ في كتابه ( تيسيرالكريم الرحمن / 553 ) عند تفسير قوله تعالى :(( و َكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)) الفرقان(31)
((أي: من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.
من بعض فوائد ذلك أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا عظيما لأن معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدلال وأن يتبين ما يفعل الله بأهل الحق من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة، فلا تحزن عليهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا } يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك. { وَنَصِيرًا } ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه.)) ا.هـ
وقال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ـ رحمه الله ـ في كتابه (القائد إلى العقائد / 21 ـ 22 / ط المكتب الإسلامي ) : ((وكما اقتضت أن الحكمة أن لا تكون حجج الحق مكشوفة قاهرة فكذلك اقتضت أن لا تكون الشبهات غالبة ، قال الله عز و جل : " وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ "[ الزخرف:33 - 35 ] .
وذلك أنه لو كان كل من كفر بالله تعالى بذلك النعيم دون المؤمنين ، لكانت تلك شبهة غالبة توقع الناس كلهم في الكفر .
فتخلص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بينات و شبهات ، و أن لا تكون البينات قاهرة و لا الشبهات غالبة ، فمن جرى مع فطرته من حب الحق و رباها و نماها و آثر مقتضاها ، و تفقد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها ، لم تزل تتجلى له البينات و تتضاءل عنده الشبهات ، حتى يتجلى له الحق يقيناً فيما يطلب فيه اليقين ، و رجحاناً فيما يكفي فيه الرجحان ، و بذلك يثبت له الهدى و يستحق الفوز ، و الحمد و الكمال على ما يليق بالمخلوق ، و من اتبع الهوى و آثر الحياة الدنيا ، تبرقعت دونه البينات ، و استهوته الشبهات ، فذهبت به ( إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم )) ا.هـ
([8]) انظر إلى رسالته من الصفحة ( 3 إلى 8 ) ( ط : مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع / الجزائر )
([9]) " غارة الأشرطة على أهل الجهل والسفسطة " ( ج 1 / ص 406 ـ 408 ) ، وهذا جاء من ضمن " أسئلة من محافظة شبوة "
([10]) قال الشيخ في الهامش: " القائم على منهج الكتاب والسنة وما عليه المسلمون قديماً وحديثاً ."
رد: تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
الأمر الثاني : قد أجاد الشيخ بن حنفية في إراد النصوص الحاثة والدالة على المحبة والمودة والتعاون والمأزرة والائتلاف والإجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف ، كيف لا وهي أشرف المقاصد يسعى أهل الإيمان إلى تحقيقها والمحافظة عليها ، بل هي أجل الأعمال ، وأنبل الخصال ، وهي قرة عيون الموحدين ، وبهجة صدور السلفيين ، ولكن نقول : يا بن حنفية على ماذا نجتمع ؟ وعلى ماذا نتحاب ؟ وعلى ماذا نتعاون ؟
هل نجتمع على إماتت عقيدة الولاء والبراء في الله التي ميعتها الجمعيات الحزبية لما قد جمعت في نواديها صنوف من أهل الضلال ؟!! هل نتحاب مع أهل البدع ونجلس إليهم ونسمع لهم ونماشيهم ؟!!
هل نتعاون على هدم أصول السنة المجمع عليها وتشويه سمعة أهلها ؟!! هل نتفق على المعاملة مع البنوك الربوية ونداهن على تصوير ذوات الأرواح ؟!! وإلى غير تلك البلاوي التي تجمعها الجمعيات مما هي ظاهرة البطلان مخالفة ما عليه أهل الحق والإيمان المتمسكون بمحكم القرآن .
يا شيخ بن حنفية إن كنت تريد هذا ، فهذا منك قول وخيم وتلبيس منك شره عظيم .
وما إخالك أنك تريد هذا ، وإن أحسنا فيك الظن فكنت ممن " يقولون أقولا ولا يعلمونها .... ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا "
وذلك أنك قلبت نظرك في أرجاء أمتك الجزائرية ، فرأيت ما أستولى على شبابها من الجهل والضياع والفساد ، مع ما تعج به الأمة من الفتن وشيوع أهل التضليل و الإفساد ، فكبر العلاج عندك وغابت عنك وسائله وضاقت عليك طرقه ، وأصبحت لا ترى العلاج إلا من الوسائل التي أصطنعتها وأخترعتها اليهود من الجمعيات الحزبية وضرورة إلى إنشاء الأحزاب الإسلامية التي عمت وطمت وشاعت وذاعت في هذا الزمان ، حيث أصبحت محطة أنظار دعاة الجماعات الإسلامية الذين أنهكت عاتقهم السياسة و أصبحوا لا يرون الإصلاح إلا من فوق ، مع قلة إعتدادهم بالنصوص و إن أحتاجوا إلى ذكرها ذكروها تعسفا بدون مبالاة لا يهمهم سلامة الدليل ولا صحة الاستدلال .
ومن ذلك قولك في كتابك " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " ( 98 ـ 100 ) : (( بلد غير قائم على حكم بما أنزل الله يفتح التعددية الحزبية دون قيود على مضمون البرامج ولا تتوفر فيه إمكانية للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى العام إلا بهذه الوسيلة فقد يقال هذا موضع نظر ....
لكني أعود فأقول : إنني بعد هذا أرى أن الحاكم إذا لم يحكم بما أنزل الله ولم يكن حمله على ذلك ولا خلعه وجرى النظام الذي يشرف عليه على الإذن بتأسيس الأحزاب وكانت برامجها حرة وأقيمت على أسس شرعية ولم تؤسس لمجرد المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله وتعين هذا الأسلوب وسيلة وحيدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على النطاق العام فإنها مما ينبغي الإقدام عليه للضرورة المرحلية ولا يبعد أن يقال بتعينها والحجة في ذلك أنه في هذه الحالة لا توجد جماعة للمسلمين قائمة بالشرع حتى يزعم أن هذا خروج عليها أو هذا تفريق للدين إلى غير ذلك مما جاء النهي عنه ضمن النصوص المانعة من التفرق والاختلاف وهي الأصل الأصيل في المنع من التحزب لكني أوضح بأنها حالة مفترضة لا أرى أن في الدول الإسلامية ما تنطبق عليه .
وأزيد هذا الأمر وضوحا فأقول : إن حصول الحاكم في الإسلام على الشرعية يتوقف على أمور : ....
وإذا كان جمهور العلماء قد أقروا حكم المتغلب سدا لذريعة الفتنة وحدث بعض التساهل في أهلية الحاكم الذاتية والعلمية مراعاة للأوضاع فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لتحكيم الشرع فمن لم يحكم الشرع
فلا شرعية لحكمه عندهم ولا انعقاد لبيعته ولا نفوذ لولايته ، لأن تفرق الأمة على الحق أولى من اجتماعها على الباطل ، ولما كانت دول المسلمين ليست متساوية في هذا الأمر الأخير ، وحيث قلنا بأن حكم هذا الحكام غير شرعي ولا معتبر فهو كالعدم وحيث إن الخروج عليه لا يقال به ، إما لكونه لم يظهر عليه الكفر البواح ، وهذا هو الحق ، أولأنه لا جدوى منه للمضار الناشئة عن ذلك كما هو مشاهد معيش لذلك كله فإن تأسيس الأحزاب يكون في هذه الحالة مشروعا إذا أمكن تحقيق المصلحة كما تقدم لا لمجرد المشاركة في الحكم . ))
إلى أن قال في ( ص 103 ) : (( وهناك حالة أخرى وهي ما إذا كان البلد غير مسلم وتوقف دفاع المسلمين عن مصالحهم في غير دار الإسلام على وجود حزب سياسي فهذا والله أعلم لا مانع منه ، أو قل إن المسوغ أقوى من المانع .)) ا.هـ
إن في كلامه هذا خلط وخبط عجيب وتعقيد غريب ، ومجازفة ناشئة عن قلة تأمُّل، وإحاطة بموارد الشريعة ومقاصدها ، وهذا يدل أن الرجل لم يحم حول العلم الموروث ولم يحظ بتقلب في أحضان منهج أهل الحديث ، فيقف على ما كانوا عليه من العقيدة السلفية السليمة والطرق الإصلاحية الصحيحة ، ويتبن ذلك إذا أفرزنا عباراته ووضحنا وجه مجزفاته وفظاعة تخبطاته وهذا ببيان الأمور التالية
الأمر الأول : إن المتأمل والمدقق في كلامه هذا ليقف على رداءة بضاعة الرجل العلمية وسوء تقريره للمسائل العقدية ، وأنه يهرف بما لا يعرف حيث أنه لم يتجاوز بعض الأسطر إذ به يقع في إضطراب عجيب وتذبذب فظيع ، وذلك أنه ذكر في بادئ أمره جواز تأسيس الأحزاب ، بل تعيينها في بلاد الإسلام التي لا يحكم حكامها بما أنزل الله تعالى بحجة أنها وسيلة وحيدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويتبع هذا التأصيل الفظيع والتقعيد الشنيع قائلا "هذا شيء إفتراضي " ، وما ذاك منه إلا ذر الرماد في أوجه اتباعه ولتخفيف وطاءة الأنكار عليه ، ولكي يبقى له فسحة اللعب بين الحبلين ، ولكن من سوء حظه أنه إنكشف بهلوانه إذ رجف بعد ذلك بما يهدم ما بناه في بادئ أمره متناقضا فيما قرره حيث قال : " وإذا كان جمهور العلماء قد أقروا حكم المتغلب سدا لذريعة الفتنة وحدث بعض التساهل في أهلية الحاكم الذاتية والعلمية مراعاة للأوضاع فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لتحكيم الشرع فمن لم يحكم الشرع فلا شرعية لحكمه عندهم ولا انعقاد لبيعته ولا نفوذ لولايته .... إما لكونه لم يظهر عليه الكفر البواح ، وهذا هو الحق ، أو لأنه لا جدوى منه للمضار الناشئة عن ذلك كما هو مشاهد معيش لذلك كله فإن تأسيس الأحزاب يكون في هذه الحالة مشروعا إذا أمكن تحقيق المصلحة كما تقدم لا لمجرد المشاركة في الحكم . "، فهذا منه واضح كل الوضوح أنه يريد المجتمعات المسلمة التي حكامها لم يُر منهم الكفر البواح كما هو المشاهد المعيش الذي يراه .
فأين هي مسألة إفتراضية التي يداعيها بن حنفية وهو قد وضح معالم وأسس التي يبنى عليها مسوغات تأسيس الأحزاب !!
والتي منها إذا لم تكن هذه البلاد تحكم بما أنزل الله تعالى ، وأنها ممن تجيز التعددية الحزبية ، وأن كون هذه الأحزاب وسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنها مما تحقق المصالح للإسلام ، وإلى غير تلك البواعث التي ذكرها مما هي مسوغات على مشروعية إنشاء الأحزاب الإسلامية في منظوره !!!
فتُرى هل لنا الآن بعد هذا التوضيح و البيان منه الدال على قوله بمشروعية إنشاء الأحزاب نأتي ونتعسف ونتكلف في النفي عنه ذلك ؟ ونعتذر له بأعذار باردة عليلة مما قد أوهنتها عباراته الواضحة الظاهرة كل الظهور على تقرير ما يريده من مشروعية إنشاء الأحزاب في الدول الإسلامية !!
والأمر كما قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله : ((من صنف فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس )) ا.هـ ([1]) .
فأي طبق ومأدبة تدعو الأمة السنية إليها ياأباعبدالقادر !! وهي قد جمعت صنوف من الأطعمة الخبيثة تفوح منها الروائح المنتنة مما تستهجنها النفوس الطيبة وتستقذرها الفطر السليمة ، وإن كان قد يفرح بها الديمقرطيون والأسلاميون الذين أنهكتهم السياسية المستحدثة فهؤلاء يرحبون بكل فكرة عاطلة وقولة باطلة ويستشفون بكل خبيث ويؤثرون كل الضار القبيح على النافع الصحيح وما ذاك إلا لاستحكام مرض القلب فيهم المتمثل في مرض الشبهات والشهوات ، والقلب إذا فسد ورن فسد عليه تصور الحق على حقيقته المورادة فلا يرى الحق حقا أو يراه على خلاف ما هو عليه أو ينقص إدراكه له فيبغض الحق النافع و يحب الباطل الضار ، فمن كان بهذه الحالة فهو محتاج إلى العلاج والرعاية والتعهد والنظر في أنفع الطرق والوسائل التي تعالجه مما جاءت بها الشريعة من دعوته إلى السنة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن فإن لم ينفع ذلك كله فإن آخر العلاج الكي .
فبالله عليكم يا أيها القراء ، هل من كان مصابا بهذه الأمراض يصح أن يقود زمام الأمة ويرتقي بها إلى المراتب العلية وهو مأسور بين يدي الشيطان ويتقلب بين الشهوات والشبهات فلا يتحرك حركة إلا بأذنهم وإيعازهم ، فنريد منكم جزاكم الله خيرا جوابا مبني على الإنصاف بعيد عن التكلف والاعتساف وإياكم من الشطط والاجحاف .
وإلا فقد بينت المرحلة السوداء التي مرت بها بلادنا الحبيبة الجزائر الغراء وما لقته من المحن والبلاء من جراء تصرفات الغوغاء حقيقة الغيرة على الإسلام المنشودة التي يدعيها الأحزاب الإسلامية وكشفت لنا نقاب ضرورية دخول البرلمانات والمشاركة في الانتخابات لغرض الدفاع عن حقوق الإسلام وأهله وإسترجاع الخلافة المفقودة وأظهرت لنا حقيقة قناع معمعة الإسلاميين على صندوق الإقتراع وهم تحت مظلة الديموقراطية وفي بنودها يتراوحون لا يتقدمون ولا يتأخرون ، على سيادتهم الحزبية يبكون وعلى شباب الأمة يضحكون ، " والسعيد من وعظ بغيره " ، و " لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين " .
فيا أهل الإسلام ويا من نصبتم بن حنفية العابدين في مصاف الأعلام ، بالله عليكم تعالوا سويا نتفكر ونتذكر ما جرى لبلادنا من المحن والإحن من جراء هذه الأحزاب ، ونعرف ما وقع في تلك الإيام من الوقائع المؤلمة والحقائق المؤسفة التي بفمعرفتها نستبصر العبر ونتعظ ونعتبر ، ولكن أنبهك أن ذلك لا يحصل " ولايتم إلا بالسلامة من الإعراض وهي متابعة الهوى والانقياد لداعي النفس الأمارة بالسوء فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل ويعمي بصيرة القلب ويصم أذن القلب عن وعي الحكمة وسماع الموعظة ورؤية الآيات المعتبرة الموضوعة للعبرة والتبصرة ، ويصد عن اتباع الحق ويضل عن الطريق المستقيم فلا تحصل بصيرة العبرة معه ألبتة والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره فأرته نفسه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن فالتبس عليه الحق بالباطل فأنى له الانتفاع بالتذكر والتفكر أو بالعظة ؟"([2])
يا إخوتاه ألم تكن بلادنا قبل هذه المرحلة السوداء بفترة ما تتقلب في خير أزمنة التي عاشتها من إستقلالها إلى تلك المرحلة العصيبة حيث أنه " كادت العقيدة السلفية تتبوَّأ من الديار الجزائرية مبوَّأ صدق، وأُخفيت مظاهر الشرك في كثير من المدن، وعَضَّت الطرقية الأنامل من الغيظ، حتى رأينا منهم مَن لا يلبَس عباءته إلا متخفيًّا في زاويته، فإذا خرج منها خلعها !
وطُمِس على كثير من البدع، بل ربما دخلتَ مسجدا فلم تصادف فيه بدعة، لا في بنائه، ولا في تزويقه، ولا في صلاة إمامه، وتعلَّم الناس كثيرا من الآداب الإسلامية التي شحَّت بها التخطيطات السياسية !
وعظُمت ثقة الناس بدعاتهم، الذين كان الواحد منهم ينتقل من قرية إلى قرية في أنصاف الليالي لا يخاف إلا الذئب على نفسه، بل كان ينتقل بين الثكنات العسكرية يُعلّم الهدى حتى انتشر الوعي في أوساطها .......
وظهرت ثمرة الدعوة العلمية في سرعة فائقة، وكانت الصدارة فيها للدعوة السلفية التي لقيت في العاصمة حفاوة رائقة، وبدأت تبسط أجنحتها خارجها على الرغم من قلة دعاتها وكثرة عِداتها، وقلة مراجعها العلمية، وكثرة محاربيها بالمؤتمرات الرسمية، لكن مساجدها هي المطروقة، ونشراتها هي الموثوقة، فقد كان الطلبة يحضرون دروسها بانتظام ومواظبة، وربما بلغ عددهم الألفين في المجلس الواحد، ليس في الجمعة، بل في درس الليل، أما الجمعة فيسافَر لها من مئات الأميال، وظهرمن الشباب السلفي مَن عُلِّقت عليه آمال وآمال: في شغفه العلمي، والتزامه العملي، واشتهر بحفظ القرآن، حتى كان مَوْئل الباحثين عن أئمة رمضان ....
ومن بركة العلم أن كثيرا من القوانين الوضعية أخذ في انحسار سريع، على الرغم من ندرة التعرض لنقضها، فقد أدرك الناس ـ بتعلم السنة ـ مناهضتها للشرع، حتى الإداريّ الذي يحفظها أضحى لا يعرفها إلا حِبرا على ورق؛ لأنه يسمع في مسجده أو في مكتبه ما يُضْعف قناعته بها. وأعرف من هدم ستين قبّة في منطقة واحدة من الغرب الجزائري، ووجد من المسئولين من يدعمه على الرغم من إرجاف الصوفية القبوريين، وأضحت المحافظة على الصلوات في العمل لا تقبل الجدل، بل فَرض القانونُ بناءَ مسجد في كل مؤسسة، وكاد يُقضى على مشكلة الصيام بالحساب، بل قُضي عليها لولا تقصير بعض الثقات الموكَّلين بترقّب الهلال، كما قلَّت بيوت الفساد والخمارات وعوقب المفطر في رمضان بلا عذر عقوبة رسمية، بل لقد نوقش في البرلمان لأول مرة بشكل مفتوح: منع الخمور، ورياضة المرأة، وغيرها من القضايا وفق الأحكام الشرعية.
أما المظاهر الإسلامية كالجلباب للمرأة والزي الإسلامي للرجل، فلم تعُد محل نقاش، حتى اللحية التي يمنعها القانون العسكري على الجنود، قد رُئِيَ منهم أنفسهم من يوَفّرها، وحظِيَ ذوو المظاهر الإسلامية بتوقير كبير لدى الناس.
وأما من الناحية الأمنية فقد كانت الجزائر من آمَن بلاد الله؛ وقد كان الواحد منا يمكث سنوات متتابعات لا يَحمِل معه أوراقه الثبوتية! وكانت الشُّرَط نادراً ما يحملون معهم السلاح، بل ذُكِر لي أن بعضهم كان يضع في حزامه خشبةً تُشبِه المسدَّس بَدَله ! "([3] )
ولكن يا للأسف ولسوء حظ الأمة الجزائرية لم يطل هذا الخير الجميل والشرف النبيل ، إذ تتحول المساجد التي كانت بالأمس مجالس التذكير والتعليم للعقيدة السلفية وعلومها إلى منابر الدعوة إلى الخروج وسفك الدماء وإثارة الفتن والتشغيب وأصبحت الشوارع والطرقات التي كانت آمنة مطمئنة إلى مسرح المظاهرات والهرج والقتل والقطع والتخريب ، بل أصبح كل من يرتادي القميص ويعفي لحيته معرضا للسخرية والاستهزاء والاتهام والتأنيب ، وأضحى لا يخرج مخرجا ولا يدخل مدخلا إلا ويضيق عليه ، وأغلقت المساجد وضيعت الصلوات ، وخربت ممتلكات ومؤسسات الدولة الإسلامية وكثير من القرى الفلاحية أصبحت في مضايق التنكيل و التشريد من طرف دعاة التفجير والتخريب ممن لا يعرفون إلا اللغة الحديد بعدما كانوا يدعون التجديد ، وماذاك إلا من شؤوم التعددية الحزبية وضرورياتها المصنعة ونسيج ما تحققه من المصالح الوهمية ، ثم بعد هذا كل فنرجع الكرة إلى الخلف ونقول يا بن حنفية : "بلد غير قائم على حكم بما أنزل الله يفتح التعددية الحزبية دون قيود على مضمون البرامج ولا تتوفر فيه إمكانية للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى العام إلا بهذه الوسيلة فقد يقال هذا موضع نظر" ... " إنني بعد هذا أرى أن الحاكم إذا لم يحكم بما أنزل الله ولم يكن حمله على ذلك ولا خلعه وجرى النظام الذي يشرف عليه على الإذن بتأسيس الأحزاب وكانت برامجها حرة وأقيمت على أسس شرعية ولم تؤسس لمجرد المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله وتعين هذا الأسلوب وسيلة وحيدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على النطاق العام فإنها مما ينبغي الإقدام عليه للضرورة المرحلية ولا يبعد أن يقال بتعينها " ... " فإن تأسيس الأحزاب يكون في هذه الحالة مشروعا إذا أمكن تحقيق المصلحة كما تقدم لا لمجرد المشاركة في الحكم " !!
ماشاء الله عليك وعلى أحكامك الحسنة وتعليلاتك المستحسنة !!
مهلا ... مهلا يا شيخ إن لم تكن هذه الدعوة إلى الحزبية وتحسين مسوغاتها بتلك العلل العليلة ، فلا ندري ما هي الحزبية التي يدعو إليها الديمقرطيون والأحزاب السياسية ؟!! فما نراك في هذه الرسالة " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " إلا خادم الحزبية وولد بار لها وإن أظهرت التملص منها ، وما مثلك إلا كمثل
من أراد أن يبني قصرا فهدم مصرا ، وتنقضت فيها تناقضا فاحشا وتذبذبت فيها تذبذبا قبيحا ، وهذا دليل على بعدك عن موارد الحق وجهلك بمنابعه التي يستقى منها وانحرافك عن الأصول المعتمدة ، وما ذاك إلا بسبب إرتيادك محلات الجيف والقذورات ونزولك فيها حتى أورثك ذلك إستحسان أطعمتها ونفرة عن الصحيح المليح، وإلا فمن كان أصله صحيحا ، حصلت له الهداية ووفق إلى الحق ومن كان أصله باطلا ضل وما كان من المهتدين قال الله تعالى : (( إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلي
ربي )) [سبأ : 50]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 5 / 120 ) : (( ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم فهو من الأصل المعلم )) ا.هـ ([4] )
الأمر الثاني : أي أمر بالمعروف ؟! وأي نهي عن المنكر ؟! وأي مصالح للإسلام والمسلمين ستحقق تحت مظلة الديموقراطية ؟! ومتى كان هذا ؟! وأين كان ؟! وهل سيكون ؟!
تضحك على نفسك يا بن حنفية أو على من تضحك ؟! فهذا الهراء قد ألتمس حره الأغبياء فضلا أن لا يتنبه له الأذكياء وقد وقف على حقيقة مضاره قبل أن يقع العلماء الأجلاء .
لو لم يكن من موانع إنشاء الأحزاب ـ سواء كانت للضرورة أو لغير الضرورة ـ إلا أنها تحت سلطة وذل سلطان الديموقراطية لكفى بها رميا وتركا ودسا بالأقدام وأنى لها من الإكرام .
وإنا لنعجب والله من أناس يباشرون الديموقراطية وهم تحت وطاءة سوفها أذلاء ولفتح باب التشكيك والتضليل أدلاء ، لا للإسلام نصروا ولا لوسائل الكفر والبدع كسروا ، حسبهم أنهم دعاة التقريب
و محطة من محطات التشغيب ، كيف بهم يدعون أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأنهم ينصرون الإسلام ؟!
وكلنا يعرف أن الديموقراطية ما هي إلا حرب للإسلام ولن ترض عن الإسلام ولا عن أهله حتى لو سكتوا عنها ، بل أمالها الوحيد أن تسحق الإسلام وأهله بالكلية ، فكيف لها أن تغض الطرف وترضى على أجل السلاح وأقوى ما يملك الإسلام المتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دولتها يخرب في قصورها ويسحق في أصولها من يقول بهذا ويرضى به بارك الله فيكم ؟!
إذا كان مصدر سلطتها ومنبع سيادتها هو الشعب ـ وأي خليط هذا الشعب ونوعيته ـ ، ولا شرع إلا لها وأنه لا يسمح لأي حاكم أن يقضي إلا بتشريع دستورها ولا ينفذ أي حكم إلا ما كان خاضعا للدستور ، ففي أي زواية من زوايا الديموقراطية يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محلا ومسمعا ورأيا ؟!
ومن المعلوم والمعروف أنه لا يمكن أن تدخل الأحزاب الإسلامية معمعة الديموقراطية "و الانتخابات إلا بعد الموافقة منها ، على شكل ومضمون الدستور، بما فيه من مواد مخالفة للإسلام.
فهذا يُثْبت لنا أن الأحزاب الإسلامية وافقت على هذه المواد وما تضمنته، وإلا لم يوافق شركاؤهم على دخولهم في "الانتخابات"والمجالس النيابية، وهذه الموافقة على ما في هذه المواد الموجودة في الدساتير "الديموقراطية"، تجعل الأحزاب الإسلامية المشاركة غير قادرة على فعل شيء في مجلس النواب.
وإذا علمت هذا فاعلم أن كل حزب أو جماعة طالبت بالدخول في "الانتخابات"، لا تُقْبَل إلا بشروط . ومنها: عدم انتقاد الأفكار التي مع الأحزاب الأخرى، ويعترف بها ، ويوافق على أن يكون قوله ـ ولو كان هو من تعاليم الإسلام ـ كالأفكار الوضعية ، قابلاً للنقاش ، والرأي للأغلبية.
ومنها: الموافقة على قبول التعددية السياسية العقدية ، وبالذات في البلاد الإسلامية.
ومنها: الموافقة على "قانون ميثاق الشرف" بين الأحزاب الإسلامية والعلمانية: " أن لا يكفّر، ولا يفسق ، ولا يبدع بعضهم بعضاً ".
ومنها: الالتزام بالدستور وقانون مجلس النواب ولوائحه.
ومادامت الموافقة من الأحزاب الإسلامية حاصلة على أصول وفروع "الديموقراطية"، ومضمون هذه الأصول مع العلمانيين ، فهذا دليل واضح على أن غاية الأحزاب الإسلامية ـ في المآل ـ هي الكراسي ، وليس الإسلام، ـ سواء علموا ذلك أم جهلوا ـ لأن موافقتهم للعلمانيين لا تضمن إلا البقاء على الكرسي الصوري المؤقت ، دون أن يحققوا للإسلام شيئاً يُذكر، ولهذا سهل منهم التنازل عن الحكم بالشريعة الإسلامية إلى الحكم بالأغلبية."([5])
وهذا يدل على أن التعددية الحزبية ما هي إلا في صالح الديموقراطية والدول اليهودية والصليبية ولا تجني الأحزاب الإسلامية من المشاركة فيها إلا الفشل والرجوع بخفي حنين ، كما هو عليه الواقع ، وإلا فالقوم دخلوا ليغيِّروا فتغيَّروا، وأعجبوا بإيمانهم وحسنوا ظنهم بأنفسهم حتى صور الشيطان خيال التصلب في الحق وهم ذائبون في رضا أنظمة الخلق باسم مصلحة الدعوة ، وضرورية دخول إلى هذه المناصب للتغيير وحق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أتى باب السلطان افتتن )) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والبيهقي في ( الشعب ) وهو صحيح .
مع إنه قد تقرر في شريعتنا الحكيمة أنه إذا تعارضت مصلحتك الدينية مع مصلحة غيرك فقدم مصلحتك
ما دام في الجمع بينهما خيفة على النفس، قال الله تعالى: (( يَأَيُّها الَّذين ءَامَنُوا عَلَيْكم أَنفُسَكمْ لاَ يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ )) [المائدة:105] ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (( بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكروا الفتنة، أو ذكرت عنده قال: " إذا رأيتَ الناس قد مرجت عهودُهم وخفَّت أماناتُهم وكانوا هكذا ، وشبّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: " الْزَمْ بيتك، وأملك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة " )) رواه أبو داود والحاكم وأحمد وهو صحيح.
فإن قيل : ولكن المجتمع بحاجة إلى هذه المناصب ؟ قلنا: نعم! ولكن بشرط أن لا يَمتهن المرءُ فيها دينَه؛ لأنه إن رضي لنفسه أن يكون حطب جهنم في سبيل إنقاذ غيره، فإن له أسوة بمن قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا بد للناس من عريف، والعريف في النار )) رواه أبو الشيخ في ( طبقات الأصبهانيين ) وغيره([6]).([7])
ثم ما هي الضرورة التي جعلت الأحزاب الإسلامية يختارون دخول إلى البرلمانات والمشاركة مع الديموقراطيين ومكايستهم في انظمتهم ؟.
وإن لنعلم أن الضرورة شرعت لإزالة الضرر، فهل زول الضرر الذي بالمسلمين ، بدخول ممن السبق طول هذه السنين في المجالس البرلمانية؟
" فإن قالوا: نعم ، فهذا غير صحيح ، وخذ مثالاً على ذلك ، وهو: أن الرئيس أنور السادات في آخر حكمه اعتقل عشرات الآلاف من الإسلاميين ، وكان يوجد في مجلس الشعب المصري كتلة برلمانية لهم, فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً, وكذلك في السودان عندما اعتقل النميري الإسلاميين, وكان من الإسلاميين مستشارون له في أعلى قمة السلطة, فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً, إذ أن أحوال المسلمين هي هي, ولم يحصل إلا زيادة شر في أماكن, وقلة شر في أماكن أخرى.([8])
إذاً هذا الأمر الأول يبطل الاحتجاج بأنها ضرورة, وذلك أن الضرورة شرعت لإزالة الضرر, وهنا لم يحصل , وها هي ستون سنةً قد مضت على هذه الأقوال, ونحن نجد الأمور كل يوم تزداد سوءاً, حتى في سلوك القائلين بذلك.
والظاهر أن إخواننا سامحهم الله, وقفوا في عدة خنادق, فإن أحيط بهم في خندق, صاحوا من آخر, فأول ذلك أنها شورى, ثم مصلحة مرسلة, ثم أخف الضررين, ثم ضرورة وإكراه.
فإن لم ينفع هذا كله, فالجواب منهم: ماذا تريدون أن نفعل؟!. أنترك الأمور لأعداء الإسلام؟!. واستطردوا من الأمثلة العقلية غير الصحيحة, وإلا فالعقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح, كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ومن لم تنفعه الأدلة , ولم ينفعه واقع المسلمين في هذه المجالس النيابية منذ أكثر من نصف قرن
, وهم ينحدرون فيها إلى الأسفل, فلا يبالي بالأدلة المذكورة هنا, إلا أن يشاء الله عز وجل, وإلى الله المشتكى." ([9])
الأمر الثالث : إن ملاحظ على بن حنفية وما في مجموع رسالته" هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " يجد أن الرجل قد بلع الإخونية ، وأراد أن يتقيَّأها فما استطاع ، وإلا فنظرته إلى نقطة البدأ بالإصلاح ما هي إلا نظرة الإخوان والقطبية ومرتكز غايتهم ، حيث جعلوا جل إهتمامهم وغايتهم وصول إلى الكراسي والقمة بغاية التغيير دون النظر إلى أصل دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهجية إصلاحه التي سلكها طول حياته عليه الصلاة والسلام ، وسار عليها من بعده أصحابه الكرام وأئمة الحديث والمجددون المتمثلة في " التصفية والتربية " وأعني بالتصفية : تقديم الإسلام إلى الأمة الإسلامية مصفى من كل ما دخل فيه على مدّ هذه القرون من العقائد ومن الخرافات والبدع والضلالات ومن ذلك ما دخل فيه من أحاديث غير صحيحة وقد تكون موضوعة فلابد من تحقيق هذه " التصفية " ، ونبدأ بما بدأ به نبينا صلى الله عليه وسلم وهو إصلاح ما فسد من عقائد المسلمين أولا ومن عباداتهم ثانيا ومن سلوكهم ثالثا ، قال الله تعالى : (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )) [النحل : 36]... هذا الأصل الذى قام يدعو اليه أول رسول من الرسل الكرام نوح صلى الله عليه وسلم قرابة ألف سنة ، والجميع يعلم أن الشرائع السابقة لم يكن فيها من التفصيل لأحكام العبادات والمعاملات ما هو معروف في ديننا هذا لأنه الدين الخاتمة للشرائع والأديان ومع ذلك فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يصرف وقته وجل اهتمامه للدعوة إلى التوحيد ومع ذلك أعرض قومه عن دعوته كما بين الله عز وجل ذلك في محكم التنزيل : (( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )) [نوح : 23] .
فهذا يدل دلالة قاطعة على أن أهم شيء ينبغي على الدعاة إلى الإسلام الحق الاهتمام به دائمًا هو الدعوة إلى التوحيد وهو معنى قوله - تبارك وتعالى- : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )) [محمد : 19] ، هكذا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم عملا وتعليمًا .
أما فعله : فلا يحتاج إلى بحث ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي إنما كان فعله ودعوته محصورة في الغالب في دعوة قومه إلى عبادة الله لا شريك له .
أما تعليمًا : ففي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الوارد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذًا إلى اليمن قال له : (( ليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن هم أطاعوك لذلك . . . . . )) إلخ الحديث . وهو معلوم ومشهور إن شاء الله تعالى .
إذًا ، قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يبدؤوا بما بدأ به وهو الدعوة إلى التوحيد ، ولا شك أن هناك فرقًا كبيرًا جدًّا بين أولئك العرب المشركين - من حيث إنهم كانوا يفهمون ما يقال لهم بلغتهم - ، وبين أغلب العرب المسلمين اليوم الذين ليسوا بحاجة أن يدعوا إلى أن يقولوا : لا إله إلا الله ؛ لأنهم قائلون بها على اختلاف مذاهبهم وطرائقهم وعقائدهم ، فكلهم يقولون : لا إله إلا الله ، لكنهم في الواقع بحاجة أن يفهموا - أكثر - معنى هذه الكلمة الطيبة ، وهذا الفرق فرق جوهري - جدًّا - بين العرب الأولين الذين كانوا إذا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا : لا إله إلا الله يستكبرون ، كما هو مبين في صريح القرآن العظيم لماذا يستكبرون ؟ لأنهم يفهمون أن معنى هذه الكلمة أن لا يتخذوا مع الله أندادًا وألا يعبدوا إلا الله ، وهم كانوا يعبدون غيره ، فهم ينادون غير الله ويستغيثون بغير الله ؛ فضلا عن النذر لغير الله ، والتوسل بغير الله ، والذبح لغيره والتحاكم لسواه . . . . إلخ .
هذه الوسائل الشركية الوثنية المعروفة التي كانوا يفعلونها ، ومع ذلك كانوا يعلمون أن من لوازم هذه الكلمة الطيبة - لا إله إلا الله - من حيث اللغة العربية أن يتبرؤوا من كل هذه الأمور ؛ لمنافاتها لمعنى لا إله إلا الله .
أما غالب المسلمين اليوم الذين يشهدون بأن " لا إله إلا الله " فهم لا يفقهون معناها جيدًا ، بل لعلهم يفهمون معناها فهمًا معكوسًا ومقلوبًا تمامًا .
أضرب لذلك مثلا : بعضهم أَلَّفَ رسالة في معنى" لا إله إلا الله " ففسرها : لا رب إلا الله !!
وهذا المعنى هو الذي كان المشركون يؤمنون به وكانوا عليه ، ومع ذلك لم ينفعهم إيمانهم هذا ، قال تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )) [لقمان : 25 ] .
فالمشركون كانوا يؤمنون بأن لهذا الكون خالقًا لا شريك له ، ولكنهم كانوا يجعلون مع الله أندادًا وشركاء في عبادته ، فهم يؤمنون بأن الرب واحد ولكن يعتقدون بأن المعبودات كثيرة ، ولذلك ردّ الله تعالى - هذا الاعتقاد - الذي سماه عبادة لغيره من دونه بقوله تعالى : (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )) [الزمر : 3 ] .
لقد كان المشركون يعلمون أن قول : " لا إله إلا الله " يلزم له التبرؤ من عبادة ما دون الله عز وجل ، أما غالب المسلمين اليوم ؛ فقد فسروا هذه الكلمة الطيبة " لا إله إلا الله " بـ : " لا رب إلا الله !! " فإذا قال المسلم : لا إله إلا الله " ، وعبد مع الله غيره ؛ فهو والمشركون سواء ، عقيدة ، وإن كان ظاهره الإسلام ؛ لأنه يقول لفظة : " لا إله إلا الله" فهو بهذه العبارة مسلم لفظيًّا ظاهرًا ، وهذا مما يوجب علينا جميعًا - بصفتنا دعاة إلى الإسلام- الدعوة إلى التوحيد وإقامة الحجة على من جهل معنى" لا إله إلا الله " وهو واقع في خلافها ؛ بخلاف المشرك ؛ لأنه يأبى أن يقول : " لا إله إلا الله " فهو ليس مسلمًا لا ظاهرًا ولا باطنًا فأما جماهير المسلمين اليوم هم مسلمون ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى .
لذلك ، فإني أقول كلمة - وهي نادرة الصدور مني - ، وهي : إن واقع كثير من المسلمين اليوم شر مما كان عليه عامة العرب في الجاهلية الأولى من حيث سوء الفهم لمعنى هذه الكلمة الطيبة ؛ لأن المشركين العرب كانوا يفهمون ، ولكنهم لا يؤمنون ، أما غالب المسلمين اليوم ، فإنهم يقولون ما لا يعتقدون ، يقولون :
لا إله إلا الله ، ولا يؤمنون -حقًّا - بمعناها لذلك فأنا أعتقد أن أول واجب على الدعاة المسلمين - حقًّا - هو أن يدندنوا حول هذه الكلمة وحول بيان معناها بتلخيص ، ثم بتفصيل لوازم هذه الكلمة الطيبة بالإخلاص لله عز وجل في العبادات بكل أنواعها ؛ لأن الله عز وجل لما حكى عن المشركين قوله : (( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )) [الزمر : 3 ] ، جعل كل عبادة توجه لغير الله كفرًا بالكلمة الطيبة :
لا إله إلا الله ؛ لهذا ؛ أنا أقول اليوم : لا فائدة مطلقًا من تكتيل المسلمين ومن تجميعهم ، ثم تركهم في ضلالهم دون فهم هذه الكلمة الطيبة ، وهذا لا يفيدهم في الدنيا قبل الآخرة ! نحن نعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه حرم الله بدنه على النار " وفي رواية أخرى : " دخل الجنة " ، فيمكن ضمان دخول الجنة لمن قالها مخلصًا حتى لو كان بعد لأي وعذاب يمس القائل ، والمعتقد الاعتقاد الصحيح لهذه الكلمة ، فإنه قد يعذب بناءً على ما ارتكب واجترح من المعاصي والآثام ، ولكن سيكون مصيره في النهاية دخول الجنة ، وعلى العكس من ذلك ؛ من قال هذه الكلمة الطيبة بلسانه ، ولما يدخل الإيمان إلى قلبه ؛ فذلك لا يفيده شيئًا في الآخرة ، قد يفيده في الدنيا النجاة من القتال ومن القتل إذا كان للمسلمين قوة وسلطان ، وأما في الآخرة فلا يفيد شيئًا إلا إذا كان قائلا لها وهو فاهم معناها أولا ، ومعتقدًا لهذا المعنى ثانيًا ؛ لأن الفهم وحده لا يكفي إلا إذا اقترن مع الفهم الإيمان بهذا المفهوم ، وهذه النقطة ؛ أظن أن أكثر الناس عنها غافلون !
وهي : لا يلزم من الفهم الإيمان بل لا بد أن يقترن كل من الأمرين مع الآخر حتى يكون مؤمنًا ؛ ذلك لأن كثيرًا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يعرفون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول صادق فيما يدعيه من الرسالة والنبوة ، ولكن مع هذه المعرفة التي شهد لهم بها ربنا عز وجل حين قال : (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ )) [البقرة : 146] ، ومع ذلك هذه المعرفة ما أغنت عنهم من الله شيئًا لماذا ؟
لأنهم لم يصدقوه فيما يدعيه من النبوة والرسالة ، ولذلك فإن الإيمان تسبقه المعرفة ولا تكفي وحدها ، بل لا بد أن يقترن مع المعرفة الإيمان والإذعان ، لأن المولى عز وجل يقول في محكم التنزيل : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ )) [محمد : 19] .
وعلى هذا ، فإذا قال المسلم : لا إله إلا الله بلسانه ؛ فعليه أن يضم إلى ذلك معرفة هذه الكلمة بإيجاز ثم بالتفصيل ، فإذا عرف وصدق وآمن ؛ فهو الذي يصدق عليه تلك الأحاديث التي ذكرت بعضها آنفًا ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم مشيرًا إلى شيء من التفصيل الذي ذكرته آنفًا : " من قال : لا إله إلا الله ، نفعته يومًا من دهره " .
أي كانت هذه الكلمة الطيبة بعد معرفة معناها منجية له من الخلود في النار - وهذا كرره لكي يرسخ في الأذهان - وقد لا يكون قد قام بمقتضاها من كمال العمل الصالح والانتهاء عن المعاصي ولكنه سلم من الشرك الأكبر وقام بما يقتضيه ويستلزمه شروط الإيمان من الأعمال القلبية - والظاهرية حسب اجتهاد بعض أهل العلم وفيه تفصيل ليس هذا محل بسطه - ؛ وهو تحت المشيئة ، وقد يدخل النار جزاء ما ارتكب أو فعَل من المعاصي أو أخلَّ ببعض الواجبات ، ثم تنجيه هذه الكلمة الطيبة أو يعفو الله عنه بفضل منه وكرمه ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم ذكره : " من قال : لا إله إلا الله ، نفعته يومًا من دهره " ، أما من قالها بلسانه ولم يفقه معناها ، أو فقه معناها ولكنه لم يؤمن بهذا المعنى ؛ فهذا لا ينفعه قوله : لا إله إلا الله ، إلا في العاجلة إذا كان يعيش في ظل الحكم الإسلامي وليس في الآجلة .
لذلك لا بد من التركيز على الدعوة إلى التوحيد في كل مجتمع أو تكتل إسلامي يسعى- حقيقة وحثيثًا - إلى ما تدندن به كل الجماعات الإسلامية أو جُلها ، وهو تحقيق المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة المسلمة التي تحكم بما أنزل الله على أيّ أرض لا تحكم بما أنزل الله ، هذه الجماعات أو هذه الطوائف لا يمكنها أن تحقق هذه الغاية - التي أجمعوا على تحقيقها وعلى السعي- حثيثًا إلى جعلها حقيقة واقعية - إلا بالبدء بما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم . "([10])
قال العلامة محمد بن عبدالله الإمام حفظه الله في كتابه "تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات " (59 ـ 64 ) : (( الاهتمام بالوصول إلى القمة دون النظر إلى الفساد العقدي
وهذا من إتيان الأمور من غير أبوابها التي شُرعت لنا، وقد قال الله: (( وأتوا البيوت من أبوابها )) [البقرة : ] ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((نبدأ بما بدأ الله به)) عن جابر عند أحمد والثلاثة والأحزاب الإسلامية التي تنادي بتحكيم الإسلام, لم تأت الأمور من أبوابها، وهذا التصرف تظهر فيه المخالفة للشرع، والانحراف عنه بما سيأتي.
فالأساس الصحيح مفقود الاعتناء بنشره، والدعوة إليه، عند الأحزاب الإسلامية، وهو توحيد الله رب العالمين، بأنواعه الثلاثة: وهي توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات, وهذا الأساس هو الذي اختاره الله وأرسل به رسله، وجعله سبحانه محطّ دعوتهم، وقد استمر نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً, يدعو إلى التوحيد، فهلك قومه, ولم يستجب له إلا قليل, فلم يكن همه الوصول إلى الحكم بالصالح والطالح, وهكذا إبراهيم عليه السلام، فقد استمر يدعو وما آمن له إلا لوط ، وهكذا جميع الأنبياء والرسل ، دعوا إلى هذا الأصل العظيم، قال تعالى: (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )) [ النحل : ] وعلى رأسهم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد استمر في مكة ثلاثة عشر عاماً ، يدعو إلى عبادة الله وحده، وترك ما يُعْبَدُ من دونه ، ومن أجل هذا التوحيد ، وهذه الدعوة الصريحة، الصحيحة قام عليه قومه قومة رجل واحد ، حتى وصل بهم الأمر إلى أن اجتمعوا وهمّوا بقتله ، ولكن الله حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، واستمر يدعو إلى الله, ولا يحابي، ولا يتوانى, حتى أقام الله دينه.
والأحزاب الإسلامية تركت هذا الأصل الأصيل الذي لا يصح دين المسلم إلا به، فإذا كان دين الفرد غير قائم، فكيف يستقيم الحكم على ما أنزل الله عز وجل؟! والذي سيقوم به هو الفرد الذي لم يوحد الله التوحيد الكامل الصحيح بل ويرى الدعوة إليه تفرقةً للصفوف.
وبسبب التنكُّب والتنكُّر لهذا الأصل الذي لا تقوم حياة الفرد والجماعة إلا به، وسعادتها مرهونة به في الدنيا والآخرة، كما هو معلوم من القرآن والسنة, حصلت نتائج سيئة، ومنها:
1- افتقاد القوة التي يقوم عليها الحكم في أرض الله بشرع الله، وهي الأساس كما تقدم.
2- تجزئة التوحيد, وبالذات توحيد الألوهية, فإنه لا يتجزأ في أي حال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف.
وتظهر التجزئة لأنهم حصروا الحكم بشريعة الله على حد زعمهم بإقامة الحدود على السُرّاق والزناة والسكارى، ويا ليت هذا حاصل ، ولكنه لم يحصل ، لأنهم تركوا إقامة ما هو أهم من ذلك، من إصلاح عقائد الناس ، فإن الناس يذهبون إلى المشعوذين والسحرة ويتعلقون بهم، ويقعون في أنواع الشرك الأكبر من الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة والتمسح بأتربة الموتى، وتركت الأحزاب الإسلامية المشعوذين والسحرة يعلنون الدعوة إلى الشركيات ، ولم يمنعوهم، ولم ينصحوهم على الأقل، بل جعلوا هذه الشركيات أموراً فرعية ومن القشور، بل يوجد في الأحزاب الإسلامية من أعضائها ، بل ومن كبارها وغيرهم من يمارس الشركيات، وإقامة الموالد التي تقوم على البدع، بل والدعوة إلى عبادة القبور، أو على الأقل التهوين من أمر ذلك، ولا ينكر عليهم باعتبار أن هذه قشور.
3- حصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم دُعي إلى أن يكون ملكاً له الحكم المطلق, بشرط أن يتخلى عن دعوته إلى التوحيد، لأنه كان في مكة لا يدعو إلا إلى التوحيد، فقد جاء عند ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي يعلى والبيهقي في (الدلائل) وأبي نعيم في (الدلائل) أن الوليد بن المغيرة عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك فقال: (إن أردت ملكاً ملّكناك ...) والحديث ثابت بمجموع طرقه.
وهذا واقعه صلى الله عليه وسلم ، الذي يدلّ أنه لم يستجب لهم، فهذا مما يقوي قبول هذه الرواية، ونفهم من هذا جلياً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع عن الموافقة لهم ، لأنه يعلم أن هذه الطريقة غير نافعة ولا مجدية، فلو كانت طريقة مثلى ، لسلكها ، وما تأخر عنها لحظة، فهو أعلم الخلق بما يصلح الخلق ، فما عمله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عين الحق والصواب.
4- جعلت الأحزاب الإسلامية الوصول إلى الحكم غاية مقدمة على كل أصل من أصول التوحيد، ومن أصول العقيدة، وهذه مجازفة ، لأن الحكم الإسلامي جزء من توحيد الألوهية، وهو يعد آخر ما يتحقق من توحيد الألوهية، بدليل نهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبدليل أن فترة الدعوة إلى التوحيد أخذت أكثر من فترة التشريع، وإقامة الحكم الإسلامي، وأيضاً لم تشرع الأحكام إلا في المدينة، وبعد إقامة التوحيد، وبعد وجود الجماعة القوية التي تستطيع أن تدافع عن الدين ، وأن تقوم بحراسته ، وكان هذا على أيدي المهاجرين والأنصار، وكان بأمر الله، ولم يحصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تخلّى عن نشر الدعوة إلى الله, باسم: أنه يقيم الدين عن طريق الحكم، ولم يأمر أصحابه بذلك ، وهم لم يفعلوا ذلك، بل استمر واستمر أصحابه على نشر الإسلام ، حتى لاقوا ربهم بالدعوة، وهي الأصل الأول ، وهي الجهاد في سبيل الله ، في ذلك الوقت ، بخلاف ما عليه الأحزاب الإسلامية المعاصرة، فقد شغلت نفسها وغيرها من المسلمين بالاستغراق في الحركات السياسية ، كمحاربة نظام معين ، أو قانون معين ، أو حزب من الأحزاب ، وأضاعت الوقت في الأحداث الجارية، المتفرعة عن ترك المنهج الصحيح, وأنفقت الأموال الباهضة في غير مصرفها, كالدعاية للـ"انتخابات" وغيرها. وكل هذا على حساب أصول الإسلام وفروعه، وجعلت هذا هو حقيقة الإسلام وجوهره، وجعلت هذا الفعل هو الغاية المنشودة.
ولا شك ولا ريب أن ما كان من الأمور الإيجابية من كشف مخططات الأعداء, وفضح مكائدهم, أن هذا أمر مطلوب منا جميعاً، لكن لا يُجعل ذلك هو الغاية, بحيث يطغى على الأصل والفرع والأهم والأنفع من الإسلام.
5- الأحزاب الإسلامية تشغل أنفسها بمطالبة الحكومات بإقامة الإسلام, ويظهرون الغيرة على ذلك، فلما وصلوا هم إلى الوظائف؛ لم يقيموا الإسلام, فكيف يقيمه غيرهم؟!
وهذا دليل على أنهم لا يحرصون على التأهيل، فليس عندهم المعتقد الصحيح، فهم على سلّم التنازلات دائماً وأبداً، وقد انتقلوا من شعار: "إقامة الخلافة الإسلامية" إلى شعار: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت "
ثم إلى شعار: "ما هو البديل؟!".
6- كيف يمكن أن يحْكُم هؤلاء بشريعة الله، والناس غير مؤهلين لذلك، لعدم تحقيق التوحيد والعقيدة الصحيحة، والمنهج الشامل الذي وضعه الله عز وجل, وسار عليه سلف الأمة، فكل الفرق الإسلامية يخالف بعضها بعضاً، ويهدم بعضها بعضا، فكل فرقة من هذه الفرق تقف ضد من يريد أن يخالف فكرتها ومعتقدها وما تسير عليه، والملاحظ على الأحزاب الإسلامية البحث عن الحكم دون البحث عن الإمامة في الدين، مع العلم أن هنالك فرقاً بينهما، فالإمامة في الدين منوطة بالاستقامة على الحق.
وأما الوصول إلى الحكم عند هؤلاء, فهو قائم على التنازلات، وهذا مراد أعداء الإسلام, قال الله تعالى: (( ودّوا لو تدهن فيدهنون )) [ القلم : ] وأما من يستحق الإمامة في الدين, فقد قال الله تعالى: (( وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون )) [ السجدة : ] فهذه صفة من يستحق الإمامة في الدين، فهم منفذون لشرع الله, بدليل قوله: " يهدون " وموقنون ومطمئنون بالحق، فلاشك عندهم ولا ريب ولا تضعضع، والوصول إلى الحكم والرئاسة في هذا الزمان يحدث غالباً بطرق غير مشروعة، لأنه لا يقوم إلا على ما ذكرنا، ولم يُرِد الله أن يعطي الإمامة لهذا الصنف، قال عز وجل عن إبراهيم: (( قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )) [ البقرة : ]
7- الملاحظ على الأحزاب الإسلامية: النشاط في الدعوة إلى تحكيم شرع الله في مواقف موسمية، فإذا حيل بينهم وبين الوصول إلى الحكم, وانقطع الأمل فيه, تقاعسوا عن أمر الدعوة إلى الله، واكتفوا بالتخطيطات السرية التي تجعلهم يتوصلون إلى الحكم عن طريق آخر، وهذا خطر عليهم, حيث تكون عقولهم متعلقة بحب الوصول إلى الحكم, والسعي له بكل ما أمكن مهما كلفهم من انحراف وزيغ عن الحق وانجرار وراء التغيرات السياسية ولعبة الأمم الدولية.
وحجتهم وراء هذه الأمور تلك النغمات التي يرددونها وهي "إلى متى هذا الواقع الذي نعيشه؟", "إلى متى هذا الظلم الذي نعاني منه؟", "إلى متى سيبقى الإسلام بعيداً عن الحكم؟", "إلى متى سيبقى الذل والهوان الذي أصاب المسلمين؟".
وهذه كلمات استعطافية لشباب حائرين وأناس جاهلين يريدون النصرة للأمة، وبعد هذه الاندفاعات كلها العاطفية, والاستعجال في الأمور, وإتيان الأمور من غير أبوابها، نوجه أسئلة ونريد الجواب عليها:
هل تكون نصرة الإسلام بدون قواعده وأسسه؟
هل حصل من الأحزاب الإسلامية ما وعدت به, من إصلاح الأوضاع وإقامة الإسلام؟ هل تحقق خلال المدة التي أضاعتها الأحزاب الإسلامية في الجري وراء "الانتخابات" شيء يذكر مع طول المدة؟.
فلو اتجهت الأحزاب الإسلامية في خلال هذه المدة الطويلة الضائعة لتربية الناس على الإسلام، وإقامة الدعوة إلى التوحيد، والعقيدة الصحيحة، والمنهج الذي وضعه الله، وسار عليه سلف الأمة، لكانوا قد نفعوا المسلمين، وأوجدوا رجالاً مؤهلين لإقامة حكم الله في الأرض.
ولقد انتشر الإسلام, وقامت قوائمه, وأرسيت قواعده, في خلال ثلاثين سنة، وذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، رغم الظروف القاسية التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فتلك ظروف لا نظير لها في أيامنا, فلا غرابة أبداً أن نقول: إن الطريق الأقرب والأسهل لإقامة الإسلام هو الطريق الذي وضعه الله عز وجل, وسار عليه نبيه صلى الله عليه وسلم, وقد تحقق العدل والخير في خلال سنتين من خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله. )) ا.هـ
قلت : فلينتبه بن حنفية لهذا التأصيل المتين والتقعيد الرصين الذي هو زبدة دعوة المرسلين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وغاية الأئمة المجددين وقرة عيون الموحدين ، ودعنا من تخليطه ومن قوله : " إنني أعتقد أن فساد المجتمع في كثير من جوانبه لغياب الحكم بما أنزل الله ، وأن الأمير في الأمة بمثابة القلب في الجسد إذا صلح هذا صلح ذاك "([11]) ، ثم إذا به بعد هذا بأسطر قليلة مع مجزفاته الكليلة كعادته في تناقضاته المتعاقبة وتنقلاته المتناوبة يختلط عليه الأمر ويحمل مسؤولية فساد الحكام إلا من فساد المحكومين سيرا على حكمة " كما تكونوا يولى عليكم "، ويا ليته أكتفى بالأخير وما عرج على الأول ولو بحرف لكان قد نصح وأفلح ، أما وأنه قد ظهر ذلك منه ، فهذا مما يسجل عليه ويُظهر ما هو عليه من الفساد الكبير، ويدل على أن الرجل قد ترعرع في أحضان كتب المودودي([12]) وحزبه فتقعقع ، وإلا فلو كان على الصفاء والنقاء فيما يخص مصادر ومنابع التلقي لما وقع في هذه الحيرة والتذبذب والاضطراب قال إبراهيم : (( كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب )) ([13] )
.......يتبع إن شاء الله
([1]) " السير " ( 18 / 281 )
([2]) " مدارج السالكين " ( 319 / ط : مؤسسة الرسالة )
([3]) " مدارك النظر" ( 119 ـ 123 / ط : دار الكتاب لبنان )
([4]) " الصوارف عن الحق " ( 108 )
([5]) "تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات " ( 31 ) للعلامة محمد الإمام اليماني حفظه الله
([6]) انظر ( الصحيحة ) للألباني رقم (1417).
([7] ) انظر " مدارك النظر " ( 144 ـ 145 ) و ( 174 )
([8]) وخذ مثالا من واقع بلادنا الجزائر الحبيبة العزيزة وانظر ما وقع لها وما جنته من الثمار المرة على يد جبهة الإنقاذ ـ وحق أنها جبهة الإغراق ـ من الويلات والمحن والإحن ، قال صاحب " المدارك " ( 169 ) : ((لقد عُمِّرَت جبهة الإنقاذ الإسلامية ثلاث سنوات فقط، تهدَّم بها بنيان أوشك على التمام، وتصدَّع بها صفّ بعد الْتحام، واتُّهِمت فيها السلفية بعد أن وُضع لها القبول، ورُفع العلم وسيطر الطيش على العقول، وعشَّش التكفير في مساجد الجبهة وباض، واتحد الحزبيون مع المبتدعة حتى الطرقية وبني إباض، واتُّهم العلم، وحُرِّم الحلم، وتسمَّن فكر الخوارج، حتى عيِيَ الناصح والمعالج.
هذا والشيوعيون الأخباث في الداخل والخارج يرقبون مسرورين عملية الانتحار، يُحَرِّكون أحياناً بالتهييج السياسي استعجالاً لقطف الثمار، فرحين بعدوٍّ سهل الاستدراج؛ لأن عنف الجبهة أوجد لهم المسوِّغ القانوني لضرب المسلمين بلا احتجاج! وهي خطة ترقَّبوها من سنوات عجاف لم يغاثوا فيها إلا بتسخير علي بن حاج، بل عجزوا عنها حتى في أيام الاستعمار الفرنسي، وقد قلنا للعلامة ابن باز ـ حفظه الله ـ: " إن الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر منعت صلاة الجمعة في بعض المدن! "، فقال متعجباً: " كيف يعطِّلون الجمعة، وقد عجز عن ذلك فرنسا وبريطانيا واليهود؟!!".
وكم قَتلوا اليوم من طلبة العلم جريمتُهم أنهم رفضوا مشاركتهم فيما هم فيه! وهذه هي بركة التحزب! .
