ففي كلام الشيخ رحمه الله عدة وقفات نعتبر بها ، ونقف عندها ونتأمل في أحقيتها وسنيتها
أولا : قوله : (( إن دعوتها ـ أي : الجمعية ـ الإصلاحية التي رسخت في القطر الجزائري وتغلغلت في جميع أوساطه وطبقاته ))
وما ذاك إلا لأنها بنيت وأسست على الإخلاص والمتابعة ، وهذا مصداق قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} ، وقوله تعالى : {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ} .
ثانيا : قد بيّن الشيخ سبب التمكين لهذه الدعوة في أرض الجزائر في قوله :
(( دعوة واضحة المعالم بيّنة الحدود مبنية على البرهان لا على السفسطة وعلى الإقناع لا على المشادَّة...)) إلخ
لا كما نراه الآن من الدعوات الحزبية المخالفة ومن سلك مسلكهم أنها مبنية على الكذب والمغالبة ، وإلزام عباد الله بباطلهم ، والموافقة على ما هم عليه من الضلال والفساد والجهل
ثالثا : قوله : (( وعلى التحابب لا على التنافر ، وعلى الجمع في الحق لا على التفريق في الباطل ))
لأنها تدعو الخلق إلى الارتباط بالحق ، والانقياد له ، والاجتماع عليه لا الارتباط بها وبأفرادها ، وقال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
قال العلامة ابن عثيمين في ( القول المفيد على كتاب التوحيد)(1/ 129)
(( فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى. والداعي إلى غيره قد يكون داعيا إلى نفسه، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمر به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهيا أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه. وقد يكون داعيا إلى رئيسه؛ كما يوجد في كثير من الدول من علماء الضلال من علماء الدول، لا علماء الملل، يدعون إلى رؤسائهم. من ذلك لما ظهرت الاشتراكية في البلاد العربية قام بعض علماء الضلالة بالاستدلال عليها بآيات وأحاديث بعيدة الدلالة، بل ليس فيها دلالة; فهؤلاء دعوا إلى غير الله.
ومن دعا إلى الله ثم رأى الناس فارين منه; فلا ييأس، ويترك الدعوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " انفذ على رسلك; فوالله; لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "، يعني: أن اهتداء رجل واحد من قبائل اليهود خير لك من حمر النعم، فإذا دعا إلى الله ولم يجب; فليكن غضبه من أجل أن الحق لم يتبع، لا لأنه لم يجب، فإذا كان يغضب لهذا; فمعناه أنه يدعو إلى الله، فإذا استجاب واحد; كفى، وإذا لم يستجب أحد; فقد أبرأ ذمته أيضا، وفي الحديث: " والنبي وليس معه أحد " .
ثم إنه يكفي من الدعوة إلى الحق، والتحذير من الباطل: أن يتبين للناس أن هذا حق وهذا باطل; لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وأقر الباطل مع طول الزمن; ينقلب الحق باطلا، والباطل حقا. ))
ولا يتم هذا التحابب والتآخي إلا تحت سقف التعاون ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفرض العلم وأصوله في حقل الدعوة ، لا أن نقر الباطل والفساد ونداهن أهله . وفي ذلك يقول الإمام الإبراهيمي :(( وإن السبب الأقوى في هذا التآخي وهذه المحبّة هو الاتصال والتعارف، وستعمل الجمعية على تقوية هذه الروح في النفوس بتقوية أسبابها، فلا أحد أحوج إلى التعاون من هذه الأسرة العلمية، ولا يتم هذا التعاون ويؤتي ثمراته إلا بتآخٍ يغمرهم، ومحبة تربط بين قلوبهم حتى يكونوا قدوة صالحة لغيرهم، فمن العار أن يدعوا الأمة إلى التآخي، وهم غير متآخين، وإلى المحبَة وهم غير متحابين.
