قال ابن الأثير-رحمه الله تعالى-راوي الحديث لا يخلو في أخذه الحديث من طرق ست
في مسند الراوي ، وكيفية أخذه
راوي الحديث لا يخلو في أخذه الحديث من طرق ست:
الطريق الأول
وهي العليا:قراءة الشيخ في معرض الإخبار ، ليروي عنه ، ،وذلك تسليط منه للراوي على أن يقول :حدثنا، وأخبرنا ، وقال فلان ، و سمعته يقول:
ولأئمة الحديث فرق بين «حدثنا»و«أخبرنا»و«أنبأنا».
قال عبد الله بن وهب :ماقلت :«حدثنا»فهوما سمعت مع الناس ، وما قلت :«حدثنى»فهوما سمعت وحدي ، وما قلت :«أخبرنا»فهوما قرئ على العالم وأنا أشاهد ، وما قلت:«أخبرني»فهوما قرأت على العالم .
وكذلك قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري.
وقاليحيى بن سعيد «أخبرنا، حدثنا»واحد، وهو الصحيحمن حيث اللغة .
وأما«أنبأنا»فإن أصحاب الحديث يطلقونها على الإجازة والمناولة ، دون القراءة والسماع اصطلاحاً، وإلا فلا فرق بين الإنباء والإخبار ،لأنهما بمعنى واحد .وقال الحاكم :«أنبأنا»إنمايكون فيما يجيزه المحدث للراوي شفاهاً دون المكاتبة .
الطريق الثانية:
أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت ، فهو كقوله :هذاصحيح ، فتجوز الرواية ، خلافاً لبعض الظاهرية ، لأنه لو لم يكن صحيحاً ، لكان سكوته عليه وهو يقرأ ، وتقريره له ، فسقاً قادحاً في عدالته .
وإن كان ثم مخيلة إكراه أو غفلة ، فلا يكف يالسكوت .
وهذا تسليط من الشيخ للراوى على أن يقول :حدثنا، وأخبرنا ، قراءة عليه .وقال قوم : لايجوز أن يقول فيه:حدثنا، و يقول فيه :أخبرنا. ولافرق إذا قيده بقوله :«قراءةعليه».
أماقوله :«حدثنا و أخبرنا مطلقاً ، أو «سمعت فلاناً»،ففيه خلاف.
والصحيح: أنهلا يجوز ، لأنه يشعر بالنطق وذلك منه كذب، إلا إذا علم بتصريح أو قرينة حال أنه يريد القراءة على الشيخ ، دون سماع نطقه.
قال الحاكم :والقراءة على الشيخ إخبار ، وإليه ذهب الفقهاء والعلماء كأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي، الثوري و الأوزاعي ، و أحمد وغيرهم .
قال: وعليه عهدنا أئمتنا ، وبه قالوا ، وإليه ذهبوا، وإليه نذهب وبه نقول ، وبه قال أئمة الحديث :إن القراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يقرأ عليه ، أو يمسك أصله فيما يقرأ عليه إذالم يحفظ ، صحيحه مثل السماع من لفظ الشيخ.
قال ابن جريج :قرأت على عطاء بن أبي رباح ، فقلت له :كيف أقول؟ قال :قل:حدثنا.قال ابن عباس -رضي الله عنهما -لقوم من الطائف «اقرؤوا على، فإن إقراري به كقراءتي عليكم».وقد ذهب قوم إلى أن القراءة على الشيخ أعلى من قراءة الشيخ وأحوط في الرواي قالوا :لأ نقراءة الشيخ يتطرق إليها أمران .
أحدهما:جوا زتغيير الشيخ في القراءة بعض ما في كتابه سهواً ، أو يسبق على لسانه غلط أو تصحيف وهو غافل عنه ، والراوي لا لم له به ، ليرد عليه ، بخلاف ما إذا قرأ الرواي وغير ، أوغلط أو صحف ، فإن الشيخ يرد عليه سهوه وغلطه .
الأمر الثاني :جواز غفول السامع عن سماع بعض ما يقرؤه الشيخ لعارض يطرأ على قلبه ، وهذا كثير جداً ،بخلاف ما إذا قرأ على الشيخ ، فإنه يتيقن أو يغلب على ظنه أنه قرأ جميع الكتاب ،وأن الشيخ سمع ما قرأه .
