قول الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ :(( إذا كان الاختلاط بين الجنسين محرماً ـ وهو كذلك ـ، فأي شيء يترتب عليه فهو محرم ))
هذا يهدم قواعد وأركان قولهم لابد للرجل من أن يرتاد أماكن العمل لتحصيل رزقه ولقمة عيشه ، ولو مع مواقعة الاختلاط ، ومن باب زيادة التوضيح والكشف لهذه العلة العليلة ، انقل ما جاء في كتابي
( تبصير شباب الأمة إلى أن الدراسة في الاختلاط محرمة بسبب ما تفضي إليه من المفاسد المحرمة) أعان الله تعالى على إتمامه وإخراجه بحلته الجديدة مع إضافات وتغييرات وإصلاحات عديدة
قلت في ( ص 24 ـ 34) :
إن الله تعالى لم يجعل طلب رزقه في معصيته ومواقعة محارمه ومن ظن هذا، فقد ظن بالله ظن السوء ، كيف لا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم "([1]) قال العلامة الزرقاني ـ رحمه الله ـ في كتابه (شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك)(4/ 312)
(( هذا الحديث جاء من وجوه حسان عن جابر وأبي حميد الساعدي وابن مسعود وأبي أمامة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " إن أحدا لن يموت حتى يستكمل رزقه " الذي كتب له الملك وهو في بطن أمه ، فلا وجه للوله والكد والتعب والحرص ، فإنه سبحانه قسم الرزق وقدره لكل أحد بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه تعالى القديم الأزلي { نحن قسمنا بينهم معيشتهم }([2] )، فلا يعارضه ما ورد الصبحة تمنع الرزق ، والكذب ينقص الرزق ، وأن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وغير ذلك مما في معناه ، أو أن الذي يمنعه وينقصه هو الرزق الحلال أو البركة لا أصل الرزق ... " فأجملوا في الطلب": بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحللة بلا كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام والشبهات أو غير منكبين عليه مشتغلين عن الخالق الرازق به ، أو بأن لا تعينوا وقتا ولا قدرا لأنه تحكم على الله أو اطلبوا ما فيه رضا الله لا حظوظ الدنيا أو لا تستعجلوا الإجابة)) ا.هـ أسباب طلب الرزق الحلال وبيان الطرق الشرعية لتحصيله
إن لرزق أسباب أدق من أن يدرك الناس حكمتها وأسرارها، إن في الناس طلاب رزق لا ينالون خبزهم ولا خبز عيالهم إلا من قاع البحار اللجية، يغشاها موجٌ من فوقه موج، وآخرون طيارون رزقهم فوق السحاب يبتغونه صعداً في أعالي السماء، ومن بين هؤلاء وهؤلاء عمال المناجم والأنفاق، ينقبون الحجارة ويفجرون الصخور، لا يرون ضوء الشمس ولا بياض النهار، ومن دون هؤلاء وأولئك من يأتيه رزقه عند بابه، ليس في رءوس الجبال ولا في أعماق البحار
{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:32].([3]) إن من أعظم أسباب طلب الرزق وتحصيله وسعته :
أولا : تقوى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، قال تعالى:{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}{الطلاق:2، 3}.
قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ في " القاعدة الثامنة عشرة "
من (القواعد الحسان في تفسير القرآن)(ص 49) : (( وكذلك يذكر أسباب الرزق، وأنها لزوم طاعة الله ورسوله، والسعي الجميل في مناكب الأرض مع لزوم التقوى كقوله تعالى:{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2،3] وانتظار الفرج والرزق كقوله تعالى: { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }[الطلاق: 7] وكثرة الذكر والاستغفار: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ }[هود: 3] ،{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً } [نوح:10،11] فأخبر أن الاستغفار سبب يُستجلب به مغفرة الله ورزقه وخيره، وضد ذلك سبب للفقر والتيسير للعسرى) ) ا.هـ ([4] ) قلت (بشير) : إن التعليم والتدريس في المدارس المختلطة ، والتكسب في غيرها من المهن الاختلاطية يناقض هذه الوسيلة الشرعية ، و هذا الخلق الإسلامي العظيم الشريف الذي حقيقته " العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده، كما قال طلق بن حبيب:(( إذا وقعت الفتنة فاطفئوها بالتقوى ، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نورمن الله ترجوا ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله )).([5]) قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (الرسالة التبوكية )(ص45) عند قول طلق بن حبيب هذا :
((وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى.))