نعم! لتذكروا كلمة ابن تيمية المبيَّنة في الأصل الخامس من أن نكاية المبتدعة في المسلمين أشد وطئا من نكاية الكفار فيهم )) ا.هـ
([9]) انظر إلى "تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات " ( 149 ـ 150 )
([10]) "التوحيد أولا يا دعـاة الإسلام " للعلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ( شبكة سحاب السلفية )
( [11]) " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " ( 64 )
([12]) ومن ذلك ما قاله المودودي في ( الأسس الأخلاقية ) ( ص 16 ـ 17 ) : " إن قيادة الفجار والفساق إنّما هي منشأ جميع الكوارث، والنكبات التي مني بها الجنس البشري، وأنَّ سعادة البشر وغبطته إنَّما تتوقف على أن يكون زمام أمور الدنيا بأيادي الصالحين العادلين "
فمن تأمل كلام المودودي يجد أنه يصب غضبه ويحمل مسؤولية منشأ الكوارث والنكبات التي مني بها الجنس البشري على قيادة الفجار والفساق للأمور ، كما أن بن حنفية طور الأسلوب وحور في العبارات جاعلا منشأ فساد المجتمع إلا بسبب فساد الأمير الذي هو بمثابة القلب بصلاحه تصلح الجوارح ومدار الأعمال والجزاء عليه ، وما ذنب الرعية إلا أنها تبع له !! مع إن هذا على خلاف ما عليه النقل الصريح والعقل الصحيح من أن تغير الأحوال الدينية والسياسية والإقتصادية والاجتماعية لا ترجع إلى مغالبة الحكام بقدر ما هي راجعة إلى مغالبة المحكومين على الاستقامة على الدين
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في " مفتاح دار السعادة " (1 / 253)
(( وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم فإن ساتقاموا استقامت ملوكهم وإن عدلوا عدلت عليهم وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم وإن اخذوا ممن يستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك مالا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة فعمّالهم ظهرت في صور أعمالهم وليس في الحكمة الالهية أن يولى على الاشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم ولما كان الصدر الأول خيار القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك فلما شابوا شابت لهم الولاة فحكمة الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبدالعزيز فضلا عن مثل أبي بكر وعمر بل ولاتنا على قدرنا وولاة من قبلنا على قدرهم وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها ومن له فطنه إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الالهية سائرة في القضاء والقدر ظاهرة وباطنة فيه كما في الخلق والأمر سواء فإياك أن تظن بظنك الفاسدان شيئا من أقضيته وأقداره عار عن الحكمة البالغة بل جميع اقضيته تعالى وأقداره واقعة على أتم وجوه الحكمة والصواب ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن إدراكها كما أن الأبصار الخفاشية محجوبة بضعفها عن ضوء الشمس وهذه العقول الضعاف إذا صادفها الباطل جالت فيه وصالت ونطقت وقالت كما أن الخفاش إذا صادفه ظلام الليل طار وسار
خفافيش اعشاها النهار بضوئه ... ولازمها قطع من الليل مظلم )) ا.هـ
وقد أبدع شيخنا العلامة المحدث المجاهد ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في بيان زيف هراء المودودي هذا وأجدع ضلاله المفظع حيث قال في كتابه النافع " منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل " ( 141 ـ 142 ) : (( وقوله: " إنَّ قيادة الفجار هي منشأ جميع الكوارث والنكبات التي مني بها الجنس البشري " .
أقول: قد تكون هي من الأسباب وإلى جانبها أسباب أخر هي كفر الشعوب بالله وإشراكها به وفسوقها عن هداية الأنبياء.
قال تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميراً " .
وقال تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ".
وقال: " وكأين من قرية عتت عن أمر ربّها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نُكراً ".
فبظلم النَّاس حكامهم ومحكوميهم وأغنيائهم وفقرائهم يصبّ الله عليهم الكوارث والمصائب والنكبات من الحروب المدمّرة والأمراض الفتاكة والمجاعات المهلكة والصواعق والفيضانات ونزع البركات من الأرض وغيرها.
ومع هذا فعبادة الأوثان الموجودة في الهند وغيره أبغض إلى الله وإلى أنبيائه والمصلحين من ظلم الحكام على فظاعته وبغضه إلى الله.
ولذا ترى إبراهيم يقول: " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ربِّ إنّهنَّ أضللن كثيراً من النَّاس ".
وفي وقته أظلم الحكّام وأعتاهم وأفسدهم، لكنَّه جعل غايته الدعوة إلى التوحيد ومحو الشرك، فإذا ما ظهرت كلمة التوحيد وأَفَل صوت الشرك صلح حال الناس حكاماً ومحكومين. )) ا.هـ
فهنيئا للمتسلفة الذين رفعوا بن حنفية إلى مصاف الفقهاء الأعلام ببضاعته المودودية ، ومرحبا بما قام به من التجديد لوسائل الماسونية المتمثلة في دعوته إلى إنشاء الجمعيات التي يستحق بها أن يكون في مصاف شيوخ الإسلام والله المستعان على غربة العلم وأهله
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور
([13]) رواه ابن بطة في " الإبانة " ( 575 )
رد: تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
الأمر الرابع : قوله " وإذا كان جمهور العلماء قد أقروا حكم المتغلب سدا لذريعة الفتنة وحدث بعض التساهل في أهلية الحاكم الذاتية والعلمية مراعاة للأوضاع فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لتحكيم الشرع فمن لم يحكم الشرع فلا شرعية لحكمه عندهم ولا انعقاد لبيعته ولا نفوذ لولايته "
هكذا يجازف بن حنفية في أحكام الإمامة بدون علم ولا حلم ، ومن غير دراية ولا روية ، ويصور في نفسه أنه من المحقيقين فيها ، وإن كان هو في الحقيقة هدام لما أثبته أئمة السنة والجماعة فيما يخص مسائل الإمامة وأصولها وهجام على أصول السنة بالتخريب والتشغيب وحاله " كالباحث عن حتفه بظلفه " ، ومن ذلك أنه قد تقررعند أهل السنة والجماعة أنه إذا لم يستجمع المتغلب شروط الإمامة وتم له التمكين واستتب له الأمر وجبت طاعته، وحرمت معصيته .
قال العلامة المجاهد المحقق عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم ـ رحمه الله ـ في كتابه " معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة " ( 29 ـ 32 ) : (( لقاعدة الثالثة: إذا لم يستجمع المتغلب شروط الإمامة وتم له التمكين واستتب له الأمر وجبت طاعته، وحرمت معصيته
قال الغزالي : " لو تعذر وجود الورع والعلم فيمن يتصدى للإمامة – بأن يغلب عليها جاهل بالأحكام، أو فاسق – وكان في صرفه عنها إثارة فتنة لا تطاق، حكمنا بانعقاد إمامته.
لأنا بين أن نحرك فتنة بالاستبدال، فما يلقي المسلمون فيه – أي: في هذا الاستبدال – من الضرر يزيد على ما يفوتهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزية المصلحة ، فلا يهدم أصل المصلحة شغفاً بمزاياها، كالذي يبني قصر ويهدم مصراً ، وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الإمام، وبفساد الأقضية وذلك محال.
ونحن نقضي بنفوذ قضاء أهل البغي في بلادهم لمسيس حاجتهم، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند الحاجة والضرورة ؟ ! " ([1] ) اهـ.
وقد نقل الشاطبي في " الاعتصام " ([2]) كلاماً للغزالي نحو هذا، لما مثل لـ " المصالح المرسلة " هذا نصه: "أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة، أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد وقامت له الشوكة، وأذعنت له الرقاب، بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع الشروط وجب الاستمرار على الإمامة المعقودة إن قامت له الشوكة إمامته ، إن قدر حضور قرشي مجتهد مستجمع للورع والكفاية وجميع شرائط الإمامة واحتاج المسلمون في خلع الأول إلي تعرض لإثارة فتن، واضطراب الأمور، لم يجز لهم خلعه والاستبدال به، بل تجب عليهم الطاعة له، والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته.... ) .
ثم ضرب الغزالي مثلاً رائعاً وهو أن العلم اشتط الإمام لتحصيل مزيد من المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد.
إذا علم ذلك، فإن المرة المطلوبة من الإمامة: تطفئة الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة.
قال الغزالي بعد ذلك: فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش النظام وتفويت أصل المصلحة في الحال، تشوفاً إلي مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد ([3])
قال الشاطبي – تعليقاً على كلام الغزالي - : " هذا ما قال – يعني : الغزالي - ، وهو متجه بحسب النظر المصلحي وهو ملائم لتصرفات الشرع وإن لم يعضده نص على التعيين. وما قرره هو أصل مذهب مالك ..."
ثم ساق الشاطبي رواية عن مالك بن أنس في هذا الباب – تقدم ذكرها – وقال: "فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح، فالمصلحة الترك.
وروي البخاري عن نافع، قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة "، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وأني لا أعلم أحد منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه ([4])
قال بن العربي : وقد قال ابن الخياط أن بيعة عبد الله لزيد كانت كرها، وأين يزيد من ابن عمر ؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله، والفرار من التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يفي بخلع يزيد، لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه، فكيف ولا يعلم ذلك ؟ قال وهذا أصل عظيم فتفهموه والزموه، ترشدوا – إن شاء الله – ". انتهى من (( الاعتصام )) للشاطبي ([5]) )) ا.هـ
فليتأمل القارئ المنصف إلى ما قرره الشيخ عبدالسلام ـ رحمه الله ـ من وجوب إنعقاد البيعة للإمام المتغلب ونفوذ ولايته وإن لم يستجمع شروط الإمامة ، والصبر عليه إن ظهر منه الجور والبغي والنهي عن الخروج عليه وشق عصا المسلمين ، لما يترتب على خلعه وخروج عليه من المفاسد ما يعلمها إلا الله كما شهد بذلك التاريخ والواقع ، وهذا الأصل لا تكاد ترى مؤلفاً في السنة يخلو من تقريره، والحض عليه وقد بلغت أحاديثه حد التواتر في ذلك ، وهذا من محاسن الشريعة فإن الأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم يجلب من المصالح ودرأ من المفاسد ما يكون به صلاح العباد والبلاد ، وليس شيئا أضر على هذا الأصل الشريف كما لا يخفى على كل حصيف من تلك الأحزاب التي يتقلد عارها من أضرم نارها ، ثم يأتي بعد ذلك بن حنفية المسكين يهذي هذيان المجانين فيستحسن الحزبية ويفضي عليها من الهالات الفخمة والمبالغات الضخمة ، مما هي منها بريئة " براءة الذئب من دم يوسف عليه الصلاة والسلام " حيث أنها كشرت عن أنيابها واظهرت مخالبها وتنمرت على كل من أحتضن في أحضانها ، فهتكت حرمة الإسلام وأصوله ومزقت الأنام ، فجاءت بفتنة ضخمة ومصيبة عُظمة ، سافرة كاشفة عن أنيابها، ظاهرة في مقاصدها، قاهرة كل من استساغ نظامها وتقلب في أرجائها ، مع ذلك وللأسف يستسيغ بن حنفية مشروعيتها ، بل تعينها في الأمة الإسلامية ، فيا لخيبته وما هو عليه من الهذاء ، ويا لجهله لما جهل ما هو عليه من الهراء ، والمصيبة أكبر من ذلك وأدهى أنه لا يزال معلقا أطماعه والرجاء بالحزبية على أن تنصر دين الأنبياء ، متجاهلا ومتغافلا عن الطرق والمسالك التي سلكها الأئمة الشرفاء في تجديد معالم ما اندرس من الدين حتى أذعن ورحب بدعوتهم التجديدية الخلفاء والأمراء النبلاء، ولكن ما عسانا أن نقول في رجل طاف بين أوكار وزوايا المفكرين والحركيين ومجددي الإعتزال([6]) ، يستقي من مستنقعاتهم النجسة ، ويلتقط من جيفهم النتنة ويجني من ثمارهم المرة !!؟ أي بضاعة سيجلبها إلى الأمة السنية من تلك الأوكار البدعية والكتب الفكرية ، وإلا فالرجل لو ترعرع في جنان السنة النبوية وبساتين الآثار الصحابية يأكل من طيباتها اللذيذة ويستقي من أنهارها العذبة ويتقلب في فناء حدائقها الناضرة لفاحت منه العقيدة السنية والآثار السلفية وظهرت آثارها في حياته العلمية الدعوية ، ولأنبرى قلمه في الدفاع عن حياض السنة وأصولها ومحاربة الشرك وأوكاره من الوعدة والزردة التي طمت وعمت وشاعت في منطقة معسكر وضواحيها من مدن الغرب الجزائري ، ولتصدى لمحاربة التبليغ والتصوف والإخوان والخوارج المارقة والرفض ورؤوس المميعة المتسلفة وغيرهم من أهل الإنحراف والاختلاف ، ولكن أين ذلك منه ؟ وليرينا مشاريعه وإنجازاته في خدمة هذا العمل البطولي المشرف ، وأنى له ذلك ونحن منه في إياس من ذلك لما قد عرفناه وألتمسناه من حياته الدعوية وإنجازاته التهريجية الدائر بين تخريب أصول السنة والتشغيب على أهلها كما هو صنيعه هنا في مسألة الإمامة يصول ويجول لزعزعة كيانها وتشكيك في أصالتها وهتك حرمتها في الأمة السنية متأسيا بالثوريين والحركيين على أنه لا طاعة ولا بيعة للإمام الفاجر الذي لم يستجمع شروط الإمامة ولنا أن ننازعه في حكومته ونهرج عليه بإنشاء الأحزاب ، وهذه هي حال كل من زهد في المشروع وآثر الممنوع أورثه التخبط والتخليط وغايته التهريج ، فبن حنفية لما عميت بصيرته عن المشروع والمسنون فيما يجب على المسلم نحو ولاة أمره من التعاون معهم في السراء والضراء والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح وإلاصلاح ، وإقامة معهم الجماعة والجمعة وإبداء لهم النصح في السر و الصبر عليهم وإن جاروا وظلموا وكف ألسنة الغوغاء والدهماء على الطعن فيهم وإظهار مكاناتهم وإحترامهم وتوقيرهم أمام العامة والخاصة وذلك إما بالمقالات الخطية أوالكلمات الخطابية سواء كان ذلك على المنابر أو عبر الصحف والمجلات أو عبر الإذاعة أو في مواقع الانترنات وإلى غير تلك الوسائل المحمودة المشروعة التي هي معينة على إصال الحق للخلق من غير إخلال بأصول الشريعة المحمدية وثوابتها الأصيلة كما حث على ذلك الشارع ورغب فيه .
قال العلامة عبد السلام بن برجس ـ رحمه الله ـ في كتابه " معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة "
( 133 ـ 137 ) : (( الصبر على جور الأئمة أصل من أصول السنة والجماعة ([7]) لا تكاد تري مؤلفاً في السنة يخلو من تقرير هذا الأصل، والحض عليه وقد بلغت الأحاديث حد التواتر في ذلك ([8]) ، وهذا من محاسن الشريعة فإن الأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم يجلب من المصالح ودرأ من المفاسد ما يكون به صلاح العباد والبلاد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي - :" وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ، فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم وجور، كما هو عادة أكثر النفوس، تزيل الشر بما هو شر منه ،وتزيل العدوان بما هو أعدى منه، فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم فيصبر عليه، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور والمنهي – في مواضع كثيرة – كقوله – تعالي - : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ) [لقمان : 17]
وقوله ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) [الأحقاف :35 ] ، وقوله ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) [الطور: 48 ] " ا.هـ.
فاصبر على السلاطين إذا جاروا من عزائم الدين ومن وصايا الأئمة الناصحين ([9]) ، جاء في " الشريعة " ([10]) للأجري : عن عمر بن يزيد، أنه قال : " سمعت الحسن – أيام يزيد بن المهلب يقول – وأتاه رهط – فأمرهم أن يلزموا بيوتهم ويغلقوا عليهم أبوابهم، ثم قال : والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا على ما لبثوا أن يرفع الله - عز وجل – ذلك عنهم وذلك أنهم يفزعون إلي السيف فيوكلون إليه، والله ما جاؤوا بيوم خير قط، ثم تلا : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) [الأعراف: 137[
وقال الحسن - أيضاً - : " أعلم – عافاك الله – أن جور الملوك نقمة من نقم الله – تعالي -، ونقم الله لا تلاقي بالسيوف، وإنما تتقي وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب ، إن نقم الله متي لقيت بالسيوف كانت هي أقطع ، ولقد حدثني مالك بن دينار أن الحجاج كان يقول : اعلموا أنكم كلما احد ثم ذنباً أحدث الله في سلطانكم عقوبة.
ولقد حدثت أن قائلاً قال للحجاج : إنك تفعل بأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت و كيت !
فقال : أجل، إنما أنا نقمة على أهل العراق لما أحدثوا في دينهم ما أحدثوا، وتركوا من شراع نبيهم عليه السلام – ما تركوا " ا هـ.
وقيل : سمع الحسن رجلاً يدعو على الحجاج، فقال : لا تفعل - رحمك الله -، إنكم من أنفسكم أتيتم، إنما نخاف إن عزل الحجاج أو مات : أن تليكم القردة والخنازير.
ولقد بلغني أن رجلاً كتب إلي بعض الصالحين يشكو إليه جور المال فكتب إليه : يا أخي ! وصلني كتابك تذكر ما أنتم فيه من جور العمال، وإنه ليس ينبغي لمن عمل بالمعصية أن ينكر العقوبة، وما أظن الذي أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب والسلام ([11]) " ا .هـ
فهذا موقف أهل السنة والجماعة من جور السلطان يقابلونه بالصبر والاحتساب، ويعزون حلول ذلك الجور بهم إلي ما اقترفته أيديهم من خطايا وسيئات، كما قال الله – جلا وعلا - :( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) [ الشورى 30]، فيهرعون إلي التوبة والاستغفار ، ويسألون الله – جل وعلا – أن يكشف ما بهم من ضر، ولا يقدمون على شيء مما نهي عنه الشرع المطهر في هذه الحال – من حمل السلاح أو إثارة فتنة أو نزع يد من طاعة -، لعلمهم أن هذه الأمور إنما يفزع إليها من لا قدر لنصوص الشرع في قلبه من أهل الأهواء الذين تسيرهم الآراء لا الآثار، وتتخطفهم الشبه، ويستنزلهم الشيطان ، ولقد جاء في النصوص " من التحذير عن مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله – عز وجل الكريم – عن مذهب الخوارج ولم ير رأيهم وصبر على جور الأئمة وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسال الله العظيم كشف الظلم عنه وعن جميع المسلمين، ودعا للولاة بالصلح، وحج معهم، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين، وصلى خلفهم الجمعة والعيدين وإن أمروه بطاعتهم فأمكنته طاعتهم أطاعهم ،وإن لم يمكنه اعتذر إليهم وإن أمروه بمعصية لم يطعهم وإذا دارت بينهم الفتن لزم بيته، وكف لسانه ويده ،ولم يهو ما هم فيه ،ولم يعلن على فتنة فمن كان هذا وصفه كان على الطريق المستقيم – إن شاء الله –"([12]) )) ا.هـ ([13])
نعم يا إخواتاه يعمى بن حنفية عن هذه العقيدة السمحة الطيبة الحكيمة الجليلة ، فيهوى على أم رأسه في حفر الثوريين والحركيين ، مستسيغا أنظمة الديموقراطية ، راجيا منها ما لم يرجه من السنة المحمدية من الصبر على ولاة أمره في المنشط والمكره وفي اليسر والعسر وفي جميع أحواله ، فاتحا باب الضلالة والهرج في الأمة الإسلامية ، فأي الدعوة السلفية بعد هذا كله يدعيها ، والمصيبة الكبرى مع ذلك تفضى عليه تلك الثياب الواسعة الفضفاضة من أنه من أعلام السنة وفقهاء الملة ، فإن لم يكن هذا إلا تلميع حركي ، فلا ندري ماذا يريد القوم !!؟ ، حيث أنه قد عرف في الساحة الحركية الإخوانية أنهم إذا وجدوا في رجل لقمتهم ومبتغى شهوتهم الحزبية الحركية رفعوه بين عشية وضحاها في مصاف الأعلام وشيوخ الإسلام وأنه من دعاة التجديد ويغمربالهالات والألقاب المصطنعة في الثناء عليه ومدحه وإطرائه بل قد يختلق له من الكرامات العجيبة مما يقدس بها ويعظم في سوق الدهماء والبطلة والجهلة ، وما غرضهم منه إلا لقضاء أغراضهم الخسيسة الخبيثة المتمثلة في تحطيم الأمة السنية ([14])، فإذا قضوا حاجتهم منه رموه في المستنقعات كما ترمى الجيف النتنة فيحيط بها الكلاب أكلا وتمزيقا وبالتالي يصبح في خبر كان بين عشية وضحاها ، ناسيا منسيا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمة الحراني : فـ"أهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم لأنهم شانوا بعض ما جاء به الرسول فبترهم الله فكان لهم نصيب من قوله تعالى : إن شانئك هو الأبتر "([15] )
فهنيئا لك يا بن حنفية فيما أنت فيه وتذكر نقطة نهيتك وجزاء نقطة بدايتك .
..... يتبع إن شاء الله
([1]) ((إحياء علوم الدين )) وما بين شطرين من (( شرحه )) للزبيدي ( 2/233 ).
([2])( 3/44)، وقد وقفت على كلام الغزالي هذا في كتابه (( فضائح الباطنية )) ( 119/120 )
([3]) قال الشيخ عبدالكريم : يا ليت أخواننا الذين يشوشون على الناس في قضية (( تخلف بعض شروط الإمامة )) يتأملون هذا الكلام العلمي الرصين وينظرون ما علق عليه الشاطبي – وهو من علماء الاجتهاد – تأييداً ونصرة له.
([4]) صحيح البخاري كتاب الفتن، باب : إذا قال عند قوم شيئا ً ثم خرج فقال بخلافه : ( 13/68 ).
([5]) (3/46-47 )، ونحو هذا الكلام لابن العربي في (( العواصم من القوا صم )) لابن الوزير، ط مؤسسة الرسالة : ( 2/172 )، وقد ذكر نظائر لهذه المسألة منها نكاح المرآة بغير إذن الولي متي غاب وليها وبعد مكانه، أو جهلت حياته، قد ترك كثير من العلماء شرط العقد المشروع – وهو رضا الولي – لأجل مصلحة امرأة واحدة، وخوف مضرة امرأة المفقود فكيف بمصلحة عوالم من المسلمين وخوف مضرتهم ؟ )) ا هـ الخ ما ذكره من النظائر
([6]) ولا يستغرب ذلك القارئ حتى يصل به الأمر فيقول : كيف تتهم الرجل بهذه التهمة الغليظة ، وما هذا منك إلا ضرب من الفظاظة ...!! فما يكون مني إلا أن أقول : حنانيك حنانيك يا أُخي ، وأعلم بصرني الله وإياك بخبايا القوم ورزقك اليقظة لما هم عليه من الضلالة ، أن بن حنفية قد رسم لنفسه منهجا وخط في مسيرته التهريجية خطة وهي أن لا يجعل بينه وبين المخالف له وإن كان في العقيدة حاجزا ومانعا على أن لا ينقل عنه كما أوضح ذلك في " العجالة " ( 1/ 54) ، ولهذا تجده ينقل عن محمد عبده ورشيد رضا وغيرهما في رسائله وكتبه ، ولا يخفى عليكم أن محمدا ورشيدا من مجدّدين لضلال وترهات الإعتزال ، قال العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي ـ رحمه الله ـ في مقدمة "ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر " : (( وفي هذا الزمن شاع وذاع أن جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، من المجددين وأنّهم علماء الفكر الحر، فقام غير واحد من المعاصرين ببيان ضلالهم وأنّهم مجدّدون للضلال وترهات الإعتزال فعلمت حقيقتهم، وصدق الله إذ يقول: " فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض " )) ا.هـ
فهذا التنبيه مني على العجالة فيما يخص هذه الضلالة وإلا فسنؤخرها حتى نبينها في محلها ونستوفي فيها مقالة إن شاء الله ومنه العون والسداد
([7]) قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (( الفتاوى )) : ( 28/179 ).
([8]) (( رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين )) للشوكاني ( ص 81-82 ).
([9]) (( بدائع السلك في طبائع الملك )) : ( 1/76 )
([10]) ( ص 38 )، ط. أنصار السنة.
([11]) من كتاب (( آداب الحسن البصري )) لابن الجوزي : ( ص 119 – 120 )
([12]) انتهي من كلام الآجري في الشريعة : ص ( 37 )
([13]) ثم إستدل الشيخ رحمه الله لتثبيت وتقرير هذا أصل من الأدلة الشرعية بما يغني ويشفي فليرجع إليه
([14]) وهذا من أخس وأخبث الوسائل والأساليب يستعملها أهل الضلال والإنحراف ضد أهل السنة والحديث حيث أنهم جندوا الجهال والغوغاء واستخدموهم في حربهم الهوجاء على إساقط العلماء الصلحاء، وذلك أنهم رفعوا أولئك الغوغاء الجهال في مصاف الأعلام وسعوا في إسقاط العلماء الشرفاء بما نصبوه لهم من الغوائل والحبائل الباطلة المتمثلة في التزهيد والتشكيك في مرجعيتهم الدينية وأماناتهم العلمية ، لأنه إذا ضعفت ثقة الشباب بعلمائهم ضاعوا في شعاب وأودية أهل الضلال والفتن وأستولوا عليهم وبالتالي يكونون كالآلة المحركة في أيدي الأشرار وشياطين الإنس يستخدمونهم في مأربهم ومصالحهم المدمرة المستدمرة ، وهذا الذي استعملته الماسونية في غرض تدمير الإسلام وأهله ومن ذلك " أنها تجذب الأشخاص إليها ممن يهمها ضمهم إلى تنظيمها، بطريق الإغراء بالمنفعة الشخصية، على أساس أن كل أخ ماسوني مجند في عون كل أخ ماسوني آخر في أي بقعة من بقاع الأرض، يعينه في حاجاته، وأهدافه، ومشكلاته، ويؤيده في الأهداف إذا كان من ذوي الطموح السياسي، ويعينه إذا وقع في مأزق من المآزق أيا كان على أساس معاونته في الحق والباطل ظالماً أو مظلوماً، وإن كانت تستر ذلك ظاهرياً بأنها تعينه على الباطل . وهذا أعظم إغراء تصطاد به الناس من مختلف المراكز الاجتماعية، وتأخذ منهم اشتراكات مالية ذات بال " ( انظر إلى رقم الفتوى : 1795 من " المجمع الفقهي " )
وقد أُلتمس هذا العمل الخبيث في جمال الدين الأفغاني وذلك من خلال مسيرته السياسية الثورية الإفسادية حيث أنه جاء عن الدكتور علي الوردي كما هو مثبت في كتاب " دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام " ( 19 ) أنه قال " ((إننا على أي حال نقف هنا تجته لغز غامض ولابد لنا من أن نتساءل : كيف إستطاع الأفغاني أن ينال تلك الخطوة الكبيرة في إسطنبول وفي القاهرة بمجرد وصوله إليهما ؟ نحن نعرف أن العشرات من رجال الأدب والعلم يفدون إلى تينك المدينتين في كل عام فما هو السبب الذي جعل الأفغاني وحده يتميز عنهم جميعا بمقابلة كبار رجال الدولة ونيل المكانة الرفيعة عندهم ؟ أكان الأفغاني يحمل طلسما أو ماذا ؟))
فأجاب مؤلف الكتاب عن هذا الإشكال فقال : (( نستطيع أن نجيب الدكتور الوردي على تساؤله فنقول : بأن الأفغاني كان مدعوما من منظمات سرية كانت تفضي عليه هالة عظيمة كلما حل في مكان لتجعل منه رجل العصر في العلم والسياسة والله أعلم بالأسرار )) ا.هـ
وهذا شأن دعاة الضلال والفتن في كل زمان ومكان أنهم تفضى عليهم تلك الهالات الفخمة والمبالغات من الثناء الضخمة مما بها يرفعون إلى مصاف الأعلام وفي مقابل ذلك تسقط مكانة شيوخ الإسلام ويجهل العلم وأهله فتنتهي زمام قيادة شباب الأمة بأهل التخريب والتشغيب فما تجني الأمة منهم إلا الصراخ والتعذيب والله المستعان
([15] ) " الرد على البكري " ( 1 / 175)
رد: تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
وما أحوجك ـ أصلحك الله ـ إلى نصيحة العالم الرباني أبي محمد الحسن البربهاري شيخ الحنابلة في وقته ـ رحمه الله ـ والعمل بها إذ يقول : (( فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أو أحد من العلماء فإن أصبت فيه أثرا عنهم فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيئا فتسقط في النار)) ([1] )
فيا لها من النصيحة وانفعها للخلق إذا اخذوها بالجد والصدق لما قد علاها نور الحق ، أما من أعرض عنها وزهد فيها واتبع بنيات الطريق فلا يلومنا إلا نفسه إذا أرتمى في مستنقعات أهل الضلال و الأهواء يتخبط ويتألم ينادي هل من مغيث لما أنا فيه من الغريق ، فتجده والحالة هذه يتخبط ويستجير بأي وسيلة تنجيه ولو بخيوط العنكبوت وحاله كمستجير من النار بالرمضاء ، والمصيبة وهو في هذه الحالة المزرية لا يسلم من رشق لسانه وقلمه أهل الأثر والحديث ، فلا عتاب إذاً على أهل السنة والأثر إذا عضته سيوفهم ورموه بالمجانيق دفاعا عن أمرهم العتيق .
وعليه فأعود على بدء في بيان تخبطات ومجازفات بن حنفية التي رجف بها في رسالته" الجمعيات من وسائل الدعوة إلى الله " ، وإن كنت لا أبخل على القراء الكرام من حين إلى أخر في بيان شيء من زيف مغماراته ومقامراته التي في رسالته " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " أو غيرها من كتبه ومقالاته إذا اقتضت المناسبة لذكرها والتنبيه عليها ، ليكون هذا الكتاب وافيا كافيا في بيان أباطيل وأضاليل الرجل التي أرغد وأزبد بها في الأمة الإسلامية وخاصة في ديار السلفية فاغتر بها شبابها الضعيف وإن كان قد تقيأ من روائحها الخبيثة النتنة كل سني حصيف ، فسعى لتخلص من رائحتها المنتشرة ودفعها بالحجج القاهرة ، ويعلم الله" أنني كاره لإيراد هذه الأباطيل لكن حالي كما جاء في المثل " مكره أخوك لا بطل " كما في مجمع الأمثال للميداني ( ص 274 ) ، فأجدني مضطرا إلى إيراد هذه التعسفات والرد عليها ، وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " (ص:5) في إبطال قول من قال: (إنَّه لا يُحتَجُّ بالسُّنَّة، إنَّما يُحتجُّ بالقرآن وحده !) ، قال: ( اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة ) إلى أن قال في (ص6) : ( وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار ) ا.هـ
ولشناعة هذه الأباطيل، فإنَّ مجرَّدَ تصوُّرِها يُغني عن الاشتغال في الردِّ عليها، لكنِّي رأيتُ الرد عليها في هذه الرسالة ، لئلاَّ يغتَر بها ذو جهل أو تغفيل، ورجاء أن يهدِيَ الله المردودَ عليه، ويُخرجه من الظلمات إلى النور، فيتوبَ من تلك الأباطيل قبل أن يفجأَه هادِمُ اللَّذَّات، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل، كما قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تفسير القرطبي 5/262)." ([2])
قال في رسالته " الجمعيات " ( 08 ـ 09 ) : ((أما الآن فلا بد من اصطناع هذه الروابط التي فرضها القانون وجعلها شرطا في الإقدام على بعض الأعمال التي لا غنى للمجتمع المسلم عنها ، ولا تقوم الرابطة بين أفراده كما ينبغي إلا بها ، وأنى للمرء أن يحشر مع تلك الرفقة الطيبة إذا لم يكن على طريقها فيالدعوة الى ما دعت اليه ، وهو غير متمكن من ذلك في معظم الأعمال العامة إلا بهذه الوسيلة قال تعالى : "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " [النساء: 69]
كثير من المطالب الشرعية التي تضمنتها نصوص الكتاب والسنة ومثلها في ذلك الأخبار الواردة في صفات المؤمنين كان الفرد المسلم يقوم بها وحده ، ويدعو اليها غيره ويتعاون مع إخوانه على تحقيقها أما في هذا العصر فإن كل ما يفعله الفرد هو أن يقول بلسانه ويحض بكلامه أو يقدم جهدا بمفرده وقد لا يقدر على القول بله الفعل أما أن ينتقل الى ما وراء ذلك من الفعل المؤثر الواسع فلا سبيل له إليه إلا في هيئة يعترف بها أولو الأمر ويسمحون لها بالنشاط.)) ا.هـ
أقول
بلية بن حنفية وللأسف الشديد ذوبانه مع وسائل مصطنعة ممنوعة التي مصدر إنتاجها ماسوني وثقته بها ، مع إغفاله عن الوسائل المسنونة المشروعة وتقليل من شأنها ونفعها وما يبارك الله تعالى فيها وفي أعمال أهلها المخلصين الصادقين ، فاوقعه هذا التميع والذوبان في إستحسان وسائل الماسونية والتكلف والتعسف للاستدلال على مشروعيتها بشيء من الحق ، غاض الطرف عن ما هي عليه من الأباطيل المستقبحة ، وما ذاك منه إلا لإرادة إنفاق الباطل في الوجود بشوب من الحق ، مع أن الجمعيات " لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها حتى سامها كل مفلس " ، لما هي عليه من الفضائح الظاهرة والقبائح القاهرة التي قهرت أكاذيب وزخاريف مجددي الجمعيات ، فما وجدوا شيئا يروجون به بضاعتهم البائرة إلا أن يزينوها ويلبسونها لباس الحق حتى تنفق وتروج في ديار وأسواق أهل الإتباع والصدق ، وهذا لا يخفى عليكم من ألطف ما يملكه أهل الباطل والانحراف في ترويج باطلهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى " ( 35 / 190) : (( وَلَا يُنْفَقُ الْبَاطِلِ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِشَوْبِ مِنْ الْحَقِّ ؛ كَمَا أَنَّ أَهْل الْكِتَابِ لَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ بِسَبَبِ الْحَقِّ الْيَسِيرِ الَّذِي مَعَهُمْ يُضِلُّونَ خَلْقًا كَثِيرًا عَنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَيَدَّعُونَهُ إلَى الْبَاطِلِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ .)) ا.هـ
وقال العلامة الشاطبي ـ رحمه الله ـ في " الاعتصام " (2/ 136): (( يبعد في مجاري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له ، بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق دليل شرعي .)) ا.هـ
فإذا كان كذلك فينبغي الكشف عن حقائق ما تحت ألفاظ بن حنفية من الحق والباطل ولكي يظهر حقيقة الغطاء الزينة الذي تزي وتزين به لترويج بضاعته الكاسدة .
فأولا : كل من وقف على كلامك يا أباعبدالقادر يتوجع ويشاركك المأساة لما عليه أوضاع أهل الإسلام من التقهقر والضعف لما قد غلب عليهم الجهل بدينهم وبعدهم عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وإنتشار الفتن في ربوع بلدانهم شرقا وغربا ، وتكالب الأعداء عليهم من كل ضرب وصوب ، فما من مسلم يغير على دينه وله حرقة على سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلا وهو في خنقة لما تمر عليه الأمة الإسلامية من الأوضاع السيئة ، لكن ما هو الحل في هذه المأساة المؤلمة ؟ هل نبقى مكتفي الأيدي ونحن نشاهد العدو ينحر في السنة ويشرد في أهلها ؟ أم نواجه وندافع ونصابر؟
فالأول لا يقوله من ذاق طعم السنة وباشرت بشاشة قلبه واختلطت بدمه فسارت في عروقه ، ويا له من دين لو له رجالا ، وإنا في هذا المقام نتسلى ونتأسى بقول ذاك العظيم الشريف خبيب بن عدي ـ رضي الله عنه ـ إذ يقول حين أجمعوا على صلبه
لَقَدْ أَجْمَعَ الأَحْزَابُ حَوْلي، وَأَلّبُوا ... قَبَائِلَهُم واسْتَجْمَعُوا كُلَّ مجْمَعِ
وكلُّهُمُ مبدي العداوةِ جاهدٌ ... عَلَىَّ لأني فى وِثاقٍ بِمَضْيَعِ
وقَدْ قَرَّبُوا أَبْنَاءَهُم ونسَاءَهُم ... وقُرِّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طوِيلٍ مُمَنَّعِ
إلَى اللهِ أَشْكُوا غُرْبَتِي بَعْدَ كُرْبَتِي ... وَمَا أَرْصَدَ الأَحْزَابُ لى عِنْدَ مَصْرَعِي
فَذَا العَرْشِ صَبِّرْني عَلَى ما يُرادُ بي ... فَقَدْ بَضَّعُوا لحْمي وَقَد يَاسَ مَطْمَعِي
وَقَدْ خَيَّرُوني الكُفْرَ، والمَوْتُ دُونهُ ... فَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاي مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بِي حِذَارُ المَوْت إنِّى لَمَيِّتٌ ... وإنَّ إلى ربِّي إيَابي ومَرْجِعي
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِما ... عَلَى أَي شِقٍّ كان فى اللهِ مَضْعَجِي
وَذلِكَ فى ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشأْ ... يُبارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شلْوٍ مُمَزَّعِ
فَلَسْتُ بمبدٍ للعدوِّ تَخَشُّعاً ... ولا جَزَعاً، إنى إلى الله مَرجعي
فقال له أبو سفيان: أيسرُّك أنَّ محمداً عندنا تُضْرَبُ عنقُه وإنك فى أهلك، فقال: لا واللهِ، ما يسرُّني أني في أهلي، وأنَّ محمداً فى مكانهِ الَّذِى هُوَ فيه تُصيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤذِيه.([3] )
أما الثاني : فهو مبتغى ومربط فرس شجعان وفرسان الأمة ، ولكن هنا لابد من وقفة ونظرة وتأمل وتفكر طويلة وعريضة لها إهتمامها وقيمتها يا بن حنفية وهي : بأي سلاح وعتاد وعدة سنواجه ذاك العدو ؟؟
الجواب : من قلب نظره في التاريخ منذ بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يجد أن ما يقع للأمة اليوم من الخلل والإخلال قد حدث عبر التاريخ ووقع ، حيث أنه ظهرت في الأمة دعوات بدعية كثيرة أدعت الإصلاح والتصليح ولكن باءت بالفشل وعدم النجاح وذهبت دعواتها في مهاب الرياح لأنها سلكت منهجا في الإصلاح غير منهج محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وأئمة الحديث الذين ساروا بسيرهم من بعدهم ، وكذلك اليوم لما ظهرت هذه الجماعات البدعية وادعت الإصلاح و تبنت لنفسها منهجا غير منهج سلفنا الصالح في طريقة الإصلاح ضاعت جهوداتها أدراج الرياح وما ظفرت بالفلاح ، إلا ما نراه من أهلها وزعمائها من التخبط والذوبان في أنظمة وتخطيطات ومصطنعات اليهودية ومسايرتهم ومداهنتهم عليها ، ولهذا نجدهم أنه ما قامت لهم قائمة منذ نشأتهم إلى يومنا هذا بغض النظر عن كثرة وكثافة ما هم عليه من الأعمال ولكنها جوفاء لا روح فيها ، فلا للإسلام نصروا ولا لأوكار الشرك كسروا و لا لأفكار أهل البدع والضلال دمروا، بل ما رأيناهم إلا أعاونا ([4] ) للملل الكافرة والنحل المبتدعة المغلظة في التشغيب على أصول السنة وتخريب بلاد الإسلام ، مقتفين أثر سلفهم" يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان "([5]) ، وهكذا التاريخ يعيد نفسه ، فإذا كان الأمر قد إتضح من أن شأن الجماعات الحزبية إفتضح وأن مأل أمرها التلاشي والاضمحلال ولابد ، وإن كنا نرى لها حركة من حين إلى حين فحسبك أن تكون حركة الشاة المخنوقة .
ألا يجدر بنا والحالة هذه أن نسعى ونتشجع للرجوع والتأمل في معرفة سبب نجاح دعوة سلفنا الصالح وأن نقف على بواعث بقاء خيرها وبركتها جيلا بعد جيل إلى أن وصلت إلى يومنا هذا ، بل قد صح الخبر أنها ستستمرفي سيرها الحثيث إلى قيام الساعة ([6] ) ، وقد أحسن من قال : " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا "([7] )
نعم يا إخوتاه لو قلبنا صفحات سلفنا الصالح المشرقة وإيامهم المشرفة لو جدنا أن أبرز وأهم الجوانب الباعثة على نهضتهم الإصلاحية والتي تعد نواة نجاح وفلاح أئمة التجديد و الإصلاح هي إهتمامهم البالغ بالدعوة إلى الله تعالى على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ـ رضي الله عنهم ـ ، وحق لهم ذلك إذ أنها تعد من أسمى المطالب التي يبذل من أجلها النفس والنفيس وكل الغالي والحبيب ويهون معها كل مصاعب ، كيف لا وهي مهمة الرسل الكرام وميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،و بها تعلو كلمة التوحيد وترفع راية السنة وتقمع أوكار الشرك والكفر و البدع وتزلزل عروش دولتهم([8] )، فهي إذاً ذات أهمية كبرى في تحقيق النصر للإسلام ، وقد أشاد الله تعالى بأهلها في كتابه الحكيم فقال جل في علاه : (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) [فصلت: 33 ] ([9] ).
فهذه الشعيرة وهذه أهميتها فجدير بالشارع أن يهتم بها ولا يكل أمرها إلى الخلق ، لأن المخلوق لا يهتدي إلى مصلحة نفسه إلا بتوفيق الله ، فكيف يهتدي إلى مصلحة غيره ، ومن باب الأولى كيف يعرف مصالح التشريع ما لم يشرح له ويوضح ، فإذا تنبهت لذلك يا بن حنفية فتذكر وتفكر في قولك : " أما الآن فلا بد من اصطناع هذه الروابط التي فرضها القانون وجعلها شرطا في الإقدام على بعض الأعمال التي لا غنى للمجتمع المسلم عنها ، ولا تقوم الرابطة بين أفراده كما ينبغي إلا بها "
ما هذا منك يا بن حنفية إلا محض التحسين المذموم والرأي المجذوم ، و كان يحسن بك قبل أن تقدم على هذا الهراء وتتقيأ هذا الهذاء أن تتأنى فتنزل في رياض القرآن فتأخذ من طيبه وتجول في بستان الحديث فتقطف من ثماره وتحذو حذو سير السلف الصالح فتسير في ركابهم رابطا رقبتك في عجلتهم ملتمسا غبار قافلتهم ، فتنظر هل ما استحكم في جعبتك من الأخلاط والأبخرة الرديئة يسوغ لك أن تستفرغه و تتنفسه في الأمة الإسلامية ؟! وعلى أقل الشيء كان يجب عليك أن تتأمل وتنظر هل له حظ من النظر ، وأنه مما أتى به المنقول و شهد له الشرع بالقبول وعرف حسنه ذوي العقول ، أو أنه ضرب من السفسطائيات والوساوس التي رجف بها كل مخذول ؟!
ألا تعلم ـ هداك الله وبصرك بحقائق أهل الإيمان وعلوم ذوي العرفان ـ أن الدعوة إلى الله عبادة ، بل هي من أسمى العبادات ، وأفضل القروبات ، فإذا كانت كذلك فالعبادات مدارها و" مَبْنَاهَا عَلَى الشَّرْعِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
وَالثَّانِي : أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَعْبُدَهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا )) [الجاثية:18] ، وَقَالَ تَعَالَى : (( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )) [الشورى:21] ، فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ "([10] ) وما ذاك إلا لأن شريعته "([11] ) كاملة من كل وجه ، لا نقص فيها ولا قصور ، يقول الله تعالي مخبراً عن هذه الحقيقة الثابتة : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )) [المائدة: 3] ، فما من شيء تحتاجه الأمة في حاضرها ومستقبلها إلا وقد بينه الله تعالى بياناً تدرك الأمة من خلاله حكمه من حل أو حرمةٍ ، وهذا الأصل مقرر في الكتاب والسنة بما لا يدع مجالاً للشك فيه أو الارتياب ، وقد أجمعت الأمة علي ذلك .
قال الله تعالى : ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) [الأنعام: 38] ، وقال تعالى : (( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )) [النحل: 89 ] ،وقال تعالى : (( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً )) [الاسراء: 12 ] ، وقال تعالى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) [المائدة :15،16 ] ... وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما بعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم )) ، وأخرج البغوي في شرح السنة ( 14/303-305 ) عن زيد اليامي وعبد الملك بن عمير ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ، ويباعدكم من النار إلا قد أمرتكم به وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ..)) الحديث .
وأخرجه الحاكم في المستدرك ( 2/4 ) من طريق آخر ، عن ابن مسعود . والبيهقي في (( شعب الإيمان كما في المشكاة ( 3/1458 ) .
قال العلامة ابن القيم – رحمه الله – في تقرير هذا الأصل : (( .. فرسالته صلى الله عليه وسلم كافية عامة ، لا تحوج إلى سواها ، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته .. فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته ، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به .
وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علماً ، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلى وآداب الجماع ، والنوم والقيام والقعود ، والأكل والشرب ، والركوب والنزول ،والسفر والإقامة ، والصمت والكلام ،والعزلة والخلطة والغنى والفقر والصحة والمرض ، وجميع أحكام الحياة والموت .
ووصف لهم العرش والكرسي ، والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين
وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله .
وعرفهم الأنبياء وأممهم ، وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم .
وعرفهم من طريق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبي لأمته قبله .
وعرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال الموت ما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرف به نبي غيره .
وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده ، اللهم إلا إلى من يبلغه إياه ويبينه ويوضح منه ما خفي عليه .
وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدو أبداً .
وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد إبليس وطرقه التى يأتيهم منها ، وما يتحرزون به من كيده ومكره وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه .
وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال نفوسهم وأوصافهم ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة معهم إلى سواه .
وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة ، وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته ، ولم يحوجهم الله إلى أحدٍ سواه ... ا هـ كلامه ـ رحمه الله تعالى ـ "([12] )
فإذا اتضح هذا نجد انفسنا والحالة هذه أنه قد وصلنا مع بن حنفية إلى نقطة مفترق الطرق ، وظهر لنا جليا حقيقة سموم قوله " أما الآن فلا بد من اصطناع هذه الروابط التي فرضها القانون وجعلها شرطا في الإقدام على بعض الأعمال التي لا غنى للمجتمع المسلم عنها ، ولا تقوم الرابطة بين أفراده كما ينبغي إلا بها " .
يا بن حنفية بالله عليك نريد منك كلمة الإنصاف من غير اللف ولا الدوران بعيدا عن التكلف و الإعتساف أين دعوة محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الروابط المصطنعة التي فرضها القانون وجعلها شرطا في الإقدام على الأعمال الخيرية و التي لا قوام للدعوة المحمدية إلا بها ؟! هل جهلتها الشريعة وعلمتها أنت وقنونك؟ وهل هذه الشروط التي يفرضها قنونك يقرها الشرع المحمدي ويشهد بصحتها ، لأنه "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط "([13] ) ،؟!
إنا والله لنشهد ونؤمن أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته وسائل الدعوة الشرعية سواء بالقول أو بالفعل أو بهما على أتم البيان وأحسنه التي بها يرشد الغاوي ويقهر بسلطانها العاوي ، بعيدا عن شروط قنونك وروابطك المصطنعة الوهمية ،" إذ كيف يبين صلى الله عليه وسلم آداب قضاء الحاجة ونحو ذلك ويدعوا وسائل الدعوة التي لا قيام للإسلام إلا بها؟"([14] ) " فليس من سبيل في إيجاد مجتمع كمجتمعه إلا بهذه الوسائل الشرعية والطرق السلفية ، كما قال الإمام مالك – رحمه الله تعالى - : (( لن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها )).
فالزيادة عليها زيادة في الشرع ، وخروج عن سبيل المؤمنين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) "([15] )
فدعك ياعابدين من ترقيع وسائل الماسونية التي قد ظهرت لكل ذي العينين فضائحها وقبائحها، و من أنها داء عضال وسم نقيع ، واعلم أن غاية ما في أراجيفك هذه أنها "شبهات نسجتها الأوهام و الأغراض في العصور المظلمة ، فكن حر الفكر ، قوي الإرادة ، و خلص نفسك من تلك القيود و الأغلال ، فإنك في عصر العلم ! "([16] ) ، وتأمل في قوله جل في علاه (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) [يوسف: 108] ، وفي ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"([17] )
وحدق ناظر قلبك في معانيهما وأجمع فكرك على تدبرهما وتعقلهما ، فستظفر بإعانة الله عز وجل لك بالوعد الجميل وتهدى بتوفيقه إلى سواء السبيل وتعصم من اقتحام طرق البدع والتضليل وتسهل عليك الأمور الصعاب غاية التسهيل ويتضح لك الدليل وتسلم من التذبذب والتحويل .
لعمري لو لم يكن في الباب إلا هذان الدليلان لكفى بهما حجة في طرح وطرد كل تعسف وتكلف متمثل في تحسين الوسائل البدعية المستحدثة التي هي من صنع وإنتاج الدول اليهودية والصلبية .
وبالمناسبة ومن دواعي السرور والحبور ـ وأنا أنسج في هذا السياج نسأل الله من نفعه وبركته ـ أن أهتديت إلى لطيفة من لطائف وروائع كتاب " التوحيد " للإمام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ الدالة على قوة ذكاء وغزارة فقه الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ حيث أنه أورد هذين الدليلين تحت ترجمة (( باب الدعاء إلى شهادة لا إله إلا الله )) وذلك بعد ما ذكر "التوحيد وفضله ، وما يوجب الخوف من ضده، منبها على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى ([18] ) " ، وقبل ذلك يتأكد عليه إذا أراد أن يباشر هذه المهمة الشريفة والخدمة الجليلة وكان متأهلا لذلك أن يعلم بأن هذه الدعوة "مرتكزة على دعائم وتقوم على أسس لابد منها ، متى اختلَّ واحدٌ منها لن([19]) تكن دعوة صحيحة ولن تثمر الثمرة المطلوبة، مهما بُذل فيها من جهود وأُضيع فيها من وقت ،كما هو المشاهد والواقع في كثير من الدعوات المعاصرة التي لم تؤسَّس على تلك الدعائم ولم تقم على تلك الأسس ([20] )"
ومن أهمها أن نسلك في دعوتنا إلى الله ، السبيل الذي سلكه عليه الصلاة والسلام في دعوته ، والذي أرشد أمته إليه ، فقد كفاهم ـ بأبي هو وأمي ـ مؤونة إختراع وإصطناع الوسائل التي هي من نسيج عقول البشر القاصرة فشرع لهم" الجهاد بالنفس ، والجهاد بالمال والجهاد بالقوة ... والدفاع كذلك ، وتغيير المنكر باليد وهذا لذي سلطان ، كرجال الحسبة وباللسان، ومثله القلم ، وبالقلب ، والأمر بالمعروف كذلك .
والنصيحة لائمة المسلمين وعامتهم بالتي هي أحسن : مناصحة بالكلمة ، ومناصحة بالكتابة ، وتذكير بأيام الله .
والدعوة تكون بالوظائف المرتبة في الإسلام : خطب الجمع والعيدين ، والحج ، وبالتعليم ، ومجالس الذكر والإيمان .
والصدع بكلمة الحق : ببيانها حتى يكشف الله الغمة عن الأمة ، وبفتوى عالم معتبر ، يغير الله بها الحال إلى أحسن ، فتعمل ما لا تعمله الأحزاب في عقودٍ ، وهكذا بعمل فردي من عالم بارع ، ينشر علمه في الأمة : في إقليم ، في ولاية ، في مدينة ، في قرية ... وهكذا ، وبعمل جماعي على رسم منهاج النبوية لا غير ، كجماعة الحسبة ودور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ومراكز الدعوة ورابطة العلماء ([21])"
فأين حظ إنشاء الأحزاب والجمعيات من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتشريعه إن كانت تعد من طرق الإصلاح ومما ينصر بها الإسلام ويبتغى بها الفلاح ؟!!
وبيان هذا يكون بالأمر التالي ـ الثاني ـ : إن المتأمل في حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يظفر بنكتة نفيسة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن أرشده إلى أنه سيأتي قوما من أهل الكتاب ، ومن المعلوم أنهم كانوا هم أكثر أهل اليمن في ذلك الوقت ، وإن كان معهم أيضا في إقليمهم أهل الشرك ، فبالله عليكم مجتمع جمع هذا الخليط أي حال سيكون عليه من الفساد والإفساد ؟ وأي طريقة تسلك معهم للإصلاح ؟ وبأي شيء يبدأ معهم ؟ وبماذا يبدأ ؟ وبمن يبدأ ؟ مع إن مثل هذا المجتمع على منظور التكتل الحزبي والجمعاوي لا يحتاج إلى داعية واحد ، بل يحتاج إلى تنظيم وتجميع وتكتيل ؟!
ولكن حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يأبى ذلك حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقام بمهته الشريفة على ما يرضى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فعلم الناس أمور دينهم وقامت به الحجة مع إنه كان فردا ، وهذه من الجحج الظاهرة القاهرة ومن اللطائف الدالة على أن أخبار الأحاد ممن تقوم بها الحجة سواء ما كان منها في العقائد أوالعبادات أوالمعاملات وهذا من المسلمات عند سلفنا الصالح بخلاف ممن أصابه المرض العقلي والوساوس ، فعلاجه أن يرجع إلى طبيب العقول وهادي النفوس ومصححها وشافيها .
المقصود ، لو أن هذا التنظيم والترتيب الذي عليه الجمعيات ونهيك عن شروطها التي اصطنعها القانون لتمشيتها ممن يخدم الإسلام ويرفع رايته ما كان يغفل عنه النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة أن ظروف اليمن وما كانت عليه من الأوضاع السيئة فيما يخص أمور دينها وعبادة ربها ، لمحتاجة إلى ذلك ، ويتأكد إذا عرفنا أن معاذا بُعث وحده فمأحوجه إلى هذا التنظيم والتكتيل الجمعاوي لكي يباشر من خلاله دعوته ، وتكون نواة لمسيرته الإصلاحية، ولكن يا خيبة على أصحاب الجمعيات ما كان من ذلك شيء .
فهآ معاذ بن جبل رضي الله عنه يباشر دعوته وتعليم الناس بمفرده ، فعلم وربى وخرج على يديه أئمة علماء وأبطال شرفاء يضرب بهم المثل في العلم والعمل والجهاد والشجاعة ما استطعت الجمعيات أن تستخرج ولو ربع واحد منهم ـ رضي الله عنهم ـ مع طول السنين من ظهورها ، فأين بركة السنة وإنتجاتها الباهرة الظاهرة ، من التكتل الحزبي المدمر للعقائد السنية والمنوم للشخصيات الإسلامية ؟
وأزيدكم من الشعر بيتا : يا إخوتاه ألا يكفنا في الطرح والطرد هذه الجمعيات ودسها بالأقدام بأن نعلم أن السبب المقتضى لفعلها وتأسيسها كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع انتفاء ما يمنع منها ، وخاصة إذا علمنا أن الحاجة كانت ماسة من تأسيسها ، أليس هذا كافيا وقاضيا في عدم مشروعيتها وأن من السنة تركها ([22] )، لأنه لو كانت من السنة لكانت همم ودواعي الصحابة ونقلة الأخبار ورواة الآثار موجبة لنقل ما جاء في مشروعيتها ، فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ، ولا حدث بذلك عُلم أنه لم يكن من ذلك شيئا ، ولهذا تجد سلفنا الصالح من بعده صلى الله عليه وسلم قد تركوا فعلها أو نقلها أو تدوينها في مصنفاتهم أو ذكرها في مجالسهم ، مع إنهم قد أشادوا بذكر ما هو مشروع من وسائل الدعوة في مصنفاتهم ومجالسهم ومنها على سبيل المثال : الكتابة والتصنيف التي نفع الله بها نفعا عظيما في حفظ السنة ، ولها تأثيرا بالغا في حمايتها ، فألفوا فيها مصنفات مستقلة ككتاب" تقييد العلم " للإمام الحافظ الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ وغيره ، بل لا يخلو كتاب من كتب علوم الحديث ـ أي : مصطلحه ـ إلا ويشيد بذكره وآدابه وما جاء فيه من الأخبار والآثار ، فأين الجمعيات المسكينة من نصيبه وحظه ونفعه الواسع لو كانت من الوسائل المشروعة ؟
وفيما يبدو ـ بل نجزم ـ أن نفع الجمعيات أنفع من التصنيف على مستوى العموم في منظور الجمعاويين وقد صرح بذلك بن حنفية حيث قال " أما في هذا العصر فإن كل ما يفعله الفرد هو أن يقول بلسانه ويحض بكلامه أو يقدم جهدا بمفرده وقد لا يقدر على القول بله الفعل أما أن ينتقل الى ما وراء ذلك من الفعل المؤثر الواسع فلا سبيل له إليه إلا في هيئة يعترف بها أولو الأمر ويسمحون لها بالنشاط."
مهلا ... مهلا يا بن حنفية ما هذه المكايسة والمسايرة والمصانعة للوسائل الماسونية وإشادك بمنافعها و تأثيرها مع إن نفعها ما هو إلا خيال مصطنع وخدع وألعيب صنعها من صنعها لإغواء وإغراء أهل الإسلام ببضائع اليهودية وترويجها في بلاد الإسلام ، فأغتر بها الأغبياء وتقلد عارها الأشقياء فنسبوهوا إلى شريعة إمام الحنفاء وسيد الأنبياء ، فسخر أرحم الرحماء لبيان زيفها وغبشها كوكبة من العلماء الشرفاء ، فتصدوا لها وبينوا ما فيها من البلاء وصاحوا عليها في الملأ حتى كشفوا ما فيها من الداء ، فجزاهم عن الإسلام وأهله كل الخير والجزاء .
ولكن ويا للأسف مع هذا كله يأتي بن حنفية وممن ركب سفينته المخروقة ، ممن يظهر على السنة حرقة ، يتباكى على الجمعيات ويقيم الدنيا ولايقعدها إذا أُنكر عليه العمل تحت غطائها ، متغافلا متناسيا ما قام به أئمتنا الصلحاء من جهادهم الجبار في دك حصون الجمعيات وكشف ما فيها من الضباب والغبار .
