بسم الله الرحمن الرحيم
منها: تلك القِصَّة الوارِدة في كتب السِّيرة وفي الصَّحِيح -أيضًا-: أنَّ رجلاً كان يُبارز مشركًا؛ فلما شعر المشرك بأنه صار تحت ضربة السيف، وأنه مقتول لا محالة؛ قال: "لا إله إلا الله"؛ فالمسلم ما بالاه! قتله! ولما بلغ خبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل خلفه وقال له: كيف أنت ولا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! ما قالها إلا خوفًا من القتل!
وحقيقة الأمر كل واحد مِنَّا -فضلاً عن ذاك الصحابي الذي باشر الأمر- يشعر تمامًا أنه هذا المشرك ما قال هذه الكلمة إلا فرارًا من القتل؛ ولذلك ما اقتنع هذا الصحابي بهذه الشهادة؛ فقتله؛ ومع ذلك فالرَّسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: هلا شققت عن قلبه؟! هلا شققت عن قلبه؟!
إذن، كأنه يقول: ليس لك إلا الظاهر، أما القلوب فلا يعلم ما فيها إلاَّ علام الغيوب -سبحانه وتعالى-.
وحقيقة الأمر أننا في الوقت الذي نتصور ما سبق بيانه، أنه من الممكن أن هذا المشرك ما قالها إلا تقيَّة، وإلاَّ خوفًا من القتل.
يمكن أيضًا أن نلاحظ احتمالاً آخر؛ وهو: أن يكون هذا المشرك معتدًّا بقوته وشجاعته وبطولته؛ فلما رأى نفسه مغلوبًا؛ بل ومقتولاً تحت ضربة سيف ذلك الصَّحابي؛ كأنَّه تجلَّى له أن هناك قوة قاهرة مُدَّ بها هذا الصحابي؛ حتى تمكَّن من أن يجعل ذلك المشرك الذي كان يتوهَّم في نفسه أنَّه البطل الصنديد؛ فحينئذٍ خضع لهذه القوة، وليس لأنه خاف -كما قلنا في الاحتمال الأول- من القتل؛ فقال: "لا إله إلا الله".
وهذا الاحتمال الثَّاني يُقرِّبه إلينا حادثة مصارعة الرَّسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لركانة الذي كان يُعدُّ في زمن الجاهلية المصارع الذي لا غالب له؛ فجاء إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وطلب منه المصارعة؛ فما كان منه عليه السلام -بقوة من الله -تبارك وتعالى- ولا شك- إلا مجرد أن أخذه ورماه على ظهره قوة خارقة، طلب منه المرة الثانية، والثالثة؛ فكان عاقبة أمره أن قال: أشهد أنك رسول الله؛ فآمن، لماذا؟ لأنَّه رأى قوة لا يعتقد أنها من قوة البشر.
إذن، الشارع الحكيم يبني أحكامه على ما يظهر للناس، فكل مسلم -إذن- يرفع هذه الراية الإسلامية؛ فيشهد أن لا إله إلا الله لا يجوز لنا أن نبارد إلى تكفيره؛ إلا في حالة واحدة؛ حينما يعلن مع تلك الشهادة ما يعارِضها وما يعطِّلها ويُنكِرها؛ حينئذٍ ندينه ونلزمه بما يبدو منه؛ حينذاك باستطاعتنا أن نُكفِّره، ومع ذلك: رويدك! فلا يجوز -أيضًا- المسارعة إلى تكفيره؛ إلا بعد إقامة الحجة عليه، إلا بعد إقامة الحجة عليه.
إذن عندنا هنا شرطان؛ ليجوز للعالم المسلم أن يُكفِّر مسلمًا:
الشرط الأول: أن يسمع من هذا المسلم ما يُكفَّر به.
الشرط الثاني: أن تُقام الحجة عليه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- ما أنزل الكتب وأرسل الرُّسل إلا لتكون حجة الله -تبارك وتعالى- قائمة على الناس، ولا يكون لإنسان ما ارتدَّ أو كفر بالله ورسوله عذرٌ يوم القيامة.
من هنا اتفق علماء المسلمين على أنه إذا وجد هناك قومٌ لم تبلغهم دعوة الإسلام؛ فهؤلاء لا يُحكَمُ لهم بالنَّارِ التي وُعِدَ بها الكُّفَّار؛ لأنَّ الكُّفَّار هم الذين بلغتهم الدعوة؛ ثم جحدوها وأنكروها؛ كما قال الله -عزَّ وجلَّ- في كثير من هؤلاء: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}
مِن سلسلة الهُدى والنُّور
الشيخ محمد ناصر الدِّين الألبانيّ
- رحمه الله -