وقال الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ في شأنه في ( السير)(4/ 601)
(( قُلْتُ: أَبْدَعَ وَأَوْجَزَ، فَلاَ تَقْوَى إِلاَّ بِعَمَلٍ، وَلاَ عَمَلَ إِلاَّ بِتَرَوٍّ مِنَ العِلْمِ وَالاتِّبَاعِ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالإِخْلاَصِ للهِ، لاَ لِيُقَالَ: فُلاَنٌ تَارِكٌ لِلْمَعَاصِي بِنُوْرِ الفِقْهِ، إِذِ المَعَاصِي يَفْتَقِرُ اجْتِنَابُهَا إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَيَكُوْنُ التَّرْكُ خَوْفاً مِنَ اللهِ، لاَ لِيُمْدَحَ بِتَرْكِهَا، فَمَنْ دَاوَمَ عَلَى هَذِهِ الوَصِيَّةِ، فَقَدْ فَازَ.))
فلا يغتر أهل الاختلاط بذلك العمل الاختلاطي ، وإن لبسوه ألف اللباس من الحيل الشيطانية الباطلة والتقعيدات العاطلة على تجويزه وتسويغه وتسليكه في المجتمعات الإسلامية، وما أمواله التي يتقاضونها منه،إن هي إلا أموال اكتسبت بمعصية الله تعالى .
قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ في ( سلسلة الهدى والنور )( ش 270/ د34) ، لما سئل السؤال التالي : ما هو حكم التعليم والتعلم في المدارس المختلطة ؟ فإن كان يحرم فما حكم من ماله من أجرة التعليم في هذه المدارس ، وهل عدم وجود المدارس غير مختلطة يعد عذراً شرعياً لدخولها ؟
فأجاب ـ رحمه الله ـ :
الجواب : قال عليه السلام «إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه».
قد يتساءل ما علاقة الحديث بالسؤال؟
العلاقة واضحة قوله عليه السلام: «إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه» ذلك لأن بيعه يؤدي إلى أكله ومن باب سد الذريعة لما حرم أكله حرم بيعه ولذلك من الأمثلة على معنى هذا الحديث:
الحديث المشهور: «لعن الله في الخمرة عشرة أولهم شاربها ثم ساقيها ثم مستقيها ثم عاصرها ثم معتصرها ... » إلخ , لماذا لُعن التسعة؟
لكي لا يكون الأول وهو "الشارب" ، فإذاً هناك ارتباط بين الغاية وبين الوسيلة فإذا كان الاختلاط بين الجنسين محرماً ـ وهو كذلك ـ، فأي شيء يترتب عليه فهو محرم وبخاصة إذا كان هذا الشيء المترتب على هذا الاختلاط المحرم هو ليس في نفسه فرض عين وإنما هو فرض كفاية.)) ا.هـ
ثانيا : من أعظم وأهم الأسباب لتحصيل الكسب الحلال : التوكل على الله، قال الله تعالى :{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }[الطلاق:3]
قال العلامة السعدي في (تيسير الكريم الرحمن )(ص 869) : (( قوله { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي : يسوق الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به ، { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك { فَهُوَ حَسْبُهُ } أي : كافيه الأمر الذي توكل عليه به ، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي [العزيز] الرحيم ، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء )) ا.هـ
وأخرج أحمد ( 1 / 30 ) و الترمذي ( 2 / 55 ـ بولاق ) والحاكم ( 4 / 318 ) من طريق أبي تميم الجيشاني أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : إنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" صحيح على شرط مسلم ([6] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في (مجموع الفتاوى)(10/ 662)
(( أَمَّا أَرْجَحُ الْمَكَاسِبِ: فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالثِّقَةُ بِكِفَايَتِهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ أَنْ يَلْجَأَ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَيَدْعُوَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَأْثُرُ عَنْهُ نَبِيُّهُ: {كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ} وَفِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْعَةِ فَمَعْنَاهُ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم {أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك} وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ فَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأُ إلَيْهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ.))