يا بن حنفية والله أعجب من دعوتك المشيخة والإصلاح وأنت في معزل عن هدي سلفنا الصالح في طريقة الدعوة إلى الله و مبدأ الإصلاح الذي كان سببا في تشيدك بوسائل اليهودية وتوهمك ما فيها من المنافع الوهمية ، متنقصا ما لوسائل الإسلام والسنة من النفع العظيم والعطاء الكريم ، وإن كانت أعمالا فردية يقوم بها كل فرد على قدر إستطاعته وقدرته ، فتأتي أكلها كل حين وينفع الله بها ، وتحقق ما لم تحققه الوسائل البدعية ، وإلا فأين أنت يا بن حنفية من الدعوة السلفية التجديدية الإصلاحية التي قام بها شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني ـ رحمه الله ـ وما أجرى الله على يديه من النفع والبركة والخير الواسع والتأثير النافع وقد عم هذا الخير مشارق الأرض ومغاربها ، مع إنه لم يكن له أي جمعية ينشط تحت لوائها ولا دولة تحميه وتأويه ، بل كانت تؤذيه حتى مات ـ قدس الله روحه ـ تحت سقوف سجونها ، إلا ما كان منه من التأليف والتصنيف ، فقد أمسك ـ رحمه الله ـ المصباح بكلتا يديه وأنار الطريق السلفي لكل من أتى بعده ، فلشيخ الإسلام في الدعوة السلفية جهدا مشكورا حيث ألقى بذوره الطيبة في الأراضي الخصبة النقية فنمت وترعرت بمرور أزمنة على أيدي تلامذته الأوفياء النجباء ، حتى بلغت تمام النضج على يدي شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وتلاميذته ـ رحمهم الله ـ وهاذا نحن الآن من رحمة الله علينا وفضله الكريم نتقلب في روضاتها الدمثات ونتأنق فيها ، لما أجرى الله فيها من الخير والبركة فله الحمد والفضل والمنة .
فأرينا بالله عليك أي جماعة أو أي جمعية خرجت مثل هذا العظيم أو مثل تلامذته ؟
وأيضا أين أنت من دعوة الإمام المجدد المحدث ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ التي قد شاع وذاع نفعها وذكرها في المعمورة ، فكم نفع الله تعالى بكتاباته العظيمة وتوجيهاته الحكيمة ([23] ) من الخلق في مشارق الأرض ومغاربها من غير هذه الجمعيات وأوكارها ، بل قد صاح وطاح بأهلها إن كانوا يسمعون وينتفعون .
وأيضا أين ذهب ذهنك وساح وراح من تأليف وكتابات شيخنا المبجل الإمام المحدث ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه ربي ـ التي قد فاح نور كمالها ولاح نور جمالها ، فكم نفع الله بها أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وكم طهر الله به عقائد عباده وقامت بها الحجة وظهرت بها المحجة ، فالشيخ يزرع البذور في المملكة ـ حرصها الله من كل سوء ـ وتجنى ثمارها في غيرها من بقاع الأرض شرقا وغربا ، لعمري قد عجزت الجمعيات والجماعات أن تقوم بمعشار ما قام به من الجهاد الجبار الكبير ، ولهذا غاظهم عمله البطولي وأزعجتهم كتاباته ، فوقفوا له وقفة رجل واحد ورموه عن قوس واحد لإسقاطه وتشويه سمعته لما خصه الله من الشرف والفضل والعطاء المتمثل في تدمير عروشهم الباطلة وتحطيم قواعدهم العاطلة وتسفيه مناهجهم الكاسدة ـ لله دره وأصبغ الله على من خيره ـ ، ولكن ما زاده الله بهذا العمل البطولي الشريف إلا رفعة وحبا عند خلقه وظهرت حقيقة خصمه ما هو عليه من وضيعة .
فماذا تقول يا بن حنفية عن دعوة هؤلاء الرجال العظماء الشرفاء ومدى نجاح دعوتهم الإصلاحية مع إنها لم تكن تحت غطاء الجمعيات ولا وجدت سيف السلطان يحميها ويؤيدها إلا ما كان من بركة سنيتها وإخلاص أهلها ، وترسمهم خطى من سلفهم في طريقة دعوتهم إلى الله وإبتعادهم عن كل ما يخدش سيرها ويعطل مقصودها المنشود ، فوصلت إلى ما شاء الله أن تصل ونفع الله بها من أراد به الخير ، وهذا مصداق قوله جل في علاه : (( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا )) [الأعراف: 58] ، وقوله تعالى : (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) [ إبراهيم :24 ـ 25] . وما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير فكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ))
يقول الإمام المبجل ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيان اللطائف ما في قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا } : (( فهذا هو المثل المائي شبه الوحي الذي أنزله بحياة القلوب بالماء الذي أنزله من السماء وشبه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير كواد صغير يسع علما قليلا فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها كما سالت الأودية بقدرها ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل فيحتمله السيل فيطفوا على وجه الماء زبدا عاليا يمر عليه متراكبا ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه حتى لا يبقى الماء الذي تحت الغثاء يسقي الله تعالى به الأرض فيحيي به البلاد والعباد والشجر والدواب والغثاء يذهب جفاء يجفي ويطرح على شفير الوادي ، فكذلك العلم والإيمان الذي أنزله في القلوب فاحتملته فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات وزبد الشبهات الباطلة يطفو في أعلاها واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر القلب فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء ويزول شيئا فشيئا حتى يزول كله ويبقى العلم النافع والإيمان الخالص في جذر القلب يرده الناس فيشربون ويسقون ويمرعون )) ا.هـ ([24] )
لله دره من طبيب بصير وفقيه نحرير ما ألطف كلامه وأغزره فائدة وأنفعه في الواقع المشاهد ، والأمر كما قال ـ رحمه الله ـ هاذا دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يزال الله تعالى يحي بها العباد والبلاد جيلا بعد جيل إلى أن يرث الأرض ومن عليها ، وقد حظي حملتها أئمة الحديث والأثر بحظ وافر من الذكر والثناء والرفعة لما قاموا به من الأعمال الشريفة المتمثلة في حماية السنة والدفاع عنها وصيانتها من كل دخيل ، فرفع الله ذكرهم ونفع بهم خليقته ، وفي مقابل ذلك أخمد ذكر أهل الضلال والكذبة والهلكة، وما إن يظهر أحدهم شيء من الباطل والكذب إلا ويقيض الله من أهل الحديث والأثر من ينسف باطله و يفضح كذبه بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة حتى يخمد ذكره و يفتضح كذبه ويدفن باطله ويصبح ناسيا منسيا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه " الرد على البكري " ( 1 / 175) : (( قال أبو بكر بن عياش لما قيل له إن بالمسجد أقواما يجلسون ويجلس إليهم الناس ؟
فقال : من جلس للناس جلس إليه ، ولكن أهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم لأنهم أحيوا بعض ما جاء به الرسول فكان لهم نصيب من قوله تعالى: " و رفعنا لك ذكرك "،و أهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم لأنهم شانوا بعض ما جاء به الرسول فبترهم الله فكان لهم نصيب من قوله تعالى :" إن شانئك هو الأبتر ")) ا.هـ
وقال الحافظ الإمام ابن حبان البستي ـ رحمه الله ـ في " المجروحين " ( 1 / 229 ) في شأن الحسن بن عمارة : (( كان بلية الحسن بن عمارة أنه كان يدلس عن الثقات ما وضع عليهم الضعفاء كان يسمع من موسى بن مطير وأبي العطوف وأبان بن أبي عياش وأضرابهم ثم يسقط أسماءهم ويرويها عن مشايخهم الثقات فلما رأى شعبة تلك الأحاديث الموضوعة التي يرويها عن أقوام ثقات أنكرها عليه وأطلق عليه الجرح ولم يعلم أن بينه وبينهم هؤلاء الكذابين ، فكان الحسن بن عمارة هو الجاني على نفسه بتدليسهم عن هؤلاء وإسقاطهم من الأخبار حتى ألزق الموضوعات به ، وأرجو أن الله عز وجل يرفع لشعبة في الجنان درجات لا يبلغها غيره إلا من عمل عمله بذبه الكذب عمن أخبر الله عز وجل أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وسلم )) ا.هـ
فإذا اتضح هذا الأمر نجد أنفسنا والحالة هذه أنه قد وصلنا إلى أمر مهم لابد من التنبيه عليه قبل أن نطوي صفحات هذه الوقفة لنتجاوز غيرها : وهي أنه ليس العبرة بالتجميع والتكتيل ولا الإغترار بالكمية والكثرة وإنما العبرة بالتمييز والإصابة أو بعبارة أخرى أبين وأوضح وهي أنه لا يكون هم المصلح تجميع الناس بأي وسيلة كانت وعلى أي مناهج هم عليها ، بل ليكن همه تحقيق أصل " التصفية والتربية " الذي قد أشبعناه بيانا فيما سبق ولله الحمد والمنة ، وليحرص على موافقة الشريعة في أقواله وأعماله مهم كانت الظروف ومهم وصل مجتمعه من الانحطاط ، وإياه وإياه أن يفاوض ويركن لوسائل الماسونية وانظمة الديموقراطية فيداهنها ويسايرها ، وليعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد واجه أعداء كثر وقد استخدموا معه شتى الطرق والأساليب من الإغواء والمفاوضة لصديه عن دعوته صلى الله عليه وسلم ، بل ودوا لو يدهن فيدهنون ، لكن ذلك لم يصده عن دعوته ولم يأب لهم فيما يريدونه ، وشمر عن ساعد الجد في مفاصلتهم في جميع ما هم عليه مفاصلة تامة ، ولم يتخذ معهم حلولا مخذولة ليتقرب معهم في دينهم ووسائلهم ، وكان يبالغ في مخالفتهم ، فما بالنا اليوم نحسن الظن في انظمة القوم ووسائلهم ونرجو نفعها وهي ما أسست إلا لتحطيم الإسلام ، وكم من إنجازات إستدمارية تحققت لهم بهذه الوسائل والمخططات ، وما بقي لهم إلا هذه الكتلة القليلة من أهل السنة والجماعة في الأمة ، فغايتهم المنشودة أن يأتوا على بنيانها فيسحقوها نهائنا من فوق الأرض !!
فانتبهوا بارك الله فيكم لهذا واسمعوا واعوا بأن القوم بمرصاد لكم ليلا ونهارا حتى يقضوا عليكم ، وإلا فما أضر عليهم وأثقل ونواة هزيمتهم ، لو سلكتم سبيل سلفكم الصالح في العلم والعمل والدعوة إلى الله، وأخذتم بعين الإعتبار آثارهم فكانت لكم نورا ومصباحا في ظلمات الفتن ومنها :
قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : (( إنا نقتدي ولا نبتدي ، ونتبع ولا نبتدع ، ولن نضل ما تمسكنا بالأمر )) ، أخرجه اللكائي في : شرح اعتقاد أهل الحديث (1 / 86)
وأخرج الأجري في (( الشريعة )) (ص 131) عن على وابن مسعود – رضي الله عنهما – أنهما قالا :(( لا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل إلا بقول ، ولا قول وعمل إلا بنية ولا نية إلا بموافقة السنة )).
وقال محمد بن سيرين : (( كانوا يرون أنهم على الطريق ما كانوا علي الأثر ))
وقال ابن قاسم – رحمه الله تعالى - في (( شرح التوحيد )): (( ولا بد في الدعوة إلى الله تعالى من شرطين : أن تكون خالصة لله تعالي ، وأن تكون على وفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن أخل بالأول كان مشركاً وإن أخل بالثاني كان مبتدعاً ) (حاشية كتاب التوحيد / 55) . ا هـ.([25] )
...... يتبع إن شاءالله
( [1]) شرح السنة (ص 23)
([2]) " الانتصار للصحابة الأخيار في رد أباطيل حسن المالكي " ( ص 5 ) للعلامة المحدث العلامة عبد المحسن بن حمد العباد ـ حفظه الله ـ
([3]) "زاد المعاد في هدي خير العباد "( 2 / 151)
([4]) هذا مقتضى حالهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون إن كانوا يعلمون ويفقهون فينتهون ، وإلا فعظم خطر أهل البدع والضلال على أهل الإسلام أشد وأعظم من خطر أهل الملل كما تقرر ذلك عند أهل السنة والجماعة
قال الشيخ حمد بن إبراهيم العثمان في كتابه " دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون " ( 119 ـ 123) : (( إن خطر المبتدعة أعظم من خطر أهل الملل إنما هو من جهة الفتنة بهم ، والتباس أمرهم على العامة لأنهم من أهل القبلة وليس الكلام في المفاضلة بينهما باعتبار العذاب الأخروي .
فضرر أهل البدع المكفرة المضلة على المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى ، فإن هؤلاء المبتدعة يفسدون القلوب ابتداء، وأما اليهود والنصارى، وأهل الحرب لديار المسلمين؛ ففسادهم للقلوب لا يكون إلا تبعاً
وفساد اليهود والنصارى ظاهر لعامة المسلمين، أما أهل البدع ، فإنه لا يظهر فسادهم لكل شخص.
قال شيخ الإسلام في سياق رده على غلاة الصوفية من "مجموع الفتاوى " ( 2/359) : (( فهذه المقالات وأمثالها، من أعظم الباطل، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها، وأنه باطل، والواجب إنكارها،
فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين، أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون )) ا.هـ
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله ـ في " فتح القدير " ( 1 / 154 ) : (( اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب ، كما يشبه الماء الماء ، والبيضة البيضة ، والتمرة التمرة ، وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ، ويظهرون أنهم ينصرون الدين ، ويتبعون أحسنه ، وهم على العكس من ذلك ، والضدّ لما هنالك ، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة ، حتى يسلخوه من الدين ، ويخرجوه منه ، وهو يظنّ أنه منه في الصميم ، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم ، هذا إن كان في عداد المقصرين ، ومن جملة الجاهلين ، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق ، والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم ، وختم على قلبه ، وصار نقمة على عباد الله ، ومصيبة صبها الله على المقصرين؛ لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق ، ولا يتبع إلا الصواب ، فيضلون بضلاله ، فيكون عليه إثمه ، وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة ، نسأل الله اللطف ، والسلامة ، والهداية )) ا.هـ
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في شأن الصوفية من كتابه " أضواء البيان " ( 4 / 546 ) : (( استعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين )) ا.هـ انتهى النقل من كتاب الشيخ حمد بإختصار مني ، فمن أراد الإزدياد فعليه بإرتياد صفحات الكتاب راجيا من الله التوفيق والسداد ، متذللا متضرعا عند عتبة بابه أن يعصمه من شبه وزخارف أهل التضليل والفساد .
( [5]) " إرواء الغليل " (3 / 368)
([6]) لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة " .
قال المحدث ناصرالدين الألباني ـ رحمه الله ـ في "السلسلة الصحيحة " (1 / 539 ـ 541)
(( اعلم أن الحديث صحيح ثابت مستفيض عن جماعة من الصحابة :
1 - معاوية بن أبي سفيان . عند الشيخين و أحمد وسيأتي برقم ( 1958 )
2 - المغيرة بن شعبة . عندهما وسيأتي ( 1955 )
3 - ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . عند مسلم و الترمذي و ابن ماجه
و أحمد ( 5 / 278 ، 279 ) و أبي داود في " الفتن " و الحاكم ( 4 / 449 ) وسيأتي ( 1957 )
4 - عقبة بن عامر . عند مسلم .
5 - قرة المزني في ( سنن ابن ماجه ) (رقم 6 ) و " المسند " ( 3 / 436 و 5 / 34 ) بسند صحيح و صححه الترمذي وسيأتي لفظه أتم مما هنا برقم ( 403 )
6 - أبو أمامة في " المسند " ( 5 / 269 ) .
7 - عمران بن حصين عند أحمد ( 5 / 429 ، 437 ) من طرق أخرى عن حماد بن سلمة به دون الزيادة ، و كذا رواه أبو داود في أول " الجهاد " و الحاكم ( 4 / 450 ) و صححه و وافقه الذهبي ، وسيأتي برقم ( 1959 )
8 - عمر بن الخطاب في " المستدرك " ( 4 / 449 ) و صححه و وافقه الذهبي، وسيأتي ( 1956 )
9 ـ جابر ، عند مسلم وغيره وسيأتي بزيادة في متنه ( رقم 1960 )
10 ـ سلمة بن نفيل ، رواه النسائي وغيره بزيادات كثيرة في متنه وسنده صحيح وسيأتي برقم ( 1935 )
وفي الباب عن جمع آخر من الأصحاب ، سيأتي تخريج أحاديثهم مع ألفاظها في المجلد الرابع بإذن تعالى وقد أشرت إلى أرقامها ، فالحديث صحيح قطعا )) ا.هـ
( [7]) كما ثبت ذلك عن الإمام المبجل مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ ، انظر إلى كتاب " مناسك الحج والعمرة " (46 ) للشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ
( [8]) وكفى فخرا وشرفا لحملة هذه الراية أن يكون جهادهم المتمثل في الحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان ، قال شيخنا ووالدنا بقية السلف الصالح ربيع السنة ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ في كتابه "منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف " ( 151 ـ 152 ) : (( قال ابن القيم رحمه الله في سياق كلامه على بعض المتكلمين المعطلين لصفات الله: "فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان! وما أشد الجناية به على السنة والقرآن! وما أحب جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن! وما أثقل أجر ذلك الجهاد في الميزان! والجهاد بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان، ولهذا أمر به تعالى في السور المكية حيث لا جهاد باليد؟ إنذارا وتعذيرا، فقال تعالى: " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا "( الفرقان 52).
فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والإنفاق، ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو؟ مات على شعبة من النفاق، وكفى بالعبد عمى وخذلانا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السنة والقرآن وقد لبسوا للحرب لامته، وأعدوا له عدته، وأخذوا مصافهم، ووقفوا مواقفهم، وقد حمي الوطيس، ودارت رحى الحرب، واشتد القتال، وتنادت الأقران: النزال ! النزال! وهو في الملجأ والمغارات والمدخل، مع الخوالف كمين، وإذا ساعد القدر وعزم على الخروج، قعد فوق التل مع الناظرين، ينظر لمن الدائرة، ليكون إليهم من المتحيزين، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيمانه أني كنت معكم وكنت أتمنى أن تكونوا أنتم الغالبين " (شرح القصيدة النونية للشيخ محمد خليل هراس / 1 /8 ) اهـ.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل الله "(تاريخ بغداد / 12 / 410).
وقال الإمام يحيى بن يحيى النيسابوري: "الذب عن السنة أفضل من الجهاد" (نقد المنطق / 12 ) . )) ا.هـ
([9]) وأسعد الناس بهذه الدعوة وأولى بها بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام وصحب نبينا صلى الله عليه وسلم هم أهل الحديث والأثر ، فهم الذين نهجوا " نَهْج الصحابة والتابعين لهم بإحسان في التمسُّك بالكتاب والسنة، والعض عليهما بالنواجذ، وتقديمهما على كلِّ قول وهدى، سواء في العقائد، أو العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق، أو السياسة والاجتماع.
فهم ثابتون في أصول الدين وفروعه على ما أنزله الله وأوحاه على عبده ورسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم.
وهم القائمون بالدعوة إلى ذلك بكل جد وصدق وعزم، وهم الذين يحملون العلم النبوي، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
فهم الذين وقفوا بالمرصاد لكل الفرق التي حادت عن المنهج الإسلامي، كالجهمية، والمعتزلة، والخوارج، والروافض، والمرجئة، والقدريّة، وكلّ من شذّ عن منهج الله واتبع هواه في كلِّ زمان ومكان، لا تأخذهم في الله لومة لائم.
هم الطائفة التي مدحها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزكاها بقوله: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا مَن خالفهم حتى تقوم الساعة)) ( حديث صحيح ، انظر " الصحيحة " للعلامة الألباني / 270 ، 1955 ).
هم الفرقة الناجية الثابتة على ما كان عليه رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، الذين ميّزهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحدّدهم عندما ذكر أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة، فقيل: مَن هم يا رسول الله؟، قال: ((مَن كان على ما أنا عليه وأصحابي)) .
لا نقول ذلك مبالغةً ولا دعاوى مجرَّدة، وإنما نقولُ الواقع الذي تشهد له نصوصُ القرآن والسنة، ويشهد له التاريخ، وتشهد به أقوالهم، وأحوالهم، ومؤلفاتهم.
هم الذين وضعوا نصب أعينهم قول الله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعـًا ولا تفرّقوا } [آل عمران: 103]، وقوله: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم } [النور: 63]؛ فكانوا أشدَّ بُعدًا عن مخالفة أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبعدهم عن الفتن.
وهم الذين جعلوا دستورهم: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجـًا مما قضيت ويسلموا تسليمـًا } [النساء: 65] ؛ فقدّروا نصوص القرآن والسنة حق قدرها، وعظّموها حق تعظيمها؛ فقدّموها على أقوال الناس جميعـًا، وقدموا هديها على هدي الناس جميعـًا، واحتكموا إليها في كل شيء عن رضى كامل، وصدور منشرحة، بلا ضيق ولا حرج، وسلموا لله ولرسوله التسليم الكامل في عقائدهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم.
هم الذين يصدقُ فيهم قول الله: { إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } [النور: 51]. " ( مكانة أهل الحديث ومأثرهم وآثارهم الحميدة في الدين للعلامة المحدث ربيع بن هادي المدخلي ) ( 4 ـ 6 )
فجدير بطالب الآثار والسنن في هذه الأزمان أن يترسم خطاهم ويقتفي آثارهم
قال العلامة المحدث حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ في " المنظومة الميمية "
اروِ الحديث ولازم أهله فهم الـ ... ناجون نصاً صريحاً للرسول نمي
سامت منابرهم واحمل محابرهم ... والزم أكابرهم في كل مزدحم
اسلك منارهمو والزم شعارهم ... واحطط رحالك إن تنزل بسوحهم
هم العدول لحمل العلم كيف وهم ... أولو المكارم والأخلاق والشيم
هم الأفاضل حازوا خير منقبة ... هم الأولى بهم الدين الحنيف حمي
هم الجهابذة الأعلام تعرفهم ... بين الأنام بسيماهم ووسمهم
هم ناصرو الدين والحامون حوزته ... من العدو بجيش غير منهزم
هم البدور ولكن لا أفول لهم ... بل الشموس وقد فاقوا بنورهم
لم يبق للشمس من نور إذا أفلت ... ونورهم مشرق من بعد رمسهم
لهم مقام رفيع ليس يدركه ... من العباد سوى الساعي كسعيهم
أبلغ بحجتهم أرجح بكفتهم ... في الفضل إن قستهم وزناً بغيرهم
كفاهمو شرفاً أن أصبحوا خلفاً ... لسيد الحنفا في دينه القيم
يحيون سنته من بعده فلهم ... أولى به من جميع الخلق كلهم
يروون عنه أحاديث الشريعة لا ... يألون حفظاً لها بالصدر والقلم
ينفون عنها انتحال المبطلين وتح ... ريف الغلاة وتأويل الغوي اللئم
أدوا مقالته نصحاً لأمته ... صانوا روايتها عن كل متهم
لم يلههم قط من مال ولا خول ... ولا ابتياع ولا حرث ولا نعم
هذا هو المجد لا ملك ولا نسب ... كلا ولا الجمع للأموال والخدم
فكل مجد وضيع عند مجدهمو ... وكل ملك فخدام لملكهم
والأمن والنور والفوز العظيم لهم ... يوم القيامة والبشرى لحزبهم
فإن أردت رقياً نحو رتبتهم ... ورمت مجداً رفيعاً مثل مجدهم
فاعمد إلى سلم التقوى الذي نصبوا ... واصعد بعزم وجد مثل جدهم
([10]) " مجموع الفتاوى " ( 1 / 80 ) لشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني رحمه الله
([11]) انظر إلى كتاب " الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقفية "( 19 ـ 23 ) للشيخ المجاهد عبدالسلام بن برجس ـ رحمه الله
([12]) " إعلام الموقعين " ( 4 / 375 ـ 376 )
([13]) انظر كتاب " القواعد الفقهية " ( 74 ) للعلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
( [14]) " الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقفية "( 57 )
([15])" الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقفية "( 57 )
([16]) " القائد إلى تصحيح العقائد " ( 133 ) للعلامة الشيخ عبدالرحمن المعلمي رحمه الله
([17]) أخرجه البخاري ( 1 / 352 ، 369 ، 380 ) ومسلم ( 1 / 37 - 38 ) وكذا أبو داود ( 1584 ) والنسائي ( 1 / 348 ) والترمذي ( 1 / 122 ) والدارمي ( 1 / 379 ) وابن ماجه ( 1783 ) وابن أبي شيبة
( 4 / 5 ) والدارقطني ( 218 ) والبيهقي ( 4 / 96 ، 101 ) ، انظر إلى "إرواء الغليل " (3 / 251)
([18] ) انظر إلى " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " ( 70)
([19]) الأصل الثابت عن الشيخ : لم
([20]) كلمة للعلامة الشيخ صالح بن الفوزان ـ حفظه الله ـ قالها في معرض تقديم كتاب " منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل " للشيخ ربيع ـ حفظه الله ـ
([21]) انظر إلى " الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية "
([22]) انظر إلى كتاب " الابداع في مضار الإبتداع " ( 38 ـ 39 ) ، ولا تبخل على نفسك بالرجوع إلى كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " ( 278 ـ 280) لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لتقف على فقه وضابط هذه القاعدة الجليلة فتكون على بصيرة من أمر دينك فيما استحدث بعد نبينا صلى الله عليه وسلم مما ليس من دينه الحنيف وشرعه الشريف ، وممن قد تنزه عنه كل صاحب شريف ـ رضي الله عنه ـ وكان منه عفيفا .
واعلم ـ رحمك الله ـ أن للإمام المبجل المحدث مقبل بن هادي والوادعي ـ رحمه الله ـ كلام قوي في التحذير من الجمعيات وصياح على من يلفلف على مشروعيتها مستدلا على عدم مشروعيتها بهذه القاعدة
حيث أنه سئل السؤال التالي : لو قال قائل: إن الجمعيات الدعوية قام مقتضاها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقم مانع يمنعها، فإن فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم من المحدثات، فما صحة هذا القول؟
فأجاب ـ رحمه الله ـ : الحمد لله وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن والاه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد : السؤال الذي قدم سؤال وجيه ، ومن أجل هذا نحن من زمن قديم نقول : إن ترك الجمعيات خير من وجودها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كانوا أحوج إلى المال منا، بل كانوا أشد حاجة منا، ومع هذا لم ينشئوا جمعية، وعلى هذا فتركها خير من وجودها، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
دع عنك أنها جمعيات تكون سببا للحزبية ، ومن كان معنا ساعدناه ومن لم يكن معنا لم نساعده ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير : « مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى » وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:« المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » ، هذه الجمعيات فرقت شمل المسلمين ، بعض المغفلين يقول : مقبل لا يفرق بين الجماعات والجمعيات ، وهذه الجمعيات لابد أن تكون خاضعة لشؤون الاجتماعية وخاضعة للقوانين الدولة والعمل الذي يتعلق بالدولة تكون بركته قليلة، إن لم يكن منزوع البركة ، بل الحكومات يعجبهم العمل الميت فيما يتعلق بالإسلام ، وأما ما يتعلق بالتطور والتقدم إلى غير ذلك ، فإذاعتهم تنعى ، وعلى ـ عليه ـ ننصح بترك هذه الجمعيات التي تكون سببا لضياع حق الفقراء ، وذاك الفقير ربما لا يصل إليه شيء كما قيل، ونؤخذ باسمه الدنيا جميعا ، وما من ذلك شيء في يديه ، الذي ينبغي للتجار ننصحهم أن يتولوا توزيع زكواتهم على المحاويج فإنها قد أصبحت سببا للحزبية في كثير من البلاد الإسلامية ، والله المستعان .)) انتهى من شريط: الغارة الشديدة على الجمعية الجديدة , سجلت ليلة العاشر من صفر1420 هـ. (منقول من شبكة سحاب)
([23]) ومن ذلك ما صرح به صاحب " مدارك النظر " ( ص 120 ) حيث قال : ((وأعظَم من هذا كله أن الديار الجزائرية حظيَت بعناية أكبر محدِّثي هذا العصر، ألا وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ـ؛ فقد أخبر الثقة أنه حضر عنده في بيته، فجاءته خمسون مكالمة هاتفية من الجزائر في مجلس واحد! فكان ـ حفظه الله ـ غرسه بالأردن، وثمار دعوته ممتدة إلى الجزائر، فسبحان الله الهادي!)) ا.هـ
([24])الوابل الصيب - (ج 1 / ص 72)
( [25] ) "الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية " ( 17 )
رد: تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
قوله في (ص10 ـ 11 ) : ((لقد تمكن المسلمون حين نظموا أعمالهم في هيآت معتمدة أن يكون لهم محاكم شرعية في دول كافرة ، فهذه مملكة بريطانيا تسمح للمسلمين بإقامة عشرات المحاكم الشرعية في ترابها ، ويتعدى اختصاص تلك المحاكم الأحوال الشخصية إلى غيرها، فيتحاكم إليها من شاء من المسلمين في تلك البلاد ، وليس من شك أن غرض الإنجليز من هذا وغيره ليس خدمة للإسلام ورعاية أحكامه ، وقد خدمت هذه الدولة اقتصادها بإقامة مصارف يقال إنها غير ربوية لتستقطب أموال المسلمين فتتمكن من مراقبة حركتها والتعرف على مصادرها ، وتدمجها في الاستثمارات وقد ينضم الى ذلك كسب الأصوات في الانتخابات فلم لا تفعل ذلك كثير من حكومات المسلمين في أرض الإسلام ؟ ولم لا يسعى في تحقيق هذا الأمر مع أنه من الأمور العظيمة الأهيمة وقد ذكرت شيئا من هذا في كتابي عن الحزبية ، وإني أتوقع لهذه الجمعيات في أوطان المسلمين الخاصة ووطنهم عامة ، متى كان لها ثقل علمي واجتماعي وقادها أهل البصيرة الشرعية والاستقامة والأناة والتدرج أن يؤدي وجودها إن شاء الله الى تحقيق شيء من هذا فتعود بعض أحكام الشرع للحياة العامة ، وإلا فكيف يعجز المسلمين في ديار الإسلام عن تحقيق ما حققه المسلمون في ديار الكفر ؟ .)) ا.هـ
ما يسعني وأنا أتأمل في كلام بن حنفية هذا إلا أن أقول كما قال القائل :
ومِنَ العَجائِبِ والعَجائِبُ جَمَّةٌ ... قُرْبُ الشِّفَاءِ وما إليهِ وصولُ
كَالْعِيسِ فى الْبيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّما ... والماءُ فوق ظُهُورِهَا مَحْمولُ ([1] )
وكذا قول القائل :
ولم أرَ في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمام
وذلك قد رام بن حنفية إلى الإصلاح لكن أتاه من غير أبوابه ، وسلك الطريق غير طريقه المعهودة الصحيحة ، فتشعبت به السبل فضل الطريق وتاه في شعاب و أودية التيه والضلال ، فأتى بالعجائب وهرف بالغرائب وأبعد النجعة ، وخالف منهج سلفنا الصالح في منهجية إصلاحهم وحاد عن سبيلهم الأنجع وعلاجهم الأنفع الذي سلكوه في معالجة أوضاع مجتمعاتهم التي دب فيها الضعف والخلل من اليوم ظهرت فيه البدع و الفرقة والاختلاف في الأمة الإسلامية ، وإلا فلعمري من أتى الأمور من أبوابها المرضية ، وسلك طرقها الشرعية ، ووظف أسبابها المرعية متكلا في ذلك على الله سبحانه أولا وقبل كل الشيء سائلا منه التوفيق والعون والسداد حري بأن يوفق ويظفر بمرامه السامية ، ويتحقق على يديه من المطالب العالية والمصالح الجليلة مما يعود نفعها وخيرها على الأمة الإسلامية ، فتكون سببا للنهوض بها إلى الرقى والإزدهار في شتى مجالاتها الدينية والدنيوية ، فتعود لها سيادتها الشريفة وحياتها الرقية التي عاشتها وتقلبت في أرجاء خيراتها طول عهد القرون المفضلة ، ولكن لا يتم ذلك ويتحقق إلا بالرجوع إلى هدي سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ والوقوف على ما كانوا عليه من الإصلاح ، والسير على منوالهم وسلوك دربهم وإقتفاء آثارهم في علاج أوضاعنا الحالية المزرية ، وذلك بتوظيف وإستعمال نصائحهم الحكيمة وتوجيهاتهم القيمة في مسيرتنا الإصلاحية العملية التطبيقية ، والحذر كل الحذر أن نحيد عن سبيلهم المستقيم ونزهد عن علاجهم الأنجع فنضل وننحرف عن سبيلهم الذي أرتضاه الله عز وجل وأثنى عليه وعلى أهله ، وألزم عباده من بعدهم أن يلتزموه ويسلكوه ([2] ) وحكم على من خرج عنه ولو قدر أنملة بالضلالة والتيه والخسارة ، وحينئذ لا يلمنا إلا نفسه ، وليعض على أنامله على ما فوت على نفسه من الخير العميم ، لما هو عليه من البعد عن المنهج المستقيم ، وإلا فما أقرب الحق ، وما أيسر طلبه وأوضح مطلبه لمن أراده وسعى لتحصيله " فالحق أبلج والباطل لجلج ، واستحضار هذا الأصل العظيم مفتاح لطلب الحق وتحريه ، أما اعتقاد عكسه وظن أن الحق غامض فهذا يوعر الطريق على قاصده وربما يصده عن طلب الحق وأدلة الشرع كثيرة ظاهرة في تقرير هذا الأصل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في " مجموع الفتاوى " (27 / 315 ـ 316) : (( فَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَإِنَّ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ لَا يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ عَلَى الْعَارِفِ كَمَا لَا يَشْتَبِهُ الذَّهَبُ الْخَالِصُ بِالْمَغْشُوشِ عَلَى النَّاقِدِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْضَحَ الْحُجَّةَ وَأَبَانَ الْمَحَجَّةَ بِمُحَمَّدِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ . وَأَفْضَلِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ . فَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ بَيَانُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَرَدُّ مَا يُخَالِفُهُ)) ا.هـ
وقال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ في " أدب الطلب ومنتهى الإرب " - (ص 85) (( فالوقوف على الحق والاطلاع على ما شرعه الله لعباده ، قد سهله الله على المتأخرين ويسره على وجه لا يحتاجون فيه من العناية والتعب إلا بعض ما كان يحتاجه من قبلهم )) ا.هـ
ولكن ـ مع الأسف ـ هذه الأسباب الميسرة لطلب الحق ، قد جلبت الكسل لكثير من الناس وفرطوا في طلب ما يوصلهم للحق قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ([3] ) : (( ورب تيسير جلب التعسير ، فإن هذا التيسير رمى العقول بالكسل والأيدي بالشلل )) ا.هـ ([4] )
فكيف لو زدنا مع هذا الكسل المقذع أنه هناك إعراض مفظع من الدهماء في عدم تمسكهم بالحق وزهدهم فيه واستئثارهم للباطل عليه ، مع ما هم فيه من الهرولة العمياء نحو وسائله المصطنعة الشفافة العوراء يريدون منها أن تصلح ما أصاب أمتنا من العطب ، وهم في ذلك محسنون الظن بأهلها في علاج ما نزل بالأمة من النكب ، وناسوا وتناسوا وتغافلوا بأنه ما يتولد من الباطل وجنوده إلا المحن والإحن ، التي لازالت الأمة المحمدية من اليوم دب فيها البدع والفرقة ، تتجرع مرًّ كؤوسه المسمومة واحدة تلو واحدة إلى يومنا هذا ، واليوم أشد وأنكى لإندراس العلم وقلة أهله وغربة السنة وغلبة الباطل وأهله ونهيك عن حال بني أزمنتنا ما هم فيه من الجهل المفظع المقذع الذي ربى فيهم البطالة وآثر فيهم الركون إلى التقليد الأعمى وعطل وظيفة حواسهم الإدراكية التي يدرك بها العلوم و يتصور بها الأمور على حقيقة ما هي عليه ، فكانت ثمرة هذه البطالة والتعطيل أن ولد فيهم فيروسات خبيثة التي كانت سببا في إختلال ميزانهم الذي يعرف به الحق من الباطل ، فأصبحوا والحالة هذه لا يفرقون بين الحق والباطل فالباطل عندهم هو الحق ، والحق هو الباطل ، بل أصبحت إيامهم هذه يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة ويثرثر بملئ فيه بالعجائب ، ويتشدق فيها المتفيهق بالغرائب ، ويا لأسفاه ـ وهذا من حظّنا ـ أنه لا سوط ولا فتيق يقطع عنا ما هم فيه من الصياح والنعيق .
ألا يجدر بنا والحالة هذه أن نضع النقاط على الحروف ، و الخطوط على السطور كما يقال ، ونتأمل ونتفكر في مدى خطورة هذا الباطل ورأسه الأفين الذي من حقده الدفين ومكره المشين ، لا يزال يتربص الدوائر بهذه الأمة حتى أوصل أمرها إلى ما وصلت إليه اليوم من الإنحطاط والضعف ، بل قد أرشدنا ديننا العتيق وتاريخنا العريق أن ذاك العدو الجائر الماكر ما يهنأ له البال ولا يرتاح له الحال إلا لما ير أمتنا الإسلامية ودينها الحنيف مسحوقا ممحوقا على نهايته لا تسمع له همسا ولا حسا و يصبح أبناؤه عبيدا له يدسهم بأقدمه ويحركهم بأيديه كما يريد .
ولا يخفى عليكم إن شاء الله يا أهل الإسلام ـ صغيركم فضلا عن كبيركم ـ من هو ذاك عدوكم الذي أشرنا إليه إشارة ؟
ومن منطلق معرفتكم به ولخبرتكم ما جرى لأمتنا على يديه الخبيثة الحاقدة الماكرة سيتبادر كل واحد منكم بالجواب قائلا : هو ذاك اليهودي والنصراني الخبيث .
وهذا هو أمال مسامعنا ، ولا يخيب ظننا إن شاء الله في أن لا نسمع غير هذا من أهل أمتنا الإسلامية ، وإنما إشارتنا لهذا العدو ما هي إلا تنبيه وتذكير إخواننا به وبما هو عليه من الأزياء والألوان المختلفة التي
ما بين فينة وأخرى يظهر علينا بزي من أزيائها الشفافة فينخدع بها من ينخدع من الأغبياء و البلهاء ، فيكونون ضحية لتلك شعاراتهم الكاذبة وزخارفهم الخطافة ما إن تظهر حقيقتها الزائفة إلا ويرجع بني جلدتنا الأشقياء الذين تقلدوا عارها وأحسوا بنارها بخفي الحنين تسمع له أنين من جراء ما وقع لهم على يد ذاك العدو الأفين ، الذي ركنوا إلى ترهاته المزخرفة فاصغوا إليها وإنخداعوا بوسائله العفينة فهرولوا إلى إقتنائها وإستعمالها في مسريتهم الدعوية ، ورحبوا بأنظماته الخسيسة طمعا في أن ترجع لهم حقوقهم الضائعة ـ زعموا ـ ، مع غفلتهم بحقائق ما هي عليه تكتيكاته الخبيثة من الخبث والمكر ، وإلا فكان يكفيهم وأولى بهم إن كان لهم عقلا وذكاءً أن يرجعوا إلى الخلف ويتأملوا في منشأ ضعف أمتنا ، ويقفوا على المراحيل والإنتقالات التي سلكها معها ذاك العدو اليهودي والنصراني حتى أوصل أمرها إلى ما وصلت إليه اليوم ، ويأخذوا من ذلك درسا وعبرة تكون حافزا لهم على النهوض بهذه الأمة المحمدية إلى العلياء ورجوع بسيادتها التي كانت زمام أمورها بيد الخلفاء الشرفاء وتكون سدا منيعا في وجه تخطيطات وتنظيمات اليهود والنصارى الخبثاء .
ومن ذلك لما كانت سيادة ملك الأرض بيد أهل التوحيد والإيمان في غالب البلاد و الأوطان ، وكانت الأرض تطوى تحت أقدامهم طيا لما قد خصهم الله تعالى به من الفتوحات الإسلامية العظيمة الجبارة سواء ما كان منها باللسان أو السنان ، ما وجدت والحالة هذه من أهل البلدان إلا الترحيب والإذعان والشكران والبراءة من الأوثان والتبرؤ من عبادة الصلبان ، لما قد عايشوه من القهر والذل والاستعباد طوال تلك الأزمان وهم تحت وطأة ظلمات تشريع القساوسة و الرهبان ، ولما قد عرفوه وألتمسوه من رحمة الإسلام ونزاهة أخلاق أهل الإيمان وعدل سيادتهم العادلة الحكيمة التي ما يجنى منها إلا العيش الراغد و الاستقرار والأمان ، وأن أخر مطاف أهل هذا الدين الشريف هو فوز برضوان وجنة الرحمان فغاظ ذلك رؤوس الكفران ودعاة النيران ، فطارت عقولهم وراحوا ورجعوا يبحثون وينقبون عن سر التفوق والإنتشار هذا الدين وتمكنه في سيادته الدينية والدنيوية خلال فترة وجيزة مما حير العقول ، مع إنه قد خاضوا معه كل أساليب عسكرية صلبية لتوقيفه وتضيعفه ، فما يخضون معه معركة من معاركهم الصلبية إلا ويرجعون بالخيبة والهزائم والخسائر مادية وبشرية ، فما ازدادوا بعد ذلك إلا حيرة وقلق وعزيمة على معرفة سر ريادة هذا الدين وأهله ، فبعد جولات وصولات وتخطيطات متواصلة ممتالية وجدوا أن سر التفوق هذا الدين وصلابة دولته وقوة أهله في صفاء عقيدته الإسلامية ونقاء علمه الموروث والمحافظة على وحدة صفه والتحلي بأخلاق نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فما فرحوا منذ أن ولد أشقاهم كفرحهم بمعرفة هذا السر، فما كان منهم حينئذ إلا أن يضعوا نقطة البدء في توجيه ضربات دقيقة خفية خلفية في زعزعت هذه الأصول والثوابت ، وذلك بلعب دور النشال المتمثل في إندماجهم في صفوفنا والتحدث معنا كأصدقاء باسم العلم والثقافة في شئون عامة وهم في ذلك أخذوا من الإسلام وأهله من العلوم وحقائق عزه وقوته ما يكفيهم ويغنيهم في تحطيم الإسلام وأهله من تعلم اللغة العربية وغيرها من العلوم وإنشاء المدارس لها تابعة لهم تحت تدبيرهم وتصرفهم ، وتسير على البنود التي أرادوها مع ما جلبوه من الكتب الإسلامية المخطوطة من أراضي الإسلام إلى أراضيهم وتحقيقها وترجمتها وطبعها ونشرها تحت إشرافهم وعلى حسابهم ، مع ما هم فيه من المشاركة للمسلمين في مجالاتهم العلمية كأعضاء في مجامعهم العلمية في العالم الإسلامي وكمدرسين في الجامعات وزد على ما أظهروه من الإعانات الخيرية والطبية والمالية والغذائية للشعوب الفقيرة والمحتاجة والأيتام عن طرق إنشاء الجمعيات والمنظمات والمنتديات والمستشفيات والمراكز والملاجئ الخيرية ـ زعموا ـ وإن كانت حقيقتها ما هي إلا في خدمة أغراضهما ومأربهم الخبيثة المتمثلة في تنصير أهل هذه الشعوب وإستلاء على عقولهم وإستعبادهم بتلك الخدع الماكرة الخسيسة لغرض تحطيم الإسلام وشعوبه وإبادته بكلية ، فإذا أردت يا أيها المسلم الكريم أن تقف على هذه حقيقة فاسمعها وخذها من أهلها إذ هم قد صرحوا بذلك .
يقول المستشرق (هانوتو) وهو مستشار سياسي لوزارة المستعمرات الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر: (( لقد تركزت أهداف الحروب الصليبية قديماً في استرداد بيت المقدس من المسلمين البرابرة، ومما يزعج الغرب المسيحي([5] ) بقاء لواء الإسلام منتشراً على مهد الإنسانية، ولذا يجب أن نعمل على نقل المسلمين إلى الحضارة الأوروبية بقصد رفع الخطر الكامن في الوحدة الإسلامية وأفضل طريق لتثبيت ولاية المستعمر الأوروبي على البلاد الإسلامية هو تشويه الدين الإسلامي، وتصويره في نفوس معتقديه بإبراز الخلافات المذهبية والتناقضات الشعوبية والقومية والجغرافية مع شرح مبادئ الإسلام شرحاً يشوهها وينحرف بها عن قيمها الأصلية، وتمجيد القيم الغربية والنظام السياسي والسلوك الفردي للشعوب الاوروبية )) ([6] )
وقال العلامة الشيخ محمد بن عبدالله الإمام اليماني ـ حفظه الله ـ في كتابه الإلكتروني" المؤامرة الكبرى على المرأة المسلمة " : (( قال المنصر (روبرت ماكس): " لن تتوقف جهودنا وسعينا في تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في سماء مكة ، ويُقام قداس الأحد في المدينة". ([7] )
قال صحفي غربي: "إن الشيوعية أفضل من الإسلام, لأنها في الأصل فكرة غربية ، يمكن الالتقاء معها ، أما الإسلام ، فلا التقاء معه ولا تفاهم إلا بالحديد والنار". ([8] )
وهذا مستشرق فرنسي يقول: "أعتقد أن من الواجب إبادة خمس المسلمين ، والحكم على الباقي بالأشغال الشاقة ، وتدمير الكعبة ، ووضع محمّد وجثته في متحف اللوفر". ([9] )
وذكر جلال العالم في كتابه "قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله" ص (5): أعداؤنا يقولون: " يجب أن ندمر الإسلام لأنه مصدر القوة الوحيد للمسلمين، لنسيطر عليهم، الإسلام يخيفنا، ومن أجل إبادته نحشد كل قوانا حتى لا يبتلعنا ".
وهذا سفاح كاثوليكي يقول: " إن المسلمين لا صلح معهم طالما يعشقون الديانة الإسلامية... فإما العقيدة وإما حياتهم ".
فهل تأكدت ماذا يخفيه اليهود والنصارى من مخططات للإبادة العامة للمسلمين؟
لأنهم يعلمون أن المسلمين لن يتركوا دينهم ، فلن يبقى حل إلا الإبادة في نظرهم ، وهذه الإبادة التي يتوعدوننا بها إنما هي في المستقبل ، فلم يكتفوا بما قد قاموا به من قتل وتشريد وتطريد ، بل ومجازر بشعة ، واستلاب شعوب إسلامية بكاملها. )) انتهى النقل عن الشيخ محمد
أما حقيقة مساعداتهم المصلحجية فقد بين وكشف حقيقتها وغرضها الدنيء أحدهم حيث يقول أحد دعاة النصرانية " رايد " (( إننا نحاول أن ننقل المسلم من محمد إلى المسيح ونحن لا نحب المسلم لذاته ولا أنه أخ لنا في الإنسانية ولولا أننا نريد أن ننلقه إلى صفوف النصارى لما سعدناه)) ([10] )
فإذا عرفت يا أيها المسلم العزيز حقيقة القوم وماذا يريدون من الإسلام وأهله فهل وهذه الحالة نطمئن إليهم و إلى وسائلهم وأنظمتهم وننخدع بمجاملاتهم ومحاوراتهم لنا ونحسن الظن بمشاريعهم الخبيثة سواء ما كانت في بلاد الإسلام أو التي هي في بلادهم وخاصة إذا عرفنا أن "([11] ) اليهود والنصارى كلما قبل المسلمون شيئا من أفكارهم ومبادئهم احتقروهم واستهانوا بهم ، لأن اليهود والنصارى لئام .
قال بعض اليهود: "إن العربي كالكلب.. إذا ضربته سارع إلى لحس حذائك" ([12] )
ومن ذلك تشبيه اليهود للمسلم بالطفل ، حيث قالوا: "إن المسلم مثل الطفل عند أن يولد ، إذا جاع صرخ ، فإذا صرخ أعطته أمه الثدي ، وهكذا المسلم إذا ضربه اليهودي هب إلى مجلس الأمن يصرخ ، يظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه !" ([13] )
فأنظر يا أيها الأخ المسلم إلى خبث القوم ومكرهم الدفين وما هم فيه من السفالة والسفاهة والوضيعة وسوء الأخلاق ، وشدة عداوتهم لأهل الإسلام ، ثم تأمل في كلام بن حنفية المغفل الذي فحواه أن بريطانيا حققت لأهل الإسلام في أرضها ما لم يحققه المسلمون في بلادهم المسلمة فهل هذا صحيح ويسلم له ؟!
عجيب وغريب من رجل تفضى عليه تلك الهالات من التزكيات والثناءات مرة أنه علامة وأخرى فقيه الغرب الجزائري وأخرى جوهرته ووو ... ، ولا ندري بماذا سيلقب في المستقبل ؟!
وهو يتجاهل ويتغافل عن ما يعرفه عامة أهل الإسلام فضلا عن خاصة أهله من علمائه ودعاته البارزين المجاهدين ، ما صنعته بريطانيا بالإسلام وأهله من التشويه و التخريب والتشريد والإبادة ، فماذا نرجو والحالة هذه من عدو لدود وخصم حرد طمعه أن ينسف هذا الإسلام وأهله من فوق الأرض على نهايته وبكليته ؟! وماذا سيقدم لأهله من الخدمة مما يرجع نفعه على دينهم الإسلامي وهذا في عقر داره وهم تحت سلطة حكمه ونفوذه؟! وخاصة إذا تذكرنا أي دور وتمثيلة الآن يلعبها معنا هذا العدو الماكر اللئيم الخبيث من سيطرة على العالم بأفكاره وآرائه وأنظمته ومبادئه وتكتيكاته ووسائله لغرض تحطيم الإسلام وإبادة أهله .
ماذا أصابك يا بن حنفية ؟!! تزدري بلادك وحقوقها الإسلامية وتعمى عينيك عن ما هو متحقق وقائم فيها من الشعائر الإسلامية الظاهرة مما ليس في تلك البلاد العدوة الكافرة ، ألا ترى أن الجمع والجمعة قائمة ظاهرة فيها ، وأن الشخصية المسلمة في أرجاء ترابها عزيزة محترمة تفتخر بدينها الإسلامي وشعائره السنية من غير مضايق ولاعوائق ، وهي تدعو إلى دين ربه وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم براحة وفي سعة من أمرها ، وإن كنا لا نثبت لبلادنا الكمال والاستكمال لما هناك من الديموقراطية و النقص في تطبيق الشريعة الإسلامية في شتى مجالات حياتنا الدينية والدنيوية ، ولكن هذا لا يمنع من أن نقول في بلدنا كلمة حق وإنصاف من غير تملق ولا إجحاف ، فبلدنا الجزائر العزيز، بلد له مجده وتاريخه يفتخر به بين الأمم ([14] )، وشأنه عظيم بين الدول الإسلامية وشعبه له إحترامه ووزنه بين شعوب العالم ، لما قد خلد أجداده الفاتحين الغزاة ، المجاهدين الكماة من البطولات الحميدة والإنجازات العظيمة عبر التاريخ مما كانت سببا في ظهور بريق نوره وإحياء ذكره ، وخاصة ما كان منها في مواجهة العدو الفرنسي الظلوم الغشوم وصمودهم في وجهه إلى أن أخرجوه من بلادنا العريقة وطهروا أرضنا من أنجاسه الصلبية وإعتداءاته الجائرة الظالمة، ولما عليه أهله من حبهم دينهم الإسلامي وغيرتهم عليه وتعطشهم لتعاليمه السامية وافتخارهم به ([15] )، وإياك وإياك أن تطعن فيه أو في شيء من تعاليمه وشعائره الشريفة ، أو في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم أو في أحد من أصحابه الكرام رضي الله عنهم أو في أحد من أئمة الإسلام الأعلام من بعدهم رحمهم الله ، فسترى عندئذ رد فعلهم إتجاه ذاك الطاعن المجرم المعتدي من تسفيهه وتنقيصه وإهانته ، وهذا إن دل يدل على إعتزازهم بهذا الدين الحنيف وتعظيم أهله وتوقيرهم .
ولكن هذه الإيجابية الحسنة التي منّ الله تعالى بها على هذا البلد العزيز المحترم وشعبه الكريم تحتاج من يتعهدها ويحافظ عليها ويحميها ويغذيها ، فتحتاج إلى يد عاملة قوية آمنة تقية انبعثت فيها روح الإسلام والوطنية الإسلامية ، وإلى رجال مخلصين أوفياء يشرحون هذا الإسلام لأمتهم الجزائرية شرحا وافيا شافيا صافيا ، وهم في ذلك يكونون متميزين ومتحلين بالأخلاق المرعية من الصدق والإخلاص والورع والصبر والتواضع وإلي غير ذلك من القيم المرضية والشيم النبوية مما يرجع نفعها وخيرها عليهم وعلى دعوتهم ، وينبغي أيضا أن يتميزوا في دعوتهم في موضوعها وصفتها وكيفيتها وصورتها على خلاف ما عليه الجماعات الحزبية والتكتلات البدعية وهم في ذلك بعيدون عن أنظمتهم الحزبية ووسائلهم البدعية من الجمعيات والانتخابات وغيرها التي فرقت الأمة ومزقت وحدتها ، وبعيدون أيضا عن أهل الدنيا فيما هم فيه من الإختلاط في مجال التعليم الذي ميع أخلاق الأمة ودمر قيمها فخنث ذكورها ورجل إناثها وأفسد عقيدتها وجمد عقلها وعطل إبتكارها لما هو مقرر فيها من المواد الفاسدة الجامدة ([16] ) ، ولينبهوا ويذكروا أمتهم حاكمها ومحكومها أن الدعوة السلفية التي يرجف المرجفون من اليهود والنصارى والعلمانيين وأهل البدع بشتى فرقهم لإطفاء نورها وإخفاء بريق جوهرها ما هي إلا دعوة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وضمان نجاحهم وفلاحهم في الدنيا والأخرة ، وبوابة الأمن والاستقرار والتمكين والسيادة ، وأنها ما هي إلامنهج إمامهم نجم العلماء مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ الذي يعتزون بالانتساب إليه وعلى مذهبه يتمذهبون ، وإذا كان كذلك فليلقوا على مسامعهم أن الإمام مالكا ما هو إلا واحد من الأبطال الشرفاء النبلاء لهذه الدعوة المباركة التي قد حمل رايتها رواية ودراية خلال فترة حياته ، وأنه كان يضرب به المثل في علمه وورعه وشدته على أهل البدعة والأهواء وعلى المخالف للسنة ، فكم قمع الله به من البدعة والضلالة وحفظ به من السنة حتى أنه قد اشتهر وذاع عنه أنه كان يقول : ((لا يؤخذ العلم من أربعة، رجل معلن بالسفه وأن كان أروى الناس، ورجل يكذب في أحاديث الناس إذا حدث بذلك وأن كنت لا تتهمه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، وشيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به.)) ([17] ) ، وروى عنه ابن أبي أويس أنه قال : سمعت مالكاً يقول : (( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه ، لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده هذه الأساطين، وأشار إلى المسجد، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن )) ، وفي رواية ابن وهب وحبيب وابن عبد الحكم نحوه.
وعن مطرف عنه ـ مالك ـ أنه قال : (( أدركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم شيئاً من العلم وأنهم ليؤخذ عنهم العلم وكانوا أصنافاً فمنهم من كان يكذب في حديث الناس ولا يكذب في علمه ومنهم من كان جاهلاً بما عنده، ومنهم من كان يزن برأي سوء ، فتركتهم لذلك )) .
وفي رواية ابن وهب عنه: (( أدركت بهذه البلدة أقواماً لو استسقى بهم القطر لسقوا، قد سمعوا العلم والحديث كثيراً ما حدثت عن أحد منهم شيئاً لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد، وهذا الشأن يعني الحديث والفتيا يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وصيانة وإتقان وعلم وفهم، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غداً ، فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة فلا ينتفع به ولا هو حجة ولا يؤخذ عنهم. )) ([18] )
فهذا منهج الإمام مالك وهديه مع رواة الأخبار ونقلة الأثار مع ما هم فيه من الصلاح ، فما بالك مع أهل البدعة والضلالة ، فسيرته العطرة تفوح بالروائح السنية المتمثلة في شدته على أهل البدع والهلكة ([19] ) ، وبهذا يتضح وينكشف لأمتنا إرجاف وكذب أهل التمييع والتخذيل المتمثل في رميهم لأهل الحديث والأثر بأنهم غلاة الجرح والتجريح ، وأنهم ما عندهم إلا التشدد والشدة وإنتهاك الأعراض وإلى غير ذلك من الهراء والفرى ، ويقفون على حقيقة الأمر أن المسلك الذي سلكه أهل السنة والجماعة مع هؤلاء المتحزبة المبتدعة ما هو إلا منهج سلفهم الصالح ومنهم الإمام مالك ـ رحمه الله ـ فلا يستغرب هذا إذاً .
كيف لا ، و حياة قلوبهم ومصالح معاشهم ومعادهم متوقفة على هذا المنهج السلفي المنقح .
نعم إذا بينوا هذا ووضحوه وشرحوه لأمتهم وتم لهم ذلك يكونون بذلك قد قفزوا القنطرة بمعونة الله وتوفيقه ، وتبدأ إن شاء الله تظهر علامات بشائر وتباشير السيادة والريادة والرقي لهذه الأمة، وإجتماع كلمتها ورجوع قوتها وتحقيق مصالحها المرجوة ومطامعها المنشودة .
الأمر الثاني : يا للعجب من أمر هؤلاء الحركيون المتحركون ، مما هم فيه من إنصهار وإنجذاب نحو إنجازات وتنظيمات الغرب الكافر التي لا ثوابت لها ولا إستقرار كما شهد لها بذلك التاريخ وأنها ما هي إلا ريح تغدو الأيام وتروح ، فتفتضح وتطيح ([20] )، وما ذاك إلا لأنها من التشريع البشري وأنها ما أنشئت إلا محادة لله تعالى ولرسوله الأمين صلى الله عليه وسلم وعداوة لأوليائه المؤمنين ، ومع هذا ترى الحركيين والثوريين والمتحزبة أعينهم حمراء تتطلع ما في الغرب من الإنجازات والأنظمة مما الإسلام وأهله في غنية عنها ، والمصيبة الكبرى والداهية العظمى أنه قد يكون في هذه الأنظمة والإنجازات والتنظيمات ما هو مضاد للشريعة الإسلامية ، ومع ذلك تراهم يشيدون بذكرها ويتبجحون بمدحها ([21] ) .
