- من أسرار فاتحة الكتاب(الأول)


﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾[الفاتحة: 7]
وأمَّا المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم المغضوب عليهم على الضالِّين فلوجوهٍ:
أحدها: أنهم متقدِّمون عليهم بالزمان.
الثاني: أنهم كانوا هم الذين يَلُون النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم من أهل الكتابين، فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائيةً عنه، ولهذا تجد خطابَ اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى، كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور.
الثالث: أنَّ اليهود أغلظ كفرًا من النصارى، ولهذا كان الغضب أخصَّ بهم واللعنة والعقوبة، فإنَّ كفرهم عن عنادٍ وبغيٍ كما تقدَّم، فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحقُّ وأهمُّ بالتقديم، وليس عقوبة مَن جَهِل كعقوبة مَن عَلِم.
الرابع: -وهو أحسنها- أنه تقدَّم ذكرُ المنعَم عليهم، والغضبُ ضدُّ الإنعام، والسورة هي السبع المثاني التي يُذكر فيها الشيء ومقابله، فذكرُ المغضوب عليهم مع المنعَم عليه فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالِّين، فقولك: الناس منعَمٌ عليه ومغضوبٌ عليه، فكن من المنعَم عليهم أحسن من قولك: منعمٌ عليه وضالٌّ.

وأمَّا المسألة الرابعة عشرة: وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي الضالِّين باسم الفاعل فجوابهما ظاهرٌ، فإنَّ أهل الغضب من غَضِب الله عليهم وأصابهم غضبه فهُمْ مغضوبٌ عليهم، وأمَّا أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلُّوا وآثروا الضلالَ واكتسبوه، ولهذا استحقوا العقوبةَ عليه، ولا يليق أن يقال: «ولا المضَلِّين» مبنيًّا للمفعول لِمَا في رائحته من إقامة عُذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلالَ من أنفُسهم بل فُعل فيهم، ولا حجَّةَ في هذا للقدرية، فإنَّا نقول: إنهم هم الذين ضلُّوا وإن كان الله أضلَّهم، بل فيه ردٌّ على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلاً إلاَّ على جهة المجاز لا الحقيقة، فتضمَّنتِ الآية الردَّ عليهم، كما تضمَّن قوله: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ الردَّ على القدرية، ففي الآية إبطالُ قول الطائفتين والشهادةُ لأهل الحقِّ أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدًا وخلقًا، والقدرةِ لإضافة أفعال العباد إليهم عملاً وكسبًا وهو متعلَّق الأمر والعمل، كما أنَّ الأول متعلَّق الخلق والقدرة، فاقتضت الآية إثباتَ الشرع والقدر والمعاد والنبوَّة، فإنَّ النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه، فالمنعَم عليهم رسلُه وأتباعُهم ليس إلاَّ، وهُدى أتباعِهم إنما يكون على أيديهم، فاقتضى إثباتَ النبوَّة بأقرب طريقٍ وأبينِها وأدلِّها على عموم الحاجة وشدَّة الضرورة إليها، وأنه لا سبيلَ للعبد أن يكون من المنعَم عليهم إلاَّ بهداية الله له، ولا تُنال هذه الهداية إلاَّ على أيدي الرسل، وأنَّ هذه الهداية لها ثمرةٌ وهي النعمة التامَّة المطلقة في دار النعيم، ولخلافها ثمرةٌ وهي الغضب المقتضي للشقاء الأبدي، فتأمَّلْ كيف اشتملتْ هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهمِّ مَطَالِبِ الدين وأجلِّها، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو أعلم.
[«بدائع الفوائد» لابن القيم (2/ 33)]
- من أسرار فاتحة الكتاب(الثاني)


﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]
المسألة الثالثة: وهي ما فائدة زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه ففي ذلك ثلاث فوائد:
أحدها: أنَّ ذكرها تأكيدٌ للنفي الذي تضمَّنه "غير" فلولا ما فيها من معنى النفي لما عُطف عليها ﺑ "لا" مع الواو، فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين، أو غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين.
الفائدة الثانية: أنَّ المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كلِّ نوعٍ بمفرده، فلو لم يذكر لا وقيل: غير المغضوب عليهم والضالِّين؛ أوهم أنَّ المراد ما غاير المجموع المركَّب من النوعين لا ما غاير كلَّ نوعٍ بمفرده. فإذا قيل: ولا الضالِّين كان صريحًا أو أنَّ المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء. وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيدٌ وعمر فإنما نفيت القيام عنهما، ولا يلزم من ذلك نفيه عن كلِّ واحدٍ منهما بمفرده.
الفائدة الثالثة: رفعُ توهُّم أنَّ الضالِّين وصفٌ للمغضوب عليهم وأنهما صنفٌ واحدٌ وُصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما، كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى: ﴿قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون﴾ [المؤمنون: 1-3 ]، إلى آخرها فإنَّ هذه صفاتٌ للمؤمنين، ومثل قوله: ﴿سبِّح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوَّى ، والذي قدَّر فهدى﴾ [الأعلى: 1-3]، ونظائره فلمَّا دخلت "لا" عُلم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر وكانت "لا" أَوْلى بهذا المعنى من "غير" لوجوهٍ:
أحدها: أنها أقلُّ حروفًا.
الثاني: التفادي من تكرار اللفظ.
الثالث: الثقل الحاصل بالنطق ﺑ«غير» مرَّتين من غير فصلٍ إلا بكلمةٍ مفردةٍ، ولا ريب أنه ثقيلٌ على اللسان.
الرابع: أنَّ «لا» إنما يُعطف بها بعد النفي، فالإتيان بها مؤذنٌ بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال وغيره. وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها.