ثالثا : كثرة الاستغفار، والمداومة عليه ، فإنه من الوسائل اللطيفة والأسباب الشريفة لتحصيل الرزق الحلال ، واعطاء الأولاد والأموال ، قال الله تعالى: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}[نوح : 10-12] .
جاء في الأثر عن الحسن البصري رحمه الله: (( أنَّ رجلاً شكى إليه الجدبَ، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر الفقرَ، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر جفاف بُستانه، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر عدم الولد، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، ثمَّ تلا عليهم قول الله تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنَينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا} ))
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4 /434) عند تفسير هذه الآية :(( أي إذا تُبتُم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدَّكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنَّات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها )) ([7]) رابعا : ومن أسبابه أيضا : المداومة على طاعة الله تعالى والانشغال بعبادته، قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:56-58].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى)(10/ 663)
(( ... يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَأْخُذُهُ بِإِشْرَافِ وَهَلَعٍ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْقَلْبِ مَكَانَةٌ وَالسَّعْيُ فِيهِ إذَا سَعَى كَإِصْلَاحِ الْخَلَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: {مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَتَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ. وَمَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ؟ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ} .([8]) وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ فَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ مَرَّ عَلَى نَصِيبِك مِنْ الدُّنْيَا فَانْتَظَمَهُ انْتِظَامًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .)) ا.هـ
خامسا : من أسباب تحصيل الرزق الحلال وتوسيعته وبقاء ذكر صاحبه ، صلة الرحم وتفقد أحوالها والتوسيع عليها ، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَره فَليصل رَحمَه» . مُتَّفق عَلَيْهِ
قال الإمام السعدي في ( بهجة قلوب الأبرار)(ص372 ـ 373) عند شرح الحديث هذا
(( قد جعل الله لكل مطلوب سبباً وطريقاً يُنال به ، وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته وحمده، جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره، ووصل رزق، وفتح له من أبواب الرزق وبركاته، ما لا يحصل له بدون هذا السبب الجليل.
وكما أن الصحة وطيب الهواء وطيب الغذاء، واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب، من أسباب طول العمر. فكذلك صلة الرحم جعلها الله سبباً ربانياً، فإن الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان:
أمور محسوسة، تدخل في إدراك الحواس، ومدارك العقول.
وأمور ربانية إلهية قَدَّرها مَنْ هو على كل شيء قدير، ومَنْ جميع الأسباب وأمور العالم منقادة لمشيئته، ومَنْ تكفل بالكفاية للمتوكلين، ووعد بالرزق والخروج من المضائق للمتقين ، قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2-3] . وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: "ما نقصت صدقة من مال"([9]) ، بل تزيده. فكيف بالصدقة والهدية على أقاربه وأرحامه؟)) سادسا: الإنفاق في طرق الخير والصدقة في سبيل الله ، والبعد عن كل ما حرمه الله من التعامل بالمعاملات المحرمة ، وتعاطي المهن المحرمة ، والإغتذاء بالحرام ، وكذا المشرب والملبس ، التي هي من موانع استجابة الدعاء ، الذي هو أرجح المكاسب ومفتاح استجابة المطالب ، وبه تدفع وترفع المصائب .