وإلا فلو كان لديهم مسكة عقل لأكتفوا وأستغنوا بما للإسلام من الإنجازات والبطولات المباركة الجبارة مما قد تحقق على أيدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومما قد تشرف أصحابه الكرام وأئمة الإسلام الذين ساروا بسيرهم من بعدهم إلى يومنا هذا بتخليده في صفحات سيرتهم العطرة ، فتاريخنا العريق مليء بالإنجازات التي تبهر العقول وتلهج بمدحها وتجويدها الفحول ، فكان بودي من بن حنفية أن يقلب صفحات ذلك التاريخ المجيد و يأخذ منه شعلة تكون نبراسا ونورا وضوءا تستنير بها أمته الجزائرية في ظلمات الجهل و الشرك والبدع والمعاصي ، فينجى بها من ينجى ممن هو منغمس في أوضار وظلمات الشرك والبدع إلى نور التوحيد والسنة ، وهو في هذا يكون قد قدم لأمته خدمة جليلة لا تنساها له أبدا تخلدها له في صفحاته بأحرف من نور([22] ) ، وحبذا لو بهذه المناسبة ـ ويا لله روعتاه ـ ألقى ضوءه على دولة التوحيد والسنة ـ المملكة السعودية حرصها الله من كل سوء ـ وضرب بإنجازاتها السنية وأعمالها الخيرية بما فيها من المحاكم الشرعية مثلا يكون حافزا لتذكير وتنبيه أمته حاكمها ومحكومها ، بأن التمكين والعز والرقي التي تعيشه وتتقلب فيه تلك البلاد السنية الموحدة ما هو إلا من ثمرة التوحيد وتحكيم الشريعة الإسلامية في شؤون حياتها ، فإذا أرتم رقيهم فعليكم بسيرهم .
وهو في ذلك يكون قد ضرب لهم مثلا حسيا واقعيا مشاهدا له تأثيره ، ويبتهل الفرصة فيشيد بذكر هذه البلاد السنية الطيبة الكريمة ، ويُذكر أمته الجزائرية بما قام به شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب من الإصلاح والتجديد والدعوة بمعونة الإمام الأمير المجاهد الكبير محمد بن سعود رحمهما الله جميعا حيث أنه قد شد أزره وقوى أمره ، فرفعا راية التوحيد ، وقاما بالجهاد إلى أن قامت دولة التوحيد و السنة فمكنها الله وأيدها بالنصر المبين ومنّ عليها بالأمن والتمكين بما فيها من تحكيم شرع رب العالمين ، وكانت نقطة هذا التمكين والعز المنين لهذه المملكة الشريفة ، اليوم الذي خرج فيه الإمام محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ من العيينة متوجها إلى الدرعية ، فما إن وصل إلى الدرعية استقبله حاكمها ( الأمير المجاهد محمد بن سعود ) إيما إستقبال ورحب به، ووعده حينها بأن يمنعه مما يمنع منه نساءه وأولاده وقال له : (( أبشر ببلاد خير من بلادك ، وبالعز والمنعة ، فرد عليه الشيخ قائلا : وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين ، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها العباد والبلاد وأنت ترى نجدا كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم بعضا فأرجو أن تكون إماما يجمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك )) ا.هـ
فمن حين هذه الإتفاقية التي تعرف تاريخيا بـ " إتفاق الدرعية " المشهور سنة 1157 هـ / 1744 م ، قام أنصار الدعوة من " آل سعود " من التضحية بأنفسهم وأموالهم ما سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور ، فقد حملوا مشعل الدعوة في حياة الشيخ وبعد وفاته ، فشدوا من أزره حيا وقاموا مقامه ميتا ، فما ضنوا وما ضعفوا "([23] ) إلى أن قامت دولة التوحيد والسنة إلى يومنا هذا أعزها الله ومكنها وحرصها من كل عدو.
فما كان حينها من دعاة التوحيد والإصلاح وأئمة الحديث والسنة في أرجاء العالم الإسلامي إلا أن يفيضوا على هذه الدعوة الشريفة وبلادها العظيمة من الثناء والشكر مما تستحقه وتفتخر به ، فقد أشاد بذكرها علماء اليمن ومنهم محمد بن إسماعيل الأمير والشوكاني ومقبل بن هادي الوادعي وعلماء أنصار السنة بمصر وعالم المغرب تقي الدين الهلالي وعلماء بلاد الجزائر وعلى رأسهم الإمام المصلح المجاهد عبدالحميد بن باديس ومحدث الشام ناصر الدين الألباني وغيرهم من علماء الإسلام رحمهم الله ([24] )، وما قام به هؤلاء العلماء الأفذاذ نحو هذه الدعوة الإصلاحية وبلدها السني إن هو إلا من مقتضيات الأخوة الإسلامية ومما يتحتم عليهم من نصر راية التوحيد والسنة ، فكان على بن حنفية أن يحذو حذو هؤلاء العمالقة الجبال الراسية ، فيقلب نظره في ما لهذه البلاد العريقة من البطولات الباهرة والإنجازات السنية الظاهرة فيملأ عيناه منها ، فيرجع لسانه بكلمة صدق يلهج بثناء عليها وتعداد محاسنها وخاصة في هذه الآونة الأخيرة التي تكالبت فيها الأعداء من كل حدب وصوب من الملل الكافرة والفرق الضلالة على إسقاطها وزعزعت مكانتها والطعن فيها وفي علمائها ، فأنظار أهل الفساد من شياطين الإنس والجن كلها متوجهة نحو هذا بلد التوحيد الذي هو قلعة السنة لتحطيمه ـ كفانا الله شرهم ـ وهم في ذلك قد استخدموا شتى المتطورات من الوسائل السمعية والمرئية لتشويه سمعته الحسنة الطيبة ، فتجد على سبيل المثال كثيرا من شبابنا الجزائري يطعن فيه وفي علمائه وحكامه على الجهل منهم بما عليه هذا البلد من النقاء والصفاء ـ نحسبه كذلك ولا ونثبت لعلمائه وحكامه العصمة ـ، ما ذاك منهم إلا بسبب إغترارهم وإنخداعهم بما يثيره دعاة القنوات الفضائية من الكذب والإفتراء على هذا البلد السني الطيب الكريم ، يا ريت يا بن حنفية أبتهلت هذه الفرصة وذكرت شباب أمتك ما عليه تلك البلاد البريئة الكريمة من تحكيم الشريعة الإسلامية وما هي قائمة به من رفع راية التوحيد والسنة وما تقوم به من الأعمال الخيرية والجهاد المتمثل في مواجهة أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والفرق البدعية والجماعات الحزبية وسعيها في كشف مخططاتهم الماكرة الهجينة بتسخير دعاتها ومؤسساتها التعليمية لذلك ، فتكون بهذا العمل النبيل قد نفضت غبار الحقد والغل والبغضاء الذي قد خيم على قلوب فئام من الشباب الجزائري نحو هذا البلد الطيب ، وينجلي الضباب الذي طمس حقيقتها التي هي عليه ، فتفتضح تلك الدعايات الكاذبة التي صنعها وإخترعها دعاة التخريب والتشغيب ، ويرفع ستار الخيانة الذي عليه الحزبية نحو هذا البلد السني المبارك ،وبالتالي تتبدد غيوم الضغائن القديمة والحديثة والأحقاد المتوارثة من جيل إلى جيل باسم تلك الدعايات الوهمية الكاذبة والخيانات الغادرة والتخطيطات الماكرة على هذا البلد الكريم الشريف ، التي مبدأ شقاوتها من يوم قوى ساعد " الإمام محمد بن عبدالوهاب وارتفع صوته وعلا ذكره وجاء إليه الناس أفواجا وكان أن أمتد سلطان دعوة التوحيد حتى خفقت راية الإسلام في ظلها في كل نواحي نجد ، وأغرى ذلك البلاد المجاورة فقامت تخطب ود هذه الراية ، وتتطلع بشوق عظيم إليها ، ورفع الإسلام طرفه الكسير إليها في رجاء وضراعة ، يستمد من قوتها تتداركه لتقيله من عثرته ، وترفع عنه كابوس البدع والضلالات التي ناء بها ، فسرعان ما لبّى السعوديون السلفيون ضراعته وذهبوا يكسرون الأغلال الشركية ويهدمون هذه الطواغيت والأنصاب التي كادت تقضي عليه ، واستخلصوا الإسلام في هذه البلاد والنواحي من براثن أعدائه ، فما لبث أن قام أعداء الأنبياء من شياطين الجن والإنس يتصايحون بالويل والثبور ويتنادون " انصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين " ، لكنهم أضعف ناصرا وأقل عددا ، فلجأوا إلى الدولة العثمانية يستنصرون بقوتها وبجيشها ويستفزون ملوكها وقوادها بأساليب الخدع وأنواع الإغراء : بأنها حامية الإسلام وأن أولئك النجديين يفسدون قلوب الناس ويغيرون عقائدهم ويريدون تحويلهم عن الطريق الموروثة والسبل التي وجدوا عليها الآباء والأجداد ويحقرون شعائر الدين بهدم قباب المشايخ والأولياء الكبار التي اطبقت الأجيال على تعظيمها والتبرك بها وان قعود الدولة عن رد هؤلاء المعتدين يذهب بهيبتها من نفوس المسلمين ويحقر من شأنها عندهم فلا تبقى صاحبة الحق في دعوى الخلافة عليهم ... لقد خدع أولئك الشيوخ ملوك آل عثمان شر خديعة وغشوهم أعظم غش إذ أوغروا صدورهم على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وشوهوا وجهها الجميل بما كذبوه عليها وألصقوه بها من الفرى والبهتان حتى قامت هذه الدولة التي تدعي الخلافة الإسلامية تحارب الدعوة الإسلامية ... فقاموا يحاربون دعوة محمد بن عبدالوهاب واستنصروا عليهم بالسيف والقلم والمدفع واللسان ، واستخدموا لذلك كل من يقدرون على استخدامه فقام كل بما وظف له فأما رجال اللسان والقلم فأخذوا يشوهون سمعة هذه الدعوة وشيوخها وأتباعها ويصمونهم بأقبح الصفات وينبزونهم بأشنع الألقاب وينسبون إليهم أعظم الجرائم ، فمرة يصفون شيخ الإسلام ابن عبدالوهاب بأنه مدع الإجتهاد والإمامة في الدين ومحدث مذهبا جديدا غير المذاهب المعروفة وأنه بهذا يحتقر الأئمة ولا يعترف لهم بالإمامة ويدعي أنه أعلم منهم وأولى بالإمامة والفضل ... شنع عبدة الطواغيت على شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب بدعوى الإجتهاد وهي المحمدة كل المحمدة التي حق على كل مسلم أن يسلك سبيلها بالعلم الصحيح مع الإخلاص واللجأ إلى الله مالك القلوب أن يهدي قلبه ويشرح صدره ، وكذلك صنع الشيخ محمد بن عبدالوهاب ويصنع غيره من المؤمنين المخلصين في كل عصر ومصر .
لم تلق هذه التهمة رواجا عند الناس ولك يأبه لها الجمهور وعدها العقلاء حسنة لا سيئة فقام دعاة الفتنة وعبدة الطاغوت يرمونه وشيعته بشنيعة أفضع وفرية أدخل في البهتان إذ قالوا : إنه يبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه وشيعته يحرمون قول " أشهد أن محمدا رسول الله " ، ويمنعون من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقولون عصا أحدنا خير منه صلى الله عليه وسلم وأنهم يبغضون الاولياء والصالحين ويحقرون آل بيت النبي ويحرمون زيارة المقابر ويخربون المساجد ويهنون شعائر الإسلام بهدم القباب والقبور ويكفرون المسلمين إلى غير ذلك مما سودوا به الصحف .
والله يعلم أن أشد الناس حبا للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيما له وتوقيرا لآل بيته الطاهرين وإحياء لسنته وتمسكا بدينه وشريعته هم أولئك النجديون أتباع الشيخ محمد ، بل لا أرى أحدا من أهل الأرض اليوم أحرص على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، اقرأ كتب شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب صغيرها وكبيرها وكتب أولاده وأحفاده وكتب العلماء الآخرين من النجدين ومنشورات الأمراء قلا يمكن أن يمر بك فيها ذكر النبي إلا وتجد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم .
محال ان تجد في أحدها لفظ ( محمد ) مجردة جافة تقرع أذن المسلم وقلبه فتؤلمه ، بل تجد فيها من تبجيل النبي صلى الله عليه وسلم ما ينبئ عن حب خالص وتعظيم حقيقي تقر به عيون أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم ... أما دعوى تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم ، فليس عليها من حجة ولا برهان وما هي إلا دعوى مجردة نطقت به ألسنة الفساد ، مثل ما أتهم المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بانتهاك الأشهر الحرم وما كانت حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا دفعا لشرورهم وتعظيما لحرمات الله ، كذلك ما كان قتال النجديين إلا جهادا في سبيل الله وهدما لآثار الوثنية ، فمن وقف في سبيل تنفيذ ذلك حاربوه ، فمن خلى بينهم وبين هذه الظواغيت لم يعترضوا له ... لم يكن شيء من هذه الحقائق يغيب عن عقول الناس وأذهانهم بعد أن انتشرت كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأولاده وأقبل كثير من الناس عليها يقرأونها بشغف وإخلاص ولكن عبدة الطاغوت هم الذين أقض مضاجعهم وأوقد نار الغيظ في قلوبهم ما رأوا من سرعة انتشار هذه الدعوة وأنها كادت أن تطهر الجزيرة من زيفهم الكاذب ودجلهم الباطل وتقضي على سلطانهم الوهمي ، فقاموا يجلبون عليها بكل ما أتوا من قوة ونفثون سمومهم في العقول لإبقائها على مرضها وفسادها ، واستغلوا جهل ملوك الأستانة ونعرتهم وخلافتهم وأخذوا يهولون من شأن هذه الحركة الإسلامية الإصلاحية ويخوفونهم عاقبة إنتشارها أن تقضي على دولتهم وتأتي على ملكهم من الأساس وكان ضعف عقولهم وخمود فكرهم في البحث في علوم الدين وانقيادهم الأعمى لمدعي التصوف قد هيأ مرتعا خصبا لدعاة السوء ونافخي بوق الفتنة فقام كثير من أدعياء العلم في مصر والحجاز والآستانة ينصرون هذه الدعاية السياسية ضد حركة الإصلاح الوهابية السلفية .
وكان لأولئك الأدعياء من سلطان آل عثمان وأنصارهم وشيعتهم ما استعانوا به فأعانهم على طبع الآلاف المؤلفة من هذه الكتب والرسائل وتوزيعها على الناس ونشرها في الأمصار الإسلامية وبذلوا كل جهد في ترويجها بما أتوا من قوة وسلطان فلم يلبث العامة الذين لا يعلمون من الدين شيئا إلا تقاليد لا قيمة لها ولا يعرفون العلم إلا إذا كان من كتاب مطبوع ولا يقيمون وزنا للقول إلا إذا كان مقدما له بمقدمة " تأليف العالم العلامة الحبر البحر الفهامة القطب الرباني ، والفرد الصمداني " ، وما إلى ذلك من تهاويل تدهش العامي فيخر لها عقله وقلبه ساجدا وهو لا يدري .
ثم مازالت هذه الدعاية السيئة بالكتب والخطب والدروس تفعل فعلها وبجانبها قوة السيف والمدفع تحصد في جند السعوديين حصدا وتطاردهم من بلد إلى بلد ومن واد إلى واد حتى كان من قضاء الله أن خمدت جذوة هذه الدعوة حينا من الدهر ، هذه هي العوامل الحقيقة ـ فيما أعلم وأعتقد ـ التي شوهت دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وجعلت هذا اللقب عند العامة مماثلا ليهودي أونصراني ، لا بل لقد سمعت بأذني من يقول : أن النصراني واليهودي خير من الوهابي ، وسمعته من بعض من ينتسب إلى العلم ... ذلك يدلكم يا إخواني على مقدار تأثير هذه الدعاية السياسية وبلوغها بأساليبها الشيطانية في إفتراء الكذب وإلصاق التهم الشنيعة بهذه الدعوة " ([25] )
ويا ليت وقفت هذه الدعاية أو أقتنعت بما فعلته من الأفاعيل الشنيعة والأضاليل الفظيعة أو على أقل الشيء خففت من وطأتها على هذه البلاد ودعوتها الإصلاحية وعلى أهلها ، بل ما تمر الأيام وتأتي التي بعدها ، إلا وترى تلك الدعايات والأباطيل تظهر بموضات جديدة ينجر وراءها عميان البصيرة ، فينخدعون ببهرجها ، وخاصة في هذه الآونة فإن هذه الموضات لها وسائل حديثية تزينها وتلمعها وتعطيها صبغة القبول عند جمهور العامة عميان البصيرة ، على زيادة ما ذكره العلامة محمد حامد الفقي ـ رحمه الله ـ ، فالوسائل الإعلامية الحديثية من الفضائيات والإنترنات قد فعلت فعلتها وحققت ما لم يتحقق من قبل، وأدهى من ذلك وأشر، أنهم استصغروا واستقلوا كل ما فعلوه من الجرائم ورءوا أن كل ما فعلوه وخططوه وانجزوه لم يأت على اليابس والأخضر، وأنه لازال أمامهم أمال تتطلع إلى تحقيق إنجازات أعظم مما تحقق ، لكن ما هو السبيل لتحقيق هذا الإنجازات الجائرة الهجينة ؟؟
هل تظن يا أيها المسلم العزيز وبخاصة أنت يا سني ، أن عدوك سهل وغافل وغبي ونائم وأن همته متوقفة عند بطنه ؟!
كلا وألف كلا يا أُخي ، فإن عدوك أيقن وخبر بأنك أخطر عليه من كل عدو فوق الأرض ، وعلم أن قوتك تساوي ضعفه وضعفك يساوي قوته ، وإذا كان الأمر كذلك فهو والحالة هذه سيسعى بكل الوسائل التضيحة بما أوتي من القوة والدهاء والخبث أن يضحي بأمتك جميعها وينسفها نسفا ويحصدها حصدا من فوق الأرض من ثم يتنهد تنفس الصعداء ويرجع قرير العين ، وقد رأيت يا أخي رأي العين وإلتمست ذلك لمس الحس أي وسائل هو مستعملها لتحقيق هذا المطلب الحقير الذي يعمد للوصول إليه كما نبهتك على بعضها ، فهو قد جرب معك جميع وسائله المصطنعة وتنظيماته المخترعة وهي تعمل في عملها على وفق ما يريد ، ولكن كما قلت لك آنفا هو ما أكتفى بذلك ورأى أن تلك الوسائل ما حققت له غايته المنشودة ومازالت أماله تتطلع في أن يجد سلاحا فتاكا قويا يدعمها ويشحنها ، فبمكره وخبثه ودهائه توصل أن قوة تلك الوسائل وبطارية تشحينها وحلي زينتها متمثلة في إستخدام وتجنيد أناس من أبناء هذه الدعوة يكونون شاة التضحية يضحى بهم ، فيعملون ويتحركون على وفق إيعازه وتنظيماته في هدم الدعوة السلفية وبلادها الشريفة من قعر دارها ، وهذا الذي خططه وأراده العدو النصراني و اليهودي من أهل الإسلام حيث يقول النصراني الخبيث زويمر : (( إن الشجرة ينبغي أن يقطعها أحد أعضائها إن خبرة الصيادين تعرف
أن الفيلة لا يقودها إلى سجن الصياد الماكر إلا فيل عميل أتقن تدريبه ليتسلل بين القطيع فيألفه القطيع
لأن جلده مثل جلدهم ويسمعون له لأن صوته يشبه صوتهم فيتمكن من التغرير بهم وسوقهم إلى حظيرة الصياد )) ([26] ) .
نعم ويا للأسف ويا حسرتاه أنه قد وجدت تلك الحيل الماكرة ودعاياتها الماهرة مسامع الأبناء ذلك البلد ، فتلقفوها وأحتضنوها وسعوا إلى تنفيذها على وفق إيعاز وتكتيك أعداء دينهم الحنيف لو كانوا يعقلون ولنصائح وإنذارات أبائهم وإخوانهم الناصحين يفقهون ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، فهم في غيهم يعمهون ، فما فرح أعداء الإسلام والسنة منذ أن حملوا لواء الحرب والغدر والتشويه لهذه الدعوة وبلدها السلفي بمثل فرحهم بهؤلاء اللئام الأغبياء الأشقياء ، فاستغلوهم في التخريب والتشغيب وتغليف وإخفاء المحاسن هذا البلد وإثارة الفتن على أئمتهم ومشايخهم وحكامهم ، فكم أفسدوا وخربوا ما لم يقدر عليه العدو الخارجي بشتى نحله وملله ، ومن ذلك تأمل يا أيها القارئ إلى ما أرجف به الابن سلمان في شريطه " وقفات مع إمام دار الهجرة " إذ يقول : (( ... في بلاد العالم الإسلامي اليوم جهات كثيرة جدا لم يبق لها من أمر الدين ـ وقدتكون مسؤولة عن الفتيا ـ أحيانا ـ أو عن الشؤون الإسلامية ـ لم يبق لها إلا تعلق عن دخول شهر رمضان أو خروجه ...))
وأيضا ما أرغد وأزبد به الابن اللئيم الماكر عائض القرني في قصيدته التي عنوانها (دع الحواشي واخرج) وقد نشرت في ديوانه المسمى ((بلحن الخلود))
صل ما شئت وصم فالدين لا ...... يعرف العابد من صلى وصاما
أنت قسيس من الرهبان ما ....... أنت من أحمد يكفيك الملاما
تترك الســـاحة للأوغاد مـــا ...... بين قزم مقرف يلوي الزماما
أو دعي فــاجر أو قــع في ........ أمتى جرحاً أبى ذاك التآما
لاتخادعني بزي الشيخ ما ....... دامت الدنيا بلاء وظلاما
أنت تأليفك للأموات ما ....... أنت إلا مدنف حب الكلاما
كل يوم تشرح المتن على ...... مذهب التقليد قد زدت قتاما
والحواشي السود أشغلت بها ..... حينما خفت من الباغي حساما
لا تقل شيخي كلاماً وانتظر ..... عمر فتوى مثلكم خمسين عاما
والسياسات حمى محذورة ....... لا تدانيها فتلقيك حطاما
قلت ( بن سلة ) : فانظر يا أيها القارئ الكريم إلى مبالغات هذا الغوي المشحونة بالفكر الخارجي والمليئة بالاستفزاز والطعن في شيوخه وحكامه ، وقد أحسن وأبدع المحدث العلامة أحمد بن يحيى النجمي ـ رحمه الله ـ في رد عليه إذ يقول في كتابه " المورد الذب الزلال " ( 33 ـ 34 ) : (( رابعاً: ألا ترى أن أسلوبك هذا أسلوب ثوري تكفيري استفزازي؟! وهل ترى من المصلحة نشره أو وأده ودفنه؟!
وأقول: أما جوابك فهو معلوم من تصرفك ـ أي بنشر هذا الديوان على ما فيه من أخطاء فادحة ـ وإن سماحك بنشره تماد وإيغال في الخطأ.
خامساً: إن ولاة الأمر في بلدك مسلمون ولهم إصلاحات كثيرة، وفيهم خير كثير وأنت ممن يتمتع بهذا الخير ويرفل في أثواب عافيته. أفلا شكرت الله على ذلك؟
تذكر يا شيخ عائض أنت ومن معك على هذا المنهج وتخدعون الشباب بهذه الأساليب، أن الدولة ربتكم في مدارسها ومعاهدها وكلياتها وأنفقت عليكم الأموال الطائلة حتى وصلتم إلى ما وصلتم إليه، ثم تجزونها جزاء سنمار، وتعصون الله ورسوله بالاستفزاز لها والإثارة والتأليب والاغراء بالخروج عليها ومنازعة أصحابها ما خولهم الله، لقد خرجتم عما أمركم الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وخرجتم على إجماع أهل السنة والجماعة الذين تزعمون أنكم من أتباعهم وتفتخرون بالانتماء إليهم والحقيقة أنكم إنما تنتمون إلى المعتزلة والخوارج الذين يجيزون الخروج على ولاة الأمر والإنكار عليهم بالسيف.. إن أمركم لعجيب، ووالله إنكم تربيتم في مدراس ومعاهد وجامعات مقرراتها على عقيدة أهل السنة والجماعة، فما الذي حولكم عن هذه العقيدة؟!
لا تظنوا أن الناس يجهلون الذي حولكم، إن الذي حولكم هو التنظيم الإرهابي السري الذي اشتركتم فيه وغُسلت أدمغتكم فيه، فكنتم كما كنتم، وإنا الله وإنا إليه راجعون. )) ا.هـ
فلا تعجب يا أيها الأخ الكريم أن تصدر هذه الأفاعيل والأباطيل من أناس أسجدوا مسامعهم وأقلامهم لزبالات وأفكار محمد سرور فهو محنتهم في كل بلية و أسوتهم فكل رذيلة وبوابة لهم في كل فكرة عاطلة وقولة باطلة ، ومن ذلك ما رجف به في بعض أعداد مجلته المسماة ظلما بمجلة السنة حيث قال في الكتاب الثالث والعشرون من هذه المجلة تحت عنوان " المساعدات الرسمية " أنه قال: (( وصنف آخر يأخذون ولا يخجلون ويربطون مواقفهم بمواقف سادتتهم فإذا استعان السادة بالأمريكان انبرى العبيد إلى حشد الأدلة التي تجيز هذا العمل ويقيمون النكير على من يخالفهم وإذا اختلف السادة مع إيران الرافضية تذكر العبيد خبث الرافضة وانحراف منهجهم وعداؤهم لأهل السنة ، وإذا انتهى الخلاف سكت العبيد وتوقفوا عن توزيع الكتب التي أعطيت لهم هذا الصنف من الناس.. يكذبون يتجسسون.. يكتبون التقارير ويفعلون كل شيء يطلب السادة منهم إلى أن قال : يا إخواننا
لا تغرنكم هذه المظاهر فهذه المشيخة صنعها الظالمون ومهمة فضيلة الشيخ لا تختلف عن مهمة كبار رجال الأمن )) ا.هـ([27] )
بل وصل بهم الأمر وجرهم خبثهم وفساد طبعهم وما هم فيه من الظلمات بعضها فوق بعض إلى أن يقولوا : " هيئة كبار العلماء فكرة ماسونية "ـ لهم من الله ما يستحقون ـ ورحم الله العلامة المجاهد أحمد بن يحيى النجمي إذ يفند هذه الشبهة الشيطانية بما يكفي ويشفي حيث قال : ((أما قولهم بأن هيئة كبار العلماء فكرة ماسونية؛ أقول إن الماسونية منظمة يهودية؛ قصد من إنشائها تعطيل الشرائع , وإشباع الغرائز والشهوانية , وعبادة المادة , فهل هيئة كبار العلماء يدعون إلى ذلك ألا لعنة الله على الكاذبين؛ إن هيئة كبار العلماء أهل علم , ودين , وتقوى , وتفان في يشر دين الله وشرعه؛ نحسبهم كذلك , والله حسيبنا , وحسيبهم , فهل الماسونية كذلك؛ إن هذا فكر سروري خارجي تكفيري ؛ فالله يتولى جزاءهم على ذلك ؛ بما يستحقون.
إن محمد سرور ذلكم المارق ، المبتدع؛ الضال؛ له كلام يفهم منه تكفير الدولة السعودية , ويزعم أنهم انهم محكومون لرئيس أمريكا؛ يقول هذا , وهو مقيم في لندن عاصمة دولة بريطانيا , فكر أخي !!
من الأولى بالعبودية للكفار؛ هل هي الدولة المستقلة ببلدها , وحكومتها ودينها ؟ !! أم هو محمد سرور المقيم في بريطانيا؛ الخاضع لها والمستجير بها , والمستجدي منها , والحكم للقارئ .
أما العلماء في السعودية فهو يسميهم عبيد عبيد عبيد العبيد , ويقول أن علماء السعودية؛ يأخذون , ولا يستحون ويقول: إن مهمة العالم في السعودية؛ كمهمة قائد الشرطة؛ لا تختلف عنها؛ أي أن مهمة العالم تنفيذ الأوامر فقط. وأقول: سبحانك ربي ما أعظم نعمة الحياء , وما أعظم نعمة الإيمان؛ إني لأتعجب من هذه الجراءة على الكذب , والبهت , وعدم الاستحياء ولو من الله؛ إذا كان هذا المفتري قد انعدم حياؤه من الناس.
إن الدولة السعودية تجل علماءها , وتبجلهم وتحترمهم؛ بما لم يكن في دولة من الدول , ولا في بلد من البلدان قط؛ حتى أن رئيس الدولة ليزور كبارهم في بيوتهم ولقد زار الملك خالد ابن عبدالعزيز رحمه الله الشيخ ابن باز , وزار الملك فهد حفظه الله ابن عثيمين في بعض السنوات حين زار القصيم , وكذلك ولي العهد حفظه الله , فيما أذكر , ومع ذلك فالدولة تحكم شرع الله في محاكمها , وتحكم هيئة كبار العلماء؛ في بعض الأمور المستعصية , وتأخذ بما وجههم كبار العلماء إليه؛ من شرع الله عز وجل.
وأخيراً أقول: إن الذي يحملهم على هذا الكذب والبهت؛ هو كونهم يعتقدون عقيدة الخوارج؛ الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إنهم كلاب النار " وقال عنهم:"أنهم شر الخلقوالخليقة " وقال: " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " وفي رواية " قتل ثمود " وقال لأصحابه " تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وصيامكم عند صيامهم وقراءتكم عند قراءتهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية )) وقال: " طوبى لمن قتلهم أو قتلوه " هذه الأقوال كلها صادرة عن النبي المصطفى والرسول المجتبى الذي لا ينطق عن الهوى { إن هو إلا وحي يوحى }[النجم: 4 ] وكلها في وصف للخوارج قبل وجودهم , وقد خرجوا في عهدعلى بن أبي طالب رضي الله عنه فكفروه وكفروا سائر الصحابة؛ ما عدا أبا بكر وعمر , فأرسل إليهم ابن عمه عبدالله ابن عباس رضي الله عنه يناظرهم , فناظرهم فرجع بعضهم , وبقي البعض , وأخيراً قتلوا عبدالله بن خباب رضي الله عنه وبقروا بطن سريته , فقاتلهم رضي الله عنه وقتلهم شر قتله , ولم تزل بقاياهم إلى اليوم , ورأي الخوارج الذي استحقوا به بتخليدهم في النار , وهو رأي خوارج اليوم وهو أنهم يبيحون الخروج ويكفرون الولاة خاصة والمسلمين عامة , وهم بذلك خالفوا كتاب الله وسنة رسوله صلىالله عليه وسلم فالله تعالى يقول: { يا أيها آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم } [النساء: 59] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من خلع يد ا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له " ويقول: " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " متفق عليه ويقول: " من رأي من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية "وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " من خرج من الطاعة وفارق الجماعات فمات مات ميتة جاهلية " وفي حديث حذيفة رضي الله عنه قال: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها , ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " وفي حديث عبادة رضي الله عنه: " وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم منالله فيه برهان " وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها: أفلا نقاتلهم ؟ قال: " لا , ما صلوا " وكل هذه الأحاديث تأمر بالصبر , وعدم الخروج , وعدم المنازعة؛ ولكم قد استدل السلفيون بهذه النصوص قراءة , وكتابة , وإجابة على أسئلة , ومناظرة , ومناقشة على تحريم الخروج والمنازعة؛ ولكن أين المسلم والوقاف؛ عند أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الممتثل لها.
والمهم أن من قال أن هيئة كبار العلماء فكرة ماسونية؛ قد كفر علماء المسلمين؛ الذين هم ورثة الأنبياء , والذين ينشرون شرعة , وينصرون دينة , ويجاهدون لإعلاء كلمة الله؛ ليل نهار فنسأل الله؛ أن يفضحه , ويخزيه , ويذله في الدنيا والآخرة والله يوفق من يشاء من عباده ويهديه ويضل من يشاء , ويخذله , لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.)) ا.هـ ([28] )
فهذا فيض من غيض، وقليل من كثير مما عليه أهل الفساد والإفساد نحو هذه الدعوة السلفية وبلادها الشريفة ، فإنه والله لنأمل أن توظف وتسخر أقلام الجحاجحة وخاصة في هذه الآونة ، في تبديد غيوم أهل الضلال والكذب والخيانة التي طالما غطوا بها رونق هذه الدعوة المباركة وبهاء أعمال أهلها وحاملي رايتها وخاصة ما تقوم به المملكة السعودية من الجهودات الجبارة في نصرة هذه الدعوة وحمايتها في هذه الأزمنة ، فأين سهم بن حنفية من هؤلاء الجحاجحة في تبديد تلك الغيوم وتمزيق تلك الأغلفة الكثيفة الكثيرة التي ستروا بها مزايا هذه الدعوة المباركة وأرضها التي تحميها ، فيا ليت كان له في ذلك سهما ينتفع به أمته والدعوة السلفية وأرض الله الشريفة ، ويكون حافزا على حمل أمته الجزائرية حاكمها ومحكومها لإقتداء بأولئك الكرام في أعمالهم الخيرية السنية ، ومنها إنشاء محاكم شرعية في ربوع أرضنا الحبيبة ، أما أنه أغفل وأعمى عيناه عن هذا وفتحها فيما هو كائن في بريطانيا فقد أبعد النجعة وفتح بابا من أبواب الشر يلج منه من يلج من عميان البصيرة وأصحاب المطامع الدنيوية ، فإذا أردت يا أيها القارئ الكريم أن تقف على مدى خطورته المنتهية وشناعته الفظيعة فصابر معنا لحيظات مع الأمر الثالث أعانني الله وإياك على كل الخير .
الأمر الثالث : لا يخفى عليكم يا أهل الإسلام كثرة التغرب ([29] ) الحادث في هذه الأزمنة من شباب الإسلام المتمثل في سفرهم وإنتقالهم من بلادهم الإسلامية إلى بلاد الكفر والغرب من أجل إلتقاط وجمع الحطام الدنيوي الفاني ، بحكم ضيق العيش في بلادهم الإسلامية ، وما ذاك إلا لإغترارهم بما عليه الغرب من العيش والرفاهية والحياة المادية الممتعة ، وهذا العمل المشين منهم قد خلف في المسلمين الذين أسلموا في تلك البلاد الكافرة أثارا سلبية ومن أخطرها مخالفة النصوص القرآنية والسنية الدالة والآمرة بمن أسلم وهو بين أظهر المشركين أن يفارق المشركين ويهاجر إلى بلاد الإسلام ، ولكن أنى لهم هذا وهم " يرون كثيرا من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم إلى بلاد الكفار ! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل هذا الحكم و المسلمون أنفسهم مخالفون له ؟!"([30] ) ، فكيف بهؤلاء وهؤلاء إذا وقفوا على ما أرجف به بن حنفية هنا من أن في بريطانيا محاكم شرعية ما ليس في بلاد الإسلام !!
وأنه قد تحقق فيها ما لم يتحقق في بلاد الإسلام !! أليس هذا منه تشجيعا ومدفعا لأولئك الشباب اليائس الذي هو على فوهة البركان ينتظر ساعة الصفر والإنذار لينفجر بما شاء من الطعن والتسفيه والتنقيص لبلاده وأمه ، عاقا لما قد خلده أجداده الكرام الأبطال من الإنجازات والبطولات المشرفة يريدون منه في مستقبله الزاهر أن يحافظ عليها ويحميها وينمي خيراتها لتبقى أثارها وثمارها التي ببقائها تبقى هذه الأمة العريقة ، لكن بن حنفية من حيث يشعر أو لا يشعر لا يريد هذا !! يريد من أبناء هذه الثروة العظيمة الجليلة أن يحطموا تلك الأثار ويفسدوا تلك الثمار ويذهبون إلى الغرب الكافر فيخدمون ويشييدون حضارته ، بل مخططاته الهجينة ، وإلا فالكافر غايته أن يكون له سبيلا وسلطانا وسلطة وتجبرا على المسلم لكي يستخدمه في أغراضه ومأربه ويحركه كما يريد ، يا للهول ومصبتاه ما يخرج من رأس الحركيين والثوريين من الفساد والعفن والنتن " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " .
"وبهذه المناسبة أجدني مضطرا إلى شيء من التفصيل فيما يتعلق بالسفر من ديار الإسلام إلى ديار الكفر والشرك وما يتعلق بالبقاء فيها والإقامة بين ظهراني أهلها .
فأقول : الأصل في ذلك التحريم ولا يجوز السفر ولا الإقامة بين اظهر الكفار والمشركين إلا لحاجة وضرورة ثم إن الحاجة والضرورة تقدران بقدرهما في الشرع وإذا كان الأمر كذلك فلا يخلو السفر إلى ديار الكفار والمشركين أو الإقامة بين أظهرهم من عدة الأمور :
ا وبهذه المناسبة أجدني مضطرا إلى شيء من التفصيل فيما يتعلق بالسفر من ديار الإسلام إلى ديار الكفر والشرك
أمر الأول : ان يكون سفر المسافر أو إقامته مما يترتب عليه مصالح يعود نفعها على الإسلام والمسلمين في أمر الدنيا والدين فسفره وإقامته هناك مباحة مادامت الحاجة ماسة والضرورة موجودة مع وجوب الاستقامة على دينه جملة وتفصيلا وإقامته لشعائره التعبدية بكل سرور واعتزاز إذ بصنيعه هذا يجوز رضا الله ثم إنه يحقق الدعوة إلى دين الإسلام بقوله وفعله من خلال التطبيق العملي .
ويدخل في هذا الصنف من ترسلهم الدولة الإسلامية لتمثيلها في تلك الدول لتحقيق مصالح تضطر الدولة الإسلامية إلى تحقيقها .
والأمر الثاني : أن يكون الباعث على السفر أو الإقامة في ديار المشركين مقاصد شخصية فردية كالسفر للعلاج أو لطلب الرزق من وجوه الحلال أو لطلب لطلب تخصص في علم من العلوم المباحة التي تدعو الحاجة إليها فهؤلاء جميعا يباح لهم السفر أو الإقامة إذا كانت هذه المطالب لا توجد إلا في بلاد الكفار والمشركين .
فإذا ما انتهت المهمة وقضيت الحاجة وجب عليهم العود إلى ديار الإسلام التي يرفرف عليها علمه وتطبق فيها شعائره وأحكامه بدون خوف ولا قلق ويلزم هؤلاء أيضا ما يلزم الصنف الأول حيال دينهم الحق من إقامة شعائره على الوجه الشرعي المرضي ومن الاعتزاز به ودعوة الناس إليه مع إظهار محاسنه ـ وكله محاسن ـ بالقول والعمل فإذا فعلوا ذلك فقد حققوا حسنيين : دعوة إلى الدخول في الدين بأقوالهم وأفعالهم وقضاء الحاجة الدنيوية كالتجارة أو العلاج أو طلب علم مباح .
الأمر الثالث : أن يكون الباعث على السفر إلى ديار الكفار والمشركين أو الإقامة في ديارهم هو قصد السياحة الترفيهية على النفوس الأمارة بالسوء وربما وصل الأمر بهذا الصنف من الناس إلى ممارسة أعمال إجرامية لا يليق بمسلم ولا مسلمة أن ينقلوا أقدامهم إليها أو يشدوا الرحال ليشاهدوا مرتكبيها فهذا الصنف يحرم عليهم السفر إلى أرض الكفار كما تحرم عليهم الإقامة بين أظهرهم وقد يكتنف هذا السفر من البداية إلى النهاية من السوء والفحشاء اللذين لا يرضاهما الله لعباده المؤمنين .
هذا بالإضافة إلى أن الأصل في السفر والإقامة بين أظهر الكفار : التحريم ولا يباح إلا لضرورة شرعية أو مصلحة راجحة كما أسلفت آنفا ولا ضرورة شرعية تبيح لهذا الصنف السفر والإقامة هنالك ولا مصلحة من قريب أو بعيد من وراء السفر المذكور أو الإقامة المذكورة بل العكس هو الواقع المحقق .
الأمر الرابع : أن يكون الباعث على السفر إلى ديار الكفار والإقامة فيها مطلب من مطالب النفس التي انعكست عليها حقائق الأمور بداية ونهاية بسبب أمراض الشبهات والشهوات فأحب هذا الصنف من الناس المقام بين أظهر المشركين واطمأنوا به متذرعين إلى نشر الإسلام هناك كـ " محمد سرور " ومن على شاكلته في استحسان المقام بين اظهر أهل الشرك والكفر ولو اختلف معه في الفكر والمنهج .
إن هؤلاء القادرين على الانتقال من بلاد الكفر إلى خيرة بلدة من ديار الإسلام ـ كما أسلفت ـ لا عذر لهم في البقاء بدينهم وأعراضهم وذرياتهم وأحفادهم وأموالهم في ديار الكفر وإذا كانوا حريصين على نشر دعوة الإسلام فعليهم أن يتعلموا فقه الدعوة إلى الإسلام على النهج السلفي ويتخلصوا من المنهج التكفيري الذي ربما يصدر منهم على من هم خير منهم معتقدا وفقها ومنهجا وسلوكا كعلماء السعودية وحكامها والله من ورائهم محيط .
فإذا فقهوا شأن الدعوة إلى الإسلام غاية ووسيلة على منهج أهل الحديث والأثر حقيقة لا إدعاء فلينطلقوا مبلغين دعوة الإسلام لمن كتب الله أن تبلغه من أهل الملل الأخرى وهم عازمون على العودة إلى ديار الإسلام ينطلقون من دياره مبشرين ومنذرين ثم يعودون إليه .
وليس من طريقتهم بناء الفلل والمنتديات ولا سكنى الفنادق ذات الحدائق والساحات كما هو صنيع من أطلقوا على انفسهم أنهم دعاة الإسلام هناك ممن لم يطب لهم المقام في ديار الإسلام بل لم يسلم من همزهم ولمزهم وسخريتهم صفوة علماء الإسلام وحكام دولته كما سيأتي بيانه من كتبهم ونشراتهم ذات الإرهاب الفكري والتلبيس المتعمد الملبس بكساء الغيرة على شريعة الإسلام واحترام مقدساته ."([31] )
..... يتبع إن شاء الله
[1] زاد المعاد في هدي خير العباد - (ج 4 / ص 101)
[2] لقوله تعالى جل في علاه : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [النساء:115] ، وقوله { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة:100] ، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و إن كان عبدا حبشيا ، فإنه من يعش منكم بعدي يرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ [ و إياكم و محدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة ] " .
قال الإمام المحدث ناصر اليدن الألباني رحمه الله في " السلسلة الصحيحة " ( 6 / 526 ) في تخريج هذا الحديث النبوي : (( أخرجه الطبراني في " مسند الشاميين " ( ص 136 ) من طريقين ، و في " المعجم الكبير " ( 18 / 248 / 623 ) من أحدهما عن أرطاة بن المنذر عن المهاصر بن حبيب عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، و وجلت منها القلوب ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله ! كأنها موعظة مودع ، فقال : فذكره . قلت : و هذا إسناد
صحيح رجاله كلهم ثقات كما بينته في " ظلال الجنة " ( رقم 28 و 29 ) و هو في تخريج " كتاب السنة " لابن أبي عاصم ، و الزيادة له ، و قد أخرجها هو و أصحاب السنن و غيرهم من طرق كثيرة عن العرباض رضي الله عنه ، فانظرها في " الظلال " (26 - 34 و 1037 - 1045 ) ، و " مسند الشاميين " ( ص 237 و 276 و 403 ) و إنما آثرت هذه بالتخريج هنا لعزتها ، و شهرة تلك ، و بعضها في " الشاميين " ( ص 154 ) .)) ا.هـ
قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في " مدارج السالكين " ( ص 59 ـ 60 ) : (( كل من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم ، ولا ريب أن أصحاب رسول الله ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض أو رفضوه وتمسك به الروافض
ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما فرأينا أصحاب رسول الله فتحوا بلاد الكفر وقلبوها بلاد إسلام وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام من عسكر هولاكو وذويه من التتار إلا من تحت رءوسهم وهل عطلت المساجد وحرقت المصاحف وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جرائهم ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة وآثارهم في الدين معلومة
فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم وأيهم أحق بالغضب والضلال إن كنتم تعلمون
ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله ورضى الله عنهم وهو كما فسروه فإنه صراطهم الذي كانوا عليه وهو عين صراط نبيهم وهم الذين أنعم الله عليهم وغضب على أعدائهم وحكم لأعدائهم بالضلال وقال أبو العالية رفيع الرياحي والحسن البصري وهما من أجل التابعين " الصراط المستقيم رسول الله وصاحباه " وقال أبو العالية أيضا في قوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) " هم آل رسول الله وأبو بكر وعمر " وهذا حق فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة ولا خلاف بينهم وموالاة بعضهم بعضا وثناؤهم عليهما ومحاربة من حاربا ومسالمة من سالما معلومة عند الأمة خاصها وعامها وقال زيد بن أسلم ( الذين أنعم الله عليهم ) " هم رسول الله وأبو بكر وعمر "
ولا ريب أن المنعم عليهم هم أتباعه والمغضوب عليهم هم الخارجون عن أتباعه وأتبع الأمة له وأطوعهم أصحابه وأهل بيته وأتبع الصحابة له السمع والبصر أبو بكر وعمر )) ا.هـ
([3]) " جريدة البصائر " عدد ( 9 ) سنة 1947 م ، بواسطة مجلة " الأصالة " عدد 27
([4]) فليرجع إلى كتابين " الصوارف عن الحق " ( 11 ) ، و" دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون " ( 54 ) للشيخ المفضال حمد بن إبراهيم العثمان ـ حفظه الله ـ في الوقوف على ما بينه من تقرير هذا الأصل الأصيل
([5]) ننازع القوم في صحة هذه النسبة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام وأنى لهم صحتها وصدقها وهم قد كفروا بمحمد نبينا صلى الله عليه وسلم وما جاء به الهدي الشريف والدين الحنيف ، سئل الإمام الفقيه محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ السؤال التالي : (( فضيلة الشيخ! أحسن الله إليكم! يَرِدُ على ألسنة بعض المسلمين كلمة (مسيحية) حتى أنهم لا يميزون بين كلمتَي نصراني ومسيحي، حتى في الإعلام الآن يقولون عن النصارى: مسيحيين، فبدل أن يقولوا: هذا نصراني، يقولون: هذا مسيحي، فنرجو التوضيح لكلمة المسيحية هذه، وهل صحيحٌ أنها تطلق على ما ينتهجه النصارى اليوم؟
فأجاب : الذي نرى أن نسمي النصارى بالنصارى كما سماهم الله عز وجل وكما هو معروف في كتب العلماء السابقين، كانوا يسمونهم: اليهود والنصارى؛ لكن لما قويت الأمة النصرانية بتخاذل المسلمين سَمَّوا أنفسهم بالمسيحيين ليُضْفوا على ديانتهم الصبغة الشرعية ولو باللفظ، وإلا فأنا على يقين أن المسيح عيسى بن مريم رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منهم، وسيقول يوم القيامة إذا سأله الله: { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [المائدة:116] سيقول: { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ .} [المائدة:116-117] إلى آخر الآية ، سيقول هذا في جانب التوحيد.
وإذا سئل عن الرسالة فسيقول: يا رب! إني قلت لهم: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف:6]، فهو مقرر للرسالات قَبْلَه، وللرسالة بَعْدَه عليه الصلاة والسلام ، فأمر أمته بمضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ولكن أمته كفَرَت ببشارته، وكفَرَت بما أتى به من التوحيد، فقالوا: { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } [المائدة:73] ، وقالوا: { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة:30] ، وقالوا: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة:17] نسأل الله العافية.
الحاصل: أني أقول: إن المسيح عيسى بن مريم بريءٌ منهم، ومما هم عليه من الدين اليوم، وعيسى بن مريم يُلْزِمهم بمقتضى رسالته من الله أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكونوا عباداً لله، قال الله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران:64]. )) ا.هـ (لقاء الباب المفتوح / رقم 34 )
([6]) انظر إلى كتاب " أحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام " ( 34 )
([7]) نقلا عن كتاب "مخطط تدمير الإسلام" ص (25).
([8]) نقلا عن كتاب "مخطط تدمير الإسلام وإبادة المسلمين" ص (12).
([9]) نقلا عن كتاب "الاتجاهات الوطنية" (1/321) للدكتور محمد محمد حسين.
([10])" أحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام " ( 61 )
([11]) نقلا من كتاب " المؤامرة الكبرى على المرأة المسلمة "
([12]) نقلا عن كتاب " النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية:71 ".
([13]) نقلا عن كتاب " عودة الحجاب /381 " هامش.
([14]) نحيل إخواننا الكرام بالرجوع إلى كتاب " تاريخ الجزائر في القديم والحديث " بأجزائه الثلاثة للعلامة المجاهد مبارك بن محمد الميلي رحمه الله للوقوف على حياة هذا البلد ومعرفة ما لديه من التاريخ عبر تلك العصور الماضية فقد أجاد وأفاد الشيخ رحمه الله بإحياء التاريخ هذا البلد العريق بهذا الكتاب الأنيق ، يقول عنه العلامة المصلح الأستاذ عبدالحميد بن باديس ـ رحمة الله عليه ـ : (( أخي مبارك : سلام ورحمة ، حياك الله تحية من علم وعمل وعلم ، وقفت على الجزء الأول من كتابك " تاريخ الجزائر في القديم و الحديث " ، فقلت لو سميته " حياة الجزائر " لكان بذلك خليقا فهو أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية ، بعد ما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهناك ، وقد نفخت في تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر ، تحفظ اسمك تاجا لها في سماء العلا ، وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين .
أخي مبارك : إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا ، فكيف من أحيا أمة كاملة ؟ أحيا ماضيها و حاضرها ، و حياتهما عند أبناءها حياة مستقبلها ، فليس ـ والله ـ كفاء عملك أن تشكرك الأفراد ، ولكن كفاءه أن تشكرك الأجيال ، وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا ، فسيكون في الأجيال الغابرة كثيرا ، وتلك سنة الله في عظماء الأمة ونوابغها ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .
وأنا ـ واحد من هذا الجيل ـ بلسان من يشعرون بشعوري أشكرك لأقوم بما علينا من واجب لا لأقابل ما لك من حق .
جازاك الله خير ما جازى به العاملين المخلصين للدين والوطن بعلم وتحقيق وانصاف ، والسلام عليك من أخيك .
عبدالحميد بن باديس )) ا.هـ ( مقدمة كتاب تاريخ الجزائر في القديم و الحديث / ج 1 ص 10 )
([15]) وأكبر الشاهد والدليل على ذلك ، أنه لما أظهرت وحملت جبهة الإنقاذ ـ وحق أنها جيهة الإغراق ـ لواء الإسلام وتحكيم شريعته كذبا وخداعا ، فالكثرة الكثيرة من الشعب الجزائري الطيب وضع يده في أيديها وأحسن فيها الظن ووثق فيها أيما ثقة ، ما ذاك إلا رجاء أن تحقق له هذا الطلب والمطلب العزيز الغالي الشريف ، ولكن يا لخيبة الأحزاب البدعية الماكرة كم ضيعوا الأمال المشرفة لهذا الشعب العريق ومطامحه الشريفة المتمثلة في إعزاز دينه وتحكيم شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم في أرجاء أرضه وقعر داره ، فما إن دخلت الأحزاب الترشيحات البرلمانية وذلك في سنة ( 1412 هـ ) ، وفازت جبهة الإنقاذ في الدور الأول لما قد كسبته من أصوات الحشود التي حشدتها لتحقيق أغراضها الدنيئة ومطامعها الخسيسة على غفلة هذه الحشود والجموع فيما تريده منهم الجبهة الفاسدة ، إذ فجأت تتغيَّر أوضاع البلاد ويستقل الرئيس السابق وينفض البساط الذي عليه الجبهة فتذهب أمال أصواتها أدراج الرياح ويخيب سعيها المأمول الذي كان يمنيها للوصول إلى القمة بالأصوات تلك الحشود ، فما كان من خطباء الجبهة حينها إلا أن يتجهوا إلى منابر المساجد مستنفرين الأمة إلى الجهاد يتلثَّم الخطيب كيما يُعرَف، فيشتم ثم يصلي بالناس الجمعة ثم يفرّ! وربما فرَّ قبل الصلاة!! وإذا حضرت الشرطة لم تجد إلا الأبرياء، فتأخذهم بجريرة أولئك الأبطال! أبطال هذه اللعبة الصبيانية ـ وإن رأوها مناورة حركية ـ!! ودخلوا في " مضاربة بلا رمح، وليل بلا صبح " ( انظر إلى كتاب " مدارك النظر " ( ص 128 )
وعندئذ عرف وأفاق الشعب الجزائري ما عليه حقيقة الجبهة وما تريده من الكراسي والفتن والثوارت والانقلابات ، ولكن بعد ماذا ؟ بعد ما ضاع شبابه الكثير في الجبال ، وبعدما خربت كثير من ممتلكات وطنه وثمرة جهود أجداده وأبائه ، وبعدما أزهقت دماء الأبرياء سواء من كان منها في سلك أمن البلاد أو خارج عنه ، وأضحت بلاد الجزائر الجريحة البريئة تتجرع كؤوس سموم نقاق دعاة التحزب ، ولقد صدق من قال: نحن في زمن يصدق عليه وصف القائل: لئن كانت آفة الملوك سوء السيرة، فإن آفة الدعاة خبث السريرة!
([16]) وهذا من أبرز وأقوى أسلحة العدو اليهودي و النصراني لتدمير روح الأمة الإسلامية التي مادة حياتها في غذائها الروحي المتمثل في العلم الموروث فبصفائه ونقائه ومعدنيته وأصالته تقوى الأمة وبفساده وتكدره تنهار قوى الأمة ، فتفطنوا لهذا قبحهم الله فما كان منهم حينئذ إلا أن " يتدخلوا في مناهج التعليم في المدارس والجامعات الوطنية فوضعوا لها منهجا يحقق لهم الأغراض التالية :
أولا : إخراج القرآن والسنة و تاريخ الإسلام من البرامج التعليمية
ثانيا : تخريج أجيال مضطربة دينيا وعقديا مرتبطة بالغرب أكثر من ارتباطها بالإسلام
ثالثا : تجهيل أبناء الإسلام بلغتهم العربية وبالتالي بتراثهم القديم .
وقد استغل النصارى فرصة استعمارهم للعالم الإسلامي وراحوا يتدخلون في مناهج التعليم حتى وضعوا للمدارس الوطنية منهجا يقوم على ما يأتي :
1 ـ اعتبار مادة الدين من المواد الثانوية التي لا تؤثر في نجاح الطالب أو رسوبه ودرجاتها لا تضاف إلى المجموع العام .
2 ـ اعتبار اللغة الإنجليزية والفرنسية هي لغة التدريس لسائر المواد من الابتدائي إلى الجامعة
3 ـ التركيز على إحياء الشعور الوطني والقومي الذي يمزق الشعور الإسلامي
4 ـ العناية بالألعاب الرياضية والأشغال والرسم أكثر من العناية بتدريس الدين الإسلامي
5 ـ وضعوا في العلوم الطبيعية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية نظريات زائفة تعارض بطبيعتها مع الدين
6 ـ وضع تاريخ مشوه للإسلام يدرسه الطلاب مع تحريم تدريس التاريخ الحقيقي للإسلام وفي الوقت ذاته عنى المنهج بالتوسع والإسهاب في دراسة تاريخ الغرب النصراني ... وهذا المنهج الموضوع في دراسة التاريخ هو الذي سعت في تحقيقه اليهود على أرضية الواقع كما ورد في بروتكولات حكماء صهيون أنه جاء عنهم : (( سنقوم بدراس المستقبل بدلا من الكلاسيكيات ، وبدراسة التاريخ الذي يشتمل على مثل سيئة أكثر من اشتماله على مثل حسنة وسنطمس في ذاكرة الإنسان العصور الماضية التي تكون شؤما علينا ولا نترك إلا الحقائق التي ستظهر أخطاء الحكومات في ألوان فاضحة ...
و هم لم يكتفوا بذلك بل سعوا إلى دفع المرأة والزج بها في الاختلاط بالرجال ومزاحمتها لهم في هذه المدارس وغيره من المجالات الحياتية ، وأدعوا أن الاختلاط ضرورة من أجل تهذيب الأخلاق والرقة وحسن المعاشرة ولطف الحديث ودماثة الطبع ، كما دفعوها إلى التبرج وإظهار زينتها ومفاتنها تحت عنوان براق وهو " تحرير المرأة " ، وانشأوا لها بيوت الأزياء العالمية التي يديرها حفنة من اليهود الذين يتفننون في إظهار مفاتن المرأة وجمالها عن طريق الموديلات الجديدة في العالم أربع مرات مع الفصول الأربعة تحت عنوان " الموضة " التي تجري وراءها المرأة لاهثة تبحث عن آخر خطوطها ، ومن خلال الموضة دفعوها إلى السفور والكشف عن وجهها وذراعيها وفخذيها .
كما دعا أعداء الإسلام في المجتمعات الإسلامية عن طريق الإذاعة والتمثيلية والقصة الأدبية والتليفزيون والسينما إلى تحرير المرأة والرجل من قيود الزواج والانطلاق في خلق علاقات جديدة مثل الزمالة والصداقة والمخادنة والزنا وشاعت في المجتمعات الإسلامية نظريات فرويد التي جعلت الإنسان حيوانا هائجا ليس له من هم إلا إشباع شهوته وأهوائه ، ( فرويد ) الذي يقول عنه اليهود في محاضر جلساتهم السرية : (( يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا، إن فرويد منا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس ويصبح همه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنتهي أخلاقه ))
كما حاولوا تأخير سن الزواج في المجتمعات الإسلامية بطريقة أو بأخرى حيث صورت أجهزة الإعلام في الأفلام والتمثليات الزواج على أنه كلفة ومشقة وأعداد معدودة من الحجرات وأكوام من الذهب والأدوات الكهربائية وغير ذلك مما جعل الشباب ينتظر حتى يصل إلى هذا المستوى الفاره ، فتأخر سن الزواج في المجتمعات الإسلامية إلى ما يقارب من ثلاثين سنة بعد أن كان الشباب يتزوج حين يبلغ سن الرشد إحصانا لفرجه وإعفافا لدينه بصرف النظر عن الكلفة والجهاز وغير ذلك مما صوره لنا أعداء الإسلام ، وتأخير سن الزواج في غاية الخطورة حيث لا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة وأن تضعف القدرة على ضبط النفس وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضعا السخرية ويختفى الحياء الذي كان يفضى على الجمال جمالا .
