باب الخوف من الشرك
وقول الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }1 قال النووي رحمه الله تعالى: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها. ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة. ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره. ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع به لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مصرا عليها ومات على ذلك فهو تحت المشيئة فإن عفي عنه دخل الجنة أولا وإلا عذب في النار ثم أخرج منها وأدخل الجنة.. انتهى.
"قلت ":هذا قول أهل السنة والجماعة لا اختلاف بينهم في ذلك، وهذه الآية من أعظم ما يوجب الخوف من الشرك لأن الله تعالى قطع المغفرة عن المشرك، وأوجب له الخلود في النار وأطلق ولم يقيد، ثم قال: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }2 فخصص وقيد فيما دون الشرك، فهذا الذنب الذي هذا شأنه لا يأمن أن يقع فيه، فلا يرجى له معه نجاة إن لم يتب منه قبل الوفاة.
قوله: "وقال الخليل عليه السلام: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ }3 أي إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن. والخلة أخص من المحبة، ولهذا اختص بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلي الله عليه وسلم { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ }4 وهذا أيضا يخيف العبد، فإذا كان الخليل إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة واحدة وابتلاه بكلمات فأتمهن وقال: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }5 وأمر بذبح ولده فامتثل أمر ربه. وكسر الأصنام واشتد نكيره على أهل الشرك. ومع ذلك يخاف أن يقع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام لعلمه أنه لا يصرفه عنه إلا الله بهدايته وتوفيقه لا بحوله هو وقوته وما أحسن ما قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ فهذا أمر لا يؤمن الوقوع فيه وقد وقع فيه الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون المفضلة فاتخذت الأوثان وعبدت. فالذي خافه الخليل - عليه السلام - على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة، فبنت المساجد والمشاهد على القبور، وصرفت لها العبادات بأنواعها، واتخذ ذلك دينا وهي أوثان وأصنام كأصنام قوم نوح واللات والعزى ومناة وأصنام العرب وغيرهم. فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم. بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الربوبية مما يطول عده. فذكر - عليه السلام - السبب الذي أوجب له الخوف عليه وعلى ذريته بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ }6 وقد ضلت الأمم بعبادة الأصنام في زمن الخليل وقبله وبعده، فمن تدبر القرآن عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه، والوعيد على فعله، والثواب على تركه، وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن وجهله بما أمر الله به ونهى عنه، نسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامة على ذلك إلى أن نلقى الله على التوحيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة النساء آية : 48.
3 سورة إبراهيم آية : 35.
4 سورة إبراهيم آية : 35.
5 سورة النجم آية : 37.
6 سورة إبراهيم آية : 36.
المصدر :
كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين
تأليف:
عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب
-رحمه الله تعالى-