فعن أبي هريرةـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان إلى السماء، فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً ".متفق عليه
أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا. وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قال الإمام السعدي في (بهجة قلوب الأبرار)(ص188)
(( الصدقة لا تنقص المال؛ لأنه لو فرض أنه نقص من جهة، فقد زاد من جهات أُخر؛ فإن الصدقة تبارك المال، وتدفع عنه الآفات وتنميه، وتفتح للمتصدق من أبواب الرزق وأسباب الزيادة أموراً ما تفتح على غيره. فهل يقابل ذلك النقص بعض هذه الثمرات الجليلة؟
فالصدقة لله التي في محلها لا تنفد المال قطعاً، ولا تنقصه بنص النبي صلّى الله عليه وسلم، وبالمشاهدات والتجربات المعلومة. هذا كله سوى ما لصاحبها عند الله: من الثواب الجزيل، والخير والرفعة.))
سابعا : الدعاء،والتضرع والافتقار إلى الله سبحانه وتعالى والانكسار بين يديه ، فهذا أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، لطلب رزقه وقضاء حاجاته وتفريج كرباته .
قال الله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186].
أخرج الترمذي ( 4 / 276 ) ، و الحاكم ( 1 / 538 ) ، و أحمد ( 1 / 153 ) عن عبدالرحمن بن إسحاق القرشي عن سيار أبي الحكم عن أبي وائل قال : أتى عليا رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين إني عجزت عن مكاتبتي فأعني ، فقال علي رضي الله عنه :" ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صير دنانير لأداه الله عنك ؟
قلت : بلى ، قال : قل : اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك ". ([10] ) وعَنْ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَروي عَنْ ربِّه - عز وجل - أنَّه قالَ: "يا عِبادي كُلُّكُم ضَالٌّ إلاَّ مَنْ هَديتُهُ فاستهدُوني أهدِكُم، يا عبادي كُلُّكُم جَائِعٌ إلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فاستطعموني أُطعِمْكُم، يا عِبادي كُلُّكُم عَارٍ إلاَّ مَنْ كَسوتُهُ، فاستَكْسونِي أكسكُمْ، يا عِبادي إنَّكُم تُخْطِئونَ باللَّيلِ والنَّهار، وأنَا أَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعاً، فاستَغفِروني أغفر لكُمْ ". رواهُ مسلمٌ
قال الإمام ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في (جامع العلوم والحكم )(ص 233 ـ 234)
(( هذا يقتضي أنَّ جميعَ الخلق مُفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم، ودفع مضارِّهم في أمور دينهم ودُنياهم، وإنَّ العباد لا يملِكُون لأنفسهم شيئاً مِنْ ذلك كلِّه، وَمَنْ لَمْ يَتَفَضَّلِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ أَوْبَقَتْهُ خَطَايَاهُ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}[الْكَهْفِ: 17]، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}[فَاطِرٍ: 2]، وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذَّارِيَاتِ: 58] ، وَقَالَ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17]،
وَقَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}[هُودٍ: 6] . وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ آدَمَ وَزَوْجِهِ أَنَّهُمَا قَالَا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وَعَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]. وَقَدِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا أَشْرَكَ مَعَهُ فَبَاطِلٌ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 75 - 82]،فَإِنَّ مَنْ تَفَرَّدَ بِخَلْقِ الْعَبْدِ وَبِهِدَايَتِهِ وَبِرِزْقِهِ وَإِحْيَائِهِ وَإِمَاتَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَبِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ فِي الْآخِرَةِ، مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ وَالسُّؤَالِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِكَانَةِ لَهُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الرُّومِ: 40] .
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَسْأَلَهُ الْعِبَادُ جَمِيعَ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكُسْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَسْأَلُونَهُ الْهِدَايَةَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: "لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ".
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَسْأَلُ اللَّهَ فِي صَلَاتِهِ كُلَّ حَوَائِجِهِ حَتَّى مِلْحَ عَجِينِهِ وَعَلَفَ شَاتِهِ....
فَإِنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ إِذَا سَأَلَهُ مِنَ اللَّهِ فَقَدْ أَظْهَرَ حَاجَتَهُ فِيهِ، وَافْتِقَارَهُ إِلَى اللَّهِ، وَذَاكَ يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُ شَيْئًا مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَالِاقْتِدَاءُ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى.)) ا.هـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى)(10/ 182)
(( فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ فَقِيرًا إلَيْهِ وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ. وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً )[11] (فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ)) فالقارئ الحصيف إذا تأمل في هذه الأسباب الشرعية ، والمطالب المرعية ، التي هي سبب في تحصيل الارزاق المرضية ، يجد أن بينها صلة وثيقة ، منبهة على سمو التشريع الإلهي وما يحتوي عليه من الحكم الدقيقة ، واللطائف الانيقة ، التي جهلها المتمجهدة المتفيهقة ، ولم يحوموا حول معانيها العتيقة ، إذ حال بينهم وبين فهمها واستخراج كنوزها العميقة ، ما هم فيه من الانصهار والذوبان مع مخططات اليهود والنصارى التي سيطرت على ثقافات الشعوب وغزت مجالاتهم الحياتية ، فضعفوا على مواجهتها ،ومقاومة فسادها ، فما كان منهم والحالة هذه إلا الركون والاستسلام لها ومسايرتها ومصانعتها .
وإلا فمدار هذه الصلة ، وقطب رحاها و محورها ، يرجع إلى تقوى الله تعالى ، فبتحقيقها وتكميلها والمحافظة عليها ، تثمر تلك الأسباب ثمارا طيبة ومذاقا حلوة ، وليس أضر عليها ، ويحول بينها وبين إدراكها وتحصيلها وتحقيقها على أرضية الواقع وتكميلها ، من مثل ارتكاب معاصي الله تعالى ومواقعة ما نهى عنه ، كما هو شأن مواقعة الاختلاط وتوسيع طرقه بالتنظير والتقعيد له بتلك الحجج الضعيفة والعلل الواهية ، وإن كثر أصوات أهله وكثر تحركهم ، فمآل أمره الاضمحلال والتلاشي ولا خير في مراكزه وأهله ، ولا بركة في أعماله ، لما قد تقرر في الشريعة الحكيمة ، من أن "الْعَمَلَ الْيَسِيرَ الْمُوَافِقَ لِمَرْضَاةِ الرَّبِّ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ إِذَا خَلا عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ .
وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: (( إِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي خِلافِ سَبِيلٍ وَبِدْعَةٍ))
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وَقَالَ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض والموت والحياة وزين الأرض بما عليها ليبلو عباده أيهم أحسن عملا لا أَكْثَرُ عَمَلا.
وَالْعَمَلُ الأَحْسَنُ : هُوَ الأَخْلَصُ وَالأَصْوَبُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ دُونَ الأَكْثَرِ الْخَالِي مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ بِالأَرْضَى لَهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلا دُونَ الأَكْثَرِ الَّذِي لا يُرْضِيهِ وَالأَكْثَرُ الَّذِي غَيْرُهُ أَرْضَى لَهُ مِنْهُ "([12]) والتاريخ والواقع شاهد بهذه الحقيقة العلمية السنية ، فمن قلب نظره في تلك المدارس والمراكز الاختلاطية لا يجد أنها خرجت علماء وأئمة ، بخلاف المراكز والمعاقل السنية يجد أنها خرجت أئمة جهابذة ومشايخ الإسلام ، كما هو شأن دعوة الإمامين ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب رحمهما الله .
قال العلامة ربيع المدخلي ـ حفظه الله تعالى ـ :(( أَيُّ دِينٍ هَذَا الذي تَبْغِي أَنْ تَـتَـعَلَّمَهُ يَا أَخِي!
أَيُّ عِلْم تَبْغِي تَطْلُب! يَبْحَثُونَ عَنْ عُلَمَـاء، يُعَلِّمُونَـهُمْ في الـمَسَاجِدِ ...، يُغْنِـيـهِم الله عَزَّ وَجَلَّ.