ويصبح الرجال يتفاخر بتعداد خطاياهم وتطالب المرأة بحقها في مغامرات غير محددة لكي تكون على قدم المساواة مع الرجال ، والذي يساعد ذلك تلك الأفلام والمسرحيات ووسائل الإعلام التي تجسد الجنس في أعين الشباب وتدعوهم إليه ليلا ونهارا ، وبذلك تضيع العفة ويختفى الحياء وينطلق الشباب في مجونهم ولهوهم يبحثون عن علاقات أخرى غير الزواج مثل السفاح والبغاء وغير ذلك من الصور التي كانت موجودة في الجاهلية ولم يكن يلجاء إليها إلا أخس خلق الله والقلة والشواذ رغم الجاهلية التي كانت تغشاهم ، فإن العرب على شركهم كانوا يتهالكون في حفظ أحسابهم وأنسابهم وصيانة نسائهم ... ولكن أعداء الإسلام حاولوا أن يعيدوا بين المسلمين كل هذه الصور الجاهلية بديلا من علاقة الزواج الطاهرة الكريمة التي قررها الإسلام
وهكذا سعوا إلى تحطيم وتلويث طهارة هذا المجتمع الإسلامي الطاهر النقي بتعالميه السامية بتلك المبادئ الهدامة المدمرة ، فماركس يقول : " إن المرأة لابد أن تعمل " ، ودور كايم يقول : " إن الزواج ليس فطرة " ، وفرويد يقول " إنها لابد أن تحقق كيانها تحقيقا جنسيا خالصا من القيود " ، والرأسماليون و اليهود يدفعونها إلى العمل تحت عنوان تحقيق الذات وتحرير المرأة " .
فانخدعت المجتمعات الإسلامية بهذه التضاليل فخلطت النساء بالرجال في كل مجال من المجالات الحياتية في المدرسة وفي الجامعة وفي العمل وفي وسائل النقل ، فضاعت الأعراض وفسدت النفوس وتهدمت البيوت وقيم المجتمع الإسلامي والله المستعان . " انتهى النقل من كتاب " أحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام " / ص 153 ، و ص 206 ـ 209 / مع شيء من الإختصار والتقديم والتأخير على حسب ما يقتضيه الحال )
([17]) " الجرح والتعديل " (2 / 32) للإمام الحافظ أبى محمد عبد الرحمن بن أبى حاتم ـ رحمهما الله ـ
([18])" ترتيب المدارك وتقريب المسالك " ( 1 / 33) للعلامة القاضي عياض ـ رحمه الله ـ
([19]) فما بال أقومنا الآن يؤخذونا دينهم عن العوجاء والعمياء والعرجاء ويصغون إلى كل من هب ودب مما كان سببا في الجروح والألام التي أبتلينا بها في تلك العشرية السوداء ، وللأسف لا يزال إلى الآن ممن هو يحسن الظن بفيروساتهم المتسلفة من أمثال بن حنفية وأبي إسحاق الحويني ومحمد حسان وأبي الحسن المأربي والله المستعان
([20]) وإذا أردت يا أيها القارئ الكريم أن تقف على فضائح القوم الطائحة فارجع يحفظك الله إلى كتاب " إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان " ( ج 2 / ص 1020وما بعدها ) للعلامة الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ ، لتضحك ما هم فيه من الغباء والشقاء عافني الله وإياك ، وأن دينهم مبني على معاندة العقول والشرائع وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم ، فكيف والحالة هذه نرجوا منهم أن يخدموا أهل الإسلام ودينهم الحنيف ؟!!
هذا يدل على أن قومنا الذين أنخدعوا بهم وبتنظماتهم وأنظمتهم وإنجازاتهم أغبى منهم والله المستعان
([21] ) ومن ذلك ما ذكره صاحب " مدارك النظر " ( 270 ـ 271 ) عن علي بن حاج وسلمان العودة
أنه قال : (( قال ـ ابن حاج ـ في رسالته إلى وزير الاتصال المؤرخة في ( 22 جمادى الأولى 1415هـ ) في ق (26) : (( ومن الأمور المحسومة عند الغرب أن السلطة لا تُنال إلا عن طريق اختيار الشعب في حرية تامة! .. ومن ذلك قالوا بمشروعية الثورة على المستبد ... ويوم أن استقرّ هذا المبدأ في فكر المجتمع الغربي استقرت الأوضاع السياسية عندهم!! وعمَّ الأمن!!! )) ا.هـ
وقال في الحاشية فيما نقله عن سلمان العودة : قلتُ: مثله قول سلمان العودة في شريط " الأمة الغائبة "ـ وهو يتحدَّث عن المجتمعات الغربية الديمقراطية ـ : (( ولهذا يعيشون أوضاعاً من الاستقرار لا تعيشها البلاد الأخرى على الإطلاق!! )) ا.هـ .
وقال عن ابن حاج ( ص 271 ) : وما زال به الشيطان حتى أقنعه بأن بضاعته لا تروج إلا إذا نسبها إلى الإسلام ولذلك قال:صراحة في ق (26): (( نعم! في الغرب قد يَنال المواطن أو رجل الإعلام من رئيس الدولة ولا يملك ذلك الرئيس أن يتخذ ضده أي إجراء، فهل استفادوا من إسلامنا وأضعناه؟! )) ا.هـ
وقال في الحاشية فيما نقله عن سلمان : ومثله قول سلمان العودة مشيداً ومنبهراً بالحرية الغربية: (( وكما أسلفتُ: الإعلام الناضج هو أفضل الوسائل في كشف الفضائح ووضع النقاط على الحروف؛ كما هو الحال عند الغرب!! )) من شريط له بعنوان ( حقوق الإنسان في الإسلام )
([22]) فهذه المنقبة قد فاز بها وظفر على عقبتها الحسنة أئمة التجديد والإصلاح الذين شُهد لهم بالخيرية في الأمة وأنى لأهل التشغيب في الدين والإطاحة بالشعوب قلامة الظفر منها
([23]) انظر إلى كتاب " دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي " ( ص 27 ، و 70 ) للدكتور محمد بن عبدالله السلمان
([24]) انظر إلى " دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي " ( 75 ) وما بعدها
([25]) كتاب " أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها " ( ص 19 ـ 32 ) للعلامة محمد حامد الفقي رحمه الله
([26]) " أحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام " ( ص 95 )
([27]) منقول عن العلامة المجاهد محمد بن هادي ـ حفظه الله ـ من حاشية صفحات كتاب " المورد العذب الزلال "( ص 212 )
([28]) " الفتاوى الجلية عن المناهج الدعوية " ( 39 ـ 42 )
([29]) ومن الخطأ أن نتلفظ ونقول عن السفر من بلاد الإسلام إلى بلاد الغرب الكافر بأنه هجرة ، فإن هذا يعد من القلب للحقائق الشرعية فانتبه لهذا يا أيها المسلم .
يقول الإمام ناصرالدين الألباني ـ رحمه الله ـ في " السلسلة الصحيحة " (5 / 299 ـ 300) : (( قلت : و نحوه : ( التغرب ) : السفر إلى بلاد الغرب و الكفر، من البلاد الإسلامية إلا لضرورة و قد سمى بعضهم بـ ( الهجرة ) ! و هو من القلب للحقائق الشرعية الذي ابتلينا به في هذا العصر ، فإن( الهجرة ) إنما تكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام . و الله هو المستعان . )) ا.هـ
([30]) "سلسلة الأحاديث الصحيحة " (6 / 848)
([31]) منقول من كتاب " الإرهاب وآثاره السيئة على الأفراد والأمم " ( 62 ـ 64 ) للعلامة الفقيه زيد بن محمد بن هادي المدخلي حفظه الله
رابط للتحميل هذا الجزاء بصيغة ptf
http://www.islamup.com/download.php?id=162249
رد: تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
ما فائدة من " الجرح والتعديل " يا بن حنفية إن لم يحفظ به السنة وأصولها ويوظف في كشف بهرج البدعة و أهلها ؟!
ـ قال بن حنفية في كتابه " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " (ص 05 ) : (( استعمال الجرح والتعديل وهو من أعظم العلوم التي هدى الله المسلمين إليها ، لتكون من وسائل حفظ الدين كما وعد الله به ، فإن أصل الدين إنما يحفظ بالإسناد الذي هو من خصائص هذه الأمة ، استعماله في غير الوجه المشروع ، أو تجاوز القدر المشروع منه ، ومن غير من هم أهل لأن يتحدثوا في هذا الأمر الخطير ، حتى إنه اتخذ مطية للطعن في العلماء واستنقاصهم وتناول أعراض الأحياء منهم والأموات ، وإذا وزن هذا العمل بميزان الشرع فإنه ليس إلا من الغيبة المحرمة المتدثرة بدثار الجرح والتعديل ... هذا مع أننا لا نخالف في ضرورة الاحتياط لدين الله ، ببيان المنهج الحق ، والتنبيه على المناهج الضارة والتحذير من المروجين لها القائمين على نشرها ، لكن هذا إنما يقوم به أهل العلم ، فيتكلمون بالقدر الذي يحقق المصلحة ... ))
أقول :
إن كل من قرع مسامعه كلام بن حنفية هذا وإطلع عليه وهو غير عارف بحقيقة منهجية التلفيق واللفيف والتجميع والتمييع التي ركب مطيتها الرجل ، ليغتر به ويستسلم لمجمله فيندفع لسانه والحالة هذه إلى شكره وتحسين نثره([1] ) ، لما قد حواه من السنية وإنطوى عليه من الأحقية .
أما من خبر حاله وصبر أقواله ووقف على أعماله يدرك أن كلامه هذا ما هو إلا من جنس الحق الذي أريد به الباطل ، وأنه من الألفاظ الشرعية والمصطلحات العلمية التي أستعملها أئمة الحديث والسنة لأغراض شرعية حسنة مليحة ، ولكن بن حنفية ومن كان على شاكلته أستعملوها ووظفوها في أغراض قبيحة ، لنصرة باطلهم وحماية رموزهم ، فأوقعتهم هذه البلية في تحريف الكلام عن مواضعه المرعية والتخريف على عقول عباد الله ، ظانين أن حقيقة المراد هذه الألفاظ والمصطلحات هي على ما أرادوه منها وأن ذلك هو مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فحادوا بذلك عن الصراط المستقيم من حيث يظنون أنهم على الجادة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى " ( 1 / 243) : (( وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الصَّحَابَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَيُخَاطِبُهُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَادَتَهُمْ فِي الْكَلَامِ وَإِلَّا حَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَنْشَأُ عَلَى اصْطِلَاحِ قَوْمِهِ وَعَادَتِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ ثُمَّ يَجِدُ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ الصَّحَابَةِ فَيَظُنُّ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ الصَّحَابَةِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَا يُرِيدُهُ بِذَلِكَ أَهْلُ عَادَتِهِ وَاصْطِلَاحِهِ وَيَكُونُ مُرَادُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّحَابَةِ خِلَافَ ذَلِكَ . وَهَذَا وَاقِعٌ لِطَوَائِفَ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَآخَرُونَ يَتَعَمَّدُونَ وَضْعَ أَلْفَاظِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى مَعَانِي أُخَرَ مُخَالِفَةٍ لِمَعَانِيهِمْ ثُمَّ يَنْطِقُونَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مُرِيدِينَ بِهَا مَا يَعْنُونَهُ هُمْ وَيَقُولُونَ : إنَّا مُوَافِقُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ والْإسمَاعِيليَّة وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ . )) ا.هـ
وإلا فاعلم ـ أرشدك الله لطاعته ـ ما راج الباطل على كثير من الخلق وطمس عليهم رونق الحق وجوهره العتيق ، إلا بسبب وقوفهم عند ظواهر الألفاظ وحسن ظنهم الزائد فيها وعدم تأمل حقيقتها وما يتوصل من ورائها ، فلذا يتحايل أهل الباطل بإخراج باطلهم في قالب شرعي وألفاظ شرعية ، ويلبسونها ثوب الحق على جسم الباطل ،" فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس فيعتقد صحتها ، وأما صاحب العلم واليقين فإنه لا يغتر بذلك بل يجاوز نظره إلى باطنها وما تحت لباسها فينكشف له حقيقتها ومثال هذا : الدرهم الزائف فإنه يغتر به الجاهل بالنقد نظرا إلى ما عليه من لباس الفضة ، والناقد البصير يجاوز نظره إلى ما وراء ذلك فيطلع على زيفه ، فاللفظ الحسن الفصيح هو للشبهة بمنزلة اللباس من الفضة على الدرهم الزائف والمعنى كالنحاس الذي تحته ، وكم قد قتل هذا الاعتذار من خلق لا يحصيهم إلا الله !([2] ) "
وهكذا بن حنفية بعدما جال وطاف في كواليس النذالة وكتب الضلالة يتقفر فنونها المستفحشة ويقتطف من ثمارها المرة ويستجمع من أطعمتها العفنة المستقبحة ، متستمدا منها مادة حياته الروحية إلى أن أشتد ساعده وقوي عضده ، إذ هو كذلك يظن أن ما أقتطفه واستجمعه سيخدم مسيرته وينفع أمته ، ولكن يا خيبة أماله وفضاحة حاله وقباحة مأله أن تلك الثمار والأطعمة التي هي مادة قوى مسيرته ، قد ظهر وتجلى في الواقع المشاهد أنها ما هي إلا ثمار وأطعمة مسمومة نتنة قد أفتضح أمرها وأتضح حال مروجوها ، وخاصة بعد ظهوروانفجار الصحوة العلمية التي حظي بها شباب الأمة الإسلامية في هذه الأزمنة ، ومن حظهم أن سخر الله تعالى لهم نخبة نبيلة شريفة من أئمة السنة والحديث أصحاب العقيدة السلفية النقية الصافية من ينعش هذه الصحوة ويتعهد زرعها من أمثال شيخ الشيوخ شيخ الإسلام عبدالعزيز بن باز والإمام المجدد عبدالله القرعاوي والإمام المحدث العلم القدوة المجدد ناصرالدين الألباني والعلامة المجاهد حمود التويجري والعلامة المحدث حماد الأنصاري والإمام المفسر الأصولي محمد الأمين الشنقيطي والإمام الفقيه العلامة محمد بن صالح العثيمين والمحدث العلامة المجدد مقبل بن هادي الوادعي والعلامة المجاهد القدوة محمد آمان الجامي والمحدث العلامة القدوة أحمد بن يحيى النجمي وغيرهم رحمهم الله وحفظ الأحياء ومنهم المحدث العلامة عبدالمحسن العباد والفقيه العلامة القدوة صالح الفوزان والفقيه العلامة صالح اللحيدان والإمام المحدث المبجل القدوة ربيع بن هادي المدخلي .
فهؤلاء الأئمة الأعلام الجحاجحة وإخوانهم من أهل السنة والجماعة ممن لم نذكرهم كم أحيا الله تعالى بهم قلوب أهل الحق وأمات بهم قلوب أهل الزيغ والنفاق ، فكم بددوا من غيوم الباطل وهتكوا من أغلفة الضلال الكثيفة الكثيرة التي طالما سترها وأخفاها وغطاها أهل الباطل بزخارف كثيرة وشبه عدة هي أوهى من بيوت العنكبوت لسيطرة على عقول عباد الله ، ومن ذلك ما أرجفوا به على الأمة الإسلامية من "أن باب الاجتهاد والنظر قد أغلق وأنه ما بقي إلا التمذهب والتقليد "، و"أن باب الجرح والتعديل أنقطع وأغلق " وهلم جرا من الشبه " التي تدهش السامع أول ما تطرق وتأخذ منه وتروعه كالسحر الذي يدهش الناظر أول ما يراه ويأخذ ببصره ، وكصولة المبطل الجبان الذي يحمل أول أمره على خصمه وهكذا شبه القوم كلها هي كحبال السحرة وعصيهم التي خيل إلى موسى { أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } ([3] )، فهكذا الحجة الحق تبطل جميع الشبه الباطلة التي هي للعقول كحبال السحرة وعصيهم للأبصار"([4] ).
فإذا كان كذلك فلنسلط سلطان الحق على إزهاق هاتين الشبهتين الملعونتين التي طالما عطلت وشلت عقول شباب الأمة الإسلامية وأضحت أمرها بيد أهل البدع والضلال والزنادقة والعلمانيين واليهود والنصارى يقلبونها ويحركونها كما يشاؤون فنقول :
أما بيان الشبهة الأولى : قولهم :" إن باب الاجتهاد والنظر قد أغلق وأنه ما بقي إلا التمذهب والتقليد " ، أو لم يكفيهم في بيان وهاء هذه الشبهة الملعونة قوله تعالى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف : 03 ] ، وقوله سبحانه تعالى { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51 ] "وقوله تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }[الأنعام:153]، وقال تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً } [ آل عمران : 103]، فهذه النصوص كلها تبطل التقليد وتحرمه.
وقال تعالى في ذم المقلدين: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [البقرة:170] ، وقال تعالى: { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف:22 ]
وقد استدل أئمة السنة والإسلام بهذه الآيات ونظائرها على تحريم التقليد على من يستطيع أن يفهم نصوص الكتاب والسنة سواء كان من أهل الاجتهاد أو من أهل الاتباع ، وقرروا أن التقليد إنما يجوز للعاجر عن إدراك الحق من الكتاب والسنة وأن التقليد كالميتة أصلها حرام وإنما يجوز للمضطر أكلها.
ولقد علمت أن أئمة الإسلام حرموا على الناس أن يقلدوهم، وأن منهم من يقول لا يجوز لأحد أن يأخذ بقولي حتى يعلم من أين أخذت ، ويقول الإمام الشافعي : (( إذا خالف قولي قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط )) ، ويقول الإمام أحمد : (( لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا )) .
وقرر علماؤنا أئمة السنة القاعدة المعروفة المنسوبة إلى الإمام مالك : (( كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم )) ، وقالوا : (( إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ))، كل ذلك منهم محاربة للتقليد .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يجيب عن سؤال وجه إليه حول التقليد : (( الحمد لله ، قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .
واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه ، وذلك هو الواجب عليهم ، فقال أبو حنيفة : هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت ،فمن جاء برأي خير منه قبلناه ، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع ، وصدقة الخضروات ، ومسألة الأجناس ، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك ، فقال : رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت .
ومالك كان يقول : إنما أنا بشر أصيب وأخطيء ، فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة ، أو كلاماً هذا معناه .
والشافعي كان يقول : إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط ، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي .
وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال : مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء .
والإمام أحمد كان يقول : لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا ، وكان يقول : من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال ، وقال : لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) ، ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً ، فيكون التفقه في الدين فرضاً ، والتفقه في الدين : معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً في الدين ، لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره ، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه ، وأما القادر على الاستدلال فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقاً ، وقيل : يجوز مطلقاً ، وقيل : يجوز عند الحاجة ، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال ، وهذا القول أعدل الأقوال ([5] )، والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزي والانقسام ، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة ، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه )) ا.هـ ([6] )
وكم ألف العلماء من المؤلفات في ذم التقليد وحذروا منه ودعوا الناس إلى اتباع الكتاب والسنة ."([7] )
ولكن قد يقول القائل فما السبيل للعامي الذي ليس له الأهلية ولا الألية التي تمكنه من النظر والاستدلال ومعرفة مخارج كلام الأئمة إن لم يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة ؟
نقول : قد كفى ووفى وشفى كل من الإمام ابن القيم والإمام محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمهما الله ـ في بيان هذه العلة العليلة ، فدونكها يا طالب العزيز و العالي الغالي :
يقول العلامة ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين" (4 / 517 ـ ) : (( هل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا ؟
فيه مذهبان : أحدهما : لا يلزمه وهو الصواب المقطوع به إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره . وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأ أهلها من هذه النسبة ، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال ويكون بصيرا بالمذاهب على حسبه أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوي إمامه وأقوله .
وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة بل قال أنا شافعي أوحنبلي أوغير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول كما لو قال أنا فقيه أونحوي أوكاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله .
يوضحه : أن القائل إنه شافعي أومالكي أوحنفي يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال .
فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى ، والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره ولا يلزم أحدا قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره
وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام وهم أعلى رتبة وأجل قدرا وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك ، وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة .
فيالله العجب ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمة الإسلام وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأمة والفقهاء .
وهل قال ذلك أحد من الأئمة أودعا إليه أودلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه والذي أوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامه ، لا يختلف الواجب ولا يتبدل وإن اختلفت كيفيته أوقدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضا تابع لما أوجبه الله ورسوله .)) ا.هـ
ويقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه " أضواء البيان " ( 7/ 353 ) : (( اعلم أنه لا يخفى علينا أن المقلدين التقليد الأعمى المذكور ، يقولون :
هذا الذي تدعوننا إليه وتأمروننا به من العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على آراء الرجال من التكليف بما لا يطاق ، لأنا لا قدرة لنا على معرفة الكتاب والسنة حتى نعمل بهما ، ولا يمكننا معرفة شيء من الشرع إلا عن طريق الإمام الذي نقلده ، لأنا لم نتعلم نحن ولا آباؤنا شيئاً غير ذلك ، فإذا لم نقلد إمامنا بقينا في حيرة لا نعلم شيئاً من أحكام عباداتنا ولا معاملاتنا ، وتعطلت بيننا الأحكام إذ لا نعرف قضاء ولا فتوى ولا غير ذلك من الأحكام إلا عن طريق مذهب إمامنا ، لأن أحكام مدونة عندنا وهي التي نتعلمها ونتدارسها دون غيرها من الكتاب أو السنة وأقوال الصحابة ومذاهب الأئمة الآخرين .
ونحن نقول : والله لقد ضيقتم واسعاً ، وادعيتم العجز ، وعدم القدرة في أمر سهل ، ولا شك أن الأحوال الراهنة للمقلدين التقليد الأعمى ، للمذاهب المدونة تقتضي صعوبة شديدة جداً في طريق التحول من التقليد الأعمى إلى الاستضاءة بنور الوحي ، وذلك إنما نشأ من شدة التفريط في تعلم الكتاب والسنة والإعراض عنهما إعراضاً كلياً يتوارثه الأبناء عن الآباء والآباء عن الأجداد ، فالداء المستحكم من مئات السنين لا بد لعلاجه من زمن طويل .
ونحن لا نقول : إن الجاهل بالكتاب والسنة يعمل بهما باجتهاده ، بل نعوذ بالله من أن نقول ذلك .
ولكنا نقول : إن الكتاب والسنة يجب تعلمهما ، ولا يجوز الإعراض عنهما وأن كل ما علمه المكلف منهما علماً صحيحاً ناشئاً عن تعلم صحيح وجب عليه العمل به ، فالبلية العظمى إنما نشأت من توارث الإعراض عنهما إعراضاً كلياً اكتفاء عنهما بغيرهما ، وهذا من أعظم المنكر وأشنع الباطل .
فالذي ندعو إليه هو المبادرة بالرجوع إليهما بتعلمهما أولاً ثم العمل بهما والتوبة إلى الله من الإعراض عنهما .
ودعوى أن تعلمهما غير مقدور عليه ، لا يشك في بطلانها عاقل ، ونعيذ أنفسنا وإخواننا بالله أن يدعوا على أنفسهم أن على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا يمنعهم من فهم كتاب الله ، لأن ذلك قول الكفار لا قول المسلمين قال الله تعالى { حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 1 - 5 ] .
فاحذر يا أخي وارحم نفسك أن تقول مثل قول هؤلاء الكفرة وأنت تسمع ربك يقول : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 17 - 22 - 23 - 40 ] ، ويقول : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ الدخان : 58 ] ، ويقول { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب } [ ص : 29 ] ، فلا تخرج نفسك من عموم أولي الألباب الذين هم أصحاب العقول ، لأنك إن فعلت ذلك اعترفت على نفسك أنك لست من جملة العقلاء .
وعلى كل حال فلا يخلو المقلدون ، التقليد الأعمى ، من أحد أمرين :
أحدهما: ألا يلتفتوا إلى نصح ناصح ، بل يستمرون على تقليدهم الأعمى ، والإعراض عن نور الوحي عمداً .
وتقديم رأي الرجال عليه ، وهذا القسم منهم لا نعلم له عذراً في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا في قول أحد من الصحابة ، ولا أحد من القرون المشهود لهم بالخير ، لأن حقيقة ما هم عليه ، هو الإعراض عما أنزل الله عمداً مع سهولة تعلم القدر المحتاج إليه منه ، والاستغناء عنه بأقوال الأئمة ، ومن كان هذا شأنه وهو تام العقل والفهم قادر على التعلم فعدم عذره كما ترى .
الأمر الثاني : هو أن يندم المقلدون على ما كانوا عليه من التفريط في تعلم الوحي ، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويبادروا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ويشرعوا في ذلك بجد . تائبين مما كانوا عليه من التفريط قبل ذلك ، وهذا القسم على هدى من الله . )) ا.هـ
وما أحسن وأروع ما قاله الإمام محمد بن إسماعيل الأمير ـ رحمه الله ـ إذ يقول ([8] ):
وأقبـح مـن كل ابتـداع سمعتـه ...... وأنكاه للقلب المولع للرشد
مذاهب من رام الخلاف لبعضها .... يعض بأنياب الأساود والأسد
ويعــزي إليــه كل مــا لا يقولــه ...... لتنقيصه عند التهامي والنجد
وليس له ذنب سوى أنه غــدا ..... يتابع قول الله في الحل والعقد
لئن عده الجهال ذنبا فحبــذا ...... به حبذا يوم انفرادي في لحدي
علا ما جعلتم أيها الناس ديننا .... لأربعة لا شك في فضلهم عندي
هم علماء الأرض شرقا ومغربا ..... ولكن تقليدهم في غد لا يجدي
ولا زعموا حاشاهم أن قولهم ..... دليل فيستهدي به كل من يهدي
بل صرحوا أنا نقابل قولـهم .... إذا خالف المنصوص بالقدح والرد
ولكن هذا لا يعني يا أهل الإسلام أن نهدر كلام أئمة الإسلام ونتجاسر عليهم ونهدم إنجازاتهم الجبارة العظيمة التي خدموا بها السنة وعلومها ، ونسلط السفهاء والرويبضات على علومهم وتراثهم وأحكامهم ، فيسعون فيها بالتخريب والرد بحجة " لا نقلّد ونقول الحق " كما قالها المأربي المفسد الفوضي .([9] )
كلا والله وألف كلا ، وحاشا بعدما منّ الله علينا بهذا الخير العميم والمنهج السلفي العظيم ، فإنه من الفخر ودواعي السرور أن نحمد الله الرحمن الرحيم الكريم الجواد الوهاب على هذه العقيدة السلفية المباركة التي ربت فينا إحترام أهل العلم وتوقيرهم وتبجيلهم ولو أخطأوا ، نعم نرد خطأهم ونبين الصواب و لكن لا نتخذهم أربابا من دون الله ، أما أن نطرح كلامهم ولا نستفد منه ولا نوقرهم فإن هذا لمن سبيل المغضوب عليهم ويعد " جهل وحمق ـ ورب الكعبة ـ فمن ذا الذي يستغني عن ( فتح الباري ) للحافظ ابن حجر مثلا وكذا ( شرح صحيح مسلم ) للحافظ النواوي وأمثالها لغيرهم من علماء الإسلام ـ رحمهم الله ـ " ([10] ) ، ورحم الله الإمام القدوة ابن القيم إذ أتحفنا بشيء من الدرر واللطائف ما في هذا الباب مما لا غنى لأهل الإسلام عنها وبخاصة طالب العلم والسنن ، إذ يقول في كتابه " الروح " (ص 264) : (( الفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها :
أن تجريد المتابعة : ألا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا برأيه كائنا من كان ، بل تنظر في صحة الحديث أولا ، فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا فإذا تبين لك لم تعدل عنه ولو خالفك من بين المشرق المغرب
ومعاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به ولو لم تعلمه فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله ورسوله بل أذهب إلى النص ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعا ولكن لم يصل إليك .
هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة : إنه اعلم بها منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك فهلا وافقته إن كنت صادقا فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك فمتبعهم حقا من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم .
فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم .
ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ولذلك سمى تقليدا بخلاف ما استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى .
قال الشافعي : اجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد )) ا.هـ
وكذا للإمام المبجل ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ كلاما نحو هذا الكلام إذ يقول في كتابه " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " ( 61 ـ 62 ) : (( ويزعم آخرون أن معنى هذا الذي تدعون إليه من الاتباع للسنة وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها ترك الأخذ بأقوالهم مطلقا والاستفادة من اجتهاداتهم وآرائهم
فأقول : إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب بل هو باطل ظاهر البطلان كما يبدو ذلك جليا من الكلمات السابقات فإنها كلها تدل على خلافه وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب دينا ونصبها مكان الكتاب والسنة بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع أو عند إرادة استنباط أحكام لحوادث طارئة كما يفعل متفقهة هذا الزمان وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية والنكاح والطلاق وغيرها دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة ليعرفوا الصواب منها من الخطأ والحق من الباطل وإنما على طريقة ( اختلافهم رحمة ) وتتبع الرخص والتيسير أو المصلحة - زعموا - وما أحسن قول سليمان التيمي رحمه الله تعالى :" إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " رواه ابن عبد البر ( 2/ 91 - 92 ) وقال عقبة : " هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا "
فهذا الذي ننكره وهو وفق الإجماع كما ترى .
وأما الرجوع إلى أقوالهم والاستفادة منها والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح فأمر لا ننكره بل نأمر به ونحض عليه لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة
قال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى ( 2 / 172 ) : " فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء - فجعله عونا له على اجتهاده ومفتاحا لطرائق النظر وتفسيرا لجمل السنن المحتملة للمعاني - ولم يقلد أحدا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها واقتدى بها في البحث والتفهم والنظر وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرؤوا أنفسهم منه فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح وهو المصيب لحظه والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم .
ومن أعف نفسه من النظر وأضرب عما ذكرنا وعارض السنن برأيه ورام أن يردها إلى مبلغ نظره فهو ضال مضل ومن جهل ذلك كله أيضا وتقحم في الفتوى بلا علم فهو أشد عمى وأضل سبيلا "
فهذا هو الحق ما به خفاء .... فدعني عن بنيات الطريق )) ا.هـ
فبهذا البيان والإضاح يا إخوتاه ـ حفظكم الله ـ تنحل تلك العقد التي عقدها ونفث فيها الشيطان من أن بيان الخطأ من أخطأ من المعظمين كائنا من كان يعد ذلك طعنا فيه وتنقيصا من منزلته وهضما من مكانته ، وناسوا أولئك الذين أثرت فيهم تلك النفثات والنفخات من أن دين الله أعظم من كل معظم !!
قال الإمام القدوة الألباني ـ رحمه الله ـ في كتابه "صفة الصلاة " (63 ـ 64) : (( ثم إن هناك وهما شائعا عند بعض المقلدين يصدهم عن اتباع السنة التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها وهو ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب والتخطئة معناها عندهم الطعن في الإمام ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز فكيف في إمام من أئمتهم ؟!
والجواب : أن هذا المعنى باطل وسببه الانصراف عن التفقه في السنة وإلا فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل : " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد "رواه البخاري ومسلم ، فهذا الحديث يرد ذلك المعنى ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل : " أخطأ فلان " معناه في الشرع : " أثيب فلان أجرا واحدا " فإذا كان مأجورا في رأي من خطأه فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه ؟!
لا شك أن هذا التوهم أمر باطل يجب على كل من قام به أن يرجع عنه وإلا فهو الذي يطعن في المسلمين وليس في فرد عادي منهم بل في كبار أئمتهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم فإننا نعلم يقينا أن هؤلاء الأجلة كان يخطئ بعضهم بعضا ويرد بعضهم على بعض ، أفيقول عاقل : إن بعضهم كان يطعن في بعض بل لقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ أبا بكر رضي الله عنه في تأويله رؤيا كان رآها رجل فقال صلى الله عليه وسلم له : " أصبت بعضا وأخطأت بعضا " رواه البخاري ومسلم ، فهل طعن صلى الله عليه وسلم في أبي بكر بهذه الكلمة
ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه أنه يصدهم عن اتباع السنة المخالفة لمذهبه لأن اتباعهم إياها معناه عندهم الطعن في الإمام وأما اتباعهم إياه - ولو في خلاف السنة - فمعناه احترامه وتعظيمه ولذلك فهم يصرون على تقليده فرارا من الطعن الموهوم
ولقد نسي هؤلاء - ولا أقول : تناسوا - أنهم بسبب هذا الوهم وقعوا فيما هو شر مما منه فروا .
فإنه لو قال لهم قائل : إذا كان الاتباع يدل على احترام المتبوع ومخالفته تدل على الطعن فيه فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وترك اتباعها إلى اتباع إمام المذاهب في خلاف السنة وهو معصوم والطعن فيه ليس كفرا فلئن كان عندكم مخالفة الإمام تعتبر طعنا فيه فمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر في كونها طعنا فيه بل ذلك هو الكفر بعينه - والعياذ بالله منه –
لو قال لهم ذلك قائل لم يستطيعوا عليه جوابا اللهم إلا كلمة واحدة - طالما سمعناها من بعضهم - وهي قولهم : إنما تركنا السنة ثقة بإمام المذهب وأنه أعلم بالسنة منا
وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها وهو جواب فاصل بإذن الله فأقول :
ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة بل هناك عشرات - بل مئات - الأئمة هم أعلم أيضا منكم بالسنة فإذا جاءت السنة الصحيحة على خلاف مذهبكم - وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة - فالأخذ بها - والحالة هذه - حتم لازم عندكم لأن كلمتكم المذكورة لا تنفق هنا فإن مخالفكم سيقول لكم معارضا : إنما أخذنا بهذه السنة ثقة منا بالإمام الذي أخذ بها فاتباعه أولى من اتباع الإمام الذي خالفها . وهذا بين لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى )) ا.هـ
هذا هو شأن أهل السنة والجماعة مع أئمتهم ، فإنهم يوقرونهم ويحترمونمهم ويستغفرون ويدعون لهم ، ويحترمون عقولهم وأحكامهم وينزلونهم منازلهم ولا يدعون فيهم العصمة ولا يغلون فيهم حتى يسلم ويركن لأخطائهم وتصبح دينا يدان بها ويرد ما كان في مقابلها من الحق ، كما هو شأن أهل الضلال والزيغ وغلاة التقليد ، أنه إذا انتقدت أخطاء مناهجهم وشيوخهم و رموزهم قلبوا عليك الدنيا وشهروا سلاح التخويف والترعيد بأنك تبغض الأفاضل وتعاديهم ، وهذا من " أوسع أودية الباطل ... ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم، ويرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك فكان هذا من أعظم ما ساعد على أن انتشار الغلو لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره، ومقتهم الجمهور، وأوذوا فثبطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان، وقريب من هذا حال الغلاة الروافض وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين "([11] )
وهكذا لا يزال هذا السلاح التخويفي الترعيدي يسري في شباب الأمة الإسلامية ويعمل في عمله القاتل لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فما إن تنتقد أخطاء رموز تلك الجماعات والمناهج وإلا وتجيش الجيوش وتهيأ الأسلحة الجائرة لفتك وتحطيم وتشويه من ينتقدهم ويبين مخالفاتهم نصحًا لله، ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، بمثل قولهم أنك تبغض وتطعن في الأفاضل والدعاة وأنك تفرق ، وأن هذا منك ما هو إلا من جنس الغيبة المحرمة وهلم جرا
ويا ليت وريت لو كان هذا الغزو الذي ثاروا ثائرته موظفا في الدفاع عن صلحاء الأمة وأئمتها وشيوخها وعلى رأسهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأئمة الحديث والأثر من بعدهم ـ رضوان الله عليهم ـ ، لشكر عملهم وإمتدح جميلهم ، وأما أن تثور ثائرتهم عن أهل الفساد والإفساد والتنظير الباطل والتأصيل العاطل فهذا مما يندى له الجبين ويتأسف منه أشد الأسف ، لما فيه من تغيير الحقائق وقلب الموازين .
وإلا فليعلم أن صاحب الباطل مهم أفضيت عليه من الألبسة الفضفاضة ـ ولكنها شفافة ـ وستر تلك العورات البينة الظاهرة بالأقمصة ـ ولكنها رقيقة هفافة ـ فلا تغني عنه من الله شيئا ، ولا تحميه من سهام الحق ، ومن ذلك أنه مهم كبر وعظم وانتفخ صاحب الباطل فهو صغير حقير ولو كان كبير السن و كثير العلم
قال الإمام إبراهيم الحربي ـ رحمه الله ـ كما في شرح اعتقاد أهل السنة (1/85رقم103) للالكائي :
(( الصغير إذا أخذ بقول رسول الله والصحابة والتابعين فهو كبير، والشيخ الكبير إن أخذ بقول أبي حنيفة وترك السنن فهو صغير )) ا.هـ .
وقال الإمام البربهاري في شرح السنة (96رقم104) : (( إنما العالم من اتبع العلم والسنن، وإن كان قليل العلم والكتب ومن خالف الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير العلم والكتب . )) ( [12] )
وإذا كان كذلك فأي حرمة تبقى لصاحب الباطل حينئذ ، وأي كرامة تحفظ له ، وأي فضيلة تراعى له وهو يسعى في الأمة بالتخريب والتحطيم بإختراع الأصول الفاسدة وإختلاق المناهج الباطلة ودعوته شباب الأمة لإعتناقها وتبنيها وتمشيتها في أرجاء الأمة الإسلامية بما أتي من أساليب المكر والخبث ، بل قد يستعين في معركته التخريبية حتى بوسائل الماسونية كما عليه الجماعات الحزبية والدعوات البدعية الأنية التي تسعى في تحطيم الدعوة السلفية وإسقاط أهلها وتشويه سمعة حاملي رايتها ، ومن ذلك ما هم فيه من الإندماج والإختلاط بأهل السنة والجماعة وأهل الحديث والأثر وإدعائهم حمل راية السلفية كذبا وزروا و التمشيخ على أئمتها والإنتساب إليهم ، وشتان بين ما عليه أئمة الحديث والسنة من إصلاح أحوال الأمة وما عليه المتسلفة من الأعمال التخريبية و الإطاح بالأمة :
سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرقٍ ومغرب
وإلا فـأحوالهم الفظيعة التي هم عليها تصدق أقوالهم أو تكذبها وهي أكبر شاهد في بيان أحوالهم وأعمالهم قال الإمام الحسن ـ رحمه الله ـ :" ابن آدم لك قول وعمل وعملك أولى بك من قولك ولك سريرة وعلانية وسريرتك أملك بك من علانيتك"([13] )
ومن ذلك لو أحدنا طاف بنظره وجال لحيظات في ما أنجزه وحققه أئمة السنة والأثر من الإنجازات الباهرة والأعمال الظاهرة التي خدمت السنة وعلومها لوجد أنه قد تحقق على أيديهم من المصالح العظيمة والمنافع الجليلة ما نفع الله بها البلاد والعباد وهذا بخلاف ما عليه أهل الضلال والفساد من الأعمال العاهرة التي ما جنت منها الأمة إلا المصائب والمحن والدمار ، ومن المؤسف أنه مع هذا كله إذا نصحوا وذكروا ونبهوا على هذه الأعمال الإجرامية والأساليب الإستدمارية التي هم عليها تجد أحدهم تثور ثائرته وتراه حاله كما قال القائل ( [14] ):تثاءب حتى قلت : داسع نفسه ..... وأخرج أنيابا له كالمعاول
مع إن ـ ويا ليت شعري ـ هذه الأعمال الصادرة منهم ما يتألم منها إلا هم وأولادهم وأمتهم وأنها ما تخدم إلا عدوهم اليهودي والنصراني والعلماني والملحد ، ولكن لا حياة لمن تنادي .
بل يود أحدهم أن لا ينتقد إلى أن يموت ويوارى عليه التراب ، بل لو انتقد أحدهم ولو بعد ذلك لأصيب أتباعه بالجنون وملؤوا الدنيا بالصياح والعياط والتباكي لماذا تنتقدونه ؟ لهذا تجد كل من انتقد منهم لا يرجع عن أخطائه أبداً لا هو ولا أتباعه ،و كأن ديننا غير دينهم ، وإلا أين هم من منهج سلفنا الصالح أهل الحديث فإنه كان أحدهم "يرشح لطلب الحديث وهو طفل، ثم ينشأ دائباً في الطلب والحفظ والجمع ليلاً ونهاراً ويرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان ويقاسى المشاق الشديدة كما هو معروف في أخبارهم ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث ويسمعوا منه ويرووا عنه، وفي (تهذيب التهذيب/ 11/ 183 ) :« قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كنت قاضياً وأميراً ووزيراً ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي من ذكرت رضي الله عنك » وفيه ( 6 / 314) : « روي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فتعلقت بالكعبة وقلت: يا رب مالي أكذاب أنا؟ أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت فجاءوني »
وقد علم طالب الحديث في أيام طلبه تشدد علماء الحديث وتعنتهم وشدة فحصهم وتدقيقهم حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه فوجدوه خارج بيته يتبعوا بغلة له قد انفلتت يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها فلاحظوا أن المخلاة فارغة فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا أنه كذاب كذب على البغلة بإيهامها أن المخلاة شعيراً والواقع أنه ليس فيها شيء.
وفي (تهذيب التهذيب/ 11/ 284 ) :« وقال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام فكنت أول من بكر عليه فسألته أن يملي علي شيئاً فأخذ الكتاب يملي فإذا بإنسان يدق الباب فقال الشيخ من هذا؟ ... فإذا بآخر يدق الباب قال الشيخ من هذا؟ قال: يحيى بن معين، فرأيت الشيخ ارتعدت يده ثم سقط الكتاب من يده. وقال جعفر الطيالسي عن يحيى بن معين: « قدم علينا عبد الوهاب ابن عطاء فكتب إلى أهل البصرة: وقدمت بغداد وقبلني يحيى ابن معين والحمد لله » "([15] )
ومن ذلك ما رواه الإمام الحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخه " (9 / 42) أنه قال : أخبرنا البرقاني أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي أخبرنا عبد الله بن محمد بن سيار قال سمعت إبراهيم بن الأصبهاني يقول :
(( كان أبو داود الطيالسي بأصبهان فلما أراد الرجوع أخذ يبكى فقالوا له يا أبا داود ان الرجل إذا رجع إلى أهله فرح واستبشر وأنت تبكي فقال إنكم لا تعلمون إلى من أرجع إنما ارجع إلى شياطين الإنس علي بن المديني وبن الشاذكوني وبن بحر السقا يعنى عمرو بن علي )) ([16] )
و ذكر الإمام الذهبي في " السير " (10 / 148) عن أحمد بن منصور الرمادي أنه قال : (( خرجت مع أحمد ويحيى إلى عبد الرزاق خادما لهما، قال: فلما عدنا إلى الكوفة، قال يحيى بن معين: أريد أن أختبر أبا نعيم، فقال أحمد: لا ترد، فالرجل ثقة، قال يحيى: لا بد لي ، فأخذ ورقة، فكتب فيها ثلاثين حديثا وجعل على رأس كل عشرة منها حديثا ليس من حديثه، ثم إنهم جاؤوا إلى أبي نعيم، فخرج، وجلس على دكان طين، وأخذ أحمد بن حنبل، فأجلسه عن يمينه، ويحيى عن يساره، وجلست أسفل الدكان، ثم أخرج يحيى الطبق، فقرا عليه عشرة أحاديث، فلما قرأ الحادي عشر، قال أبو نعيم: ليس هذا من حديثي، اضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني، وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث الثاني، فقال أبو نعيم: ليس هذا من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث، ثم قرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم، وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى، فقال: أما هذا - وذراع أحمد بيده - فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا - يريدني - فأقل من أن يفعل ذاك، ولكن هذا من فعلك يا فاعل ، وأخرج رجله، فرفس يحيى، فرمى به من
الدكان، وقام، فدخل داره، فقال أحمد بن حنبل ليحيى: ألم أمنعك وأقل لك: إنه ثبت، قال: والله، لرفسته لي أحب إلي من سفرتي )) ا.هـ
فهذا الحق ليس به خفاء ... فدعني من بُنيات الطريق
ولكن أهل الضلالة وأصحاب المطامع الدنيوية ومن يهرول وراء الرياسة ومن سماته الكبر والغطرسة لا يهنأ لهم العيش والتعايش مع قواعد المنهج السلفي المبارك التي وضعها سلفنا الصالح أئمة الحديث والأثر للحماية والحفاظ على هذا الدين الحنيف لأنها تفضح مطامعهم السيئة وتكشف مأربهم الدنيئة ، فما يكون منهم والحالة هذه إلا أن يسعوا في إجاد وإصطناع أساليب ووسائل تميت هذه القواعد السلفية المباركة إما بكتمانها وإخفائها ،أو دفنها نهائيا ، فإن لم يكن ذلك كله فيسعون في تضعيف وتنويم صلاحيتها ومنافعها في الأمة الإسلامية إما بتغييرها وتبديلها وإحداث مناهج وقواعد ومصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان ولا عرفها سلفنا الصالح ، بل ما تفظن لها حتى أهل البدع الأوئل ، فإن لم يجدوا إلى ذلك مطمعا أبقوها على ما هي عليه ولكن يستخدمونها ويستعملونها في غير ما وضعت له ، ومن ذلك أن أئمة الحديث والأثر وضعوا قوانين علم الجرح والتعديل وبينوا ضوابطه ومسائله وأداب حملته وأحكموا ذلك أيما إحكام جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، و أيضا وضحوا أحكام الغيبة وفصلوا ما هو غيبة وما ليس كذلك، وأيضا بينوا أحكام وضوابط معاملة المخالف سواء من كان منهم في دائرة الإسلام أو خارجا عنها وبخاصة بيان فقه معاملة أهل البدع والفرقة من هجرهم وعدمه ومن الأخذ عنهم العلم وعدمه وإلى غير ذلك من الأحكام ، مما هو موضح ومشاع في كتب العقائد وفتاوى أئمة السنة والجماعة ، فلما علم وأيقن أهل الضلال والفساد أنه ليس لهم بد من دفنه وكتمانه فما كان منهم إلا أن يسعوا في تحريف وتغيير حقائقها التي وضعت من أجلها ، فتكلموا في هذا العلم وشوشوا وشغبوا وسلطوا سلاح الإجمال والتعميم فيه فقالوا :
1ـ إن الغيبة حرام ، ولكن ماذا يقصدون بالغيبة ؟ ومن هم الذين وقعت عليهم الغيبة ونزكوا ؟
2 ـ الجرح والتعديل له أهله ، من أهله الذين يقصدونهم ؟ وفمن وظف هذا العلم ؟
3 ـ ينبغي إحترام العلماء والفضلاء، من العلماء والفضلاء الذين يقصدونهم ؟
وإلى غير ذلك من التعميمات والإجمالات والتهويلات التي أرغدوا وأزبدوا بها على شباب الأمة من أجل تخويفهم وسيطرة على عقولهم ، وسنعرف حقائق كذبها وغبشها أثناء طرحنا وفضحنا للعبة والتمثيلية التي لعب دورها بن حنفية في هذه المسرحية الضائعة الفاضحة
...يتبع إن شاء الله
([1]) أي : أخلاطه التي التي استنثرها على الأمة الإسلامية في قالب الحق
([2] ) " مفتاح دار السعادة " (1 / 443)
([3]) (طه : 69 – 67 )
([4]) " الصواعق المرسلة " (1462) للعلامة الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ
([5] ) قال العلامة المفسر الأصولي محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في كتابه "أضواء البيان (7 / 355)
(( لا خلاف بين أهل العلم، في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاما غير أحكام الاختيار, فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحا حقيقيا، فهو في سعة من أمره فيه ، وقد استثنى الله جل وعلا، حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هي من أغلظ المحرمات، تحريما وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به, فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة، فأخرجها من حكم التحريم ، قال تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145] ، وقال في الأنعام أيضا: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] ، وقال تعالى في النحل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:115] ، وقال تعالى في البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173] ، وقال تعالى في المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3].
وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطرارا حقيقيا، بحيث يكون لا قدرة له البتة، على غيره مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلا على الفهم, أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم.
أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجا؛ لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد ، أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة, لأنه لا مندوحة له عنه ، أما القادر على التعلم المفرط فيه, والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي, فهذا الذي ليس بمعذور. )) ا.هـ
([6]) "مجموع فتاوى " (20/210-212) .
( [7]) " نصيحة أخوية إلى الأخ الشيخ فالح الحربي الأولى والثانية " للعلامة المحدث ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله
( [8]) منقول من كتاب " قمع المعاند وزجر الحاقد الحاسد " ( 2 / 471 ) للعلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي
([9]) يا لها من مقولة فظيعة ووسواسة شنيعة ويكفي ما هي عليه من الوضيعة أنها ذريعة لإسقاط ورد أحكام أئمة السنة والأثر التي بينوا بها حال الجماعات الحزبية وما هي عليه من الإنحرافات وكشفوا بها أحوال أفرادها وما هم عليه من الشطحات .
([10] ) انظر إلى كتاب " الإقناع بما جاء عن أئمة الدعوة من أقوال في الاتباع " ( 116 ) للعلامة الشيخ محمد بن هادي المدخلي
([11]) " التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل " (1/ 184)
([12]) "صيانة السلفي من وسوسة وتلبيسات الحلبي " ( الحلقة الثامنة عشر ) للشيخ الفاضل أحمد بازمول
( [13]) " مدارج السالكين " (1 / 436)
([14]) كتاب " دلائل الإعجاز " ( ص 151 )
([15]) " التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل " (1/ 30)
([16]) "سير أعلام النبلاء "( 10 / 681)
رد: تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
لقد ظهر شرف الجرح والتعديل وفضله في الأمة الإسلامية وأبرزت أهميته في حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ به قد عرف صحيحها من السقيم والموضوع المختلق الذي أدخل عليها ، وبه عرف أحوال رواتها على تفاوت درجاتهم على ما هم عليه من الضبط والإتقان وما هم فيه من الضعف والترك ، وما هم عليه من السنة والبدعة .
ومن خيرية هذه الأمة المحمدية أنها قد اختصت بهذا المنهج المبارك على من سواها من الأمم السابقة ومن سعادتها أنه منهج قائم ومستمر فيها إلى يوم القيامة ـ إن شاء الله ـ لأنه منهج إسلامي صحيح تقوم عليه حياة المسلمين ويقوم عليه دينهم ويحمي به دينهم وتحمى بها أعراضهم وتحمى به أموالهم ، هذا منهج عظيم في الإسلام لا يحط من شأنه إلا إنسان منحرف فاسد التصور والتفكير "([1] )
ألا وأنه من أفحش الجرائم وأبشع المنكرات التي قد ظهرت في هذه الأزمنة وانخدع بها من انخدع من الأغبياء والجهلة في هذه الآونة أنه قد نبتت نابتة خبيثة تزعم : بأن علم الجرح والتعديل علمه منحصر وخاص بالرواة ، أما أهل البدع والأهواء لا يدخلون في منهج أهل الحديث وقواعده وأصوله .
ولا يخفى على كل من له أدنى معرفة بمنهج أهل الحديث والأثر ، وما طفحت به كتب الجرح والتعديل و التراجم والتاريخ و العقائد من بيان عقائد أهل الضلال والأهواء ومن الرد عليهم أفرادا وجماعات ليرد ويهدم ذلك الباطل المفضوح، و إلا فمن كتم هذا و زعم غير ذلك فقد خان الله ـ تبارك وتعالى ـ وخان رسوله صلى الله عليه وسلم وخان الإسلام وفتح الباب على مصراعيه لأهل الباطل ولأهل البدع والضلال أن يجروا الناس إلى النار والعياذ بالله .
فباب الجرح في أهل البدع والضلال وغيرهم مفتوح وواجب كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ([2]) في
" مجموع الفتاوى" (28 / 231) : (( وَإِذَا كَانَ النُّصْحُ وَاجِبًا فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ : مِثْلَ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَغْلَطُونَ أَوْ يَكْذِبُونَ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْت مَالِكًا وَالثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ - أَظُنُّهُ - وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ فِي الْحَدِيثِ أَوْ لَا يَحْفَظُ ؟ فَقَالُوا : بَيِّنْ أَمْرَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيَّ أَنْ أَقُولَ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا ، فَقَالَ : إذَا سَكَتّ أَنْتَ وَسَكَتّ أَنَا فَمَتَى يُعْرَفُ الْجَاهِلُ الصَّحِيحُ مِنْ السَّقِيمِ . وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ ؟ فَقَالَ : إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا أَفْضَلُ .
فَبَيَّنَ أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَشِرْعَتِهِ وَدَفْعِ بَغْيِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْلَا مَنْ يُقِيمُهُ اللَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ لَفَسَدَ الدِّينُ وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِنْ فَسَادِ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا اسْتَوْلَوْا لَمْ يُفْسِدُوا الْقُلُوبَ وَمَا فِيهَا مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا وَأَمَّا أُولَئِكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ الْقُلُوبَ ابْتِدَاءً . )) ا.هـ
ولقد فند شيخنا الإمام المحدث المجاهد القدوة ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ شبه هذه الضلالة وزلزل أباطيلها وكشف عوار أهلها بما يكفي ويشفي في عدة مقالاته المكتوبة ومجالسه المسموعة جزاه الله عن المسلمين كل خير ، ومن ذلك ما جاء عنه في مقاله " أئمة الحديث ومن سار على نهجهم هم أعلم الناس بأهل الأهواء والبدع ومشروعية الجرح والتعديل من الأكفاء لم تنقطع " أنه قال : (( إن أول من قال بهذا في حدود علمي التاج السبكي معترضاً على الإمام الذهبي , حيث انتقد بعض الأشاعرة كالفجر الرازي وغيره في كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال .
قال الإمام الذهبي في هذا الكتاب : " الفخر بن الخطيب صاحب التصانيف رأس في الذكاء والعقليات لكنه عري من الآثار وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين ثورت حيرة , نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا , وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم سحر صريح فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى " اهـ
قال الحافظ ابن حجر : " وقد عاب التاج السبكي على المصنف ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب , وقال : إنه ليس من الرواة , وقد تبرأ المصنف من الهوى والعصبية في هذا الكتاب , فكيف ذكر هذا وأمثاله , ممن لا رواية لهم كالسيف الآمدي وقد اعتذر عنه بأنه يرى القدح في هؤلاء من الديانة وهذا بعينه التعصب في المعتقد" .
انظر إلى السبكي كيف يرمي الذهبي بالتعصب في المعتقد، وينكر عليه ذكر الرازي وأمثاله في كتابه الميزان , والميزان في نظره خاص بالرواة , وهذا اعتراض باطل دافعه الهوى والتعصب لأمثاله من أهل الأهواء , فلم يشترط أحد من أئمة الجرح والتعديل تخصيص الجرح بالرواة فقط من حيث الرواية فقط، بل تناولوا الرواة من جهة الرواية ومن جهة المعتقد , فالراوي المبتدع أخطر عندهم من الراوي السليم من البدع , لذا ترى الأئمة لم يكتفوا بذكر أهل البدع في كتب الجرح والتعديل , بل ذهبوا ينتقدونهم ويجرحونهم ويبينون فساد عقائدهم ومناهجهم لشدة خطورتهم في كتب مستقلة وهي كثيرة معلومة لدى العلماء وطلاب العلم.
ولقد قلد السبكي أناس , فأخرجوا أهل البدع من باب الجرح والتعديل , وقالوا: إن الجرح والتعديل في الرواية والرواة فقط .
ومع أن كلام السبكي باطل فرأيه أهون وأخف من رأي هؤلاء , لأنه استنكر على الإمام الذهبي إيراده لبعض أهل البدع الذين لا علاقة لهم بالرواية في كتاب يراه خاصاً بالرواة , فلو أوردهم في غيره فلعله لا يجد مجالاً لهذا الاعتراض فيحجم عن الاعتراض .
أما هؤلاء مع الأسف فيرون الجرح والتعديل خاصاً بالرواية والرواة فقط وهذه كارثة والله.
ومنهم من يرى أن الجرح قد انتهى بعصور الرواية , وهذه كارثة أخرى ......
وكتب أئمة الجرح والتعديل زاخرة ببيان أهل البدع وبيان عقائدهم وأحوالهم, وكذا مؤلفات أئمة الحديث في العقائد مليئة ببيان أحوال أهل البدع طوائف وأفراداً وهم العلماء حقاً .
قال الإمام أحمد : " الذي لا يميز بين صحيح الحديث من سقيمه ليس بعالم".
فهل بقي مجال للقول بأن أهل البدع لا يدخلون في جرح أئمة الحديث ولا في أصولهم .
ولا يتنقص أهل الحديث وينتقص علومهم إلا جاهل ضال مفتر .
والجرح والتعديل هم أئمته وهم مرجع علماء الأمة فيه من مفسرين وفقهاء وهم الذين تصدوا لأهل البدع فكشفوا عوارهم وبينوا ضلالهم من خوارج وروافض ومعتزلة ومرجئة وقدرية وجبرية وصوفية , ولا يزالون قائمين بهذا الواجب العظيم , ولا يزال باب الجرح والتعديل قائماً ومفتوحاً ما دام هناك أهل حق وأهل باطل وأهل ضلال وأهل هدى , ولا يزال الصراع قائماً بين الطائفة المنصورة ومن خالفها من أهل الضلال ومن خذلها , " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خلفهم حتى يأتي أمر الله ".