ومن مميزات هذا الطور الذي نحن فيه، اقتران العلم بعزة النفس والعزوف عن الدنايا، والتخلّق بمحامد الأخلاق وإظهار صولة العلم في مواقف الدفاع عن الحق، وهي صفات لازمة للعلم، فمن عجز عن جمعها معه في نفسه كان علمه وبالًا عليه.
وإن هذه ميزة ما كنا نعرفها في الطبقة التي أدركناها من العلماء إلا قليلًا.
وإن جمعية العلماء تفتخر بأن هذه الميزة الأخلاقية هي الصفة الغالبة على رجالها، وأنها أول مظهر ظهروا به على الأيام، ثم امتحنتهم الأيام فلم يزدهم ذلك إلا اعتصامًا بهذه الخلال، ولم يزدهم ذلك الاعتصام إلا إجلالًا ومهابة، وقد نبزهم خصومهم بكل نقيصة حتى إذا وصلوا من قائمة النقائص إلى سقوط الهمّة والطمع والمداهنة في الحق جمجموا، فإن تقوَّلوا فيها أتوا بالهذر الذي يردّه العدو قبل الصديق.))(آثار الإمام) (1/ 152)
رابعا : قوله : (( وهي تعمل لغايات شريفة بوسائل شريفة ))
قد عرف القارئ الكريم ما الغاية التي من أجلها أسست جمعية العلماء ، والتي حقيقتها جمع القوى الموزعة من العلماء على اختلاف حظوظهم في العلم، لتتعاون على خدمة الدين الإسلامي واللغة العربية والنهوض بالأمة الجزائرية من طريقهما ([1]) وعليه فالدعوة لا تقوم وتنهض إلا بسلوك مسلكهم وترسم خطاهم ، وأنى للدعوة أن تقوم على التمثيل والمسرح والتصوير والكذب والأسماء المستعارة ، وعن طريق الجمعيات والمدارس المختلطة ومراكزها !!
قد يقول قائل : أليست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جمعية ، فلماذا تمنعون الجمعيات الآن ؟
الجواب : ما يخرج هذا الإشكال ويتفوه به إلا من جهل مقاصد علماء الأمة الجزائرية في إنشاء تلك الجمعية الإصلاحية والرابطة الأخوية التعاونية الدعوية ، ومن عدم معرفته بالفارق التي عليه الجمعيات الآن من الأنظمة والبنود وحال من يترأسها ويسيرها ويتحكم فيها ، وبين ما كانت عليه الجمعية الإصلاحية في إبان عهد الاحتلال الفرنسي، والذي يبيّن هذا الفارق قول الإمام البشير ـ رحمه الله ـ إذ يقول : ((إننا نعرف لأخينا الأستاذ باديس ذوقًا دقيقًا في وضع الأسماء وصوغ العناوين، وإنه يكاد يكون ملهمًا في هذا الباب، ونعرف أنه اكتسب ذلك من أسلوبه التدريسي المبني على التحديد والإحاطة والدقة.
ولقد كان من المعقول- والحرب مشبوبة بين المصلحين والطرقيين- أن يكون اسم الجمعية (الإصلاح الديني) ولكن المصلحين- وهم أول من فكر في مشروع جمعية العلماء وزعيمهم هو أول من وضع ذلك الاسم- لم يكونوا يقصدون من هذه الجمعية، من يوم تصوروها فكرة إلى يوم أبرزوها حقيقة واقعة، إلّا غرضًا واحدًا وهو جمع القوى الموزعة من العلماء على اختلاف حظوظهم في العلم، لتتعاون على خدمة الدين الإسلامي واللغة العربية والنهوض بالأمة الجزائرية من طريقهما، ولو كان عند المصلحين شيء من سوء القصد الذي يرميهم به خصومهم لظهر أثره في تسمية الجمعية أولًا باسم الإخاء العلمي وثانيًا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والاسم هو العنوان المتضمن لكل ما وراءه من معان.
