اتخاذ السترة في الصلاة والدُنُوُ منها
قال العلامة الألباني رحمه الله:
فإن من السنن التي أفسدها الناس بإعراضهم عن العمل بها حتى كثير من أئمة المساجد الذين ينبغي ويُفترض فيهم أن يكونوا قدوة للناس، قد أعرضوا عن هذه السنة بالمعنى الشرعي، وصاروا يصلون في كثير من الأحيان في منتصف المسجد ليس بين أيديهم سترة،
وقليل جداً لأنهم من هؤلاء الغرباء الذين نراهم يضعون بين أيديهم سترة يصلون إليها، لا يجوز للمسلم إذا دخل المسجد وأراد أن يصلي تحية المسجد مثلاً أو سنة الوقت، أن يقف حيثما تيسر له الوقوف وصلى وأمامه فراغ، ليس أمامه شاخص يُصلي إليه، هذا الشاخص الذي يصلي إليه هي السترة،
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيما يتعلق بالصلاة إلى السترة، فكثير منها من فعله عليه الصلاة والسلام وبعضها من قوله، ولعلكم سمعتم أو قرأتم حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد إلى المصلى، والمصلى كما تعلمون هو غير المسجد، عبارة عن أرض فسيحة اتُخذ لإقامة صلاة الأعياد فيها وللصلاة على الجنازة فيها، ففي هذا المكان أو المسمى بالصلاة عادة لا يكون هناك جدار ولا سارية عمود ولا أي شيء يمكن أن يتوجه إليه المصلي وأن يجعله سترة بين يدي صلاته،
ففي الحديث المشار إليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى صلاة العيد خرج ومعه العنزة – وهي عصاة لها رأس معكوف- فيغرس هذه العصا على الأرض ثم هو يصلي إليها}.
هكذا كان عليه الصلاة والسلام إذا سافر أو خرج إلى العراء فحضرته الصلاة صلى إلى سترة، فقد تكون هذه السترة هي عَنزَته، وقد تكون شجرة يصلي إليها، وكان أحيانا يصلي إلى الرَّحل، وهو ما يُرمى على ظهر الجمل يضعه بين يديه ويصلي إليه.
هذا هو السترة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليها في كل صلواته ، فنرى المسلمين اليوم قد جهلوا هذه السنة وأعرضوا عن فعلها ،
وإذا كنتم تلاحظوا فيما بعد وادخلوا أي مسجد فترى الناس هنا وهناك يصلون لا إلى سترة ، هذا مع أن فيه مخالفة صريحة لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: {صلُّا كما رأيتموني أصلي} ففيه مخالفة أصْرح من ذلك وأخص من ذلك وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة ، لا يقطع الشيطان عليه صلاته}.
وفي رواية أخرى هما روايتان يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا صلى أحدكم فليدنو من سترته لا يقطع الشيطان عليه صلاته}
ففي هذين الروايتين الأمر لأمرين اثنين:
الأمر الأول: أن المسلم إذا قام يصلي فيجب أن يصلي إلى شيء بين يديه.
والأمر الثاني: أن لا يكون بعيدا عن هذه السترة ،
وإنما عليه أن يدنو منها ، هذا الدنو قد جاء تحديده في حديث سها بن سعد رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كان بينه وبين سترته ممرُّ شاةٍ}
ممر شاة تكون عادة في عرض شبر أو شبرين بكثير ،
وإذا سجد المصلي فيكون الفراغ الذي بينه وبين السترة مقدار شبر أو شبرين ،
هذا هو الدنو الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني: {إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنو منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته} فإذا صلى المسلم في هذا المسجد أو في غيره فهو على خيار ، إن شاء أن يتقدم إلى الجدار القبلي فيجعل بينه وبين قيامه نحو ثلاثة أذرع ، بحيث إذا سجد لا يكون بعيداً عن الجدار إلا بمقدار المذكور آنفا شبر أو شبرين.
كما أن بعض الناس يُبالغون في التقرب إلى السترة حتى ليكاد أحدهم أن ينطحَ الجدار برأسه ، هذا خطأ مخالف للحديث.
الناس كما تفهمون ما بين إفراط وتفريط ، ما بين مُهمل للسترة أو يصلي في منتصف المسجد والسترة بعيدة عنه كلَّ البعد ، وما بين مُقترب إلى سترة حتى لا تجد بين رأسه وبين السترة مقدار ممر شاة.
الصلاة إلى السترة قد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها وجعل بينها وبين المصلي مقدار ممر شاة.
وهنا يأتي السؤال الذي يفرض نفسه كما يُقال ، ما حكم الصلاة إلى السترة؟ وعلى العكس من ذلك ما حكم هذه الصلوات التي يصليها جماهير الناس لا إلى السترة؟
الجواب: حكم هذه الصلاة إلى السترة أنها واجبة.
وكثير ما يقع ويُفاجأ المصلي بمرور شيء ما ، قد يكون كلب أسود أو كلب غير أسود ، الكلب الأسود إذا مر وهو عادة يمرُّ سريعا فقد بطلت صلاة المصلي ، أما إذا كان قد صلى إلى سترة ومرَّ هذا الكلب أو غيره ممن ذكر معه فصلاته صحيحة ، لأنه ائتمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة: {إذا صلى أحدكم فليصلي إلى سترة} ، {إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنو منها} ، ويترتب على اتخاذ السترة حكم شرعي ينتفي هذا الحكم بانتفاء السترة.
جاء في بعض الأحاديث الصحيحة: {إذا صلى أحدكم فأراد أحدٌ أن يمر بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان} ، وهذا معناه أنه إذا كان يصلي لا إلى سترة فليس له أن يدفعه فضلا عن أنه ليس له أن يقاتله، هذا وذاك من آثار اتخاذ هذه السترة أو الإعراض عنها.
وأخيراً لابد من التذكير بأمر يخالف هذه الأحاديث كلها ، وهذا الأمر خاص في بيت الله الحرام ، ثم سرى إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ،
إن عامة الناس حتى بعض الخاصة يذهبون إلى أن السترة في المسجد الحرام غير واجبة ، حكم خاص زعموا في المسجد الحرام ، ثم صارت هذه العدوة إلى المسجد النبوي الكريم ، ينبغي أن تَعلموا أن الحكم السابق في كل الأحاديث التي مضت تشمل المسجد الحرام كما تشمل مساجد الدنيا ،
وإنما صارت فكرة استثناء المسجد الحرام من وجوب السترة من حديث أخرجه النسائي في سننه وأحمد في مسنده وغيرهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً في حاشية المطاف والناس يمرون بين يديه} هذا الحديث أولاً لا يصح من حيث إسناده ، وإن فيه جهالة كما هو مذكور في بعض كتب التخريجات المعروفة ومنها أذكر (إرواء الغليل)
ولو صح فليس فيه دليل على أن المرور كان بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقد ذكرنا آنفاً أن المرور الممنوع إنما هو بين المصلي وبين موضع سجوده،
ولم يذكر في هذا الحديث الذي يحتجون به على أن المصلي في المسجد الحرام لا يجب عليه أن يتخذ سترة ، لو صح هذا الحديث كان يُمكن أن يكون حجة لو صرَّح بأن الناس كانوا يمرون بين يديه عليه السلام ، أي بينه قائماً وبين موضع سجوده ،
هذا لم يذكر في هذا الحديث ، ولذلك لا يجوز الاستدلال به من الناحيتين :
1- من ناحية الرواية
2- ومن ناحية الدراية
موقع تراث الألباني رحمه الله -- السنن المنسية --




رد مع اقتباس