ومن قال : إن باب الجرح والتعديل قد انتهى فقد غلط غلطاً كبيراً , ولا تزال أقلام أهل السنة تتدفق بنقد وبيان حال أهل البدع من روافض وخوارج ومعتزلة وصوفية وأشعرية , وأحزاب منحرفة , وبيان بدعهم وضلالاتهم . )) ([3] )
هذا هو حال الصنف الأول مع هذا المنهج المبارك الذي يحمى به الإسلام وأهله ، وهناك صنف آخر ما إن يسمع لفظة النقد والجرح إلا وتصيبه رعدة ورعشة ، وتجده يتحسس من هذا المنهج القرآني النبوي كالذين إِذَا " جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ "([4] )، وذلك من تزيين الشيطان لأعمالهم وما هم عليه من الضلال ، فتجد أحدهم حينذاك مندفعا مشغبا ومشوشا على هذا المنهج الإسلامي الرباني قائلا : " لابد من ذكر الحسنات والسيئات عند نقدك لأخطاء الجماعات والأفراد " و" نصحح ولا نهدم "
و " نأخذ الحق ونترك الباطل " و " التأليف لا الهجران " وبعبارة أوضح "لا نجعل اختلافنا في غيرنا سببًا للخلاف بيننا " و " أن لحوم العلماء مسمومة وجرحهم وتنقصهم ما هو إلا من باب الغيبة المحرمة المتدثرة بدثار الجرح والتعديل "
وهلم جرا من تلك الشبه الواهية التي أخترعها واصطنعها أهل الضلال والغواية لحرب وهدم أصول علم الجرح والتعديل والتشغيب على أهله ، ومن المؤسف الشديد أن هذه الأصول الفاسدة والقواعد الكاسدة قد وجدت في هذه الآونة متنفسا في المجتمع السلفي من يبثها وينشرها معلنا ببضاعتها غير مستخف بباطلها كما هو شأن وحال بن حنفية ، وأشد من ذلك وأنكى أنها قد وجدت أذانا صاغية ومن يتلقفها ويتبناها من شباب أهل السنة فضاعوا في مستنقعاتها والله المستعان
ومن ذلك ما هرف به بن حنفية في كتابه " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " ( ص 11 ) : (( إذ لا ضير على المسلم القادر على تمييز الحق من الباطل أو الرجوع إلى أهل العلم الموثوقين ليسألهم عما يحتاج إليه أن يقرأ ما شاء كيف وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التحديث عن بني إسرائيل فقال : " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار " لكنه قال أيضا : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ..." الآية ، أما إن وجد عند بعض من لا يميل إليهم ما هو حق فاستشهد به ، فإنه لا ضير فيه ، إذ الاستشهاد بقول أحد لا يعني صلاح عقيدته ولا يدل على تزكية له ، ومن ثم فلا محذور فيه ما دام حقا ، وقد ذهب كثير من العلماء إلى قبول رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته ....وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة :"أما أنه قد صدقك وهو كذوب " ))
وقال في " العجالة " ( 1 / 54 ) : (( واعلم أني إذا أثبت كلاما لبعض الناس ولم أتعقبه فلأني أراه ولست مجرد متابع له وقد يكون غير معتمد في أمور أخرى في العقيدة خصوصا أو فيها وفي غيرها وقد رميت من وراء ذلك إلى أن لا تقام الحواجز بين المسلمين في أخذ بعضهم عن بعض كما دأب عليه فريق من الناس في هذا العصر ))
أقول : فبهذين النقلين عن الرجل يتبين للقارئ الحصيف حقيقة منهجية الرجل ويظهر له حقيقة ذلك الإجمال والتلبيس الذي تضمنه قوله : " استعمال الجرح والتعديل وهو من أعظم العلوم التي هدى الله المسلمين إليها ، لتكون من وسائل حفظ الدين كما وعد الله به ... استعماله في غير الوجه المشروع ، أو تجاوز القدر المشروع منه... ، حتى إنه اتخذ مطية للطعن في العلماء واستنقاصهم وتناول أعراض الأحياء منهم والأموات ، وإذا وزن هذا العمل بميزان الشرع فإنه ليس إلا من الغيبة المحرمة المتدثرة بدثار الجرح والتعديل "
وينكشف له أن هذا الأخير ما هو إلا ستار ولحاف أراد أن يستر به عورة قوله " إذ لا ضير على المسلم القادر على تمييز الحق من الباطل أو الرجوع إلى أهل العلم الموثوقين ليسألهم عما يحتاج إليه أن يقرأ ما شاء " وقوله " وقد رميت من وراء ذلك إلى أن لا تقام الحواجز بين المسلمين في أخذ بعضهم عن بعض كما دأب عليه فريق من الناس في هذا العصر"
وعليه فنقول لذاك المسكين المغفل الذي انخدع بسلفية الرجل الوهمية المزعومة وأسجد سمعه لما يلقه عليه بن حنفية من الهراء والخزعبلات ، أليس ما ذكره وصرح به هنا من دعوتك لأخذ وتلقي العلم من أهل البدع والضلالة هو عين ما نادي به القطبية وأهل البدع قديما وحديثا !!؟
ومن ذلك ما قاله أحمد الصويان : (( فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الصدق للشيطان الذي ديدنه الكذب فلم يمنع ذلك من تقبل الخير الذي دل عليه )) ([5] )
فإذا عرفت هذه الحقيقة يا أُخي ـ حفظك الله ورعاك ـ فكن من أياس من سلفية الرجل المزعومة ، واعلم أن هذا دين لا يؤخذ عن من هب ودب ، بل يتطلب له الثقات العدول ، أصحاب المعتقد الصحيح السليم ، والمنهج المستقيم ، وإياك بعد هذا أن تركن سمعك وتعير قلبك لكل نطيحة ومتردية وما أكل السبع ، فتخسر دنياك وأخرتك وأنت لا تشعر ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أما ما لابد من بيانه وتجليته مما أرجف به بن حنفية من دعوته الأخذ عن أهل البدع فسيكون ـ بعون الله وتوفيقه ـ على النحو التالي :
أولا : لقد اهتم المنهاج النبوي المبارك بأصل بيان صفاء المنبع الذي يتلقى منه أهل الإسلام دينهم المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة ، فبينه أيما بيان وحث عليه ورغب فيه وبيان ما يضاده ويصد عنه ، ومن ذلك ما جاء عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ : " أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال : أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها نقية لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " ([6] )
وقال الله تعالى في محكم تنزيله: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعـرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } [ الأنعام : 86]
وقال تعالى: { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيـات الله يكفر بها ويستهزأ بهـا فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم، إن الله جامـع المنافقـين والكافريـن في جهنم جميعاً} [النساء : 140]
قال ابن عون: كان محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى – يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهـواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلـت فيهم:{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} (الإبانة لابن بطة / 2 / 431 )
وعن ليث بن أبي سُليم عن أبي جعفر قال: " لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله " ( تفسير الطبري / 7 / 229 ) و ( تفسير القرطبي / 7 / 12 )
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري في تفسيره(5 / 330): " وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم "
عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:(( سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم )) (مقدمة صحيح مسلم / 1 / 12 )
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالـت: (( تـلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم - هذه الآية :{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغـاء تأويلـه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنـا به كل من عنـد ربنا وما يذكر إلا أولو الألبـاب}(آل عمران : 07)، قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -:(( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منـه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم )) متفق عليه
فبين لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم - أن طريق النجاة من البدع هو الحذر والتحذير منها، واجتنابها واجتناب أهلها وهجرهم.
فهجر أهل البدع ومنابذتهم من أعظم أصول الدين التي تحفظ على المسلم دينه وتقيه شر مهالك البدع والضلالات.([7] )
وقد اهتم سلفنا الصالح الطاهر بهذا الأصل العظيم، وأولـوه بالغ العناية، فما من مصنف من مصنفاتهم في العقيدة والحديث والتراجم والتاريخ وآداب الطلب إلا وتجدهم قد نبهوا عليه ، بل قد انعقد إجماعهم قاطبة على ترك النظر في كتب أهل البدع وهجرهم وإذلالهم ومنابذتهم .
قال أبو القاسم الأصبهاني في كتابه " الحجة في بيان المحجة " ( 236) فيما نقله عن أحمد بن عبدالغفار بن أشتة أن أبا منصور معمر بن أحمد أنه قال : (( ثم من السنة ترك الرأي والقياس في الدين ، وترك الجدال والخصومات وترك مفاتحة القدرية وأصحاب الكلام وترك النظر في كتب الكلام وكتب النجوم ، فهذه السنة التي اجتمعت عليها الأئمة ، وهي مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تبارك وتعالى )) ا.هـ
وقال العلامة ابن مفلح المقدسي في " الآداب الشرعية " (1 / 261 ) : (( وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ النَّظَرِ فِي كُتُبِ الْمُبْتَدِعَةِ قَالَ : كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ وَالِاسْتِمَاعِ لِكَلَامِهِمْ
إلَى أَنْ قَالَ : وَإِذَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ وَمَنْ اتَّبَعَ سُنَّتَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مُتَّفِقِينَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَتَرْكِ عِلْمِ الْكَلَامِ ، وَتَبْدِيعِ أَهْلِهِ وَهِجْرَانِهِمْ ، وَالْخَبَرِ بِزَنْدَقَتِهِمْ ، وَبِدْعَتِهِمْ ، فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِهِ وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إلَيْهِ مُلْتَفِتٌ ، وَلَا يَغْتَرَّ بِهِ أَحَدٌ . )) ا.هـ
ولزيادة الإطلاع على ما جاء عن سلفنا الصالح في هذا الباب فإني أرشد القارئ الكريم بالرجوع إلى كتاب
" إجمــاع العلمـاء على الهجـــر والتحذير من أهل الأهواء " ( ص 89 ومن بعدها ) للشيخ الفاضل خالد الظفيري ـ حفظه الله ـ فقد أجاد وأفاد في ذكر ونقل ما جاء عن سلفنا أئمة الحديث والسنة في بيان هذا الأصل ، وقد أبان ووضح هذا في قوله : (( والآثـار عن السلف في معاملة أهل البدع والتحذير من البدع وأهلها كثيرة جداً، فالسلف - رحمهم الله - على هذا مجمعون متفقون في كل الأعصار والأمصار، وقد نقل هذا الإجماع عدد من أهل العلم، وقد أفردت له فصلاً مستقلاً.)) ا.هـ([8])
فإذا عرفت ذلك يا أيها الشاب المسلم ، إياك وأن تغتر بزبالات القوم وما دسوه من السموم في قالب الحق ، وما زخرفوا به باطلهم ، فإن ذلك لا يقاوم نصوص القرآن والسنة والإجماع فضلا أن يكون حجة ، ولا يغني من الحق شيئا ، وإن الخير كل الخير في إتباع من السلف واقتفاء أثارهم واهتداء بهديهم ، والشر كل الشر في إتباع من الخلف وانخداع بضلالهم واستسلام لحيلهم ، ودائما وأبدا تذكر وتنبه يا أخي وأنت في هذه الحياة العملية أن قيمة دينك في صفاء علمه وطهارة منبعه وسلامة نقلته من البدع وصحة معتقدهم ونقاوة سلوكهم وعلو سندهم ، فإذا كان كذلك فدونك بعض الآثار السلفية التي تشحذ همتك وتنير طريقك وتعينك على سيرك فتكون على بصيرة من أمر دينك ،وهي تحث وتبين الصفات والخلال التي يؤخذ منهم العلم ومن لا يؤخذ منهم العلم .
فقد عقد الإمام محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه النفيس " الآداب الشرعية " ( 2 / 138) " فَصْلٌ : فِي صِفَاتِ مَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْحَدِيثُ وَالدِّينُ وَمَنْ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ "
و ذكر تحته جمع من الآثار السلفية تبينه فقال منها :
قَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : إنَّمَا يَحْيَا النَّاسُ بِالْمَشَايِخِ ، فَإِذَا ذَهَبَ الْمَشَايِخُ فَمَاذَا بَقِيَ ؟
وَقَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِي تَسْمِيَةِ مَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ ، قَالَ الْبُخَارِيُّ : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : إنَّمَا النَّاسُ بِشُيُوخِهِمْ فَإِذَا ذَهَبَ الشُّيُوخُ فَمَعَ مَنْ الْعَيْشُ ؟
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : الْعِلْمُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ؟ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صحيحه
ومَالِكٌ لِرَجُلٍ : اُطْلُبْ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : إنَّك امْرُؤٌ ذُو هَيْئَةٍ وَكِبَرٍ ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ ؟
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ عَمَّنْ سِوَاهُمْ ، لَا يُؤْخَذُ عَنْ مُعْلِنٍ بِالسَّفَهِ ، وَلَا عَمَّنْ جُرِّبَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ ، وَلَا عَنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إلَى هَوَاهُ ، وَلَا عَنْ شَيْخٍ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا : إنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ، لَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ سَبْعِينَ مِمَّنْ يَقُولُ قَالَ فُلَانٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ ائْتُمِنَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ فَمَا أَخَذْت مِنْهُمْ شَيْئًا ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ ، وَيَقْدَمُ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ شَابٌّ فَنَزْدَحِمُ عَلَى بَابِهِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ : كَمْ مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ لَوْ لَمْ يُحَدِّثْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ .
وَقَالَ أَيْضًا : مَا رَأَيْت الْكَذِبَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيمَنْ يُنْسَبُ إلَى الْخَيْرِ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : لِأَنَّهُمْ اشْتَغَلُوا بِالْعِبَادَةِ عَنْ ضَبْطِ الْحَدِيثِ وَإِتْقَانِهِ ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِمْ الْكَذَّابُونَ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِمْ ، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ تَوَهَّمُوا أَنَّ فِي وَضْعِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَجْرًا ، وَجَهِلُوا مَا فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَبِيرِ الْإِثْمِ .
وَقَالَ بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ : دِينُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُطْلَبَ عَلَيْهِ الْعُدُولُ .
وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ : كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى سَمْتِهِ ، وَإِلَى صَلَاتِهِ ، وَإِلَى حَالِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ .
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ : لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ إلَّا عَمَّنْ شُهِدَ لَهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِمْ وَعَنْ عُلَمَائِهِمْ وَأُمَنَائِهِمْ ، فَإِذَا أَخَذُوهُ مِنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا .
ثم ذكر بعد ذلك ( ص 141 ): فصل : فِي سَمْتِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْحَدِيثُ وَالْعِلْمُ وَهَدْيِهِمْ .
رَوَى الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى صَلَاتِهِ وَإِلَى سَمْتِهِ وَإِلَى هَيْئَتِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ وَقَدْ سَبَقَ .
وَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ : كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ الْفَقِيهِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى لِبَاسَهُ وَنَعْلَيْهِ .
وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : إلَى الْبَصْرَةِ ، فَقِيلَ لَهُ مَنْ بَقِيَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ آخُذُ مِنْ أَخْلَاقِهِ آخُذُ مِنْ آدَابِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : كُنَّا نَأْتِي الرَّجُلَ مَا نُرِيدُ عِلْمَهُ لَيْسَ إلَّا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ وَدَلِّهِ .
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ يَحْضُرُونَ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوا شَيْئًا إلَّا يَنْظُرُوا إلَى هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ سَمِعْت ابْنَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ : رَأَيْت فِي كُتُبِ أَبِي سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مَذْهَبَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَخْلَاقَهُ ، وَرَأَيْت أَحْمَدَ يَفْعَلُ كَذَا وَيَفْعَلُ كَذَا وَبَلَغَنِي عَنْهُ كَذَا وَكَذَا . ا.هـ
ثانيا : قد اتضح وتبين فيما أسلفنا توضيحه وشرحه آنفا أن قول بن حنفية : "وقد ذهب كثير من العلماء إلى قبول رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته " ما هو إلا سفسطائية الغرض منها تغليط العامة وإسكات أهل الحق ، وهذه السفسطائية قد وجدت روجا كبيرا في صفوف الحزبية والمميعة ، وتلقفها بعض الجهلة والأغبياء ممن ينتسب إلى السنة من باب حسن الظن لما هي عليه من الظاهر ولم يراع ما تحتوي عليه من الباطل والفساد في الباطن ، فظاهر هذه المقولة رحمة وباطنها حيل ومكر وخداع ، وأنى لأعمى البصيرة أن يتفطن لما فيها من العذاب والشقاء ، مع ما قد غلفت به من الشبه والزخارف الكثيرة الكثيفة التي أخفت حقيقة باطلها .
لكن من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده المؤمنين ، وإنجازا لوعده الكريم سبحانه وتعالى المتمثل في حفظ دينه الحنيف أنه قد سخر عبادا أتقياء أمناء مصابيح الدجى وأعلام الهدى تصدوا لهذه السفسطائية فكشفوا عوارها وبينوا حقيقتها كما هو منثور ومنشور في مؤلفاتهم قديما وحديثا ، فلولاهم "لطمست معالم الدين بتلبيس المضلين ولكن الله سبحانه أقامهم حراسا وحفظه لدينه ورجوما لأعدائه وأعداء رسله"([9] ) ، فإذا كان كذلك فلنستعين في تفتيت هذه الشبهة الملعونة وتوضيح ما هي عليه من الباطل بفهمهم وما آتوا به في مؤلفاتهم .
فأقول : إن الذي قرر مسألة " قبول رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته " هم نقلة الأخبار ورواة الآثار ، أئمة الحديث والسنة ، لا أهل البدع والضلالة من الحزبية المميعة ولا الأصاغر والجهلة ، ومع ذلك فقد ضبطوها بضوابط وحدوها بحدود ، هي أثقل ما تكون على أهل الأهواء والبدع ، ولا تتسنى أن تخدم مناهجهم الضالة وذلك
1 ـ إن الغرض والباعث الذي حملهم على أن يرووا عن جلة من المبتدعة الصادقين في روايتهم غير الدعاة والقلة القليلة من الدعاة هو تحقيق مصلحة حفاظ سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجمعها وتدوينها ، وهذا كان في زمان تدوين السنة وجمعها ، أما الآن وفي أزمنتنا هذه فلا وجه لهذا التنظير والتقعيد الباطل الذي ذهب إليه المتحزبة ، لأن السنة والأخبار قد جمعت ودونت في المصنفات من الصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم والمستخرجات والموطآت .
وهم ـ أئمة السنة والحديث ـ في ذلك ينقبون ويفتشون عن أحوال ذاك الراوي من عدالته وضبطه وعدمهما ، ويسبرون مروياته فإن وجدوا أنه قد وافقه غيره فيها من أهل التقى والإتقان والضبط والسنة فلا يلتفتون إليه وما ذاك إلا لإخماد بدعته وإطفاء نارها ، فإن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع توفر الصدق فيه ، وثبوت أنه ممن الذين يتحرزون عن الكذب ، مع اشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته ، ففي هذه الحال ينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته
قال الحافظ السخاوي ـ رحمه الله ـ في " فتح المغيث " (2/ 222 ـ 223 ) : (( قال وأكثر ما علل به أن في الروايه عنه ترويجا لأمره وتنويها بذكره ، وعلى هذا لا ينبغي أن لا يروى عن مبتدع شيء يشاركه فيه غير مبتدع .
قلت : وإلى هذا التفصيل مال ابن دقيق العيد حيث قال : إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخمادا لبدعته وإطفاء لناره يعني : لأنه كان يقال ـ كما قال رافع بن أشرس ـ من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر محاسنه .
وإن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته )) ا.هـ ([10] )
ولا يخفى عليك يا بن حنفية ـ من غير التلبيس ولا التمويه ـ أن ذلك غير متحقق ومتوفر في دعاة أهل البدع في أزمنتنا هذه ، لما قد عرف بأن السنة قد جمعت .
ذكر الحافظ التبريزي ـ رحمه الله ـ في كتابه " الكافي في علوم الحديث " ( 366 ) فيما ذكره عن الحافظ أبي بكر البيهقي رحمه الله أنه قال : (( بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وجمعت في كتب الحديث ، فلا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم ، فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ... )) ا.هـ
فإذا كان الأمر كذلك فما مصلحة إذاً من أخذ العلم عن أهل البدع ، وخاصة إذا عرفنا أن أهل البدع المشار إليهم للأخذ عنهم كلهم دعاة ، بل يعدون من الرؤوس والرموز عند جماعاتهم ولهم مؤلفات ومصنفات قد ملؤوها بالكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والتأصيل الباطل والافتراء على أهل السنة والجماعة بالأباطيل والأكاذيب لغرض تشويه سمعتهم وتلبيس على الأمة الإسلامية كما هو شأن وحال محمد الغزالي ومحمد عبده وغيرهما الذين تنقل عنهم يا بن حنفية .
2 ـ إن الذين رووا عن هؤلاء المبتدعة هم أئمة في السنة والحديث ، ممن يميزون بين صحيح مروياتهم من ضعيفها و ما هو سنة مما هو بدعة ، و يعرفون ما يقوي بدعتهم وما لا يقويها وينخلونها نخلا ، فهم ممن شأنهم التقميش ثم التفتيش، من أمثال الإمام عبدالله بن المبارك ـ رحمه الله ـ الذي يقول :" حملت عن أربعة آلاف ورويت عن ألف "([11] ) ، ومن صنف الإمام يحيى بن معين ـ رحمه الله ـ الذي كتب وجمع الأخبار صحيحها وضعيفها ليعرفها ، كما ذكر ذلك عنه الإمام ابن حجر ـ رحمه الله ـ في "تهذيب التهذيب " ( 1 / 56 ) ، فيما نقله عن الخليلي أنه حكى في " الإرشاد " بسند صحيح ، أن أحمد قال ليحيى بن معين ، وهو يكتب عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبان نسخة : تكتب هذه وأنت تعلم أن أبان كذاب ؟ فقال : يرحمك الله يا أبا عبد الله ، أكتبها وأحفظها حتي إذا جاء كذاب يرويها عن معمر, عن ثابت ، عن أنس ، أقول له : كذبت إنما هو أبان. ا.هـ
وألطف ما جاء في هذا الباب ما ذكره الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب "(2 / 285) عن القاسم بن زكرياء المطرز أنه قال : " وردت الكوفة فكتبت عن شيوخها كلهم غير عباد بن يعقوب فلما فرغت دخلت عليه " ا.هـ
قال الحافظ الذهبي في " السير" (11 / 538) : إسنادها صحيح.
فليتأمل القارئ الكريم في هذه الحكاية يجد أن الحافظ القاسم بن زكرياء كان آخر من كتب عنه من أهل الكوفة عباد بن يعقوب لا هو الأول ، وهو على علم ودراية بحال عباد بن يعقوب ، وبما سيرويه مما يقوي بدعته وما لا يقويها ، وما وافق فيه السنة وما خالفها مما هو من معتقده الرافضي ([12] ).
بهذا نعرف أن ما يقننه الحزبية لصغار الأمة وعامتها من أن يأخذوا عن أهل البدع ما هو حق ويتركوا ما هم عليه من الباطل ، من أبطل الباطل ومضحكة على الأمة الإسلامية ، فانتبهوا لذلك يا أيها الشباب الإسلامي ، فلا تنخدعوا ـ بارك الله فيكم ـ في تلك الشقاشق الباطلة والزخارف الواهية التي تكلم بها من تكلم ، فإن أحسنا فيهم الظن على أقل الشيء يكون حالهم ممن جهل منهج أهل الحديث ، أهل السنن والآثار ، وما كانوا عليه من المنهج القويم والصراط المستقيم .
وإلا فقد أرشد ووضح علماؤنا ـ رحم الله الأموات وحفظ الأحياء ـ أن أول ما ينبغي على طالب العلم وهو في مرحلته الأولى من الطلب ، ينبغي له أن يبدأ بالمختصرات في كل فن ، وأن تكون تلك المختصرات على معتقد أهل السنة والجماعة نقية صافية من الزبالات الكلامية والمعتقدات البدعية ، وأن يكون ذلك على يد شيخ سلفي المعتقد نزيها وبريئا من كل بدعة ، ممن قد "كملت أهليته وتحققت شفقته وظهرت مروءته وعرفت عفته واشتهرت صيانته وكان أحسن تعليما وأجود تفهيما "([13] ) ، وليحذر كل الحذر "في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف العلماء أو بين الناس مطلقا في العقليات والسمعيات فإنه يحير الذهن ويدهش العقل"([14]) ، ثم إذا أتقن تلك المختصرات ينتقل إلى ما هو متوسط في فنها ، ثم إلى المطولات ، فإذا حصلت له ملكة وأهلية ومعرفة تفصيلية على ما كان عليه السلف الصالح في أبواب الاعتقاد و الإيمان له والحالة هذه أن ينظر في مقالات المخالف إذا أراد أن يعرف ما هي عليه من الباطل ، فيكشف زيفها لأمته الإسلامية لتحذر منها وتعرفها ، لا أن يقررها وينقلها على أن أهلها أهل أن يستفاد منهم كما يريده بن حنفية وشرذمته ، وهذا بالطبع كما قلت يكون للمنتهين لا للمبتدئين ، ولكن الحزبية ما يريدون هذا !!
يريدون أن يزجوا ويدفعوا بأولاد الأمة الإسلامية إلى أحضان أهل البدع والضلال لكي يتربوا على أيديهم ويتأصلوا على قواعدهم من نعومة أظفارهم ليكونوا جنودا من جنودهم في المستقبل لهذا تجدهم يقعدون تلك القواعد الضالة والله المستعان
3 ـ إن جل المرويات التي رويت عن أولئك المبتدعة إنما رويت في باب الشواهد والمتابعات ومقرونة بغيرها مع ثبوت صدق راويها ، وقد يكون مرويا عن ذلك الراوي حديثا واحدا أو حديثين ، وهذا بخلاف ما يريده المتحزبة هذا الزمن ، فيريدون من شباب الأمة من بادئ أمرهم وأصل تربيتهم أن تكون على كتب سيد قطب ومحمد عبده والمودودي والغزالي والقرضاوي وهلم جرا من أساطين المدرسة العقلية الثورية الحركية المدمرة للسنة النبوية والأخلاق الإسلامية ، ثم يلبسون على الأمة قائلين بأنه كان"كثيرا من العلماء يذهبون إلى قبول رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته " .
يا لله ما أبشع كذبهم وأفظع خطرهم على الأمة الإسلامية !!
فإذا كنا نحن وإياهم في هذا الباب على الاتفاق بأنه : تقبل رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته كما هو في مظانه .
نقول لهم : أنتم هنا قد خالفتم كلامكم وتناقضتم تناقضا عظيما ، وذلك أنكم دعاة إلى البدعة وتنقلون عن دعاة الذين قد أصلوا وألفوا وصنفوا في البدعة وتريدون من الشباب الأمة أن يكونوا كذلك ، مع ما أنتم فيه من رواية ما يقوي بدعتكم ويخدمها ، فأنتم والحالة هذه أشر وأفسد من الراوي الذي " يروي أحاديث صادقة موافقة لرأيه ثم يكذب في حديث واحد فيفضحه الله تعالى فتسقط أحاديثه كلها ! { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } "([15] )
وبالمناسبة يجدر بي أن أتحف القراء الكرام أهل الإسلام بذكر بعض الرواة الذين ثبتت عنهم بدعة وهم من أهل الصدق ممن قد ذكر الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ رواياتهم مقرونة بغيرها ولها متابعة في صحيحه
أ / أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي : قال البخاري : كان يرى الإرجاء إلا أنه صدوق
قلت ـ الحافظ ابن حجر ـ : له في صحيح البخاري حديث واحد في المغازي في قصة أبي موسى الأشعري أخرجه له بمتابعة شعبة وروى له مسلم والترمذي ([16] )
ب / عثمان بن غياث الراسبي البصري : وثقه العجلي وابن معين وأحمد والنسائي ، وقال أبو داود وأحمد كان : مرجئا ، وقال ابن معين وابن المديني كان يحيى بن سعيد يضعف حديثه في التفسير عن عكرمة .
قلت ـ الحافظ ـ : لم يخرج له البخاري عن عكرمة سوى موضع واحد معلقا ، وروى له حديثا آخر أخرجه في الأدب من رواية يحيى بن سعيد عنه عن أبي عثمان عن أبي موسى حديث القف ورواه في فضل عمر أيضا من رواية أبي أسامة عنه وتابعه عنده أيوب وعاصم وعلي بن الحكم عن أبي عثمان وروى له مسلم وأبو داود والنسائي([17] )
ت / إسحاق بن سويد بن هبيرة العدوي : وثقه بن معين والنسائي والعجلي وقال : كان يحمل على علي بن أبي طالب ، وذكره أبو العرب في الضعفاء فقال : من لم يحب الصحابة فليس بثقة ولا كرامة
قلت ـ الحافظ ـ : له عند البخاري حديث واحد في الصيام مقرونا بخالد الحداء وروى له مسلم وأبو داود والنسائي ([18] )
4 ـ إن كثير من علماء السنة والحديث أجلاء فضلاء أمناء ممن لهم وزنهم الثقيل في السنة ، قد وقعت منهم زلات وعثرات عن اجتهاد وتحري للحق على قدر ما بلغهم من الحق ووصل إليهم ووصلوا إليه ، مع حسن قصدهم في بلوغ إصابة الحق وقعوا فيما وقعوا فيه من تلك الأخطاء عن غير القصد ـ إن شاء الله ـ ، هذا الذي نعتقده في أئمتنا رحمهم الله ، بل نجد كثيرا منهم قد تاب منها لما بلغه الحق بخلاف ما هو عليه من المخالفة ، مع ذلك نجد أنه ما سُكت عن أخطائهم أو داهنهم فيها أقرانهم وتلامذتهم وممن جاء بعدهم ، بل قد أسرع وفزع كل من وقف عليها من أئمة الحديث وطلابه في زمانهم أو ممن جاء بعدهم إلى بيانها وكشفها نصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكتابه وللمسلمين ، بل نجد من أئمة السنة وأساطين الرواية والدراية ونقلة الأخبار من اشتد نكيره وصاح على ذلك المخطئ وترك الكتابة عنه وأمر بهجره ، وعد هذا من مناقبه ، فضلا أن يُغمز من أجل هذا ويطعن فيه بأنه من غلاة التجريح وأنه و أنه كما هو شأن المميعة هذا الزمان ما إن يبين ويحذر أهل السنة والجماعة من أخطاء تلك الجماعات الحزبية ورموزها إلا ويهجم عليهم بأنهم غلاة ، وأنهم فرقة الجرح والتجريح وهلم جرا
بل زيادة على هذه الطعونات الجائرة الظالمة تجدهم يؤصلون تلك التأصيلات البائرة والقواعد المائعة للحفاظ على بدعهم وأهلها كما هو شأن قاعدتهم العوجاء العرجاء :"كثير من العلماء يذهبون إلى قبول رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته " ، وما ذاك إلا للحفاظ على مؤلفاتهم وإحياء تأصيلاتها الباطلة والخوف عليها من الكساد والترك والموت ، وإلا فهذا المنهج المخترع المصطنع الباطل المبطل ما كان يسمع حسه عند سلفنا الصالح ، ولا يقعدون هذه التقعيدات الخبيثة للحفاظ على أخطائهم وشيوخهم ، فكان أحدهم ما إن يقف على حقيقة الحق الذي جانبه وخالفه إلا و تراه يرجع إليه ويدس تلك المخالفة بقدميه ويضرب بها عرض الحائط هكذا كانوا رضوان الله عليهم ، فليس للمميعة والحزبية أي حجة في أخطائهم ، فتكون سببا في اختراع تلك القواعد التي يريدونها من أجل المحافظة على مناهجهم الضالة، بل قد يجد أحدنا أن تلك الأخطاء التي يحتجون بها لقواعدهم الفاشلة لم تثبت على سلفنا أو كما قلنا أنهم قد رجعوا عنها ، فذهبت إذاً حليهم الخبيثة أدراج الرياح ، فمن ذلك
أ / إبراهيم بن طهمان ثقة متقن من رجال الصحيحين ([19] )
قال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (1 / 113) : (( قلت : الحق فيه أنه ثقة صحيح الحديث إذا روى عنه ثقة ولم يثبت غلوه في الإرجاء ولا كان داعية إليه بل ذكر الحاكم أنه رجع عنه والله أعلم ))
ب / شبابة بن سوار : احتج به الشيخان ووثقه غير واحد ، لكن قال الإمام أحمد فيه : داعية إلى الإرجاء و كان يحمل عليه ([20] )
مع أنه قد حكى الحافظ ابن حجر في "هدي الساري مقدمة فتح البارى " (1 / 407) : عن سعيد بن عمرو البردعي عن أبي زرعة أن شبابة رجع عن الإرجاء
ت / حريز بن عثمان الحمصي
جاء في ترجمته من " هدي الساري " ( 396 ) : ((من صغار التابعين وثقه أحمد وبن معين والأئمة لكن قال الفلاس وغيره : أنه كان ينتقص عليا .
وقال أبو حاتم : لا أعلم بالشام أثبت منه ولم يصح عندي ما يقال عنه من النصب
قلت ـ الحافظ ـ : جاء عنه ذلك من غير وجه وجاء عنه خلاف ذلك ، وقال البخاري : قال أبو اليمان : كان حريز يتناول من رجل ثم ترك
قلت ـ الحافظ ـ : فهذا أعدل الأقوال فلعله تاب ))
وقال الحافظ الذهبي في "السير " (7 / 80 ـ 81) : (( وقد قال أبو حاتم: لا يصح عندي ما يقال في رأيه، ولا أعلم بالشام أحدا أثبت منه.
وقال أحمد بن حنبل: حريز ثقة ثقة ثقة، لم يكن يرى القدر.
وقال أبو اليمان: كان ينال من رجل، ثم ترك ذلك.
وقال علي بن عياش: سمعت حريز بن عثمان يقول: والله ما سببت عليا قط.
قلت ـ الذهبي ـ : هذا الشيخ كان أورع من ذلك، وقد قال معاذ بن معاذ: لا أعلم أني رأيت شاميا أفضل من حريز. ))
ث / شيخ الإسلام الفضل بن دكين
جاء في ترجمته من " هدي الساري " (ص 434) : (( الفضل بن دكين أبو نعيم الكوفي أحد الأثبات قرنه أحمد بن حنبل في التثبت بعبد الرحمن بن مهدي ، وقال : إنه كان أعلم بالشيوخ من وكيع ، وقال : مرة كان أقل خطأ من وكيع والثناء عليه في الحفظ والتثبت يكثر ، إلا أن بعض الناس تكلم فيه بسبب التشيع ومع ذلك فصح أنه قال ما كتبت علي الحفظة أني سببت معاوية احتج به الجماعة ))
ج / الإمام وهب بن منبه
جاء في ترجمته من " تهذيب التهذيب " (11 / 148) : (( قال أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن أبيه حج عامة الفقهاء سنة مائة فحج وهب فلما صلوا العشاء اتاه نفر فيهم عطاء والحسن وهم يريدون أن يذاكروه القدر ، قال : فأمعن في باب من الحمد فما زال فيه حتى طلع الفجر فافترقوا ولم يسألوه عن شئ
قال أحمد : وكان يتهم بشئ من القدر ثم رجع
وقال حماد بن سلمة عن أبي سنان سمعت وهب بن منبه يقول : كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الانبياء في كلها من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر فتركت قولي
وقال الجوزجاني : كان وهب كتب كتابا في القدر ثم حدثت انه ندم عليه.
وقال ابن عيينة عن عمرو بن دينار دخلت على وهب داره بصنعاء فاطعمني جوزا من جوزة في داره فقلت له : وددت انك لم تكن كتبت في القدر ، فقال : أنا والله وددت ذلك ))
ح / الإمام المفسر الحافظ عكرمة المدني البربري
فهذا الإمام الكبير ممن قد رمي برأي نجدة الحروري وهو منه برئ
قال الحافظ الإمام أبو عمر ابن عبدالبر في " التمهيد " (2 / 27) : (( عكرمة مولى ابن عباس من جلة العلماء لا يقدح فيه كلام من تكلم فيه لأنه لا حجة مع أحد تكلم فيه وقد يحتمل أن يكون مالك جبن عن الرواية عنه لأنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يرميه بالكذب ، ويحتمل أن يكون لما نسب إليه من رأي الخوارج وكل ذلك باطل عليه إن شاء الله ....
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن إسحاق الطباع قال : سألت مالك بن أنس قلت أبلغك أن ابن عمر قال لنافع لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس ؟
قال : لا ولكن بلغني أن سعيد بن المسيب قال ذلك لبرد مولاه ...
وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل فقال سل عنها عكرمة ، قال فكأني تبطأت فانتزعها من يدي
وقال : هذا عكرمة هذا مولى ابن عباس هذا أعلم الناس ...
عن أيوب قال : قال عكرمة : أرأيت هؤلاء الذين يكذبونني من خلفي أفلا يكذبونني في وجهي ...
وقال أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح الكوفي : عكرمة مولى ابن عباس ثقة وهو بريء مما رماه الناس به من الحرورية ....
قال أبو عبد الله المروزي : قد أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا منهم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور ويحيى بن معين ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال لي عكرمة عندنا أمام الدنيا وتعجب من سؤالي إياه
قال وأخبرني غير واحد أنهم شهدوا يحيى بن معين وسأله بعض الناس عن الاحتجاج بحديث عكرمة فأظهر التعجب
قال المروزي : وعكرمة قد ثبتت عدالته بصحبة ابن عباس وملازمته إياه وبأن غير واحد من أهل العلم رووا عنه وعدلوه وما زال أهل العلم بعدهم يروون عنه
قال : وممن روى عنه من جلة التابعين محمد بن سيرين وجابر بن زيد وطاووس والزهري وعمرو بن دينار ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم قال أبو عبد الله المروزي وكل رجل ثبتت عدالته برواية أهل العلم
عنه وحملهم حديثه فلن يقبل فيه تجريح أحد جرحه حتى يثبت ذلك عليه بأمر لا يجهل أن يكون جرحة فأما قولهم فلان كذاب فليس مما يثبت به جرح حتى يتبين ما قاله )) انتهى بالاختصار
قد أجاد و أفاد الحافظ ابن عبدالبر في ذكر الآثار التي جاءت عن أئمة السنة والحديث في تعديل عكرمة والدفاع عنه فليرجع إلى المصدر لزيادة الإطلاع والمعرفة
وقال شيخنا الناقد الإمام ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ في تعليق وتحقيق كتاب " النكت على كتاب ابن الصلاح " (1 / 287) : (( عكرمة البربري مولى ابن عباس أبو عبد الله ثقة ثبت عالم بالتفسير لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا يثبت عنه بدعة، من الثالثة مات سنة 107 وقيل بعد ذلك. /ع.)) ا.هـ
فبهذه المقتطفات الأثرية الدالة على براءة ممن قد رمي بالبدعة من أئمة السنة وهو منها برئ أو ممن قد ثبتت عنه ثم رجع عنها ، يظهر لنا ويتضح وهاء تلك القصور والعلالي التي بناها الحزبية على شفى جرف هار ، ولربما أرعدوا بها شباب الأمة الإسلامية ، قائلين هآ فلان وفلان وقع في كذا وكذا من البدعة وروى عنه أئمة الصحاح والسنن !!
فلماذا تمنعونا من النقل عن فلان وفلان ، و"تقام الحواجز بين المسلمين في أخذ بعضهم عن بعض " ؟
ولكن هذه الجعجعة واللجلجة عند التحقيق والتحرير لكلامهم ما تجدها إلا تمويه وتلبيس وكذب وافتراء على منهج أهل الحديث وأئمته ، وأنهم برءاء من نحلتهم الباطلة وبدعتهم الشنيعة وقواعدهم الفظيعة ، فأئمتنا كانوا لا يتسمحون مع من أخطأ في العقيدة ولا يتساهلون مع مخالفته كائنا من كان ، فهذا الإمام الحجة مسعر بن كدام ـ رحمه الله ـ الذي قال فيه "يحيى بن سعيد : ما رأيت مثل مسعر كان مسعر من أثبت الناس ، وقال فيه الثوري : كنا إذا اختلفنا في شئ سألنا عنه مسعرا ، وقال شعبة : كنا نسمي مسعرا المصحف ، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : كان يسمى الميزان ، وقال أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع : شك مسعر كيقين غيره ، وقال عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة : كان من معادن الصدق ، وقال أبو طالب عن أحمد : كان ثقة خيارا حديثه حديث أهل الصدق ، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين : ثقة ، وقال ابن عمار: مسعر حجة ومن بالكوفة مثله ، وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة : ثقة"([21] ) .
ومع ذلك ذكر الإمام الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في " السير " (7 / 165 ) : أنه لما مات لم يشهده سفيان الثوري
وذلك من أجل الإرجاء الذي رمي به ([22] ) ، قال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (10 / 103) : ((قال محمد بن عمار بن الحارث الرازي سمعت أبا نعيم يقول سمعت الثوري يقول : الإيمان يزيد وينقص ، ثم قال : أقول بقول سفيان ولقد مات مسعر وكان من خيارهم فما شهد سفيان جنازته يعني من أجل الإرجاء.))
فليتأمل القارئ الكريم في هذه الحكاية يجد أن الناقد الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ مع ما هو معروف به وعنه من النقد ، أنه لم يعترض وينتقد الإمام سفيان الثوري فيما ذهب إليه من تركه شهود جنازة مسعر ، أو أنه غمزه و طعن فيه من أجل هذا ، أو رماه هو أو غيره بأنه من الغلاة وأنه من فرقة الجرح والتجريح كما هو شأن المتحزبة والمميعة هذا الزمان ما أن يروا أحدا من العلماء وطلبة العلم من أهل السنة والجماعة يوظف قلمه ويسخر نفسه تدينا في بيان الخطأ من أخطأ من أهل البدع أو غيرهم إلا وأقاموا عليه الدنيا بأنه من الغلاة وأنه و أنه ...
وإلا فليعلم يا أخوتاه أن أئمة السنة والأثر لا يحابون أحدا في خطئه كائنا من كان ولو كان أبا أو ابنا أو أخا ، فالحق عندهم فوق كل عظيم وكبير، وميزانهم في الرجال ميزان حق وعدل وعلم لما خصهم الله تعالى وشرفهم بميراث النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم وإن ردوا على من أخطأ وخالف منهج أهل السنة والجماعة فمقصدهم الوحيد وغايتهم السامية هي حماية الحق والمحافظة عليه وتنقيته مما دخل فيه ما ليس منه ، أما المخطئ عندهم فإن كان من أهل السنة والجماعة ، تحفظ كرمته وتصان وإن بينت مخالفته([23] )، أما المبتدع فلا نعمة له ولا كرامة بل عليه النقمة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "جموع الفتاوى " (3 / 179) : (( ثُمَّ قُلْت لَهُمْ : وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا فَإِنَّ الْمُنَازِعَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا يَغْفِرُ اللَّهُ خَطَأَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوَلَةُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ وَالْقَانِتُ وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَغْفُورُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ : فَهَذَا أَوْلَى ، بَلْ مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ نَجَا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ضِدَّهُ فَقَدْ يَكُونُ نَاجِيًا وَقَدْ لَا يَكُونُ نَاجِيًا كَمَا يُقَالُ مَنْ صَمَتَ نَجَا )) ا.هـ
وقال شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ وهو يبين أقسام وأحكام ممن وقع في البدعة
: (( القسم الثالث: من كان من أهل السنة ومعروف بتحري الحق ووقع في بدعة خفية فهذا إن كان قد مات فلا يجوز تبديعه بل يذكر بالخير ، وإن كان حياً فيناصح ويبين له الحق ولا يتسرع في تبديعه فإن أصر فيبدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله :{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } البقرة : 286 وفي الحديث أن الله قال :"قد فعلت")) ([24] )
وبالمناسبة إني لأبتهل الفرصة وأقرع على المسامع ذاك المميع المخذول فأقول : إياك وإياك يا مسكين أن تلحق وتقيس زبالات وجراثيم وسرطان وكوارث جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وحسن البنا وسيد قطب والمودودي ومحمد الغزالي والقرضاوي وغيرهم من أساطين الماسونية و التكفير والتصوف والاعتزال والأشاعرة والرافضة الذين لهم العشرات من البدع المغلظة بالعثرات أولئك الأئمة الذين ثبتت عدالتهم وثقتهم في الأمة وإمامتهم في الحديث والسنة ، فإن ذلك من أبشع القياس وأشنعه ، وهو فاسد الاعتبار لما بينهما من الفارق و البون الشاسع والفرق الواضح ، "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار"([25] )، "ما لكم كيف تحكمون "([26] )!!!
أتريدون أن تجعلوا أهل الأهواء والضلال وأهل الفساد في الأرض في منزلة ودرجة أهل الصلاح والتقى وتجمعوا بينهما في الأحكام فإن لم يكن هذا منك هو عين الإرجاء فلا ندري ما هو الإرجاء ؟!!
يقول شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ : (( ... وأن كثيرا من المرجئة وقعوا في الإرجاء بشبه عرضت لهم وسوء فهم لبعض النصوص ومن تقليد وما شاكل ذلك ، لكن هؤلاء الذين هم شر من المرجئة يعلمون أن قادتهم وسادتهم شر من المرجئة وشر من الخوارج وشر من كثير من أئمة الضلال ومع ذلك يقدسونهم ويأتي من يسب الصحابة ولا يرونه ضارا بشيوخهم ويأتي من يطعن في الأنبياء فلا يرونه ضارا بهم ، هذه الدرجة أسوأ من غلاة المرجئة الذين يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، لأن غلاة المرجئة يعتقدون في المذنب أنه مذنب ، وما يقولون فيه بأنه مجدد وإنه إمام هدى وإنه ... وإنه ... فكم المسافة الآن بين غلاة المرجئة وبين هؤلاء ؟!! )) ا.هـ([27] )
وعليه فأنه قد أتضح وظهر للقارئ الكريم أن القوم قد بنوا منهجهم الفاسد على قواعد هي أوهى من بيوت العنكبوت ، وليس لهم أي حجة ولا سلطان فيما ذهبوا إليه من تمشية مؤلفات شيوخهم وترويج بضاعتها بما ثبت وكان من صنيع أئمة الحديث والسنن من رواية عن من رمي وأتهم بالبدعة وهو من أهل الصدق والضبط والإتقان ، فإن صنيع سلفنا المبارك كان غرضه مصلحة الحافظ على السنة وكانت هذه المصلحة متحققة لا ظنية ، مع ما تميزوا به من الاحتياط التام والورع والعدل في تنقيب أحوال الرواة مما قد اختصوا به عن جميع الملل السابقة والنحل الباطلة ، وهم وإن نقلوا عن أولئك المتهمين فقد ألجأتهم الضرورة أن ينقلوا عنهم تلك السنن .
ذكر الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب " (3 / 101) عن ابن سعد أنه قال في رواية"خالد بن مخلد القطواني " : ((كان متشيعا منكر الحديث مفرطا في التشيع وكتبوا عنه للضرورة )) ا.هـ
وإذا كان كذلك فإن هذه الضرورة لا تتسنى ولا تتماشى لعامة أمتنا في هذه أزمنتنا، وذلك أنه قد ذكر أهل الأصول أن الضرورة التي تبيح ذاك المحظور ينبغي أن تكون قائمة بالفعل لا متوهمة ، وهذا غير متحقق في مسألتنا ، لأن متلقي وآخذ العلم على أيدي أهل البدع غير متحقق المنفعة على أيديهم ، بل نقول : هو متحقق وساعي فيما يضره ويفسد دينه ، كما قال أهل العلم والسنن أن أهل البدع والأهواء ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى فإن هؤلاء المبتدعة يفسدون القلوب ابتداء، وأما اليهود والنصارى، وأهل الحرب لديار المسلمين ، ففسادهم للقلوب لا يكون إلا تبعاً "([28] ) ، وفساد اليهود والنصارى ظاهر لعامة المسلمين، أما أهل البدع؛ فإنه لا يظهر فسادهم لكل شخص " ([29] )
وأيضا : ذكروا أن المضطر لا يباح ويحل له ما هو محرم في حال ضرورته إذا كان يمكن أن يدفع ضرورته بما هو مباح ، وكذلك في أزمنتنا هذه ليس هناك أي ضرورة تضطر وتحل للمسلم أن يأخذ العلم عن أهل البدع لما هو متوفر من الوسائل الكثيرة اليسيرة المباحة التي بها يتحصل على العلم السني على أيدي أهل السنة والجماعة والتي منها اللقاءات والدورات العلمية التي يقيمها مشايخ السنة في بلدانهم أو في غير بلدانهم ، وتتبع الدروس المباشرة التي تبث عبر الانترنت ، والهاتف ، والشريط ، والكتاب ، فهذه الوسائل ـ لله الحمد والمنة ـ قد غزت السوق والبيوت وملأت الدنيا ، فنجد مثلا إمامنا وعالمنا محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ ما من فن من فنون العلوم الشريعة إلا وقد شرحه وكذا غيره من مشايخ السنة فهم ما بين المستكثر والمستقل وما بين المتخصص والجامع مما قد أحوج أهل البدع وأضطرهم إلى أن ينهلوا من هذا الثراث السني ما يبلغون به الشهرة ويتزينون به ويلبسون به على العامة ، فهم الذين يضطرون إلى علم أهل السنة والجماعة لا شباب أهل السنة يضطر إليهم ، فانتبهوا بارك الله فيكم إلى دروشة بن حنفية وحزبيته المضحكة التافهة
ثم إني والله لأعجب من ذاك الأخ الشاب الوهراني ـ وهذا من السنين ـ أنه لما ناقشته في مسألة بن حنفية ، وقلت له : عندك علماء السنة تأخذ منهم العلم وتتربى على دروسهم وشروحاتهم مما يغنيك منه وأنت لست بحاجة إليه وإلى علمه أو نحو هذا .
فقال : أخذ عنه النحو
فقلت : هآ شيخنا ابن عثيمين قد شرح الأجرومية والألفية
فقال : بن حنفية يسهل عليّ شرح الألفية لابن عثيمين
فقلت حينها : والله هذا عائق عن الطلب ومفتاح للشر على صاحبه وداء عضال ومرض مزمن .
وذلك أنه تجد عند علمائنا الكبار من البركة والنفع في دروسهم ومؤلفاتهم ما لا تجده عند الأحداث ، ومن باب الأولى ـ بل لا يقارن ـ عند أهل البدع ، وتجد عندهم من سهولة الإلقاء والعرض والشرح والتفهيم ما لا تجده عند هؤلاء الأصاغر وهذا شيء مستقر ومعروف عند طلبة العلم
وقد أحسن من قال :
فانهض إلى صهواتِ المجدِ معتلياً .... فالبازُ لمْ يأوِ إلاَّ عاليَ القللِ
ودعْ مـنَ الأمـرِ أدناهُ لأبعـدهِ .... في لجةِ البحرِ ما يغنى عنِ الوشلِ
قال العلامة عبدالسلام بن برجس بن ناصر آل عبدالكريم ـ رحمه الله ـ في كتابه " عوائق الطلب " ( 29 ـ 34 ) :
(( العائق الرابع : أخذ العلم عن الأصاغر
لقد فشت ظاهرة أخذ العلم عن صغار الأسنان بين طلاب العلم في هذا الزمن .
وهذه الظاهرة - في الحقيقة - داء عضال ، ومرض مزمن يعيق الطالب عن مراده ، ويعوج به عن الطريق السليم الموصل إلي العلم .
وذلك لأن أخذ العلم عن صغار الأسنان ، الذين لم ترسخ قدمهم في العلم، ولم تشب لحاهم فيه مع وجود من هو أكبر منهم سناً ، وأرسخ قدماً ، يضعف أساس المبتدئ ، ويحرمه الاستفادة من خبرة العلماء الكبار ، واكتساب أخلاقهم التي قومها العلم والزمن ... إلي غير ذلك من التعليلات التي يوحي بها أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث يقول : ( ولا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم ، وعن أمنائهم ، وعلمائهم ، فإذا أخذوه عن صغارهم ، وشرارهم هلكوا ) .
وثبت الحديث عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر ".
وقد اختلف الناس في تفسير : " الصغار " هنا علي أقوال ذكرها ابن عبد البر في " الجامع " ( 1/157 ) ، والشاطبي في " الاعتصام " ( 2/93 )
وقد ذهب ابن قتيبة - رحمه الله تعالي - إلى أن الصغار هم صغر الأسنان ، فقال على أثر ابن مسعود الآنف الذكر : ( يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ، ولم يكن علماؤهم الأحداث ، لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب ، وحِدته وعجلته ، وسفهه ، واستصحب التجربة والخبرة ، ولا يدخل عليه في علمه الشبهة ، ولا يغلب عليه الهوى ، ولا يميل به الطمع ، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدث ، فمع السن : الوقار ، والجلالة ، والهيبة ، والحدث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت علي الشيخ ، فإذا دخلت عليه ،وأفتى هلك وأهلك ) . ا هـ ([30] )
وقد روى ابن عبد البر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : " قد علمت متى صلاح الناس ، ومتى فسادهم : إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير ، وإذا جاء الفقه من الكبير تابعه الصغير فاهتديا "
وروى ابن عبد البر - أيضاً - عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : ( إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم ، فإن كان العلم في صغاركم سفه الصغير الكبير )
ففي هذين الأثرين تعليل لعدم الأخذ عن " الصغير " آخر غير الذي ذكره ابن قتيبة .
وهو : خشية رد العلم إذا جاء من الصغير .
وعلى كلً فإن لفظة " الصغير "عامة تتناول الصغير حساً ومعنىً .....
فيا أيها الطلاب إن أردتم العلم من منابعه فهاؤهم العلماء الكبار الذين شابت لحاهم ، ونحلت جسومهم وذبلت قواهم في العلم والتعليم ، الزموهم قبل أن تفقدوهم ، واستخرجوا كنوزهم قبل أن تواري معهم ، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر . )) ا.هـ([31] )
ثم ما قيمة النحو أو أي علم من علوم الآلة إذا أخذته على يد المبتدع وأفسد عليك عقيدتك السنية ورمى بك في الحزبية !!
يا أخي رأس مالك عقيدتك السلفية التي عليها مدار صحة أعمالك وبتحقيقها تكون من أهل الإيمان وتفوز بالجنان ، وأنه من أعرض عنها وفرط فيها كان من حزب الشيطان المتوعد بالنيران والله المستعان ، وإلا فلا ضير عليك يا أُخي إن مت وأنت جاهل بالنحو وسلمت عقيدتك وفزت برضوان الرحمان .
قال الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي : (( الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله لما فتحت المعاهد والجامعة الإسلامية وكلية الشريعة في وقته في الرياض احتاج إلى بعض أهل البدع فجاء بهم فما كان يضعهم إلا في اللغة وما حولها فقط
وما يستطيع أحد يتنفس وكان إذا تحرك أحدهم ينبس بكلمة من البدع يطرده فإذا احتجنا إلى هذا النوع ممن لا يدعوا
إلى بدعته وصممنا ووطنا في أنفسنا أنه إذا خالف و دعا إلى بدعته يطرد فلا بأس أما أن نتخذه إماماً وقديساً وداعياً و..و... الخ
ومع ذلك مع تحكم الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فقد خان أهل البدع خانوا الأمانة التي ائتمنوا عليها فدسوا بدعهم وأفكارهم الثورية التخريبية في كثير من الشبابفحيث تجلى لنا خطرهم , وظهرت آثارهم الخبيثة فمن الحزم أن لا نأخذ عنهم أبداً لأنهم إذا احتجنا إليهم وتعاونا على شيئ وأعانونا على بعض ما نحتاج إليه خانونا ودسوا سمومهم وبدعهم وضلاهم فآثارهم الآن واضحة بادية وربما لو أدرك من كان في عهد الشيخ محمد أن الأمور ستؤدي إلى هذا والله ما كانوا يفعلون هذا وما كانوا ليتوسعوا في المدارس حتى يحتاجوا إلى أهل البدع فحصل التوسع وكانت احتياطات كثيرة بقدر وسعهم .
ومع هذا فقد خان أهل البدع ودسوا أفكارهم الخبيثة وسربوا كتبهم المدمرة فكان من ثمارها شر وبيل وخطير يعصف بشباب الأمة ، خلافات وعداوات وشنآن وبغضاء وأحقاد لا يعلمها إلا الله بعد أن كانوا كلهم على قلب رجل واحد فهذه التجربة تكفينا و "السعيد من وعظ بغيره "و لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين " )) ا.هـ([32] )
وعودا على بدء في بيان الفارق والباعث الذي حمل و اضطر سلفنا الصالح الأمناء الأتقياء على الرواية عن من تلبس بالبدعة وهو من أهل الصدق والموثوق بروايته لمصلحة الحفاظ على السنة، وبين من أطلق العنان من أهل البدع والمتحزبة في أزمنتنا هذه للأخذ عن أهل البدع والأهواء المغلظة الذين عرفوا بالكذب والفتن والتخريب والفساد في الأرض ، والإعلان والاجتهاد في الدعوة إلى ما هم فيه من الضلال والأهواء ، مما يتحتم في مثل هؤلاء ولا بد من ذكرهم والتشريد بهم على السكوت عنهم فضلا عن النقل والاستفادة من كتبهم ، لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم "([33] )
فأقول : أيضا قد ذكر أهل الأصول في ضابط الضرورة ، أن تكون هذه الضرورة ملجئة بحيث يخشى تضييع الضروريات الخمس وهي : الدين والنفس والمال والعقل والعرض ، وعليه فالناظر إلى صنيع سلفنا فيما رووه عن أولئك المبتدعة يجدهم أنهم قد حقق هذا المطلب السامي المتمثل في الحفاظ على الضروريات الخمس ، كيف لا ، والله تعالى ما شرع هذا الدين الذي مصدره القرآن والسنة إلا للحفاظ على هذه الضروريات الخمس و لتحقيق مصالح العباد في دينهم ودنياهم وتدرأ عنهم المفاسد والأضرار.
وليس شيئا أضر على هذه الضروريات الخمس من تلقي العلم على أيدي أهل البدع وتبني مناهجهم وأفكارهم ، والتاريخ هو أعظم شاهد وبيان ، والعيان من ذلك يغني عن البرهان ، وفيه من الحق ما يبين وهاء وفساد هذه القاعدة البائرة ويستبصر به أهل الإيمان وينكشف لهم أن ما جعجع به أهل الباطل من استفادة من كتبهم من أفحش البطلان وأنها ما هي إلا من نفثات وعقد الشيطان تضمحل وتتلاشى إذا نزل بساحتها عسكر القرآن فلله الحمد والفضل والإحسان .
ثالثا : أما استدلاله هو وغيره بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ـ رضي الله ـ في أمر الشيطان :"أما أنه قد صدقك وهو كذوب " على أخذ وتلقي العلم على أهل البدع والنقل عنهم
فهذا من أفظع الاستدلالات العوجاء وأبشع الانحرافات العمياء ما لهم فيها من سلف و" مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا "([34] ) !!!
وليس من أعظم الكذب والقول على الله بلا علم أن يجعل للشيطان وأوليائه فسحة ومجالا ومتنفسا للأخذ عنهم والتربية على أيديهم، فما أسعد الشيطان وحزبه بهذا التقعيد الخبيث !!
فالشيطان من مكره وخبثه ببني آدم لإضلالهم يود منهم أن يصدقوه في كلمة وكلمتين وأن يصغوا إليه إذا قال : " إني لكما لمن الناصحين "([35] )، ليمرر باطله بين دفة هاتين الكلمتين التي قد يصدق فيهما ، بل إنه وحزبه ونوابه قد يقرءون القرآن ويروون السنن ، عند العامة حتى يوهمونهم أنهم ليسوا أهل الشر والفتن وأنهم أهل الصلاح والتقى والنصح ، ليضلوهم ويستمتعوا بهم .
قال شيخ الإسلام ابن باز رحمه الله كما جاء عنه في "مجموع فتاوى " ( 8 / 85) : (( لا ينبغي أن يغتر الإنسان بكون الساحر أو الكاهن يقرأ القرآن فيقول : هذا طيب ، فإن الشياطين قد يقرءون القرآن وهم على شيطنتهم وعلى خبثهم ، وقد يقرأ الكفار القرآن ولا ينفعهم ولا يفيدهم ؛ لعدم إيمانهم به وعدم إسلامهم ......