الآن الـمَدَارِس السَّلَفِيَّـة في اليَمَن لاَ يُرِيدُونَ شَهَادَات، يُرِيدُونَ العِلْمَ بَسْ، يُرِيدُونَ العِلْمَ وَالعَمَلَ، فَفَتَحَ الله عَلَيْهِم، طُلاَّبُهُمْ كَـثِـيـر، وَأَعْدَادُهُمْ كَثِـيـرَة وَتَـتَـزَايَد، وَإِلى آخِرِه، مُسْتَـغْـنُون عَنِ الشَّهَادَةِ وَعَنِ الكَلام الفَارِغ، فَلـيَـبْحَـثُوا عن عُلَمَـاء ...، وَهَكَذَا، وَفِيه هُنَاك طُلاَّب، بَعض خِرِّيـجِي الجامعة يَفْتَحُونَ دُرُوسَهُمْ للشَّبَابِ في المدارس، يُعَلِّمُونَهُم عِلْمَ السَّلَفِ، كِتَابَ الله، وَسُنَّةَ الرَّسُولِ، وَالعَقَائِد، وَالفَرَائِض، وَالفِقْهَ، وَإِلى آخِرِهِ، وَالتَّفْسِيرَ، وَيُعَلِّمُونَهُم هَذِه الأُمُورَ، وَيَطْلَع في أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ عُلَمَـاء أَحْسَن مِنْ خِرِّيـجِي الـجَامِعَة، بَارَك الله فِيكُم، يَعْنِي لا يَـجِدُ العِلْمَ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ هَذِهِ الـجَامِعَة؟!)) ([13]) يا معشر أهل الإسلام ـ حاكمكم ومحكومكم اعانكم الله على القيام بحقوقه والمحافظة عليها ـ تعالوا لنضع أيدينا على آلام الجرح ونعالجه ، لا أن نتغافل عنه ، ونضحك على أنفسنا بأن على خير ، حتى ينزف دم الجرح وتقف نبضات قلب صاحبه الأخيرة ، وحينها لا ينفع الندم ، " فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه "
([1]) (صحيح ابن ماجة)(2 / 6)
([2]) [ الزخرف :32]
( [3]) منقول من( دروس للشيخ صالح بن حميد)
[4] الكتاب : القواعد الحسان في تفسير القرآن ([5]) (الرسالة التبوكية )(ص43 ـ 44) للإمام ابن القيم رحمه الله
([6]) (السلسلة الصحيحة)(2 / 620 )
([7]) انظر إلى كتاب (فقه الأدعية والأذكار)(2/ 502)
([8]) اللفظ عند الترمذي (4/ 642): «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»
قال الإمام الألباني في ( السلسلة الصحيحة )(2/ 633)
(( أخرجه الترمذي (2 / 76) عن الربيع بن صبيح عن يزيد بن أبان وهو الرقاشي عن
أنس مرفوعا. وسكت عنه الترمذي، وهو إسناد ضعيف لكنه حسن في المتابعات ))
([9]) (صحيح مسلم)(4/ 2001)
([10]) قال الإمام الألباني في ( السلسلة الصحيحة)(1/ 532)
(( قال الترمذي: " حديث حسن غريب " ، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ".
ووافقه الذهبي ، قلت: والصواب أنه حسن الإسناد، كما قال الترمذي ))
([11]) فما بال إذا كانت طرق تحصيلها محرمة كشأن العمل في الاختلاط !!
([12]) انظر إلى كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف )(ص31 ـ 32)
للعلامة ابن القيم رحمه الله
([13]) هَذَا تَفْرِيغُ سُؤَالٍ مَعَ جَوَابِهِ كَانَ قَدْ وُجِّهَ للشَّيْخِ رَبيع بن هادي المدخلي – حفظه الله تعالى – مِنْ بَعْضِ الإِخْوَةِ بالجزائر، وهو حَوْلَ الدِّرَاسَةِ بِالجامعة الإسلامية بخروبة بالجزائر العاصمة ، والسُّؤَال مُسْتَلٌّ
من الشريط الأول، الوجه الأول، من مجموع أشرطة بِعُنْوَان: ( شُبُهَات الحزْبِيِّينَ وَالرَّدُ عليها )