هذامستند ما ذهبو إليه ، وإن كان أكثر العلماء والفقهاء والمحدثين على الأول ، فإن نسبة هذه الجوائز المحتملة إلى الرواي أقرب من نسبتها إلى الشيخ ، ولأن يغلط الراوي ويسهو ويصحف ، والشيخ لا يفغل عن سماعه ،أقرب وأمكن من جواز غلط الشيخ وسه وهوتصحيفه ونسبه الخلل في السماع ، ولكلنظرواجتهاد .
الطريق الثالثة:
سماع ما يقرأ على الشيخ ، ويتنزل منزلة القراءة عليه ، لكنه ينقص عنها بأن السامع ربماغفل عن سماع بعض القراءة كما سبق ، فأما القارئ ، فلا يجرى هذا في حقه ، ويجوز لهأن يقول :حدثنا، وأخبرنا سماعاً يقرأ عليه.
الطريق الرابعة:
الإجازة: وهوأن يقول الشيخ للراوى شفاهاً ، أو كتابة، أو رسالة :أجزتلك أن تروي عني الكتاب الفلاني ، أو ما صح عندك من مسموعاتى ، وعند ذلك
يجب الاحتياط في معرفة المسموع ، أما إذا اقتصر على قوله:هذامسموعى من فلان ، فلا يجوز له الرواية عنه، لأنه لم يأذن له في الرواية .
وهذا تسليط من الشيخ للرواي علي أن يقول:حدثناوأخبرنا إجازة، أو أنبأنا ، على اصطلاح المحدثين كماسبق ، ويقيدها بالمشافهة ، أوبالكتابة ،أو بالرسالة .
وقال قوم : لايجوز فيما كان بالكتابة والرسالة أن يقول فيه :حدثنا، وإنما يقول:أخبرنا، كمايقول :أخبرن االله في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، ولا يقول فيه:حدثنا.
أماقوله في الإجازة :«حدثنا، وأخبرنا»مطلقاً، فجوزه قوم ، وهو فاسد و ، كما ذكرنا في القراءة على الشيخ .
وقال قوم : لاتحل الرواية بالإجازة ، حتى يعلم المجازله ما في الكتاب ثم يقول المجيز للراوي :أتعلم ما فيه ؟ فيقول :نعم، ثم يجيز له الرواية عنه به .
فأما إذا قال له المجيز :أجزتلك عني الحديث بما فيه ، و السامع غير عالم به ، فلايحل له ، كما أنه لو سمع ولم يعلم، فلا يجوز له ، وكما قالوا في القاضي :يشهد الشاهد على كتابه والشاهد لا علم له بمافيه .
وهذاالقول راجع إلى من جعل العلم والفقة ،ومعرفة حكم الحديث ومعناه شرطاً في الرواية، وقد سبق ذكره في الفرع الأول.
وأعلى درجات الإجازة المشافهة بها ، لا نتفاء الأحتمال فيها .
ويتلوها: الرسالة، لأن الرسول يضبط وينطق.
وبعدهما: الكتابة، لأن الكتابة لا تنطق ، وإن كانت تضبط ثم هذه الإجازة الجائزة ، إنماهي في حق الموجود والمعروف عارية من الشرط .
وأماالإجازة للمعدوم والمجهول ، وتعليقها بالشرط ، ففيها خلاف نذكره .
أما المجهول ، فمثل أن يقول المحدث :أجزت لبعض الناس ، فلا يصح ذلك ، لأنه لا سبيل إلى معرفة البعض الذي أجيز له .
وأماإجازة المعدوم ، فمثل أن يقول المحدث :أجزت لمن يولد لفلان ، أو لكل من أعقب فلان ،أو لعقب عقبه أبداً ما تناسلوا ، فقد أجازه قوم ، ومنع منه آخرون .
وأماالإجازة المعلقة بشرط فمثل أن يقول المحدث:أجزت لفلان إن شاء ، أو يخاطب فلاناً ، فيقول: أجزت لمن شئت رواية حديثي ، أو أجزت لمن شاء ،فمنع منها قوم ، وأجازها آخرون .
وقال قوم :لاتجوز الإجازة للمعدوم والمجهول ، ولا تعليقها بشرط ، لأنها تحمل يعتبر فيه تعيين المحتمل، وهذا الأجدر بالاحتياط ، والأولى بحراسه الحديث وحفظه .
وقال قوم :إنما يجوز أن يجيز لمن كان موجوداً حين إجازته، من غير أن يعلق بشرط أو جهالة ، سواء كانت الإجازة بلفظ خاص أو عام .
أماالخاص :فقوله: أجز تلفلان بن فلان .