والمقصود : أن الشياطين وهكذا نوابهم وأولياؤهم من الكهنة والمنجمين والرمالين والعرافين قد يقرءون القرآن كثيرا عند العامة ، وعند الناس حتى يوهموا أنهم ليسوا أهل شر ، وليسوا أهل فساد حتى يأخذوا أموال الناس ويبتزوها بكذبهم وافترائهم وما ينقلونه عن شياطين الجن ، وما يفعلونه من الشرك بالله وعبادة غيره من الذبح للجن والاستغاثة بهم والنذر لهم ... إلى غير هذا من ولايتهم لهم ، فإن الجن يستمتعون بالإنس حتى يعبدوهم من دون الله ، والإنس يستمتعون بالجن بما يخبرونهم به من أمور الغيب ، فالواجب الحذر من هذه البلايا وهذه المحن ، وتحذير الناس من ذلك )) ا.هـ
فإذا كان كذلك فما قيمة هذا الهراء الذي هذى به القوم وصرخوا به في الأمة الإسلامية ؟!!
وأي منفعة ستترتب عليه ومصلحة يحققها للإسلام وأهله ، وهو يخدم الشيطان وحزبه وجنوده وخدمه ؟!!
وإلا فاستدلالهم هذا حجة عليهم لا لهم وذلك من وجوه :
1 ـ إن في قول النبي صلى الله عليه وسلم " وهو كذوب " تحذير شديد من الشياطين والكذابين والدجالين بصيغة المبالغة المبينة لغاية ذمهم وقبحهم والتنفير منهم ، وخاصة أن هذا الجرح الشديد كان بعد ما يوهم مدحه ـ الشيطان ـ([36] ) فبهذا قطع النبي صلى الله عليه وسلم على الشيطان وأوليائه السبل التي من خلالها يبثون شرهم ، وسد عليهم الطرق التي بها يضلون عباد الله ، لو كان أهل هذه القاعدة الخبيثة يعقلون ولشرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفقهون ويتبعون .
2 ـ في قول أبي هريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له : ((مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِى كَلِمَاتٍ ، يَنْفَعُنِى اللَّهُ بِهَا )) ما يشعر أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يطمئن لكلام مخاطبه ([37] ) ، لولا شهود وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بصحة هذا الخبر وصدقه ، وإلا فهل سترى أن أباهريرة لو لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبض سيروي تلك الحادثة على أنها شرع يتقرب به إلى الله ؟ بالطبع سيكون الجواب : لا ([38] )
ولهذا لما ترجم أئمة الحديث لأبي هريرة رضي الله عنه قالوا : روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعلوا ويذكروا أن الشيطان من شيوخه الذين روى عنهم ، أعاذنا الله من الحزبية ومضارها وزبالات أهلها العفنة ، وبهذا تحطمت هذه الفكرة العاطلة على رؤوس الحزبية ، ونقول لهم أن أبا هريرة رضي الله عنه أخذ ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لا عن الشيطان فضحكم الله ، فكم يفرح أعداء السنة والمستشرقون الذين يطعنون في السنة وفي أبي هريرة رضي الله عنه بضلالكم هذا لو كنتم تنتبهون !!
3 ـ إن الحديث كل ما فيه أن أصحاب الباطل من الشياطين والكذابين والكفار وأهل البدع قد يعلمون ما ينتفع به المؤمن ويصادف منهم كلمة الحق وأنهم قد يصدقون ببعض ما يصدق به أهل السنة والإيمان ولا يكونون بذلك من أهل السنة والإيمان ، فهذا من أبلغ ما ينبه ويذكر على الاحتراز منهم في أن يتسرب علينا شيئا من باطلهم في قالب الحق الذي معهم ونحن لا نشعر بمدى خطورته على أمتنا ، فانتبهوا لهذه النكتة بارك الله فيكم .
و أيضا : فالحديث ينبه على أن صاحب الباطل إذا تكلم بكلمة الحق على مسامعك وبحضرتك أو وقفت عليها ، لا يحملنك على ما هو عليه من الضلال أن ترد الحق الذي تكلم به ، بل نرد باطله ونزلزله بالأدلة القرآنية والآثار السنية ونقرر الحق الذي تكلم به ، على أنه هو الحق الذي شرعه الله تعالى وارتضاه لعباده وأن ذلك شرعنا الحنيف الذي ندعو الخليقة إليه ، ولهذا شواهد :
قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف:28]
قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في " تيسير الكريم الرحمن " (1 / 286) : (( يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون الذنوب، وينسبون أن الله أمرهم بها { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } وهي: كل ما يستفحش ويستقبح، ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة { قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } وصدقوا في هذا { وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا }وكذبوا في هذا، ولهذا رد اللّه عليهم هذه النسبة فقال: { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } أي: لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } وأي افتراء أعظم من هذا؟.))
و أخرجه الطحاوي في " المشكل " ( 1 / 91 ) و أحمد ( 6 / 371 و 372 ) و ابن سعد ( 8 / 309 )
و الحاكم ( 4 / 297 ) من طريق المسعودي : حدثني معبد بن خالد عن عبد الله بن يسار عن قتيلة بنت صيفي الجهنية قالت : " أتى حبر من الأحبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون ! قال : سبحان الله ! و ما ذاك ؟ . قال ، تقولون إذا حلفتم : و الكعبة، قالت : فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال : إنه قد قال ، فمن حلف فليحلف برب الكعبة ، قال : يا محمد ! نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندا! قال : سبحان الله ! و ما ذاك ؟ قال : تقولون ما شاء الله و شئت . قالت : فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال : إنه قد قال ، فمن قال : ما شاء الله فليقل معها : ثم شئت " ([39] )
قال العلامة عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ ـ رحمه الله ـ في " فتح المجيد " ( 370) : (( وفيه : قبول الحق ممن جاء به كائنا من كان )) ا.هـ
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في " القول المفيد على كتاب التوحيد "( 517) : (( ويستفاد من الحديث : 2 ـ مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق )) ا.هـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " منهاج السنة النبوية " (2 / 199) : (( والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق )) ا.هـ
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في " مدارج السالكين " (ص 202) : (( فلا يضرب كتاب الله بعضه ببعض ولا يرد القرآن بمجرد كون المعتزلة قالوه ـ فعل أهل الهوى والتعصب ـ بل نقبل الحق ممن قاله ويرد الباطل على من قاله )) ا.هـ
بهذا يتبن أن هذه الأدلة وما كان في بابها لا تدل أو تبيح وتجيز أخذ العلم عن الشياطين والكفرة ومن نحى نحوهم من أهل الضلال والأهواء ، ومن زعم غير هذا فقد أفترى على الإسلام فرية عظيمة وضل ضلالا بعيدا وخالف القرآن والسنة والإجماع الذي نص وحذر من أن يصغي للشياطين والكفرة وأصحاب الأهواء و أن يجلس إليهم ويستسلم لضلالهم وهذا شيء مشهور معروف عند العامة فضلا عن الخاصة ، ولكن الهوى يعمي البصيرة والله المستعان
رابعا : قوله : (( إذ لا ضير على المسلم القادر على تمييز الحق من الباطل أو الرجوع إلى أهل العلم الموثوقين ليسألهم عما يحتاج إليه أن يقرأ ما شاء كيف وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التحديث عن بني إسرائيل فقال : " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار " ..))
أقول :
نعم يا بن حنفية ما أجمل وأحسن لو أنك تريد بكلامك هذا : أن هذا المسلم القادر العالم العارف الحاذق البصير الناظر في كتب محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب والغزالي والقرضاوي وأساطين التصوف والتحزب والتكفير ودعاة التفجير في عصرنا هذا ، أن يكون حامله وباعثه على نظره في هذه الكتب هو الرد عليها وبيان ضلالها وكشف زيفها للخليقة وتحذر الأمة الإسلامية منها ومن أهلها ([40] )
لكان هذا من حسناتك ومن صالح أعمالك التي تخدم أمتك ولكن للأسف فإنه لا يمت له بصلة ، بل قولك :" إذ لا ضير على المسلم ... الرجوع إلى أهل العلم الموثوقين ليسألهم عما يحتاج إليه أن يقرأ ما شاء " ليبعد ذاك الظن الحسن
كيف لا وكلمتك هذه مفخخة منغمة بضلال دعوة هذا المسلم الجاهل غير العارف بضلال أهل الضلال أن ينظر في كتبهم ويقرأ ما شاء منها سواء كانت هذه الكتب ، كتب الشياطين أو السحرة أو الكهنة أو التنجيم أو النصارى أو اليهود أو أهل البدع بجميع مللهم ونحلهم فإذا أستشكل عليه شيء منها حينها فله أن يرجع إلى أهل العلم !!
ما شاء الله عليك يا بن حنفية على هذا التنظير الفاسد والتفكير الكاسد ترمي بشباب الأمة في اليم وهم مكتفي الأيدي ثم تقول لهم إياكم .. إياكم أن تبتلوا !! هذه هي التربية الصحيحة السلفية تريد أن تربي شباب الإسلام عليها !!
تريد منهم أن ينظروا في كتب منغمة بالشبه ثم تأمل وتأمن أن ينجوا !! متى كان هذا والقرآن والسنة والإجماع قائما على التحذير من هذا ؟ فكم من محدث وعالم وقارئ وثق من نفسه واغتر بذكائه وفخم علمه ، فنظر في كتب القوم فاجتالته شبههم فضل عن سواء السبيل وتاه في أودية الأباطيل والتاريخ والواقع أكبر شاهد على ذلك ودليل ، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، فـ "أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وأن تنكر ما كنت تعرف وإياك والتلون في دين الله فإن دين الله واحد "([41] ) ، وقال الله تعالى :{ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً }[النحل:92]
فارجع إلى رشدك يا عبدالله وأعرف ما يخرج من رأسك ، و علم أن كلامك هذا ما يخدم إلا أعداء الإسلام الذين يتمنون ويودون من شباب الأمة الإسلامية أن ينظروا في كتبهم ويسمعوا لكلامهم .
أما استدلالك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار "، على الأخذ والنقل من أهل البدع واستفادة منهم ، فهذا كغيره مما قد سبق منك فهو من تحريفك للكلم عن مواضعه ومن استدلالك الأعرج ونظرك الأعوج في النصوص وحملها على غير محملها ، وهذا من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توعد فاعله بقوله صلى الله عليه وسلم : "ومن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار "، فآخر الحديث أشد عليك ما يكون لو كنت تعقل وتعي ما تفعل وتقول !!
وإلا فأئمتنا لهم مخرج في فقه وفهم هذا الحديث لا يمت بصلة إلى ما تريد وتبغي ومن ذلك :
1 ـ ذكروا أن هذا دليل يدل على الإذن في الذكر والتحدث بالأخبار والعجائب التي وقعت في زمان بني إسرائيل ، كنزول النار من السماء لأكل القربان مما لا تعلمون كذبه ، أي مما لا يخالف القرآن والحديث ولا يعارضهما ، لا أنْ يُحدّث عنهم بالكَذب ([42]) ويشهد لذلك قول الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ }[ يوسف : 111]
قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في "تيسير الكريم الرحمن " (1 / 407) : (( { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ } أي: قصص الأنبياء والرسل مع قومهم، { عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ } أي: يعتبرون بها، أهل الخير وأهل الشر، وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة، ويعتبرون بها أيضا، ما لله من صفات الكمال والحكمة العظيمة، وأنه الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له. )) ا.هـ
فإذا كان كذلك يا بن حنفية فلأهل السنة والجماعة أن يحكوا ما وقع لأهل البدع والفرقة على أيدي خلفاء وأمراء أهل السنة والجماعة من التنكيل والعقوبات ما يعتبر به أولي العقول وينزجر ويخوف به أولي الضلال ، وهذا شيء طيب قد ذكره ونقله أئمة الحديث والأثر والتاريخ في كتب العقائد و التراجم والسير والتاريخ ..... تريد هذا ؟
2 ـ قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 6 / 619 ) : ((وقيل : لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم لأن قوله أولا حدثوا صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب وأن الأمر فيه للإباحة بقوله ولا حرج أي في ترك التحديث عنهم ))
قلت ( بشير ) : إذا كان هذا في أخبار بني إسرائيل التي أذن الشارع بحكايتها والتحدث بها ولم يوجب ذلك ، فماذا سنقول عن ترهات أهل البدع والأهواء التي نهى الشارع والإجماع عنها !!
وإلا فلو سلمنا بصحة استدلال بن حنفية بالحديث على ما يريد من تجويز أخذ العلم عن أهل البدع لناقشناه في استدلاله وقلنا له : إن الحديث كل ما فيه يدل على الإباحة والنظر في كتب أهل الأهواء والأخذ عنهم العلم حرام لا يجوز وأهل الأصول يقولون : " إذا تعارض المبيح مع الحاظر قدم الحاظر على المبيح " ، فبهذا سقط استدلاله وما يريده من الحديث ولله الفضل والمنة
3 ـ قال أيضا الحافظ ( 6 / 619 ) : ((وقيل المراد رفع الحرج عن حاكي ذلك لما في أخبارهم من الألفاظ الشنيعة نحو قولهم "اذهب أنت وربك فقاتلا" وقولهم : " اجعل لنا إلها " )) ا.هـ
قلت : فإذا كان كذلك يا بن حنفية : فلا حرج ما يحكيه أهل السنة من الألفاظ الشنيعة والأقوال الفظيعة التي تلفظ بها أهل البدع والأهواء من الصوفية والرافضة والخوارج والمعتزلة والقطبية والمميعة لبيان فظاعتها وبشاعتها وضلالها للأمة الإسلامية لتحذر منها ومن أهلها ولتبتعد عنهم وعن كتبهم هل تريد هذا ؟؟
4 ـ وقال الحافظ أيضا : ((وقال مالك : المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن أما ما علم كذبه فلا ))
فهذا حسن وهو مخرج على ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره وذكره العلامة محمد عمر بازمول حفظه الله في "شرح مقدمة أصول التفسير " ( ص 81 ) فقال : إن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : ما نعلم بطلانه بما جاءنا من الوحي ، فهذا لا يجوز لنا أن نحكيَه ولا أن نسوقَه ، وإن سقناه فإننا نرده
ونكذِّبه ، وذلك لما قام لدينا في شرعنا من الدليل على أن هذا من الباطل .
النوع الثاني : ما جاءنا من أخبار أهل الكتاب مما نعلم صدقه لموافقته ما أخبرنا الله عز وجل به ، وهذا كثير من الأشياء في التوراة والإنجيل نجدها توافق ما عندنا ، وبالذات في باب القصص والأخبار ، فهذا النوع هو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : ( وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، أي : فيما عَلِمْتم أنه يوافق ما عندكم .... )) ا.هـ
قلت ( بشير ) : وإذا كان كذلك فما وجه علاقة النقل عن أهل البدع واستفادة منهم بهذا الحديث
فإذا كان على النوع الأول : نعم فلتذكر أقوالهم لتحذر ويهجر أهلها
أما على النوع الثاني : فهل المسلم بعدما انقطع الوحي وكمل الدين ودونت السنة وشرحت وبينت يكون محتاجا إلى كتب أهل البدع والنظر فيها ؟!
وهو غني عنها بما خلفه له أئمة الحديث والسنة من ذاك التراث العلمي السني العظيم الذي تزخر به المكتبة السلفية ، الذي نجد أن أهل البدع قد اضطروا إلى علمه وتراثه والأخذ منه ، فما من حق تكلم بها المبتدع إلا وقد أخذه واستقاه من هذا التراث ، فإذا كان كذلك فما الذي يحوج المسلم على أن يأخذ علمه من المنبع قد تحقق وعرف كدره وبعده وصعوبته ويدع المنبع الصافي السهل القريب حتى يصبح حاله كما قال القائل :
ومن العجائب والعجائب جمة .... قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما .... والماء فوق ظهورها محمول
فبهذا البيان الذي سخرت قلمي في توضيحه بعون الله وتوفيقه يتضح للقارئ الكريم أن النصوص التي استدل بها بن حنفية أو من نحى نحوه على مشروعية أخذ العلم عن أهل البدع والاستفادة منهم والنظر في كتبهم ، أنها ما هي إلا من جنس تحريف الكلم عن مواضعه وضرب النصوص بعضها بالبعض وإرادة الفتنة ،كفانا الله شر باطلهم
..... يتبع إن شاء الله
([1]) " فتاوى فضيلة الشيخ ربيع المدخلي " ( 1/ 250 )
([2]) انظر إلى " فتاوى فضيلة الشيخ ربيع المدخلي " ( 1/ 255 )
([3]) منقول من مكتبة الشيخ الإلكترونية
([4]) [ الأحزاب : 19 ]
([5]) منقول من كتاب " القطبية هي الفتنة فاعرفوها " ( ص 49 )
([6]) قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ في " إرواء الغليل " (6 / 34 ـ ) : أخرجه أحمد ( 3 / 387 ) من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر ابن عبد الله : (فذكره)
ثم قال : وكذا أخرجه الدارمي ( 1 / 115 ) وابن أبي عاصم في " السنة " ( 5 / 2 ) وابن عبد البر في " جامع بيان العلم "
( 2 / 42 ) والهروي في " ذم الكلام " ( 4 / 67 - 2 ) والضياء المقدسي في " المنتقى من مسموعاته بمرو " ( 33 / 2 ) كلهم عن مجالد به . قلت : وهذا سند فيه ضعف من أجل مجالد وهو ابن سعيد الهمداني قال الحافظ في " التقريب " : " ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره " . وقال الحافظ في " الفتح "
( 13 / 284 ) : . " رواه أحمد وابن أبى شيبة والبزار ورجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفا " . قلت : لكن الحديث قوي فإن له شواهد كثيرة أذكر بعضها
فذكرها ثم قال في ( ص 37) : وجملة القول : ان مجئ الحديث في هذه الطرق المتباينة والألفاظ المتقاربة لما يدل على أن مجالد بن سعيد قد حفظ الحديث فهو على أقل تقدير حديث حسن . والله أعلم .
([7]) انظر إلى كتاب القيم " إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء " ( ص 20 ـ 21 ) لفضيلة الشيخ خَالد بن ضَحَوي الظَّفيري حفظه الله
([8]) ( ص 89 )
([9]) " مفتاح دار السعادة " ( 1 / 66)
([10]) انظر إلى " التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل " ( 1 / 49)
([11]) " فتح المغيث " (3 / 313)
([12]) قال فيه الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في " السير " (11 / 538) : (( وما أدري كيف تسمحوا في الأخذ عمن هذا حاله ؟ وإنما وثقوا بصدقه. )) ا.هـ ، وهو وإن روى عنه الإمام البخاري ، إنما روى عنه حديثا واحدا مقرونا
انظر إلى " تهذيب التهذيب (5 / 95 ) ، و " هدي الساري مقدمة فتح الباري" (1 / 412 )
([13]) " تذكرة السامع والمتكلم " ( ص 115 )
([14]) نفس المصدر ( ص 136)
([15]) "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل " (1 / 52)
( [16]) " هدي الساري مقدمة فتح البارى " ( ص 389)
([17] ) نفس المصدر : ص 424
([18] ) نفس المصدر : ص 389
([19]) " الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب " (1 / 35)
([20]) " الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم " (1 / 107) ، و" تهذيب التهذيب " (4 / 264)
([21]) "تهذيب التهذيب " (10 / 103)
([22]) مع أنه قد جاء عن الإمام أحمد في رواية ابن إبراهيم أنه قال: " أما مسعر فلم أسمع منه أنه كان مرجئا، ولكن كانوا يقولون: إنه كان يستثني." (بحر الدم / 1 / 149)
و قد بين شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني في " مجموع الفتاوى " وجه هذا الاستثناء وحقيقته الذي ثبت عن مسعر فقال : (( وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ قَالَ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِ قَلْبِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ وَيَقْطَعْ بِأَنَّهُ عَامِلٌ كَمَا أُمِرَ وَقَدْ تَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا كَانَ مِسْعَرُ بْنُ كدام يَقُولُ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي قَالَ أَحْمَد : وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ كَانَ يَقُولُ : هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ لَكِنْ أَنَا لَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي ، وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة : أَلَا تَنْهَاهُ عَنْ هَذَا ، فَإِنَّهُمْ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ جِنْسِ الْمُنَازَعَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَكُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . )) ( 13 / 46 ـ 47 )
([23]) نعم قد يضطر الناقد السلفي أن يحمل على ذلك الفاضل السني حملة شديدة وتشنيعة حديدة فيما أخطأ فيه ويطلق عليه كلمات يظهر فيها الغض منه لكي يكف الناس عن الغلو فيه الحامل لهم على إتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه ، ولكي ينفرهم من خطئه ويظهر لهم بشاعة المخالفة التي وقع فيها لا غير.
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي رحمه الله في " التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل " (1/ 11 ـ 12) : ((وحاصله أن أكثر الناس مغرون بتقليد من يعظم في نفوسهم والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ والدليل قائم على خلاف قوله في كذا فدل ذلك على أنه أخطأ ولا يحل لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه .
قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا، فإن زاد المنكرون فأظهروا حسن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلو متبعيه.
خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة فقال «والله إنها لزوجة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا والآخرة ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي» أخرجه البخاري في (الصحيح) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار فلم يؤثر هذا في كثير من الناس بل روي أن بعضهم أجاب قائلاً «فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار»
فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعة اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم اتباعه فيه إما لأن حالهم غير حاله وإما لأنه يراه أخطأ –
أطلق كلمات يظهر منها الغض من ذاك الفاضل لكي يكف الناس عن الغلو فيه الحامل لهم على إتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه، فمن هذا ما في (المستدرك) (2 ص329) « ... عن خيثمة قال: كان سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في نفر فذكروا علياً فشتموه فقال سعد: مهلاً عن أصحاب رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فقال بعضهم فوالله إنه كان يبغضك ويسميك الأخنس، فضحك سعد حتى استعلاه الضحك ثم قال أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه ثم لا تبلع ذلك أمانته ... » قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» وأقره الذهبي.
وفي الصحيحين وغيرهما عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال «ما سمعت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع أبويه إلا لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص) فإني سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارم فداك أبي وأمي» .
وتروى عن كلمات أخرى من ذا وذاك وكان سعد قد قعد عن قتال البغاة فكان علي إذا كان في جماعة يخشى أن يتبعوا سعداً بالقعود ربما أطلق غير كاذب كلمات توهم الغض من سعد وإذا كان مع من لا يخشى منه القعود فذكر سعداً ذكر فضله. ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكاً من إطلاق كلمات فيها غض من مالك مع ما عرف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك، وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال «مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين» كما يأتي في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى.
ومنه ما نراه في كلام مسلم في مقدمة صحيحه مما يظهر منه الغض الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو البخاري، وقد عرف عن مسلم تبجيله للبخاري.
وأنت إذا تدبرت تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد.
وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حي من (تهذيب التهذيب) كلمات قاسية أطلقها بعض الأئمة فيه مع ما عرف من فضله، وفيها «أبو صالح الفراء: ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن فقال: ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن (بن صالح) بن حي - فقلت ليوسف أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أو زارهم، ومن أطراهم كان أضر عليهم» .
أقول: والأئمة غير معصومين من الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى معذورون مأجورون فيما أخطأوا فيه كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بذل الوسع في تحري الحق، لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير في زجر أتباعهم عن الغلو في تقليدهم.)) ا.هـ
([24]) " فتاوى فضيلة الشيخ ربيع المدخلي " ( 1 / 291) ، وكلام شيخ الإسلام مصدره " مجموع الفتاوى "
( 19 / 192 ـ 192 )
([25]) [ص:28]
([26])[ القلم : 36]
([27]) " فتاوى فضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي " ( 1 / 426)
([28]) "مجموع الفتاوى " (28/232)
([29]) " دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون " ( 119 )
([30]) "نصيحة أهل الحديث للخطيب البغدادي "( ص 16 ) .
([31]) إلا أنه في هذا لابد من تنبيه ينبغي مراعاته وقد ذكره الشيخ رحمه الله في ( ص 32 ) حيث قال (( وهذا الحكم ليس علي إطلاقه في " صغير السن " فقد أفتي ودرس جمعة من الصحابة والتابعين في صغرهم بحضرة الأكابر . إلا أن هؤلاء يندر وجود مثلهم فيمن بعدهم ، فإن وجدوا وعلم صلاحهم ، وسبر علمهم فظهرت رصانته ، ولم يوجد من الكبار أحد يؤخذ عنه العلوم التي معهم ، وأمنت الفتنة ، فليؤخذ عنهم .
وليس المراد أن يهجر علم الحدث مع وجود الأكابر كلا ،وإنما المراد أنزال الناس منازلهم ، فحق الحدث النابغ أن ينتفع به في المدارسة والمذاكرة ، والمباحثة ... أما أن يصدر للفتوى ، ويكتب غليه بالأسئلة ، فلا وألف لا ، لأن ذلك قتل له ، وفتنة ، وتغرير .
قال فضيل بن عياض - رحمه الله - ( لو رأيت رجلاً اجتمع الناس حوله لقلت : هذا مجنون ، من الذي اجتمع الناس حوله لا يحب أن يجود كلامه لهم ) .
وقال أيضاً : ( بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا عملوا ،وإذا عملوا شغلوا ، وإذا شغلوا فقدوا وطلبوا ، فإذا طلبوا هربوا )
( السير / 8 / 434 ) )) ا.هـ
([32]) " فتاوى فضيلة الشيخ ربيع المدخلي " ( 2 / 54 ـ 55 )
([33]) انظر إلى "الاعتصام " (ص 453)
([34]) [ الكهف : 5 ]
([35]) [ الأعراف : 21 ]
([36]) " فتح الباري " ( 4 / 602 )
([37]) وهو رضي الله عنه حتى الآن لم يعرف بأن المتحدث معه هو الشيطان لقول النبي صلى الله عليه
وسلم في آخر الحديث : ((تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، قَالَ لاَ ، قَالَ : ذَاكَ شَيْطَانٌ )) رواه البخاري
([38]) انظر إلى كتاب " هذه القطبية هي فتنة فاعرفوها " ( ص 49)
([39]) قال الشيخ الألباني رحمه الله في " السلسلة الصحيحة " (3 / 154 ـ 155) : (( قلت : و هو إسناد رجاله ثقات إلا أن المسعودي - و هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود - كان اختلط . و قد ذكره الحافظ برهان الدين الحلبي في رسالته " الاغتباط بمن رمي بالاختلاط " ( ص 16 ) . و أما الحاكم فقال : " صحيح الإسناد " ! و وافقه الذهبي ! و هذا منه غريب فقد أورد هو المسعودي هذا في " الضعفاء "و قال : " قال ابن حبان : كان صدوقا إلا أنه اختلط بآخره " .
نعم إنه قد توبع ، فقد أخرجه النسائي ( 2 / 140 ) من طريق مسعر عن معبد بن خالد به نحوه .
و إسناده صحيح ، و ذكر الحافظ في " الفتح " ( 11 / 457 ) أن النسائي صححه في " كتاب الإيمان و النذور " و أقره لكني لم أر فيه التصحيح المذكورة ، فلعل ذلك في " السنن الكبرى " للنسائي . ))
([40]) هنيئا من قام بهذا الفرض الكفائي وسد ثغرته في الأمة الإسلامية وإن علمه هذا لمن أعظم الجهاد وأفضل من الضرب بالسيوف ومن أعظم أبواب النصيحة لله ، قال العلامة المجاهد ربيع بن هادي المدخلي في "منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف " ( 151 ) : قال ابن القيم رحمه الله في سياق كلامه على بعض المتكلمين المعطلين لصفات الله: "فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان! وما أشد الجناية به على السنة والقرآن! وما أحب جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن! وما أثقل أجر ذلك الجهاد في الميزان! والجهاد بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان، ولهذا أمر به تعالى في السور المكية حيث لا جهاد باليد؟ إنذارا وتعذيرا، فقال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا}( الفرقان: 52).
فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والإنفاق، ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو؟ مات على شعبة من النفاق، وكفى بالعبد عمى وخذلانا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السنة والقرآن وقد لبسوا للحرب لامته، وأعدوا له عدته، وأخذوا مصافهم، ووقفوا مواقفهم، وقد حمي الوطيس، ودارت رحى الحرب، واشتد القتال، وتنادت الأقران: النزال ! النزال! وهو في الملجأ والمغارات والمدخل، مع الخوالف كمين، وإذا ساعد القدر وعزم على الخروج، قعد فوق التل مع الناظرين، ينظر لمن الدائرة، ليكون إليهم من المتحيزين، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيمانه أني كنت معكم وكنت أتمنى أن تكونوا أنتم الغالبين " (شرح القصيدة النونية ا للشيخ محمد خليل هراس) (1/ 8).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل الله "
( تاريخ بغداد) (12/ 410).
وقال الإمام يحيى بن يحيى النيسابوري: "الذب عن السنة أفضل من الجهاد" (نقد المنطق ) (ص 12)
([41]) ذكر هذا الأثر الإمام أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني رحمه الله في "الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة " (ص 303 ) من طريق الطبراني أنه قال : نا محمد بن الحسن بن كيسان ، نا أبو حذيفة ، نا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن خالد بن سعد أن حذيفة - رضي الله عنه - لما حضرته الوفاة دخل عليه أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - فقال : يا أبا عبد الله إعهد إلينا فقال حذيفة : أو لم يأتك اليقين أعلم ( فذكره )
([42] ) انظر " النهاية في غريب الأثر " (1 / 928) ، و " فتح الباري " ( 6 / 619 ) , و " مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح "
( 1 / 301 )
رد: تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
قال في مقاله " التأليف لا الهجران : ((شيوع المقاطعة والهجران في أوساط بعض فئات الشباب الذي يرتاد المساجد لا يخفى , والعجب أن بعضهم إنما يهجر من يحافظ على الصلوات في المساجد , أمّا غيرهم ممن لا يصلي أصلاً فهذا خير من هذا عنده , حتى إذا هداه الله سلطت عليه الأضواء فكان أول ما يتلقاه : إيّاك وفلاناً , ولا تسمع لفلان , ولا تكلم فلاناً , فيكون أول ما يعلم دعوته إلى كراهية الناس وبغضهم حتى يستقيم ولاؤه , وكثيراً ما يكون المنطلق في الهجران خلاف في أمر فرعي عملي , من العسير إنهاء الخلاف فيه , لكن هؤلاء يريدون أن ينتهي الخلاف بفتوى عالم سمعوها , وفتوى العالم في بعض الحالات قد تكون غير ملزمة , وإنما يتبعها من اقتنع بها , وإلاّ لانتقلنا من تقليد وتعصب نحاربه إلى تعصب أنكى واخطر , فإذا لم تتبع فتوى عالم رآها صاحبك هجرك , وهو لا يتوسط في هجرانك بحيث يكف لسانه عنك , ويرعى فيك ذمّة الإسلام , وأخوة الإيمان , فيلقي عليك السلام أو يرده , بل ينقلب بين عشية وضحاها من صديق إلى عدو , أو من تلميذ لازمك سنوات إلى مناوئ لا يلقاك , ورحم الله الشافعي , فقد ناظره يونس الصدفي يوماً في مسألة ثم افترقا , فلما لقيه أخذ بيده ثم قال :" ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة " (السير : 10/16) .
وهذا الهجران كما هو معلوم , وإن صدر ممن يستساغ منه , لانزجار المهجور به , كالشيخ لتلميذه , والأب لابنه , والزوج لزوجته , وذي المكانة الشرعية والاجتماعية لغيره , فإنه ينبغي أن يكون بعد الاتصال بالمذكورين لمعرفتهم عن كثب , والاطلاع على أحوالهم , وتقديم النصح لهم , والتفريق بين من شأنه المجاهرة والإصرار ,ممن دأب على المخافتة والإسرار , أما الواقع فإنه كثيراً ما يحصل ذلك بناء على النقل ممن لا يحسنونه , أو يفسدونه جهلاً , أو عمداً وقصداً , ثم يذكر لبعض أهل العلم , أو لمن ليسوا علماء , ممن وجد فيه بعض هؤلاء ضالتهم , فيصدرون لهم فتاويهم من بعيد في تجريح الناس وشتمهم , وقد يسجل كلام بعض الناس في غفلة منهم , ثم يرفع سيفاً مصلتا , والهفوات لا ينجو منها إلا القليل , وما على المحسنين من سبيل ..... والذي أعلمه أن الأصل في المؤمن أن لا يقاطع , والهجر إنما هو كالترخيص , وهو في الأصل مما يجوز , لا مما يجب , وإن كان قد يجب , ومن تراجم البخاري رحمه الله قوله : "باب ما يجوز من الهجران لمن عصى " , كما أن المسلم لا يكره كراهة مطلقة , بل بمقدار ما معه من الخير , ويكره بمقدار ما هو عليه من الشر ...
ومن هنا فإن مسألة الهجران هذه من المسائل التي تختلف فيها الأنظار , لأنها من جملة ما يختلف حكمه بحسب الزمان والمكان والأحوال والأشخاص ,فهجران المسلم أخاه منوط بالمصلحة الدينية التي تعود على المهجور أو الهاجر , أو غيرهما , وبعض هذه الأقسام داخلة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . )) ([1] )
أقول :
قد بينت زيف هذا الهراء في كتاب ( القول الواضح في كشف زيف المقال الفاضح المسمى بـ" التأليف لا الهجران " ) ، بما يكفي ويشفي إن شاء الله ، لكن لما عزمت على استجماع ضلال الرجل في مصنف جامع قد حوى أراجيفه ـ عفانا الله وإياكم منها ـ، استعنت بالله تعالى على التوضيح والبيان ما تضمن كلامه هذا من الفساد نصحا للعباد ، فمنه التوفيق والسداد .
أولا : إن ما شغب و رجف به بن حنفية في هذه الأسطر ، لا يخفى أمره على أهل السنة ، إذ أنهم قد عرفوا أهل هذه الشنشنة ، وماذا يريدون منها ؟ وما الغرض من إثارتها من حين إلى حين في المجتمعات الإسلامية ؟
فمن سوء حظه وفضيحة سيرته وفظاعة حماقته أنه تشبت بشبهات قد سبق إليها فحلت وأنحلت واضمحلت .
وذلك أن ما شنشن به هنا قد دل الكتاب والسنة وانعقد إجماع الأمة على فساده ووهائه ، وأحسن من بيّن ذلك الشيخ المفضال خالد بن ضحوي الظفيري ـ حفظه الله ـ في كتابه الجامع الماتع " إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء " ، بما يكفي ويشفي في النقض والدحض هذه الشبهة الفاسدة ، فنأمل من أهل الإسلام من الرجوع إليه ،فيقفوا على مادته الأثرية القوية التي فضحت كذب القوم على المنهج السلفي وأهله مما هم منه برءاء ، وما هم عليه من الجريمة الكبيرة والخيانة العظيمة للأمة .
ثانيا : قوله : "شيوع المقاطعة والهجران في أوساط بعض فئات الشباب الذي يرتاد المساجد لا يخفى , والعجب أن بعضهم إنما يهجر من يحافظ على الصلوات في المساجد , أمّا غيرهم ممن لا يصلي أصلاً فهذا خير من هذا عنده , حتى إذا هداه الله سلطت عليه الأضواء فكان أول ما يتلقاه : إيّاك وفلاناً , ولا تسمع لفلان , ولا تكلم فلاناً , فيكون أول ما يعلم دعوته إلى كراهية الناس وبغضهم حتى يستقيم ولاؤه "
لقد جمع كلامه هذا بين الغلو في نقده أهل السنة وبين تضييع وتمييع أحكام الشريعة التي ينبغي بيانها وتفصيلها في مثل هذه المقامات ، وأنه من أقبح القبائح مغمغتها وغمغمتها في مثل هذه المحطات ، وذلك أن الشباب الذين وجه سهام نقده إليهم ـ كما هو في كثير من كتاباته ـ ما هم إلا أناس أهل الإتباع والسنن والغيرة على العقيدة السلفية ، الساعون في الإصلاح ما أفسده أهل الأهواء والبدع في مجتمعاتهم من العقائد والأحكام العملية والسلوك بقدر ما يستطعون ، وبحسب ما هم عليه من الحصيلة العلمية ([2])، فكان مما تصدوا له وأجمعوا أمرهم على كشف عواره الحزبية وقواعدها الفاسدة التي خيمت على كثير من قلوب وعقول شباب الأمة الجزائرية ، ومن ذلك كتابه " هل الحزبية وسيلة للحكم بما انزل الله " الذي خدم الحزبية وميع أصول السنة بطريقة ماكرة خبيثة ، فما كان منهم والحالة هذه إلا أن يتصلوا بأهل العلم يسألونهم عن بعض ما جاء في هذا الكتاب من البضاعة الزائفة الدخيلة، ليقفوا على مدى صحتها وقبولها في ميزان الشارع ، فوفق لهم العلامة المجاهد الناقد عبيد بن عبدالله الجابري ـ حفظه الله ـ ، فأبدى وبيّن لهم ما خالف فيه الرجل من الحق مما جاء في سؤالهم من هذيانه ، ونصحهم حينها بتركه ([3] )، فاستجاب الشباب السلفي لنصيحة الوالد العلامة عبيد الجابري ، فتركوا الرجل منبوذا ، فما كان منه عند ذلك إلا أن يضج ويعج كعادته على أهل السنة بالتنقيص والطعن والاحتقار والتزهيد في مرجعيتهم ورد نصائحهم ، متماديا في باطله الذي تبناه منهجا ومسلكا له ، ومن ذلك ما نحن في صدد بيانه وتفتيته .
فإذا كان كذلك يا معشر أهل الإسلام ، فهل لنا أن نلوم أولئك الشباب الذين اجتنبوا حزبيته التي أضرت بالأمة الجزائرية أيما ضررـ بل العالم بأسره ـ ونصحوا من أغتر وانخدع به بتركه وعدم الجلوس إليه ، وما ذاك إلا لكي لا يصيبهم مرضه ويؤذيهم عفنه الذي عواقبه وخيمة وجرائمه عظيمة .
أم نوجه اللوم إليه لما هو عليه من عدمية احترام الحق ونصائح أهله ؟!!
فالجواب لا يخفى ـ إن شاء الله ـ على عقلاء الأمة ، وعلى من لم تتنجس قلوبهم بأوضار الحزبية المميعة وقواعدها العفنة ، وخاصة على من هو خبير ومطلع على منهجية الرجل ، وما هو عليه من السيرة السيئة قبلا وحالا، فهو يعلم أن قوله : " شيوع المقاطعة والهجران في أوساط بعض فئات الشباب الذي يرتاد المساجد لا يخفى , والعجب أن بعضهم إنما يهجر من يحافظ على الصلوات في المساجد , أمّا غيرهم ممن لا يصلي أصلاً فهذا خير من هذا عنده ..." ، ما هي إلا مجازفة محيرة ومبالغة كبيرة ، وذلك أن الأوصاف التي ألصق بها هؤلاء الشباب وهم منها برءاء "براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام " ، هي أليق وألصق بالخوارج والتكفيريين والحركيين الثوريين الذين ألان لهم الكلام وسايرهم في كثير من قواعدهم ، بل ودافع عنهم ، وجعل أن ما حدث في بلاد الجزائر من تلك الأحداث المؤلمة التي توجعت منها الأمة ، ليست هي على عاتق ورقاب مسؤوليتهم ، وإنما اللوم والمسؤولية على عاتق الحكومة ، هذا الذي نفهمه من كلامه وما هو عليه من التذبذب والاضطراب ( [4] ) ، حيث قال في حاشية كتاب "هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " ( ص : 82 ) وهو يتكلم عن كتاب " مدارك النظر " : ((.... وهو كتاب فيه كثير من الحق ولا سيما الجانب العلمي والنظري منه .... لكنه حين تعرض لبيان ما حصل في الجزائر منذ أحداث أكتوبر 1988 ، قسا في تناول بعض الناس والتثريب عليهم ، حين استعرض مواقفهم بالتشريح والنقد ، حتى لكأن كل ما أصيبت به الجزائر إنما فعله فلان وفلان ، وقد يكون غرضه نصح للناس
في ذلك الوقت الذي كانت الفتنة فيه هائجة مائجة ، تحذيرا ممن ظنهم المتسببين فيها ، فإن تآليف الناس وكلامهم ومواقفهم ينبغي أن يراعى في تقويمها المحيط والظروف التي قيلت فيها ، لكنني
مع وضع هذا الغرض في الحسبان ، أرى أنه ممكن التحقيق بأدنى مما بلغه الكاتب من شدة ،
والعلم عند الله )) ا.هـ
وهذه هي حال يا أيها القراء الأعزاء ـ عفاكم الله من الحزبية وأهلها ـ من يبتعد عن منهاج النبوة علما وعملا ويرتكس في أودية الحزبية ، يختل تصوره وتختلط عليه الأمور ، فيجعل الحق باطلا والباطل حقا ، ويجمع منهجه بين الغلو والجفاء ([5] )، كما هو حال بن حنفية هنا ، فقد غلى في ذم أهل السنة مما هم منه برءاء وجفاهم ، وقصر في نقد أهل الباطل وأخفى الحقيقة التي هم عليها وغش أمته .
والذي يبين ذلك ويظهر هذه الحقيقة ، أن أهل السنة أحرص الناس على دعوة الخليقة إلى السنة وعلى تبصيرهم فيما يجب عليهم ويستحب من العبادات القلبية والقولية والجوارحية ، وهم في ذلك يسعون في تأليف الناس وتحمل أذاهم ،وإن سمعوا منهم ما سمعوا من الإهانات والسخريات التي هي أشد على القلوب من طعنات السيوف ، والله لقد لمسنا ذلك في محيطنا ومجتمعنا لما عليه إخواننا من هذا الأذى ، وما هم عليه من الصبر والدفع لتلك الإهانات بما أوتوا من التحمل والصبر ، ومع ذلك لا ندعي فيهم العصمة ولا وفي أئمتنا العظام ، ولا ندعي في إخواننا الكمال وعدم التقصير والهفوات ، ومن يسلم من ذلك ، لكن هل من الإنصاف والعدل أن نجعل من الحبة قبة ومن الهفوة خطيئة لا تغفر ؟!!
فبالله عليكم هل قامت الصوفية الخرافية و المتكلمة والإخوان البنية والتبليغ ( الصوفية العصرية ) والقطبية وجميع الأحزاب المعاصرة والمتمذهبة بما قام به هؤلاء الشباب السلفي من دعوة الخليقة إلى العقيدة الصحيحة ودعوتهم إلى إتباع الدليل ونبذ التقليد ، فكانت دعوتهم في مجتمعهم بمثابة بروز الشمس من وراء السحب ؟!! أين الموازنات مع هؤلاء الشباب الغرباء يا من تدعون إلى منهج الموازنات !!!
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدّوا
والله إن هذا الشباب الطيب المبارك في هذه الآونة خاصة محتاج إلى العناية وإلى المراكز الحديثية التعليمة تجمع شمله وتبعده عن تلك المدارس الإختلاطية الفاسدة العاطلة وعن الجمعيات الحزبية المبتدعة الباطلة، ويحتاج إلى المشجعات المعنوية والحسية تنعش همته وتشحن عزيمته وتضيء له الأفاق المستقبلي ، لا أن يحطم بتلك الدعايات الكاذبة والاستفزازات الهجينة وتحمل عليك تلك الحملة الشعواء لإسقاطه وتذويب معنوياته الشبابية ، فرقي وازدهار الأمة الإسلامية مرتبط بصلاح وسؤدد وتفوق وأمانة وشجاعة شبابها ، وخير شبابها من سلك مسلك وسبيل شباب العهد النبوي وما بعده من القرون المفضلة في معتقده ومنهجه وسلوكه علما وعملا ودعوة ، وإلا فماذا فعل الشباب الذي شحن بالبدع والخرافات وعطل عقله لما هو عليه من التقليد الأعمى طيلة هذه القرون الماضية ، هل انتفعت به الأمة ؟ وماذا صنع لها ؟ وأي خدمة قدمها لها ؟!!!
ثالثا : كان بودنا من بن حنفية أن يتحفنا ويبين لنا من هؤلاء الأفاضل الذين هجرهم أولئك الشباب السلفي ليزول الإشكال وينجلي تلبيسه وتدليسه الذي تضمنه كلامه .
فإن كان الذين هجروهم من أهل السنة ، فينكر عليهم صنيعهم ، ويستفصل حينها عن الحامل الذي حملهم على ذلك ، فإن كان مبناه على أغراض شخصية أو مسائل اجتهادية أو بغي وظلم ، فيشنع ويشتد النكير عليهم ، وينبهون أن هذا المنهج الذي انتهجوه والمسلك الذي سلكوه ما هو إلا منهج حدادي غالي جاني على أهل السنة والجماعة .
ولكن هذا الاحتمال بعيد ، وكتاباته الذي هاجم بها أهل السنة الخلص الذين حاربوا الغلو والحدادية ، تفضح تلاعبه ، ويزيده وضوحا أنه ما رأينا له ولا كتابة واحدة يبين فيها حقيقة القطبية والسرورية والحدادية وسائر الغلاة المبتدعة وشيوخهم ، حينها قام عساكر الإيمان وجنود السنة والقرآن ، وقد لبسوا للحرب لامته ، وأعدوا له عدته ، وأخذوا مصافهم ووقفوا مواقفهم ، وقد حمي الوطيس ، ودارت رحى الحرب وأشتد القتال ، التجأ هو ومن كان على شاكلته إلى الكهوف والمغارات ، ينتظر الدائرة لمن ، ليكون إليهم من المتحيزين ([6])، وكان كذلك .
بل أدهى من ذلك وأمر قد عرفتم ـ بارك الله فيكم وعفاكم من التمييع وأهله ـ أنه متعاطف ومتلطف معهم بخلاف ما هو عليه من شدته في معاملته لأهل السنة.
فإذا عرفنا هذه الحقيقة ، عرفنا أنه ما يريد بهذا الطعن والغمز إلا أهل السنة الذين أعملوا وامتثلوا النصوص الدالة والحاثة والآمرة بهجران أهل الفساد والفتن ، فهجروا ونبذوا صاحب كل بدعة وضلالة ممن قد عرف بالفتن والثورية في مجتمعه ، فهل بالله عليكم يلامون على هذا العمل السني الفاضل أم يبارك لهم عليه ؟!
ألا يعد صنيعهم هذا من المناقب الفاضلة والفضائل الجليلة التي يثنى على أهلها ، كما هو عليه عمل أهل السنة والحديث قاطبة من أنهم قد أشادوا ورفعوا وعظموا كل من عُرف بشدته على أهل البدع والأهواء ، ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في "جامع العلوم والحكم " (ص 2) عن نُعيمُ بنُ حماد المروزي أنه قال فيه : (( ... فإنَّ أئمةَ الحديث كانوا يُحسنون به الظنَّ ، لِصلابته في السُّنة ، وتشدُّده في الرَّدِّ على أهل الأهواء )) ا.هـ
وقال الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ في الإمام حماد بن سلمة : (( إذا رأيت من يغمزه، فاتهمه، فإنه كان شديدا على أهل البدع )) ([7] )
وجاء في ترجمة الإمام ابن منده رحمه الله من " السير " (18 / 352) : قال يحيى بن منده: (( كان عمي سيفا على أهل البدع، وهو أكبر من أن يثني عليه مثلي، كان - والله - آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر ))
وجاء أيضا في ترجمة الإمام أبي عبد الله محمد بن الفرج القرطبي المالكي ـ رحمه الله ـ من " السير "( 19 / 199) : قال القاضي عياض: (( كان صالحا، قوالا للحق، شديدا على المبتدعة ))
فإذا كان كذلك فما قيمة قولك هذا يا بن حنفية ، وأنت تصارع في أصول السنة وإجماعات أهلها المتمثلة في الهجر والتحذير من أهل الأهواء والبدع !!
رابعا : قوله : " والعجب أن بعضهم إنما يهجر من يحافظ على الصلوات في المساجد , أمّا غيرهم ممن لا يصلي أصلاً فهذا خير من هذا عنده "
هذا الكلام باطل من أوله إلى آخره وساقط بمرة ترده السنة وإجماع الأمة ، فما قيمة وفضل هؤلاء المصلين مع الذين هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأيضا أين عبادة وصلاة وصيام وقراءة الخوارج الذين قاتلهم الصحابة رضي الله عنهم ([8] )، وأين عبادة وزهد وتقشف الصوفية الذين حذر منهم سلفنا الصالح ، بل لو أحدنا قلب صفحات كتب السير والتراجم والجرح والتعديل لوقف على عجيب ما كان عليه القوم من العبادة والتنسك ، ومع ذلك ما منع سلفنا أئمة الحديث والأثر من هجرهم والتحذير منهم لما هم عليه من البدعة .
وإلا فكلام بن حنفية هذا يسيء بالدرجة الأولى من حيث يشعر أو لا يشعر إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وينادي بأن الكتاب والسنة وأئمة الحديث نقلة الأخبار ورواة الآثار قد ظلموا ممن تكلموا فيهم ، ولكن الرجل أوتي من جهله وهواه ، فهو يهرف بما لا يعرف ، هذا وجه
الوجه الثاني : قد تقرر في الشريعة الإسلامية أن ضرر أهل البدع والأهواء على أهل الإسلام أشد وأعظم من خطر أهل الملل عليهم كما بينت ذلك سابقا .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله ـ في " فتح القدير " ( 1 / 154 ) : (( اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب ، كما يشبه الماء الماء ، والبيضة البيضة ، والتمرة التمرة ، وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ، ويظهرون أنهم ينصرون الدين ، ويتبعون أحسنه ، وهم على العكس من ذلك ، والضدّ لما هنالك ، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة ، حتى يسلخوه من الدين ، ويخرجوه منه ، وهو يظنّ أنه منه في الصميم ، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم ، هذا إن كان في عداد المقصرين ، ومن جملة الجاهلين ، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق ، والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم ، وختم على قلبه ، وصار نقمة على عباد الله ، ومصيبة صبها الله على المقصرين؛ لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق ، ولا يتبع إلا الصواب ، فيضلون بضلاله ، فيكون عليه إثمه ، وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة ، نسأل الله اللطف ، والسلامة ، والهداية )) ا.هـ
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في شأن الصوفية من كتابه " أضواء البيان " ( 4 / 546 ) : (( استعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين )) ا.هـ
وهذا الضرر كما يعلم هو من جهة الفتنة بهم ، والتباس أمرهم على العامة لأنهم من أهل القبلة وليس الكلام في المفاضلة بينهما باعتبار العذاب الأخروي ، فلينتبه لهذا ([9] )
فإذا كان كذلك فلا داعي يا بن حنفية من التلبيس والتمويه والكذب على الأبرياء ، وإلا فأهل السنة والجماعة نزهاء من معتقد وضلال الخوارج والمعتزلة والحمد لله رب العالمين
خامسا : قوله " وكثيراً ما يكون المنطلق في الهجران خلاف في أمر فرعي عملي , من العسير إنهاء الخلاف فيه , لكن هؤلاء يريدون أن ينتهي الخلاف بفتوى عالم سمعوها "
هذا من الكذب الواضح والتمويه الفاضح قد كشفته كتاباتك الباطلة وتقريراتك الفاشلة التي تخالف نصوص الكتاب والسنة و تصادم إجماعات السلف الصالح وأصول منهجهم المبارك كما أوضحنا ذلك بما يكفي ويغني والله المستعان
سادسا : قوله : " لكن هؤلاء يريدون أن ينتهي الخلاف بفتوى عالم سمعوها , وفتوى العالم في بعض الحالات قد تكون غير ملزمة , وإنما يتبعها من اقتنع بها , وإلاّ لانتقلنا من تقليد وتعصب نحاربه إلى تعصب أنكى واخطر "
هذا من القواعد التي وضعها أبوالحسن المأربي ومشى عليها أهل التمييع من الحلبي وغيره لرد كلام علماء الحديث في الأشخاص الذين ظهر انحرافهم بالبدعة أو الحزبية ، فقد ـ ولله الحمد والمنة ـ تصدى لها علماء السنة والحديث في نقضها وكشف ضلالها ومنهم : أحمد بن يحيى النجمي ـ رحمه الله ـ ، وربيع المدخلي وعبيد الجابري ([10] ) ومحمد الوصابي ([11] ) ومحمد بازمول ([12]) ومحمد بن عبدالله الإمام ([13] ) وعبدالعزيز البرعي ([14] ) ، وقد أحسن وأبدع وكفى وشفى الشيخ الفاضل أحمد بازمول ـ حفظه الله ـ في كشف هذه الضلالة في كتابه الماتع النافع " صيانة السلفي من وسوسة وتلبيسات الحلبي " ، جزاه الله خيرا على ما قام به من خدمة السنة وأهلها في هذا الكتاب ، فليرجع إليه للوقوف على حقيقة هذه الضلالة الشنيعة والبدعة الفظيعة ، إلا أنه لا أبخل على إخواني القراء من نقل بعض ما جاء عنهم في الدحض هذه البدعة
يقول العلامة الأصولي محمد بازمول ـ حفظه الله ـ في رسالته " عبارات موهمة "
: (( ومن العبارات الموهمة : قول بعضهم: "أنا غير ملزم بتقليد هذا الشيخ أو ذاك".
هذه العبارة يطلقها بعض الناس زاعماً أن هذا منهج السلف، والحقيقة أن إطلاق هذه العبارة فيه نظر من جهات:
أولاً : محل هذه العبارة حينما يظهر في مسألة دليل يلزم المصير إليه، فهنا لا عبرة بأحد كائناً من كان إذا خالف كلامه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت عنه، إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً : استعمال هذه العبارة في المسائل الاجتهادية من طالب العلم، ليرد بها كلام العلماء الذين هم أكبر منه وأسن منه وأعلم وأتقى منه خلاف سنة السلف الصالح رضوان الله عليهم، حيث كان الواحد منهم في مثل هذه المسائل يترك قوله لقول من هو أعلم منه، و ما كان يقول: أنا لست ملزماً بقول الشيخ.
ثالثاً : المسلم الأصل فيه أن يتهم نفسه؛ خاصة إذا كان في محل يخالف فيه ما قرره من هو أعلم منه، فإن عليه أن لا يستبد بالرأي. كيف إذا كان المقام أصلاً مقام خبر يلزمه اتباعه ولا يسوغ له مخالفته؟ بل حتى في مسائل الاجتهاد فإن من سنة الصحابة رضوان الله عليهم أن أحدهم كان يترك قوله لقول من هو أعلم منه.
رابعاً : إجلال العلماء سنة. وهذه العبارة تخالف إجلال العلماء، نعم إذا ظهر في المسألة دليل يلزم المصير إليه، والأخذ به، فإنه لا عبرة بقول أحد مع الدليل كائنا من كان، إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحال هنا أن بعض الناس يقول هذه العبارة في مقام لم يظهر فيه الدليل على خلاف العالم، أليس الحق هنا أن يرى للعلماء فضلهم وأنهم أهدى وأعلم وأورع وأتقى، ويتهم نفسه أمام قولهم ويحذر من خلافهم؟! اللهم غفراً.
خامساً : التقليد ليس بمحرم على الإطلاق، فإن العامي ومن في حكمه ـ من المتبع إذا لم يتيسر له معرفة الدليل والمجتهد إذا لم يتيسر له الاجتهاد والنظر في الدليل ـ عليه أن يقلد، وهذا هو الواجب في حقه. وقد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في المسألة التي لا يعرف دليلها أنه كان يأخذ فيها بقول الشافعي رحمه الله. والعبارة بإطلاقها قد توهم أن المسلم ليس له أن يقلد، وهذا خلاف ما قرره أهل العلم في ذلك.
سادساً : هناك فرق بين الإتباع والتقليد، فالإتباع أخذ بقول ظهر لك دليله، والتقليد أخذ بقول وتقلده كالقلادة في العنق تنقاد له بدون دليل. والذي يُمنع لمن تأهل وقدر على الأخذ بالدليل هو التقليد، أمّا الإتباع وهو أخذ قول العالم بدليله الذي ظهر لك لا يمنع منه، بل هذا اللازم لمن قدر عليه ولم يقدر على ما هو أكثر منه.
سابعاً : ينبغي التفريق بين مقام الأخذ باجتهاد المجتهد في مسألة اجتهادية، وبين إتباع العالم فيما أخبر به، فإن اتباعه والحال هذه من باب قبول خبر الثقة، وهو واجب، إلا أن يظهر خطؤه، فلا يقال في هذا المقام: "لست ملزما بقول هذا العالم" أو "لا أقبل كلامه في فلان حتى أقف عليه بنفسي"، هذا كله استعمال لهذه العبارة في غير محلها. فالرجل المعروف لديك إذا جاء جرحه المفسر من عالم ثقة الأصل أن تتبع كلام هذا العالم و لا تقول: أنا أعرفه فلا آخذ بهذا الجرح المفسر حتى أقف عليه بنفسي. هذا لا يقال وهو خروج عن طريق السلف في ذلك. نعم الجرح المجمل في حق من ثبتت عدالته لا يقبل. والجرح مقدم على التعديل إلا أن يذكر المعدل سبب الجرح ويرده. )) ا.هـ
سابعا : قوله : " والذي أعلمه أن الأصل في المؤمن أن لا يقاطع , والهجر إنما هو كالترخيص "
هذا الكلام فيه من التلبيس والإيهام والتلاعب ما فيه ، وهيهات ثم هيهات أن تنطوي حقيقته على أهل السنة ، وإذا كان الأمر كذلك فأقول مستعينا بالله في تشريح وبيان عور خباياه :
نعم قد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار السلفية الحاثة والداعية إلى الاجتماع والتآلف والأخوة والمحبة والمودة والتعاون بين أهل الإسلام على الطاعات والقربات ما يحقق ويكمل لهم هذه العبادات ، والناهية عن الاختلاف والافتراق والتدابر والتقاطع والبغضاء والحسد والحقد والحيل والغش وجميع الخلال التي تكون سببا في تمزيق وحدة الأمة وإضعاف قواها وتسلط الأعداء عليها وتعطيل تلك العبادات، و عد هذا من المطالب الجليلة والمصالح العظيمة التي جاءت الشريعة الإسلامية ببيانه وتحقيقه وتكميله ، ورتبت على من سعى في إفساده وتخريبه وتعطيل الطرق الموصلة إلى تحقيقه وتكميله من الوعيد الشديد والعقوبات الكبيرة ما يردع ويزجر أهلها كما هو منصوص في مظانه ، ومن هنا شرع العقوبة والهجر والتحذير من أهل البدع والأهواء ، لأنه ليس أضر على التحقيق هذه المصالح وتكميلها مثل مضرة البدع المحدثة وأهلها على الأمة الإسلامية ، كما برهن على ذلك التاريخ والواقع المشاهد ، فإذا كان كذلك فأي قيمة وكرامة لهذا المبتدع المجرم الضال بين أهل الإسلام وإن صلى وصام وتظاهر بما تظاهر به من العبادات ، وهو يفتك بأصول السنة تخريبا وإفسادا وتشغيبا ، ويسعي في تمزيق الأمة الإسلامية وتفريق جماعتها !!!