[«بدائع الفوائد» لابن القيم (2/33)]
- من أسرار فاتحة الكتاب (الثالث)


قال الله تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]
المسألة الأولى: ما الحكمة في إضافة الصراط إلى قوله تعالى : ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ [الفاتحة: 7] بهذا اللفظ ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول صراط النبيِّين والصدِّيقين فلِمَ عدل إلى لفظ المبهم دون المفسَّر؟
ففيه ثلاث فوائد:

إحداها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا، فإنَّ استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى الصراط فيه صاروا من أهل النعمة، وهذا كما يعلِّق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد لِما فيه من الإنعام باستحقاق ما عُلِّق عليها من الحكم بها. وهذا كقوله تعالى: ﴿الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم﴾[ البقرة: 274 ]، ﴿والذي جاء بالصدق وصدَّق به أولئك هم المتَّقون﴾ [الزمر: 33 ]، ﴿إن الذين قالوا ربُّنا الله ، ثمَّ استقاموا فلا خوفٌ عليهم﴾ [الأحقاف: 13]، وهذا الباب مطَّردٌ فالإتيان بالاسم موصولاً على هذا المعنى من ذكر الاسم الخاصِّ.

الفائدة الثانية: فيه إشارةٌ إلى أنَّ نفي التقليد عن القلب واستشعارَ العلم بأنَّ من هُدي إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، فالسائل مستشعرٌ سؤال الهداية وطلب الإنعام من الله عليه، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أنَّ الأوَّل يتضمَّن الإخبار بأنَّ أهل النعمة هم أهل الهداية إليه، والثاني يتضمَّن الطلب والإرادة وأن تكون منه.

الفائدة الثالثة: أنَّ الآية عامَّةٌ في جميع طبقات المنعم عليهم، ولو أتى باسمٍ خاصٍّ لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم، فكان في الإتيان بالاسم العامِّ من الفائدة أنَّ المسؤول الهدي إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كلُّ من أُنعم عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وهذا أجلُّ مطلوبٍ وأعظمُ مسؤولٍ، ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجِّيراه وقرَنَه بأنفاسه، فإنه لم يدع شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلاَّ تضمَّنه، ولمَّا كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضًا متكرِّرًا في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه، ومن ثمَّ يُعلم تعيُّن الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوضٌ يقوم مقامها.

بدائع الفوائد» لابن القيِّم: (2/18)]
- من أسرار فاتحة الكتاب (الرابع)




المسألة الثانية: وهي أنه قال: ﴿الذين أنعمت عليهم﴾[ الفاتحة: 7 ] ولم يقل المنعم عليهم. كما قال : ﴿المغضوب عليهم﴾فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة .

أحدها: إن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن. وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى. فيذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف الفاعل وبني الفعل معها للمفعول أدباً في الخطاب، وإضافته إلى الله أشرف فسمى أفعاله، فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه، ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل، وبني الفعل للمفعول فقال: ﴿المغضوب عليهم﴾ وقال في الإحسان: ﴿الذين أنعمت عليهم﴾، ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: ﴿الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين﴾[ الأحقاف: 8 ، 79 ، 80 ] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام، والسقي إلى الله تعالى، ولما جاء إلى ذكر المرض قال: ﴿وإذا مرضت﴾ ولم يقل أمرضني، وقال: ﴿فهو يشفين﴾، ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن ﴿وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا﴾[ الجن: 1 ] ، فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول، ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة ﴿فأردت أن أعيبها﴾ . فأضاف العيب إلى نفسه . وقال في الغلامين: ﴿فأراد ربك أن يبلغا أشدهما﴾[ الكهف: 82 ]، ومنه قوله تعالى: ﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم﴾[ البقرة: 187 ] ، فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾[ البقرة: 275 ]، لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل ومنه ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير﴾[ المائدة: 3 ]، وقوله: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا﴾[ الأنعام: 151 ] إلى آخرها . ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم﴾[ النساء: 23 ] إلى آخرها، ثم قال: ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾[النساء: 24 ]، وتأمل قوله: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع . وقال في حق المؤمنين: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم﴾[ المائدة: 3 ] .
الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر النعم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله: ﴿أنعمت عليهم﴾[ الفاتحة: 7 ] من ذكر وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: ﴿فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون﴾[ البقرة: 152 ].
الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشركه أحد في نعمته، فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال: أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة، وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم، وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه، وهذا حقيقة العبودية واليهود قد غضب الله عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، فحذف فاعل الغضب وقال: ﴿المغضوب عليهم﴾ لما كان للمؤمنين نصيب من غضبهم على من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإنه لله وحده، فتأمل هذه النكتة البديعة. .
الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشارة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين، فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى، فإن قولك الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا، وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك، فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم، فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدَّم.

[بدائع الفوائد لابن القيم: 2/18]






للمزيد من مواضيعي