وأماالعام :فقوله: أجزت لبني هاشم ، ولبني تميم ، وكذلك إذا قال: أجزت لجماعة المسلمين .
هذاإذا كان الذين أجاز لهم موجودين واللهأعلم .
الطريق الخامسة :
المناولة وتسمى: العرض، وصورته :أن يكون الراوي متقناً حافظاً ، فيقدم المستفيد إليه جزاء من حديثه ، أو أكثرمن ذلك ، فيناوله إياه ، فيتأمل الرواي حديثه ، فإذا خبره وعرف أنه من حديثه ،قال للمستفيد :قد وقفت على ماناو لتنيه ، وعرفت ما فيه ،وأنه روايتى عن
شيوخي، فحدث عنى بها .
قال الحاكم :أجاز ذلك خلق كثير من أئمة الحديث أهل المدينة، و ومكة ، والكوفة ، و البصرة ، ومصر ،وخراسان ، رأوا العرض سماعاً.
قال: وقد قال مطرف بن عبد الله :صحبت مالكاً سبع عشرة سنة ، فما رأيته قرأ«الموطأ»على أحد ، وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول: لايجزئه إلا السماع ويقول :كيف لا يجزئك هذا في الحديث ، ويجزئك في القرآن، والقرآن أعظم ؟ !.
وقال غير مطرف ، سئل مالك عن حديثه :أسماعهو ؟ فقال :منه سماع ومنه عرض ، وليس العرض عندنا بأدنى من السماع.
هذا مالك سيد الناس في الحديث ، قال :وأما فقهاء الإسلام فلم يروا العرض سماعاَ.
وقال الغزالى -رحمه الله عليه :صورة المناولة أن يقول :خذ هذا الكتاب وحدث به عني ، ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى لها ، وإذا وجد هذااللفظ فلا معنى للمناولة .
وأصحاب الحديث يرتبون المناولة قبل الإجازه ،وهي عندهم أعلى درجة منها .
ومنهم من ذهب إلى أنها أوفى من السماع ، والظاهر أن المناولة أحوط من الإجازة ، لأن أقل درجاتها أنها إجازة مخصوصة محصورة في كتاب بعينه ، يعلم الشيخ ما فيه يقيناً ،أو قريباً من اليقين ، بخلاف الإجازة ،على أن الشيخ يشترط في المناولة والإجازة البراءة من الغلط والتصحيف ، والتزام شروط رواية الحديث ، فبهذه الشروط يخرج من العهدة ، وحينئذ يجوز للرواى أن يقول:حدثنا، أخبرنا ، مناولة وعرضاَ ، وأنبأنا مطلقاً، باصطلاح المحدثين .
الطريق السادسة :
الكتابة لايخلو أن يكون الكتاب تذكرة ، والرواية عن علم ويقين ، بعد مايتذكر بالنظر فيه ، أويكون الكتاب إماماً لا يتذكر ما فيه ، فإن كانت تذكرة ، قبلت روايته ، لأنه لا فرق بين التذكر بالفكر ، أو بمذكر آخر ، إذ في الحالتين روى عن مذكر ، ولا يمكن اشترطأن لا ينسى ، لأن الإنسان لا يمكنه الاحتراز عنه ، وإن كان إماماً ، فلا يخلو أن يكون كتابة بسماعه وخطة ، أو سماعه بخط غيره ،والخط معروف ، والكاتب ثقة ، أو سماع أبيه، بخط أبيه ، أو راو معروف بالرواية، معروف الخط .
وعلى ذلك ، ففيه خلاف ، فمن أهل الحديث من جعل الكتاب كالسماع ، وقالوا :إذاوقع في علم الراوي أنه كتابه بسماعه وخطه، أو كتاب أبيه بخطه ، وله ثقة بعلمه بخطأبيه ، حلت له الرواية ، كما لو سمعه وتذكرسماعه ما فيه .
وعلى هذا يجب أن يحل له إذا علم أنه راو معروف، فلا فرق بين خط أبيه وغيره ، وهذا القول يجوز له أن يروي بالخط ، وإن لم يتذكر.
ومنه ممن قال:لايجوز له الرواية إن لم يتذكر ، لأن الخطلم يوضع في الأصل إلا للتذكر.
وقيل: إذارأى خطة في كتاب ، أو خط من يعرفه ويثق إليه ، فلا يخلو :إماأن يعلم أنه سمعه ، وإما أن يعلم أنه لم يسمع ، أو يظن أنه لم يسمع ، أو يجوز من نفسه سماعه أو عدم سماعه على السواء ،وإما أن لا يذكر أنه سمع أو قرأ و ، ولكنه غلب على ظنه سماعه أو قراءته .