جاء عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في " المدونة " (1 / 530) أنه قال في الإباضية والحرورية وأهل الأهواء كلهم : (( أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا ))
و قال في القدرية والإباضية: (( لا يصلى على موتاهم ولا تشهد جنائزهم ولا تعاد مرضاهم، فإذا قتلوا فأحرى أن لا يصلى عليهم. ))
وقال الإمام أبوعبدالله ابن أبي زمنين ـ رحمه الله ـ في " أصول السنة " ( 208 ) : (( أخبرني إسحاق عن ابن لبابة عن العتبي عن عيسى عن ابن القاسم أنه قال في أهل الأهواء مثل القدرية والإباضية وما أشبههم من أهل الإسلام ممن هو على غير ما عليه جماعة المسلمين من البدع والتحريف بكتاب الله وتأويله على غير تأويله ، فإن أولئك يستتابون أظهروا ذلك أم أسروه فإن تابوا وإلا ضربت رقابهم لتحريف كتاب الله وخلافهم جماعة المسلمين والتابعين لرسول الله ولأصحابه وبهذا عملت أئمة الهدى .
وقد قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : الرأي فيهم أن يستتابوا فإن تابوا وإلا عرضوا على السيف وضربت رقابهم ومن قتل منهم على ذلك فميراثه لورثته لأنهم مسلمون إلا أنهم قتلوا لرأيهم رأي السوء )) ا.هـ
وقال الإمام عبدالله بن أحمد بن حنبل : (( سألت أبي عن رجل ابتدع بدعة يدعو إليها وله دعاة عليها هل ترى أن يحبس ؟، قال : نعم أرى أن يحبس وتكف بدعته عن المسلمين )) ([15])
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى " (28 / 205 ـ 206) : (( وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ لِمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَظَالِمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَنَّهَا بِدَعٌ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ : إنَّ الدُّعَاةَ إلَى الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ وَلَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْعِلْمُ وَلَا يُنَاكَحُونَ . فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ لَهُمْ حَتَّى يَنْتَهُوا ؛ وَلِهَذَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِخِلَافِ الْكَاتِمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَرًّا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ . وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَلَكِنْ إذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ } وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } . فَالْمُنْكَرَاتُ الظَّاهِرَةُ يَجِبُ إنْكَارُهَا ؛ بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا عَلَى صَاحِبِهَا خَاصَّةً .)) ا.هـ
وقال الإمام أبوالفرج ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في "جامع العلوم والحكم "(ص : 139)
عند شرحه لحديث عبدِ الله بن مَسعودٍ رضي الله عنه قالَ : قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ إلاَّ بِإحْدَى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، والنَّفسُ بالنَّفسِ ، والتَّارِكُ لِدينِهِ المُفارِقُ لِلجماعَةِ )) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ
قال : ((ومِنْ هذا الباب ما قاله كثيرٌ من العلماء في قتل الدَّاعية إلى البدع ، فإنَّهم نظروا إلى أنَّ ذلك شبيهٌ بالخروج عَنِ الدِّين ، وهو ذريعةٌ ووسيلة إليه ، فإن استخفى بذلك ولم يَدْعُ غيرَه ، كان حُكمُه حكمَ المنافقين إذا استخفَوا ، وإذا دعا إلى ذلك ، تَغَلَّظ جرمُه بإفساد دين الأمة ، وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الأمر بقتال الخوارج وقتلهم .... فيستدلَّ بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شرَّه عن المسلمين ، ويحسم مادة الفتن ، وقد حكى ابنُ عبد البر وغيرُه عن مذهبِ مالكٍ جوازَ قتل الدَّاعي إلى البدعة .)) ا.هـ
قلت : إن شاء الله بهذا العرض للآثار السنية وتقريرات أئمة الدعوة السلفية ما يكفي ويغني في نسف أباطيل بن حنفية المميعة الخلفية التي أراد أن يدافع ويحامي بها عن أهل البدع والأهواء ، ويصارع بها النصوص الدالة والمقررة على تعزير وعقوبة أهل الفساد والإجرام والفتن والمعاصي .
ثامنا : قوله : " وهذا الهجران كما هو معلوم , وإن صدر ممن يستساغ منه , لانزجار المهجور به , كالشيخ لتلميذه , والأب لابنه , والزوج لزوجته , وذي المكانة الشرعية والاجتماعية لغيره ... فهجران المسلم أخاه منوط بالمصلحة الدينية التي تعود على المهجور أو الهاجر , أو غيرهما , وبعض هذه الأقسام داخلة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "
لقد أبان وأشبع شيخنا القدوة المحقق عبدالله بن عبدالرحيم البخاري ـ حفظه الله ـ في تعليقاته " التعليقات الصريحة على رسالة النصيحة للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي " ( الحلقة الثانية ) ، في كشف هذا الخلط والمغمغة والتداخل الذي عليه كلام هذا الرجل ، وكل من رجف بأراجيفه ، فقد كفى وشفى من نور الله قلبه باحترام الحق ونصائح أهله ، لله دره .
فلأهميتها ، وقوة بيانها وغزارة مادتها وصفاء منهجها الأثري السلفي ، ساح قلمي في صفحاتها يقتطف من ثمارها اليانعة ونقولاتها الجامعة ما يدحض بها ألاعيب بن حنفية الشنيعة ومنهجيته المميعة ، فمعنا يا أيها القراء الكرام مع المادة الماتعة والإرشادات النافعة :
ما شُرع هجر أهل الفساد والفتن والأهواء في الشريعة الإسلامية إلا لتحقيق مقاصد جليلة ومصالح عظيمة فوق وأسمى ما عليه ركاكة تخليطات بن حنفية وتلبيساته الفاحشة والتي منها كما بينها الشيخ :
المقصد الأول : تحقيق العبودية لله عز وجل ، ذلك أن الهجر لله عبادة وحق لله تعالى ، فالقيام به قيام بأمر شرعي يجب فيه ما يجب في بقية الأمور الشرعية ، أن تكون لله خالصة ووفق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى " (28 / 207) : ((.. فَالْهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ . فَالطَّاعَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِهِ فَتَكُونُ خَالِصَةً لِلَّهِ صَوَابًا . فَمَنْ هَجَرَ لِهَوَى نَفْسِهِ أَوْ هَجَرَ هَجْرًا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ : كَانَ خَارِجًا عَنْ هَذَا . وَمَا أَكْثَرَ مَا تَفْعَلُ النُّفُوسُ مَا تَهْوَاهُ ظَانَّةً أَنَّهَا تَفْعَلُهُ طَاعَةً لِلَّهِ .... فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ اللَّهِ وَبَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ نَفْسِهِ . )) ا.هـ
المقصد الثاني : تحقيق عقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله ، لأن المؤمن مأمور بذلك ومن تحقيق هذا الأصل العظيم : البراءة من البدعة والمبتدعة ، فأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ، ونصوص الوحيين تدل على وجوب تحقيق هذا الاعتقاد ، وهذا الذي فهمه سلف الأمة الصالح فنصوا عليه وطبقوه عمليا ومما يدل على هذا المقصد قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }[ المائدة : 57 ]
قال العلامة الشوكاني في" فتح القدير " (2 / 54) : (( هذا النهي عن موالاة المتخذين للدين هزواً ولعباً يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين ، وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام ، والبيان بقوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } إلى آخره لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة التي هي الباعثة على النهي ))
المقصد الثالث : القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن المبتدع مفتات على الشريعة المحمدية فوجب إنكار هذا المنكر إعلاء لكلمة الله لأنه من أعظم الجهاد في سبيل الله
قال الإمام ابن القيم في " الصواعق المرسلة –" (1 / 301 ـ 302 ) : (( فكشف عورات هؤلاء وبيان فضائحهم وفساد قواعدهم من أفضل الجهاد في سبيل الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : " إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن رسوله وقال أهجهم أو هاجهم وجبريل معك " ، وقال : " اللهم أيده بروح القدس ما دام ينافح عن رسولك " ، وقال عن هجائه لهم : " والذي نفسي بيده لهو أشد فيهم من النبل " ، وكيف لا يكون بيان ذلك من الجهاد في سبيل الله وأكثر هذه التأويلات المخالفة للسلف الصالح من الصحابة والتابعين وأهل الحديث قاطبة وأئمه الإسلام الذين لهم في الأمة لسان صدق يتضمن من عبث المتكلم بالنصوص وسوء الظن بها من جنس ما تضمنه طعن الذين يلمزون الرسول ودينه وأهل النفاق والإلحاد لما فيه من دعوى أن ظاهر كلامه إفك ومحال وكفر وضلال وتشبيه وتمثيل أو تخييل ثم صرفها إلى معان يعلم أن إرادتها بتلك الألفاظ من نوع الأحاجي والألغاز لا يصدر ممن قصده نصح وبيان فالمدافعة عن كلام الله ورسوله والذب عنه من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله وأنفعها للعبد ))
المقصد الرابع : النصح للأمة عامة ، لأن المبتدع فاسد مفسد فيجب الحذر منه ومن بدعته ومنع انتشارها وأن يحمى العامة عن الوقوع فيها ، إذ من المسلمات أن الدين النصيحة كما جاء به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ( الصحيح ) ـ ( 1 / رقم 55 ـ ط عبدالباقي ) وغيره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في " مجموع الفتاوى "( 15 / 286 ـ 287) : (( وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْلِنِ بِالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ غَيْبَةٌ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَأَدْنَى ذَلِكَ أَنْ يُذَمَّ عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ وَيَكُفَّ النَّاسُ عَنْهُ وَعَنْ مُخَالَطَتِهِ وَلَوْ لَمْ يُذَمَّ وَيُذْكَرْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْبِدْعَةِ لَاغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ وَرُبَّمَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْتَكِبَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَيَزْدَادَ أَيْضًا هُوَ جُرْأَةً وَفُجُورًا وَمَعَاصِيَ فَإِذَا ذُكِرَ بِمَا فِيهِ انْكَفَّ وَانْكَفَّ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ صُحْبَتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : { أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرُهُ النَّاسُ } وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا .
و " الْفُجُورُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ أَوْ كَلَامٍ قَبِيحٍ يَدُلُّ السَّامِعَ لَهُ عَلَى فُجُورِ قَلْبِ قَائِلِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْهَجْرِ إذَا أَعْلَنَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً أَوْ فُجُورًا أَوْ تَهَتُّكًا أَوْ مُخَالَطَةً لِمَنْ هَذَا حَالُهُ بِحَيْثُ لَا يُبَالِي بِطَعْنِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَجْرَهُ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ فَإِذَا أَعْلَنَ السَّيِّئَات أُعِلْنَ هَجْرُهُ وَإِذَا أَسَرَّ أُسِرَّ هَجْرُهُ إذْ الْهِجْرَةُ هِيَ الْهِجْرَةُ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَهِجْرَةُ السَّيِّئَاتِ هِجْرَةُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [ المدثر : 5 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } وَقَالَ : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] ))
وقال أيضا في "مجموع الفتاوى " (28 / 231 ـ 232) : (( وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ ؟ فَقَالَ : إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا أَفْضَلُ . فَبَيَّنَ أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَشِرْعَتِهِ وَدَفْعِ بَغْيِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْلَا مَنْ يُقِيمُهُ اللَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ لَفَسَدَ الدِّينُ وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِنْ فَسَادِ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا اسْتَوْلَوْا لَمْ يُفْسِدُوا الْقُلُوبَ وَمَا فِيهَا مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا وَأَمَّا أُولَئِكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ الْقُلُوبَ ابْتِدَاءً .)) ا.هـ
قلت ( بن سلة ) : ثم بيّن ونبه الشيخ ـ حفظه الله ـ في " الحلقة الثالثة " من هذه التعليقات العلمية أن الهجر ليس منوطا ومنحصرا إلا في تحقيق المصلحة الخاصة ، بل راعى أيضا تحقيق المصلحة العامة .
قال ـ حفظه الله ـ في ( ص3 ) : سبق بيان جملة من المقاصد الشرعية للهجر والتي منها : تحقيق العبودية لله وأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق الولاء والبراء والحب في الله والبغض فيه وما يتبع هذه المقاصد من تحجيم المبتدع وبدعته وحماية المجتمع منه ومنها وحماية الشريعة من أن يدخل فيها ما ليس منها باسم الدين وهذه تشمل الهجر التأديبي ( التعزيري ) .
بناء على ما تقدم يمكن القول : إن الهجر التعزيري الذي خرج على وجه العقوبة شرع للمصلحة وهذه المصلحة على قسمين : مصلحة عامة ، ومصلحة خاصة .
فالأولى مشروعة لتحقيق جملة من المقاصد الشرعية المذكورة في موطنها مما سبق ...
والثانية مشروعة لتحقيق ... حصول انتفاع المخالف بالهجر أو... أنه يشرع للمرء أن يهجر كل من يتضرر بمجالسته ومخالطته .
بناء على ما سبق ، فالمطلوب هو السعي في تحقيق المصلحتين ما أمكن وذلك هو الفوز الكبير ، لكن إن لم يكن الأمر كذلك بأن تعارضتا؟ فالمتوافق مع قواعد الشريعة الغراء تقديم المصلحة العامة على الخاصة ، وفي ذلك تحقيق للمصلحة الدينية .
وبالنظر في كلام أهل العلم يتبين عنايتهم التامة بتحقيق المصلحة العامة ، مع مراعاتهم للمصلحة الخاصة المختصة بانتفاع المهجور ، لكن لا يثربون على من هجر شخصا مخالفا ولو لم يظهر انتفاع المهجور من عدمه !! ، وهذا منهم ليس من باب ( الهجر الوقائي ) مما قد يراد أو يظن ، وإنما هو من باب تحقيق المصلحة العامة ، والتي في تحقيقها تحقيق للمقاصد الشرعية من الهجر كلها أو بعضها فمن ذلك :
قال الإمام ابن عبدالبر في " التمهيد " (4 / 70) : (( مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل .
فقال له معاوية ما أرى بهذا بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية ؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك أرضا أنت بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر فذكر ذلك له فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. ))
ثم أسند ابن عبدالبر (4 / 85 ـ 86 ) أثرا عن عبادة رضي الله عنه أنه أنكر على معاوية شيئا فقال : (( لا أساكنك بأرض أنت بها ورحل إلى المدينة فقال له عمر ما أقدمك ؟ فأخبره فقال : ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك وكتب إلى معاوية لا إمارة لك عليه.))
الشاهد من هذين الأثرين قول كل من الصحابيين رضي الله عنهما لمعاوية : (( لا أساكنك بأرض أنت بها ))
فلم ينظرا إلى انتفاع معاوية رضي الله عنه من عدمه ، وإنما نظرا إلى المصلحة العامة وسيأتي ما يدل على هذا من كلام الحافظ ابن عبدالبر حول القصة بحول الله .
وقال في " التمهيد " ( 4 / 87) : (( وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه ، وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين أحدث في تخلفه عن تبوك ، وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام معه. ))
قلت ( الشيخ عبدالله ) : وكلام الأئمة ظاهر جدا فيما تقدم تقريره من أن نظرتهم إلى المصلحة العامة ، والخاصة تبع إن تحققت فبها ونعمت ، وإن لم تتحقق بعدم انتفاع المهجور فالأصل باق يعمل به ، وهو مشروع شرعا .
قلت : ( بن سلة ) : ومما بينه أيضا أن هجر المخالف لا يشترط له قوة الهاجر من حيث مكانته ومنزلته وكونه أحد الولاة ( الأمراء والعلماء ) ، بل يقع حتى ممن لم يكن قويا ، ولو لم يخف على نفسه الضرر ، وإنما تحقيقا للمقاصد السابق ذكرها إما جميعها أو أحدها .
قال ـ حفظه الله ـ في ( ص 17 ) : والذي يظهر : أن قوة الهاجر من حيث مكانته ومنزلته وكونه أحد الولاة ( الأمراء والعلماء ) ، مما يزيد في ردع المهجور كما هو مستفاد من قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم وغير ذلك مما جاء مفصلا في قصتهم كما في ( صحيح البخاري ) ( كتاب المغازي / باب حديث كعب بن مالك ) ( 8 / رقم 4418) ، و( صحيح مسلم ) ( كتاب التوبة / باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه ) ( 4 / رقم 2769 ) ، وينظر فوائد القصة في ( زاد المعاد ) للإمام ابن القيم ( 3 / 575 و 578 ) .
لكن ليس ذلك ضابطا إن تخلف لم يحصل المقصود وبالتالي لم يشرع الهجر !!
وهنا أنبه على أمر مهم غفل عنه الدكتور فوقع منه ما وقع ، ألا وهو :
عدم تفرقته بين ( دعوة العامة للهجر ) وبين ( إيقاع الهجر ) ، فالأمر الأول لابد أن يصدر من
( إمام عالم أو سلطان مطاع ) ، و أما الأمر الثاني فلا يشترط إيقاعه من قوي مؤثرـ كما سيأتي بيانه بحول الله في الوقفة الثالثة ـ .
وهذا الأمر ظاهر بين لمن تأمل قول كعب رضي الله عنه في قصة تخلفه ـ كما في البخاري ـ :
((... وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ
عَنْهُ ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا ... ـ وفيه أيضا ـ حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا
رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِينِى فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ قَالَ لاَ بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا . وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَىَّ
مِثْلَ ذَلِكَ ... )) الحديث
فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الإمام المطاع هجر ، وأمر الصحابة رضي الله عنهم بالهجر ، فاستجابوا له وأوقعوه رضي الله عن الجميع .
الوقفة الثالثة :
المتأمل في كلام المحققين من أهل العلم يظهر له عدم اشتراط هذا الضابط لإيقاع الهجر ، فيشرع هجر المخالف ( تأديبا وتبكيتا ) حتى ممن لم يكن قويا ، ولو لم يخف على نفسه الضرر ، وإنما تحقيقا للمقاصد السابق ذكرها إما جميعها أو أحدها ، فمن الأمثلة والأدلة على ذلك :
ما سبق من قول أبي الدرداء وعبادة لمعاوية ـ رضي الله عن الجميع ـ : (( لا أساكنك بأرض أنت
بها ))
قال الإمام ابن عبد البر مستنبطا : ((قول عبادة: "لا أساكنك بأرض أنت بها " وقول أبي الدرداء على ما في حديث زيد بن أسلم يحتمل أن يكون القائل ذلك قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي.
وجائز للمرء أن يهجر من خاف الضلال عليه ولم يسمع منه ولم يطعه وخاف أن يضل غيره وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين أحدث في تخلفه عن تبوك ما أحدث حتى تاب الله عليه وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام معه.
وقد حلف ابن مسعود أن لا يكلم رجلا رآه يضحك في جنازة ... ) ثم أسند الأثر
قلت ( الشيخ ) : فأين مراعاة هذا الأصل الذي ذكره الدكتور في معاملة أبي الدرداء وعبادة لمعاوية رضي الله عن الجميع ؟ وتأمل استنباط الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله !
مع العلم بأن معاوية رضي الله عنه هو القوي لأنه كان أميرا عليهما ومع هذا أوقعا الهجر ! فتأمل .([16])
هذا ما استدعاه مقامي ومطلبي من نقله واختصاره من كلام الشيخ إلى هذا الجزء المبارك المتضمن لبيان وتوضيح غمغمة بن حنفية لهذه المسألة المهمة ، التي أخفى تفاصيلها وحقائقها على الأمة ، ولا مؤاخذة يا أيها القراء على ما تركته من النقولات الأثرية الكبيرة الكثيرة التي أشبع بها الشيخ بيانا وتوضيحا لهذه المطالب الجليلة والمقاصد النبيلة ، وما ذاك إلا لأن نفسي وإياكم تتوق وهي أحوج من أن ترجع إلى الأصل والمنبع المأخوذ منه أصالة فتستفيد منه أكثر فأكثر .
تاسعا : قوله : "ومن هنا فإن مسألة الهجران هذه من المسائل التي تختلف فيها الأنظار , لأنها من جملة ما يختلف حكمه بحسب الزمان والمكان والأحوال والأشخاص "
هجر أهل البدع والأهواء ليس من موارد النزاع التي تختلف فيها الأنظار، لما قد انعقد إجماع سلف الأمة على ذلك ، ولكن بن حنفية يسفسط ويشكك في أصل لا نزاع فيه بين سلف الأمة ، ليصرف ذهن الشباب عن مواطن الاتفاق ويختلق لها النزاع ليوقعهم في الضياع .
قال الشيخ الفاضل خالد الظفيري ـ حفظه الله ـ في كتابه الجامع " إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء " ( 30 ) : (( والآثار عن السلف في معاملة أهل البدع والتحذير من البدع وأهلها كثيرة جدا ، فالسلف ـ رحمهم الله ـ على هذا مجمعون متفقون في كل الأعصار والأمصار ، وقد نقل هذا الإجماع عدد من أهل العلم )) ا.هـ وذكرهم جزاه الله خيرا فليرجع إلى الأصل للوقوف على هذه الحقيقة العلمية المحكمة التي يشغب حولها بن حنفية وغيره من المميعة من الحلبي وأشكاله .
قال الشيخ المفضال أحمد بن عمر بازمول ـ حفظه الله ـ في "صيانة السلفي من وسوسة وتلبيسات الحلبي " (الحلقة السابعة عشرة) : (( إن النصوص الشرعية عامة وواضحة وظاهرة في هجر أهل البدع والتحذير منهم، دون استثناء زمان أو ربطها بمصلحة كما يدعيه الحلبي ([17] ) فزعمه أن ذلك بسبب تغير الزمان والنظر في المصالح يعتبر تحكماً وتدخلاً في النصوص الشرعية . بل حكى الإجماع جماعة من أهل العلم كالصابوني والبغوي على هجر أهل البدع والأهواء ...
قال الشيخ العلامة أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله تعالى كما في " الفتاوى الجلية " (2/52 : رقم17) في المبتدعة بدع مفسقة : ( هؤلاء ينظر في المصلحة بين كونِهم يهجرون أو لا يهجرون، ولاشك أنَّ الهجر أولى، ولو كان الهجر بعدم الانبساط إليهم، والكلام معهم وهو ما يسمَّى بالهجر الجميل؛ هذا الذي يظهر لي في هذه المسألة.
وأهل العلم يرجحون بين المصالح والمفاسد المترتبة على الهجر وعدمه، فإذا كانت المصالح المترتبة على عدم الهجر أحسن بحيث يتمكن من الدعوة لهم، والنصيحة وبيان المساوئ لما هم عليه من العقيدة الباطلة، وكل هذا بشرط أن يأمن الانخداع بِهم، فإن لَم يأمن الانخداع بِهم وجب عليه أن يهجرهم، ويبتعد عنهم، ومعنى الانخداع بأن تنطلي عليك بعض أفكارهم فتستحسنها وهي قبيحة، وتبيحها وهي محرمة، وبالله التوفيق . ) ا.هـ
وقال الشيخ صالح الفوزان في "ظاهرة التبديع والتفسيق " (74) : ( كون عنده شيء من الحق، فهذا لا يبرر الثناء عليه أكثر من المصلحة، ومعلوم أن قاعدة الدين " إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، وفي معاداة المبتدع درء مفسدة عن الأمة ترجح على ما عنده من المصلحة المزعومة إن كانت ولو أخذنا بهذا المبدأ لم يضلل أحد، ولم يبدع أحد؛ لأنه ما من مبتدع إلا وعنده شيء من الحق، وعنده شيء من الالتزام ) ا.هـ
وسئل الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى في " رد شبهات المائعين والذب عن السلفيين " (رقم7) : هل هجر أهل البدع والتضييق عليهم وعدم مخالطتهم بإطلاق كما نقل السلف ودوّن الأئمة في كتبهم ؟ أم هو على التفصيل وينظر كل شخص إلى المصلحة والمفسدة وكل يرجع إلى عقله مما يؤدي إلى التمييع؟
فأجاب الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : ( لقد قال شيخ الإسلام رحمه الله ينظر إلى المصلحة فيها، والسلف ما قالوا هذا وشيخ الإسلام جزاه الله خيراً قال هذا وهو اجتهاد منه فإذا أخذنا بقوله، فمن هو الذي يميز المصالح من المفاسد ؟ فهل الشباب وصلوا إلى هذا المستوى ؟
الشباب إذا راعى المصلحة فليبدأ بمراعاة مصلحة نفسه وليحافظ على ما عنده من الخير ويتبع منهج السلف ولا يعرض عقيدته ومنهجه للضياع كما حصل لكثير من الشباب الذين تلاعب بهم الإخوان المسلمون والقطبيون وأهل البدع وقالوا نراعي المصالح والمفاسد ثم كل هذه الأمور تهدر ولا يوجد عندهم مراعاة المصالح والمفاسد، وعلى رأس المصالح التي يجب مراعاتها المحافظة على الشباب من أن يتخطفهم أهل البدع بشبهاتهم. فالشاب الناشئ عليه أن لا يخالط أهل البدع وأن يحافظ على عقيدته والعالم الناصح له أن يدعو هؤلاء وأن ينصحهم وأن يبين لهم الحق ويقيم عليهم الحجة ليرجعوا إلى دين الله الحق، وأما الجاهل الذي قد يتعرض للضياع فيقذفون بالشبهة عليه فيتغير قلبه ويزيغ ثم يرتمي في أحضانهم وقد عرفنا هذا من كثير وكثير ممن كانوا مساكين بادئين بالسير في طريق السلف فاعترضهم هؤلاء بشباكهم فاجتاحوهم واجتالوهم عن منهج السلف الصالح والعاقل من اعتبر بغيره فلنأخذ عبرة من هؤلاء .) ا.هـ
وسئل أيضا (رقم8) : يا شيخ إذا الواجب علينا أن نعمل بقول السلف وليس بقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خاصة في زماننا هذا الذي صار فيه الجلوس لأهل البدع شعاراً للعلم والله المستعان ؟
فأجاب: ( الذي يقوله السلف هو الأحوط بالتجربة والواقع، والمصلحة والمفسدة إذا أدركها العالم فليستخدمها، أما الصغير ما يستطيع , إذا أدركها العالم المحصن لا بعض العلماء قد يكون ضعيف الشخصية فتخطفه البدع كما حصل لعدد كثير من الأكابر خطفتهم البدع بسهولة فهناك صنفان من العلماء عالم تأكد من نفسه أن عنده قوة حجة وقوة شخصية وأنه يستطيع أن يؤثر في أهل البدع ولا يؤثرون فيه فهذا يخالطهم على أي أساس يأكل ويشرب ويضحك معهم ؟ لا . يخالطهم للنصيحة يأتي إلى مساجدهم إلى مدارسهم يأتي إلى أسواقهم ويعطيهم الحق ويناظرهم إن كان يستطيع المناظرة ويقيم عليهم الحجة .أما الضعيف المسكين من العلماء لا، وكذلك الشاب الناشئ المعرض للضياع . لا بارك الله فيكم فهذا ما يمكن أن يجمع به ما بين ما يقوله شيخ الإسلام بن تيمية وما يقوله السلف رضي الله عنهم جميعاً انتهى
وقال العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى : .. ثم إني أقول إن هذه المصلحة التي يتحدثون عنها وأسرفوا في الحديث عنها , و حرفوا المصالح بارك الله فيكم ولبسوا فيها حتى أهملوا مصلحة الشاب , الذي يخاف عليه من مخالطة أهل البدع , أهملوا مصلحته , وقذفوا به في أوساط أهل البدع , فضل كثير من الشباب , المغرور المخدوع , بمثل هذه الشبهات أوقعوا كثيراً ممن كان في دائرة السلفية أوقعوهم بمثل هذه الترهات في حبائل ومصائد أهل البدع, فانحرف الكثير والكثير منهم , لاسيما من انحرف بواسطة الأحزاب العصرية الضالة التي سبق وصفها , على كل حال من يميز بين السنة و البدعة فليأمر بالمعروف ولينهَ عن المنكر وليحذر من البدع هذا أولاً .
وثانياً قضية الهجران في صالحك فاهجر لأنك تخاف على نفسك من مخالطة أهل البدع يفسدونك, ويحرفونك, عن منهج الله الحق, فالمصلحة الواضحة هنا أن تحتفظ بدينك, و تحتفظ بعقيدتك, وتحافظ على سلامة دينك ؛ هذه المصلحة يجب أن توضع في الاعتبار, وأن يعرفها الشباب فقد كان يراعيها كبار الأئمة , من أمثال أيوب وابن سيرين ؛ فكان أحدهم لا يطيق مخالطة أهل البدع , ولا سماع كلامهم , حتى إن أهل البدع ليأتونهم ويقولون لهم " اسمعوا منا ولو كلمة " فيقولون "لا ! " فيعتب عليهم" لماذا لا تسمعون ؟ فيقول أحدهم " إن قلبي بيد الله و ليس بيدي فإني أخاف أن يقذف هذا في قلبي شراً فلا أستطيع الخلاص منه " .
فإذا قلنا بالمصالح و المفاسد , فيجب أن نراعي المصالح و المفاسد المتعلقة بالشباب أنفسهم و الذين يخاف عليهم من الاختلاط بأهل البدع أن يوقعوهم في الشر , فيجب أن ننتبه لهذا والتي يدندنون حولها , ولعلها مصالح أهل البدع أنفسهم ومفاسدهم في حد تصورهم هم ! فالمصلحة عندهم ما يخدم دعوتهم , والمفسدة ما يهدم دعوتهم ولو كان حقاً, فقد يريدون بالمصالح و المفاسد هذا ما يرونه هو مصالح يخدم دعوتهم , وما يرونه من مفاسد ولو كان حقاً إذا كان يعود على دعوتهم بالهدم, ونحن نقول إن المصالح والمفاسد يجب أن يراعى فيها جانب الشباب , فهل من مصلحته الاختلاط بأهل البدع؟ أو من مصلحتهم الحذر منهم و هجرانهم والابتعاد عنهم و ترك المخالطة للأقوياء الأشداء الذين ثبتت جدارتهم و قدرتهم على زلزلة أهل البدع ودحض شبهاتهم !
فتبقى المخالطة لهؤلاء ويبقى من يخاف عليه بعيداً بعيداً بعيداً عنهم , حذراً منهم أشد الحذر ..., إذا كان يحترم عقيدته , ومنهجه , فالمصلحة في الدرجة الأولى , يجب أن تراعى فيها جانب الشباب الذي يخاف عليه من الانحراف , فلما نسيت هذا المصلحة , وأنساهم إياها دعاة الضلال , وأهدروا هذه المصلحة , جر ذلك كثيراً من الشباب إلى الارتماء في أحضان البدع , أرجو أن تدركوا هذا , فإذا قيل لكم مصالح مفاسد , قولوا لهم يجب أن نراعي في هذا جانب الشباب الذي يخاف عليه من مخالطة أهل البدع فإننا قد استفدنا من تجارب طويلة ومريرة وقعت من شباب كانوا على منهج السلف فضلوا بمثل هذا الدعايات الظالمة التي لا يميز فيها المصلحة من المفسدة, وقد يراد من المفسدة والمصلحة ما يفسد دعوتهم أو يصلحها على حسب ما يعتقدونه هم لا على حسب شرع الله تبارك وتعالى ) ا.هـ
وقال الشيخ محمد بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى في الجليس الصالح والجليس السوء (26-محاضرة مفرغة) :( بعض الناس يكرر أن الهجر لأجل مصلحة المهجور فإذا لم يكن صلاح للمهجور فلا هجر ! هذا غير صحيح أبداً !!! فإن الهجر ينظر فيه إلى الجانبين, ينظر فيه إلى صلاح المهجور وإلى صلاح الهاجر, صلاح المهجور بعودته واستقامته على الحق ورجوعه إليه, وصلاح الهاجر, إذا لم يستطع إعادة هذا الإنسان إلى الحق فلا أقل من أن يسلم هو, وإذا لم يستطع عُذِرَ, أما إن هجر لمصلحة نفسه يكون ضعيفاً ويخشى أنه إن خالط هذا الشخص يأتيه بالشبه والتلبيسات التي يضل بسببها؛ فهو يريد السلامة لنفسه, فالسلامة رأس مال لا يعدلها شيء , فكيف يقال إنه فقط لأجل المهجور وإذا لم يكن يستفيد المهجور فلا هجر !!!! هذا غير صحيح ! وكتب السلف واضحة كلها بهذا , ترد على هذا القول وعلى صاحب هذه المقالة , فلا إفراط ولا تفريط .. ) ا.هـ
وقد وقفت على كلمة جيدة في الرد على من يخصص الهجر بمصلحة المهجور فقط دون النظر لمصلحة الهاجر للشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالرحيم البخاري، وقد اختصرتها ما بين القوسين مع زيادة يسيرة جداً (( فالهجر عبادة دينية شرعية، والشرع كله مبني على المصالح ودرء المفاسد، والمصالح في هجر المبتدع متعددة الجوانب فهناك :
مصلحة دينية عامة من تحقيق العبودية لله ومن تحقيق الولاء للإيمان والمؤمنين والبراء من الكفر والكافرين والبدعة والمبتدعين . وتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مصلحة خاصة : وهي على قسمين :
مصلحة تعلق بالمهجور ومصلحة تتعلق بالهاجر
المصلحة المتعلقة بالهاجر : إن خشي على نفسه الفتنة فله أن يهجر كل من يخشى على نفسه من مخالطه وهذا الذي يسمي ماذا بالهجر الوقائي .
والمصلحة المتعلق بالمهجور : أن يهجره ليردعه عن باطله ولينفر الناس عنه حتى لا يتابعوه على ضلاله وليرجع للحق .
فالحلبي وأمثاله من التراثيين يدندن فقط على مصلحة المهجور ونسي أو تناسى وجهل أو تجاهل بقية أنواع الهجر .
ثم لو تأملت كلام العلماء في هجر أهل البدع ومراعاة مصلحته في الهجر تجد أن مرادهم إذا كان المهجور ينتفع بالنصيحة ويرجى قبوله للحق وإلا لو كان معانداً داعياً إلى ضلاله فهم يرون الهجر وجوباً .
فالقاعدة الشرعية " أنه إذا تعارضت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة قدمت المصلحة العامة"
وقد يسقط الهجر للعجز عنه لكن ليس من كل الوجوه لا يسقط من كل الوجوه إنكارك بقلبك وهجرانك لبدعته هذه لازم ليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان وهذا من الهجر يجب أن تقوم به ديانةً ولا يجوز لك أن يتخلف عنك هذا ومعلوم أن الأمر يسقط مع العجز وعدم القدرة .
فالهجر الكلي يكون بالتحذير والانفصال التامين .
والهجر الجزئي يكون بترك الكلام والسلام ولا يشترط فيه التحذير
ويستخدم الهجر الجزئي عند الضعف أو عند عدم القدرة أو عند وجود مانع شرعي ما هو مانع دنيوي مادي أعطوك صاروا سلفيين تركوك صاروا خلفيين
لابد أن نفرق بين الإيقاع وبين الأمر : الإيقاع لا يشترط فيه القوة ومن شرط ذلك فقط غلط
وهذا المعنى يستعمل في أهل البدع وأهل الفسق والفجور . ) ا.هـ ))
... يتبع إن شاء الله
([1]) وقد ذكر هذا الهراء أيضا في كتابه " هل الحزبية وسيلة للحكم بما انزل الله " ( ص 6 ـ 9 ) وأيضا في رسالته " الجمعيات " (ص 40 ـ 41 )
([2]) وبالمناسبة أني أدعو وأذكر أهل الإسلام عامة والشباب السلفي خاصة ، بأن مسؤولية الإسلام في أعناقهم ، فهم جديرون بالمثابرة والاجتهاد والجد في تحصيل وطلب العلم السني الموروث ودعوة الخليقة إليه ، وإظهار محاسنه ومزاياه للقريب والبعيد ولجميع الأمم ، وكفى شرفا من قام بهذا ، أنه قام بمهمة الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه الشرفاء ، ولكن هذه المهمة العظيمة لابد لها من صفاء وصحة العلم الموروث وسلامة المعتقد حتى تثمر الثمار الطيبة .
قال الإمام محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ في " كتاب العلم " ( 169 ـ 170 ) : ((لا شك أن الدعوة إلى الله تعالى مرتبة عالية ومقام عظيم؛ لأنه مقام الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد قال الله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (فصلت:33) وأمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف:108) ومن المعلوم أنه لا يمكن الدعوة بغير علم كما في قوله هنا : { عَلَى بَصِيرَةٍ } وكيف يدعو الشخص إلى شيء لا يعلمه؟ ومن دعا إلى الله تعالى بغير علم كان قائلا على الله ما لا يعلم، فالعلم هو المرتبة الأولى للدعوة.
ويمكن الجمع بين العلم والدعوة في بداية الطريق ونهايته، فإن تعذر الجمع كان البدءُ بالعلم؛ لأنه الأصل الذي ترتكز عليه الدعوة، قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه في الباب العاشر من كتاب العلم : باب العلم قبل القول والعمل واستدل بقوله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } (محمد:19) قال فبدأ بالعلم.
ومن ظن أنه لا يمكن الجمع بين العلم والدعوة فقد أخطأ، فإن الإنسان يمكنه أن يتعلم ويدعو أهله وجيرانه وأهل حارته وأهل بلدته وهو في طلب العلم .
والناس اليوم في حاجة بل في ضرورة إلى طلب العلم الراسخ المتمكن في النفوس المبني على الأصول الشرعية، وأما العلم السطحي الذي يعرف الإنسان به شيئًا من المسائل التي يتلقاها كما يتلقاها العامة دون معرفة لأصولها وما بنيت عليه فإنه علم قاصر جدًّا لا يتمكن الإنسان به من الدفاع عن الحق وقت الضرورة وجدال المبطلين.
فالذي أنصح به شباب المسلمين أن يكرسوا جهودهم لطلب العلم مع القيام بالدعوة إلى الله بقدر استطاعتهم وعلى وجه لا يصدهم عن طلب العلم ؛ لأن طلب العلم جهاد في سبيل الله تعالى، ولهذا قال أهل العلم: إذا تفرغ شخص قادر على التكسب من أجل طلب العلم فإنه يعطى من الزكاة؛ لأن ذلك من الجهاد في سبيل الله بخلاف ما إذا تفرغ للعبادة، فإنه لا يعطى من الزكاة؛ لأنه قادر على التكسب.)) ا.هـ
([3]) وذلك حينها سأله أحد الإخوة من مدينة معسكر السؤال التالي : شيخ سؤال أخير إن شاء الله و لا أطيل عليك , هو قرر , هو ألف رسالة بعنوان "هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله "
أجاب عليها بإجابات كثيرة أنقل لك منها يعني نقل واحد فقط و أرجوا منك يا شيخنا أن تعلق عليه
قال يعني ثلاث أقوال متنوعة يقول : (( لكنّي أعود فأقول أنني بعد كل هذا أرى أن الحاكم إذا لم يحكم بما أنزل الله , ولم يمكن حمله على ذلك و لا خلعه و كان النظام الذي يشرفُ عليه على الإذن بتأسيس الأحزاب , و كانت برامجها حرة , و أقيمت على أسس شرعية ولم تأسس لمجرد المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله , و تعيّنَ هذا الأسلوب وسيلة وحيدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , على النطاق العام , فإنها مما ينبغي الإقدام عليه للضرورة المرحلية ولا يبعد أن يُقَالَ بِتَعَيُّنِهَا و الحجة في ذلك أنه في هذه الحالة لا توجد جماعة للمسلمين قائمة بالشرع حتى و لو ....))
الشيخ : لا حول و لا قوة إلا بالله و الله يا ولدي قلت ما أدري بماذا أعلق على هذا الكلام ، هذا الكلام فيه خلط , فيه خلط عجيب بارك الله فيك و لا يصدر مثل هذا الكلام إلا من جاهل أو يعني أقول لا يصدر هذا الكلام إلا من رجل مقطوع الصلة بالسنّة إما لجهله أو لركوبه الهوى هذا الكلام ليس عليه مسحة أهل السنّة بارك الله فيك أبدا فإن الله عزّ و جل دعا إلى جماعة واحدة { و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرّقوا }
و كذلك دعا رسول صلى الله عليه و سلم وأما قوله : "لا توجد جماعة -كذا لآخره- " فهذا ضرب من الباطل ، فهذه الرسالة يعني تحذر هي و أمثالها بصراحة.
و لا يجوز نشرها و لا إذا كانت على ما ذكرت و أي رسالة تحوي مثل هذا الكلام لا يجوز نشرها على العامة و لا على المبتدئين , فقط كون يقتنيها طالب العلم ليرد عليها هذا لابأس به .
السائل : يعني بمعنى لا بأس إذا عرفنا الخطأ منها أن نرد هذا الخطأ؟
الشيخ : لا يمكن نحن نقول هذا الكلام الذي قرأته لا يصدر إلا من أحد الرجلين و كلاهما مقطوع الصّلة بالسنّة , إما لجهله أو لأنه صاحب هوى بارك الله فيك .
السائل : أضيف لك فقرة - إن شاء الله - و أستسمحك شيخنا يقول : (( و إذا كان جمهور العلماء قد أقروا حكم المتغلب سدا لذريعة الفتنة و حدث بعض التساهل في آلية الحاكم الذاتية و العلمية مراعاة للأوضاع فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لتحكيم الشرع فمن لم يُحَكِّمْ الشرع فلا شرعية لحكمه عندهم و لا انعقاد لبيعته و لا نفوذ لولايته .))
الشيخ : لا أبدا هذا فيه تفصيل أبدا , المحققون على التفصيل أقول يا ولدي و الله يعني ممرضة ممرضة , بارك الله فيك المغرب بقي عليه سبع دقائق أو ثمان دقائق عندنا .
السائل : شيخنا جزاك الله خير فقط أتم هذه الفقرة و أقطع المكالمة .
الشيخ : نعم .
السائل : يقول : (( لأنّ تفرق الأمة على الحق أولى من اجتماعها على الباطل و لمّا كانت دول المسلمين ليست متساوية في هذا الأمر الأخير و حيث قلنا بأن حكم هذا الحاكم غير شرعي و لا معتبر فهو كالعدم و حيث أن الخروج عليه لا يقال به إمّا لكونه لم يظهر عليه الكفر البواح و هذا هو الحق أو لأنه لا جدوى منه للمضار الناشئة عن ذلك كما هو مشاهد عليه لذلك كلّه فإن تأسيس الأحزاب يكون في هذه الحالة مشروعا إذا أمكن تحقيق للمصلحة .))
الشيخ : لا يمكن أن تتعدد الأحزاب على الحق بارك الله فيك هذا كأنه ينقل من صلاح الصاوي , عليه مسحة صلاح الصاوي في كتابه الثوابت والمتغيرات، هذا الكلام الذي قرأته عليه مسحة صلاح الصاوي في كتابه الثوابت و المتغيرات .
السائل : يا شيخ كيف نتعامل مع صاحب الرسالة .
الشيخ : أتركوه ......إذا كان الأمر كما ذكرت انصحوه و ليتجند منكم خبراء وطلاب علم و يناصحوه
السائل : يا شيخ قدمنا له النصيحة .
الشيخ : هذا اتركوه بارك الله فيكم و لا تجلسوا إليه صراحة , صاحب هذه الرسالة أرى أن لا يجلس إليه , إذا كان الأمر كما ذكرت هذا الكلام لا يكتبه و لا يقوله إلاّ جاهل أو صاحب هوى .
السائل : يا شيخ بارك الله فيك و جزاك الله خير و أستسمحك يا شيخ
الشيخ : و إياك
السائل : السلام عليكم .
الشيخ : و عليكم السلام. ا.هـ ( منقول من شبكة سحاب السلفية )
([4]) بل هذا الذي نقطع به ، وقد اتضح ذلك أيما اتضاح في قوله : " إنني أعتقد أن فساد المجتمع في كثير من جوانبه لغياب الحكم بما أنزل الله ، وأن الأمير في الأمة بمثابة القلب في الجسد إذا صلح هذا صلح ذاك " ( هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله / ص : 64 )
وقد بينت وهاء هذا الفساد فيما مر من الصفحات هذا الكتاب بما يكفي ويغني عن إعادته والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
([5]) قال الشيخ الفاضل أبوعبدالله محمد رسلان حفظه الله في كتابه " دعائم منهاج النبوة " ( 354 ) : (( الغلو في الاصطلاح : " مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك " بهذا عرفه شيخ الإسلام في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) ( 1 / 289 )
وعرفه الشاطبي في ( الاعتصام ) ( 3 / 304 ) ، وابن حجر في ( الفتح ) ( 13 / 278 ) بأنه : " المبالغة في الشيء والتشديد فيه حتى يتجاوز الحد " )) ا.هـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في " مجموع الفتاوى " (3 / 359 ـ 360) : (( الِانْحِرَافُ عَنْ الْوَسَطِ كَثِيرٌ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ فِي أَغْلَبِ النَّاسِ .... وَمِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَحْصُلَ مِنْ بَعْضِهِمْ " تَقْصِيرٌ فِي الْمَأْمُورِ " أَوْ " اعْتِدَاءٌ فِي الْمَنْهِيِّ " : إمَّا مِنْ جِنْسِ الشُّبُهَاتِ وَإِمَّا مِنْ جِنْسِ الشَّهَوَاتِ : فَيُقَابِلُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِالِاعْتِدَاءِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَالتَّقْصِيرُ وَالِاعْتِدَاءُ : إمَّا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا وَإِمَّا فِي نَفْسِ أَمْرِ النَّاسِ وَنَهْيِهِمْ : هُوَ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ الْعُقُوبَةَ حَيْثُ قَالَ : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } فَجَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالِاعْتِدَاءِ . وَالْمَعْصِيَةُ : مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالِاعْتِدَاءُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ .)) ا.هـ
قلت ( بن سلة ) : فليتأمل القارئ اللبيب كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جيدا ، ثم يسلط ضوء العلم والعدل والإنصاف على ما عليه مميعة زماننا من غلوهم ومكرهم الشديد في حرب أهل السنة والجماعة ، وتقصيرهم في إعمال وتوظيف شرعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أهل البدع والضلال من الحدادية والغلاة والتكفيريين والله المستعان .
([6]) انظر إلى كتاب " منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف " ( 151 ـ 152 ) للإمام ربيع المدخلي ـ حفظه الله ـ
([7] ) " سير أعلام النبلاء " (7 / 452)
([8] ) لقوله صلى الله عليه وسلم : (( يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم و صيامكم مع صيامهم و عملكم مع عملهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر الرامي في النصل فلا يرى شيئا و ينظر في القدح فلا يرى شيئا و ينظر في الريش فلا يرى شيئا و يتمارى في الفوق هل علق به من الدم شيء ))
قال الإمام الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 8053 في صحيح الجامع
([9]) انظر " دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون " ( 119 ـ 123)
([10]) انظر إلى أقواله في كتاب " صيانة السلفي من وسوسة وتلبيسات الحلبي "
([11] ) كما هو في رسالته " القول الحسن في نصح أبي الحسن "
([12]) كما هو في جزئه " عبارات موهمة "
([13]) كما هو في كتابه " بداية الانحراف ونهايته " ( ص 336 )
([14]) كما هو في رسالته " الأطواق الأمنية "
([15]) " مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله " (ص 439)
[16])) إلى هنا انتهى النقل من تعليقات الشيخ ـ بارك الله في علمه وعمره ونفعنا الله بنصائحه ـ
([17]) وكذاك بن حنفية العابدين
رد: تحذير شباب الأمة السنية من مخالفات بن حنفية لأصول الدعوة السلفية وبيان حقيقة دعوته الإصلاحية
قال في " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " ( ص 19) : (( ... على أنني أرى أن المقدم هو التركيز على رد الباطل نفسه ، فإنه هو الأصل في الإصلاح ، وكثيرا ما يغني عن التعرض لأشخاص أهله ، ورحم الله الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، فإني ما رأيت له كلاما في أشخاص بأسمائهم إلا في النادر ... ، واطلع على طريقة البخاري في رده على المخالفين في كتاب الحيل وغيره .))
أقول :
هذا المسلك الذي انتهجه في هذه الفقرة ما هو إلا مسلك بني إخواني عرعوري مستمد من قاعدة
" المعذرة والتعاون"، إذ قد قرره زعيم حركة الإخوان المسلمين ( حسن البنا ) في أصوله العشرين ، وذلك في " الأصل السادس "، فهنيئا له ، ولكل من مجده ورفعه واغتر به بهذه البضاعة التي زلزلتها وطحنتها نصوص القرآن والسنة الدالة والحاثة على البراءة من أهل الباطل ومن فسادهم ، وإجماع أئمة السنة والجماعة على الهجر والتحذير من أهل البدعة والفرقة .
قال الله تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة : 22 ]
قال العلامة أبو عبد الله محمد القرطبي في" الجامع لأحكام القرآن" (17 / 308) عند التفسير هذه الآية الكريمة : (( الثانية : استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم. قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان .))
وقال العلامة الألوسي ـ رحمه الله ـ في كتابه " التفسير" ( 20 / 402) عندها : (( ظاهر في الكافر،وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق ، والأخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان : يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان ...
وحكى الكواشي عن سهل أنه قال : " من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء ، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله تعالى حلاوة السنن ، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضاً منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه ، ومن لم يصدق فليجرب "ا.هـ
ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة وليس منهم ولا قلامة ظفر يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس ، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول : سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته إن كانت بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته ، وهذا لعمري هو الضلال البعيد ، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء ))
أما من السنة
فقد جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم )) ([1] )
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالـت: (( تـلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية :{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغـاء تأويلـه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنـا به كل من عنـد ربنا وما يذكر إلا أولو الألبـاب} [آل عمران : 07 ]، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منـه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم )) متفق عليه
وأيضا الأحاديث التي جاءت في الذم والتحذير من الخوارج بل مقاتلتهم ، فهي كلها قاضية على وهاء هذا التقعيد الباطل الذي سلكه بن حنفية ، بل قبله حسن البنا ومن انتهج منهجه وفكره الباطل من بعده .
قال العلامة إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن ـ رحمه الله ـ في رسالته التي بعثها إلى كافة الرؤساء في عمان ومن يليهم التي جاء فيها : (( فأفضل القرب إلى الله تعالى: مقت من حاد الله ورسوله، وجهاده باليد واللسان والجنان بقدر الإمكان، وما ينجي العبد من النيران ، ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا بد أن ينقاد لأوامر القرآن والسنة، ويتبرأ من كل معتقد يخالف ما عليه السلف الصالح من سادات الأمة. وهل زال الإسلام، وغيرت الأحكام، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الملك العلام، إلا بدعاة أبواب جهنم، يصدون الناس عن دينهم.......
وهنا مقام آخر، وهو مقام استجلاب النعم، واستدفاع حلول النقم، ولا يحصل إلا بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، والأخذ على يد السفيه. وقد ذم الله من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، فقال جل من قائل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} الآية [سورة الأعراف آية: 165]، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104].
فدلت الآيات على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأنه لا نجاة إلا لمن قام بذلك، وأن اتباع الشهوات، وإيثار اللذات، يوجب الكون في جملة المجرمين. والآيات في هذا المعنى والأحاديث، أكثر من أن تحصر، ومن كان الله وحده مراده، ومعبوده ومحبوبه، انقاد لأوامره ونواهيه، ولم يداهن أحداً فيه.....))
إلى أن قال ـ رحمه الله ـ : (( الهجر المشروع قد قام الدليل عليه ، وأشار جل من السلف إليه، وهو مراتب، وله أحوال وتفاصيل، على القلب واللسان والجوارح، قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [سورة مريم آية: 48]، وقال تعالى عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16]. وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، وقصتهم مشهورة. وقد ذكر ابن القيم، رحمه الله في الهدي، في فقه القصة ما يكفي.
وأصل الهجر: الترك والفراق والبغض، وشرعاً: ترك ما نهى الله عنه، ومجانبته والبعد عنه. وهو عام في الأفعال والأشخاص، وهو في المشركين، ومن لاذ بهم، واستحسن ما هم عليه، وخدمهم، وازدراء أهل الإسلام أعظم، لأن قبح الشيء من قبح متعلقه؛ وهذه الجملة فيها أقسام، ولها تفاصيل.
منها: هجر الكفار والمشركين. والقرآن من أوله إلى آخره ينادي على ذلك؛ ومصلحته: تمييز أولياء الله من أعدائه. وقريب من هذا: هجر أهل البدع والأهواء. وقد نص الإمام أحمد وغيره من السلف، على البعد عنهم، ومجانبتهم، وترك الصلاة عليهم، وقال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم؛ فتجب مفارقتهم بالقلب، واللسان، والبدن، إلا من داع إلى الدين مجاهد عليه بالحجة، مع أمن الفتنة، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 140]. والآيات والأحاديث، وكلام العلماء في هذا كثير....))
إلى أن قال وهو يبين حكم المسلم الذي أختار أوطان الكفار واستقر بين أظهرهم : (( والثاني: مسلم ترخص لنفسه، وآثر دنياه، واختار أوطانهم لعذر من الأعذار الثمانية؛ فهجر هذا الصنف من الناس، هو من باب هجر أهل المعاصي، الذي ترجم له البخاري وغيره. ولا يهجر هجر الكفار؛ بل له حقوق في الإسلام، منها مناصحته والدعاء له،إلا أنا لا نظهر له محبة وملاطفة، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بحيث إنه لا يرى له ذنباً، ويغتر به غيره.
وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، مع إيمانهم، وأجلى عمر صبيغاً إلى وطنه، وأمر بهجره، ونهى الناس عن كلامه. ولم يزل الصحابة، رضي الله عنهم، يهجرون في أقل من هذا.
ويشهد لصحة هذه الأحاديث، قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]. فنحن نتبرأ مما تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجانبه، شاء العاصي أم أبى.
وقد ذكر محيي السنة البغوي كلاما يحسن ذكره هاهنا، قال: ( فأما هجر أهل العصيان، وأهل الريب في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر توبتهم ، قال كعب بن مالك ـ حين تخلف عن غزوة تبوك ـ : "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا"، وذكر خمسين ليلة.
وجعل محمد بن إسماعيل، رحمه الله، حداً لتبين توبة العاصي ، وقال عبد الله بن عمر: "لا تسلموا على شربة الخمر"، وقال أبو الدرداء: "لن تفقه كل الفقه، حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك، فتكون لها أشد مقتاً".) انتهى كلامه، رحمه الله.
والأصل الجامع لهذا: أن معرفة استحقاقه سبحانه وتعالى، أن يعبد خوفاً ورجاء، وإجلالاً ومحبة وتعظيماً، لا تبقى في القلب السليم محبة لأعدائه وموادة، لأن المحبة أصل كل عمل من حق وباطل
، فأصل الأعمال الدينية: حب الله ورسوله، كما أن أصل الأقوال الدينية: تصديق الله ورسوله
، فلما غلب على الناس حب الدنيا، وإيثارها، أنكروا هذا، ونسوا ما كانوا عليه أولاً، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] جهلاً منهم بحقيقة الإسلام، ولوازمه وقواعده العظام. )) ([2] )
أما قوله :" ورحم الله الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، فإني ما رأيت له كلاما في أشخاص بأسمائهم إلا في النادر ... واطلع على طريقة البخاري في رده على المخالفين في كتاب الحيل وغيره"
هذه من المضحكات مما تفوها بها هذا الرجل ، بل هي من الفاضحات الواضحات الدالة على كذبه على أئمة الحديث والسنة ، وعلى المنهج السلفي .
ما وجد إلا الإمام البخاري والإمام ابن باز يكذب عليهما ويمثل بهما على أنهما لا يتكلمان في الأشخاص وبأسمائهم !!
أين هو من كتاب الضعفاء الذي ألفه الإمام البخاري رحمه الله في بيان أحوال الرواة الذين قد تُكلم وتَكلم فيهم بأعيانهم وأشخاصهم !!؟
فإشارتنا إلى كتاب الضعفاء وتنبيه القراء عليه يكفي في دحض هذه الفرية التي افتراها على الإمام البخاري .
أما الإمام ابن باز رحمه الله فردوده على المخالف جماعات كانوا أو أفرادا فهي أشهر من أن تذكر ، وإلا فالرجل يغالط فيما هو من المسلمات عند أهل السنة والجماعة .
والله المستعان على وقاحة أهل الضلال وما هم فيه من العمى حتى في كذبهم ، فتجد أحدهم يكذب فيما هو من المعلوم بالضرورة عند أهل السنة والحديث .
وعلى كل حال فلنضرب أمثلة من ردود شيخ الإسلام ابن باز ـ رحمة الله عليه ـ على المخالف بأعيانهم وأشخاصهم لنبين للقراء الكرام وليطلع ويقف من اغتر به من أهل الإسلام على كذبه وتلبيسه الفاحش .
1 ـ رد على " صالح محمد جمال " في مسألة تعظيم الآثار الإسلامية ، انظر إلى
( مجموع الفتاوى ) ( 1 / 401) ، وأيضا في ( 2 / 352) رد عليه في مسألة المولد النبوي
2 ـ رد على " أنور أبي الجدايل " و أيضا" صالح محمد جمال " في مسألة تعظيم الآثار الإسلامية انظر إلى ( مجموع الفتاوى ) (3 / 334)
3 ـ رد على " خالد محمد محمد سليم " انظر إلى ( مجموع الفتاوى ) (2 / 410)
4 ـ رد على " عبد الفتاح الحايك " انظر إلى ( مجموع الفتاوى ) (8 / 196)
5 ـ رد على " رشاد خليفة " انظر إلى ( مجموع الفتاوى ) (2 / 400) ، وأيضا في (27 / 480)
6 ـ رد على " حمد السعيدان " انظر إلى ( مجموع الفتاوى ) (2 / 347)
فهذه بعض ردود الإمام ـ قدس الله روحه ـ على أهل الانحراف والزيغ ، وهي قطرة من بحر مما له من الردود الكثيرة القوية على الأفراد والجماعات البدعية القديمة و المعاصرة من جماعة التبليغ والإخوان والقطبية وغيرهم ، فهل بعد هذا البيان نغالط ونكذب على العامة من أن الإمام ابن باز ليس من منهجه وسيرته بيان أحوال أهل البدع والفرقة بأعيانهم وأشخاصهم !؟
فلنترك الجواب ، يجب عليه من اغتر به لا من عرفه وغسل يديه منه .
.... يتبع إن شاء الله
([1]) (مقدمة صحيح مسلم / 1 / 12 )
[2] " الدرر السنية " ( 8 / ص 300 إلى 309 )