طاف طائف هذا الاسم اللطيف "جمعية الإخاء العلمي" بالآذان واستقر بعدها في الأذهان، وكل كلمة من كلماته الثلاث محببة إلى النفوس جميلة الموقع منها، فالاجتماع أمنية كل عاقل، والتآخي طلبة كل مخلص، والعلم نشيدة كل حي، فكيف إذا اجتمع العلم والتآخي فيه والاجتماع على استثماره؟)) (آثار الإمام )(1/ 186)
خامسا : قوله : (( وفي النهار الضاحي لا في الليل المظلم ))
ليست دعوتها مبنية على السرية ، والعمل في الخفاء ، وإعطاء التعليمات من وراء الستار والكتابة بالأسماء المستعارة لإسقاط أهل الحق وأصوله ، والدول الإسلامية وحكامها .
سادسا : قوله : (( ومن مباديها أن لا تنتصر بالباطل ولا تنتصر للباطل، ولا تتكثّر بالمبطلين ولا تتزوّد بالكذب ))
وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَمنعهُ من الظُّلم فَذَاك نصرك إِيَّاه». مُتَّفق عَلَيْهِ
فقد أصبح هذا المنهج السلفي في أزمنتنا هذه من أغرب ما يكون بين الجماعات والتكتلات وفي المنتديات، إذ أصبحت كل جماعة تدعي أنها هي الحق ، وخصومها على الباطل ، وترى كل ما يخرج منها ومن أفرادها هو الحق ، ولا تقبل أي انتقاد من خصمها مهما أثبت من الحق وبيان من فسادها وفساد أفرادها ، وهذا من أعظم وأكبر الأسباب التي تكون سببا في تسليط العدو الخارجي للطعن في السلف الصالح والمنهج السلفي
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في (مجموع الفتاوى)(4/ 155) : (( وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ انْتِقَاصِ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ لِلسَّلَفِ مَا حَصَلَ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ مِنْ نَوْعِ تَقْصِيرٍ وَعُدْوَانٍ وَمَا كَانَ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ أُمُورٍ اجْتِهَادِيَّةٍ الصَّوَابُ فِي خِلَافِهَا فَإِنَّ مَا حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ صَارَ فِتْنَةً لِلْمُخَالِفِ لَهُمْ: ضَلَّ بِهِ ضَلَالًا كَبِيرًا))
سابعا : قوله : (( ولا تأمر بالشيء حتى تكون أول فاعل له، ولا تنهى عن الشيء حتى تكون أول تارك له. ))
وهذا بخلاف ما عليه الجماعات الحزبية وأهل الفتن والخبث وعلماء السوء وأصحاب المطامع والمصلحجية ، الذين تكذب أفعالهم أقوالهم وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (الفوائد)(ص: 61) : (( عُلَمَاء السوء جَلَسُوا على بَاب الْجنَّة يدعونَ إِلَيْهَا النَّاس بأقوالهم ويدعونهم إِلَى النَّار بأفعالهم فَكلما قَالَت أَقْوَالهم للنَّاس هلمّوا قَالَت أفعالهم لَا تسمعوا مِنْهُم فَلَو كَانَ مَا دعوا إِلَيْهِ حَقًا كَانُوا أول المستجيبين لَهُ فهم فِي الصُّورَة أدلاء وَفِي الْحَقِيقَة قطّاع الطّرق ))
ثامنا : قوله : (( وإذا كان أساس عملها كله تطهير المجتمع الإسلامي من العقائد الباطلة والأخلاق السافلة ومحاربة الشرّ من أي طريق جاء، فمحال أن ترضى عن الأشرار أو تقبل بالشرّ ))
هذا مما يقطع جذور قاعدة المعذرة والتعاون الخبيثة : ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) ، وفروعها التي اخترعها المأربي والحلبي وبن حنفية وغيرهم ، من أصولها
والحمد لله رب العالمين
([1] ) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 186)