ففي الأول :تجوز الرواية .
وفي الثاني والرابع :لاتجوز له الرواية ، لأنه كيف يخير عما يعلم كذبه أو يشك فيه؟!.
وفي الثالث :اختلفوا، فأجازه قوم ، ومنع منه آخرون ، لأن الروايةعن الغير حكم منه بأنه حدثه ، فلا يجوز إلا عن علم ، ولأن الخط يشبه الخط .
أم اإذا قال الشيخ :هذا خطي ، قبل منه ، لكن لايروي عنه مالم يسلطه على الرواية بصريح قوله ، أو بقرينة حاله، كالجلوس لرواية الحديث.
فإن قال عدل :هذه نسخة صحيحة من «صحيح البخاري»مثلاً، فرأى فيهاحديثاً ، فليس له أن يرويه عنه، ولكن هل يلزمه العمل به ؟ إن كان مقلداً، فعليه أن يسأل المجتهد ، وإن كان مجتهداً، فقال قوم :لايجوز له العمل به مالم يسمعه .
وقال قوم :إذاعلم صحة النسخة بقول عدل ، جازله العمل.
والقول الجامع لهذا :أنه لا ينبغى له أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولاً وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء ، بحيث يتيقن أن ما أداه هو الذي سمعه ، فإن شاك في شئ منه ، فليترك الرواية .
أماإذا كان في مسموعاته عن شيخ حديث واحد شك في أنه سمعه منه أو من غيره ، فلا يجوز له أن يقول :سمعت فلاناً ، ولا أن يقول :قال فلان ، لأنه شك ، ولا يجوز له أن يروي الحديث بالشك المطلق بل لو سمع من شيخ مائة حديث ، وعلم أن حديثاً واحداً لم يسمعه ، ولكنه التبس عليه ، ولم يعرفه ،فلا يجوز له رواية شيء من تلك المائة عنذلك الشيخ ، لأنه ما من حديث منها إلا ويجوز أن يكون هو ذلك المشكوك فيه .
أماإ ذا أنكر الشيخ الحديث ، فلا يخلو من ثلاث جهات :
الأولى: أن ينكره قولاً ، ولا يخلو أن ينكره إنكاراً جاحدا قاطعًا بكذب الراوي ، وحينئذ لايعمل به ، ولا يصير الراوي مجروحاً ، أوينكره إنكاراً متوقف ، و وقال :لست أذكره ، فيعمل بالخبر ، لأن الرواي جازم أنه سمعه منه ، وهو ليس قاطعاً بتكذيبه.
وقال قوم : إن نسيان الشيخ للحديث يبطله ، وليس بشئ ،فإن للشيخ أن يعمل بالحديث إذا روى ل هالعدل عنه ، ولهذا تفصيل آخر.
قالوا: ينظرالشيخ في نفسه ، فإن كان رأيه يميل إلي غلبة نسيان ، أو كان ذلك عادته في محفوظاته ،قبل رواية غيره عنه ، وإن كان رأيه يميل إلى جهله أصلاً بذلك الخبر ، رد ، فقل ماينسى الإنسان شيئاً حفظه لا يتذكر بالتذكير، والأمور تبنى على الظواهر ، لاعلى النوادر ،
وحين ئذيقول الشيخ :حدثن يفلان عني أنني حدثته .
والجهة الثانية :أن ينكره فعلاً ، فإذا عمل الشيخ بخلاف الخبر، فإن كان قبل الرواية ، فلا يكون تكذبياً بوجه ، لأن الظاهر أنه تركه لما بلغه الخبر، وكذلك إذا لم يُعلم التاريخ ، حمل عليه تحرياً لموافقه السنة .
وأماإذا كان بعد الراوية ، نظر فيه ، فإن كانا لخبر يحتمل ما عمل به يضرب تأويل ، لميكن تكذيباً ، لأن باب التأويل في الأخبار غير مسدود ، لكن لا يكون حجة ، لأن تأويله برأيه لا يلزم غيره.وإنكان الخبرلا يحتمل ما عمل به ، فالخبر مردود .
الجهة الثالثة :أن ينكره تركاً ، فإذا امتنع الشيخ من العمل بالحديث ، ففيه دليل على أنه لو عرف صحتهلما امتنع من العمل به ، فإنه يحرم عليه مخالفته ، مع العلم بصحته ، وله حكم الجهةا لثانية .
جامع الأصول لابن الأثير .