وقال الشيخ أبو بطين –رحمه الله - :
" المسألة الثانية: أن تكفير الشخص المعين وجواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها... إلى آخره، يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة، وقد صرح بذلك في موضع آخر; ونقل ابن عقيل عن الأصحاب: أنه لا يعاقب; وقال: إن الله عفا عن الذي كان يعامل ويتجاوز، لأنه لم تبلغه الدعوة، وعمل بخصلة من الخير.
واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" . قال في شرح مسلم: وخص اليهودي والنصراني، لأن لهم كتابا; ....فبين رحمه الله: أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف، لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى، وهذا من أظهر الباطل؛ فقول الشيخ تقي الدين، رحمه الله: إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة، يدل من كلامه على أن هذين الأمرين، وهما: التكفير، والقتل، ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا، بل على بلوغها، ففهمها شيء، وبلوغها شيء آخر. فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة، لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة، وهذا بين البطلان؛ بل آخر كلامه رحمه الله، يدل على أنه يعتبر فهم الحجة، في الأمور التي تخفى على كثير من الناس، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة، كالجهل ببعض الصفات. لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور; قال: وهذا جار على ما تقرر في الأصول، لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح، انتهى.
وقال القاضي أبو يعلى: في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء : 15: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار; انتهى.
وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر: أنه يعاقب؛ اختاره ابن حامد، واحتج بقوله {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} القيامة : 36. والله أعلم; فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل.
وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل، مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم; ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، فنعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم.
وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر؛ والشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنى ولا عدم تحريمه؛ وهذا كفر بإجماع العلماء، ولا عذر لمن كان حاله هكذا، بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها، وإن لم يفهمها.
وقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم لم يفهموا، فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} الأنعام : 25، وقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} الأعراف : 30؛ فبين الله سبحانه: أنهم لم يفقهوا، فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً..} الكهف 103-105 .
...فبين رحمه الله: أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف، لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى، وهذا من أظهر الباطل؛ فقول الشيخ تقي الدين، رحمه الله: إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة، يدل من كلامه على أن هذين الأمرين، وهما: التكفير، والقتل، ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا، بل على بلوغها، ففهمها شيء، وبلوغها شيء آخر. فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة، لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة، وهذا بين البطلان؛ بل آخر كلامه رحمه الله، يدل على أنه يعتبر فهم الحجة، في الأمور التي تخفى على كثير من الناس، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة، كالجهل ببعض الصفات.
وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد، والإيمان بالرسالة، فقد صرح رحمه الله في مواضع كثيرة بكفر أصحابها، وقتلهم بعد الاستتابة، ولم يعذرهم بالجهل، مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور، إنما هو الجهل بحقيقتها؛ فلو علموا أنها كفر تخرج من الإسلام، لم يفعلوها.
وهذا في كلام الشيخ رحمه الله كثير، كقوله في بعض كتبه: فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، نحو أن يقول: يا فلان أغثني، أو اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، أو أنت حسبي، ونحو هذه الأقوال، التي هي من خصائص الربوبية، التي لا تصلح إلا لله؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
وقال أيضا: فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا; وقال: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله، فهو مرتد؛ وإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر صار مرتدا.
وقال: من سب الصحابة أو أحدا منهم، أو اقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا؛ بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره.
وقال أيضا: من زعم أن الصحابة ارتدوا، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا، لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك؛ بل من شك في كفره، فهو كافر، انتهى;
فانظر كيف كفر الشاك، والشاك جاهل؛ فلم ير الجهل عذرا في مثل هذه الأمور.
وقال رحمه الله في أثناء كلام له، قال: ولهذا قالوا: ن عصى مستكبرا كإبليس، كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة، ومن فعل المحارم مستحلا، فهو كافر بالاتفاق.
وقال: والاستحلال: اعتقاد أنها حلال، وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها؛ وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو الرسالة، ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم: أن الله حرمها، ثم يمتنع من التزام هذا التحريم ويعاند، فهذا أشد كفرا ممن قبله، انتهى.
وكلامه رحمه الله في مثل هذا كثير، فلم يخص التكفير بالمعاند، مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه أو فعلوه كفر؛ فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء، لأن منها ما هو مناقض للتوحيد، الذي هو أعظم الواجبات، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة، ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء المسلمين.
وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم، مع العلم أنهم غير معاندين;
ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى: من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو جحد حل الخبز ونحوه، أو جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك في ذلك ومثله لا يجهله، كفر، وإن كان مثله يجهله عرّف ذلك، فإن أصر بعد التعريف، كفر، وقتل؛ ولم يخصوا الحكم بالمعاند، وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة، أقوالا وأفعالا، يكون صاحبها بها مرتدا، ولم يقيدوا الحكم بالمعاند.
وقال الشيخ أيضا: لما استحل طائفة من الصحابة الخمر، كقدامة وأصحابه، وظنوا أنها تباح لمن آمن بالله وعمل صالحا، على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا؛ فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة، حتى يبين لهم الحق، فإن أصروا كفروا.
وقال أيضا: ونحن نعلم بالضرورة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا من الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت، ولا إلى ميت ونحو ذلك؛ بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى.
فانظر إلى قوله: لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل:حتى يتبين لهم، ونتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة.
وقال أيضا: لما انجر كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس، من الكفر، والخروج عن الإسلام، قال: وهذا كثير غالب في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق؛ فلهؤلاء من عجائب الجهل، والظلم والكذب، والنفاق والكفر والضلال، ما لا يتسع لذكره المقال.
وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين، أنها من دين الإسلام، بل اليهود والنصارى والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين أو غيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام،
ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش، والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك، أو يعودون إلى أن قال: وأبلغ من ذلك: أن منهم من يصنف في دين المشركين، والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته، ورغب فيه؛ وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام، انتهى.
فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية، التي هي كفر: قد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية، فيكفر بالأمور الظاهر حكمها مطلقا، وبما يصدر منها من مسلم جهلا، كاستحلال محرم أو فعل أو قول شركي بعد التعريف،
ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا، كالجهل ببعض الصفات، فلا يكفر الجاهل بها مطلقا، وإن كان داعية، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال; وقوله عندي يبين أن عدم تكفيرهم، ليس أمرا مجمعا عليه، لكنه اختياره؛ وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب، فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، أو نفي الرؤية، أو الرفض ونحو ذلك، وتفسيق المقلد.
قال المجد رحمه الله: الصحيح: أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يُرى في الآخرة، أو يسب الصحابة تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك؛ فمن كان عالما في شيء من هذه البدع، يدعو إليه ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره، نص أحمد على ذلك في مواضع، انتهى.
فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم، والشيخ رحمه الله يختار عدم كفرهم، ويفسقون عنده; ونحوه قول ابن القيم رحمه الله، فإنه قال: وفسق الاعتقاد، كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون ما أوجب الله، ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله، جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك؛ وهؤلاء كالخوارج المارقة، وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة، وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم.
وأما غلاة الجهمية، فكغلاة الرافضة، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف، من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا هم مباينون للملة، انتهى.
وبالجملة: فيجب على من نصح نفسه، ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله؛ وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه، أعظم أمور الدين; وقد فينا بيان هذه المسألة كغيرها، بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين؛ فالواجب علينا: الاتباع وترك الابتداع، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".
وأيضا: فما تنازع العلماء في كونه كفرا، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام، ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم.
ومن العجب: أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع ونحوهما، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما قالوه؛ فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطرا، على مجرد فهمه واستحسانه؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين ومحنته من تينك البليتين!! " الدرر السنية : 10/ 364