فصل : حكم الاشتراك في قيمة الأضحية ، وبيان ما يجوز فيها من الاشتراك .
1 ـ قال الإمام : (( لو اشترك ثلاثة جيران في أضحية واحدة فإن ذلك لا يجزئ، ولا تكون الشاة هذه شاة أضحية بل هي شاة لحم، لأن من شروط الأضحية أن تكون على وفق الشرع ولم يرد في الشريعة اشتراك اثنين فأكثر في شاة واحدة، وإنما كان الاشتراك في الإبل والبقر، يشترك السبعة في بعير أو بقرة، ومن المعلوم أن من شروط العمل الصالح أن يكون على وفق الشريعة، فمن عمل عملاَ ليس عليه أمر الله ورسوله فهو مردود عليه، كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" .)) ([1] )
2 ـ سئل الشيخ هل يمكن أن يشترك الرجل وزوجته في أضحية واحدة من هذا نصف ومن هذا نصف، وعلى أيهما يكون الإنسان؟
فأجاب : (( أما إذا اشترك الإنسان وزوجته في قيمة شاة فإن هذا لا يصح؛ لأنه لا يشترك اثنان في القيمة في شاة واحدة، وإنما الاشتراك المتعدد في الإبل والبقر، يكون البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة،أما الغنم فلا يمكن أن يشترك اثنان على الشيوع أبدًا، أما الثواب فليس له حصر، لا بأس أن يقول: اللهم هذا عني وعن زوجتي، أو عني وعن أهلي، وأما أن كل واحد منهما يبذل نصف القيمة ويشتري أضحية واحدة من الغنم فهذا لا يصح. )) ([2])
3 ـ سئل فضيلته : أيهما أفضل: أن يدفع رب البيت قيمة الأضحية لوحده، أو يشرك معه من يستطيع من أفراد عائلته بقيمة الأضحية، خاصة إذا كان في هذا تطييباً لنفوسهم؟ وجزاكم الله خيراً.
فأجاب : الأفضل أن يقوم بها وحده كما في الحديث أنه:" كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته" ، وأما لتطييب نفوسهم، فبأن يقال لهم: السنة هي التي فيها طيب النفس، والناس إذا عودوا على الشيء اعتادوا عليه وسهل عليهم، لا شك أن الناس الآن اعتادوا أن كل واحد يضحي ولكن إذا قيل لهم: السنة أن يكون المضحي رب البيت وأنتم إذا كان لديكم وفرة من المال فتصدقوا بها، تصدقوا بها على من شئتم من الناس، ومع هذا لا نمنعكم من أن تضحوا، لو أنكم ضحيتم ليس عليكم إثم، ولكن المحافظة على السنة وعلى ما كان عليه الصحابة لا شك أنه أولى.)) ([3])
قلت ( بشير) : قد أجاد وأفاد ، وتوسع الإمام ـ رحمه الله ـ في كتابه (أحكام الأضحية والذكاة) في بيان هذا الفصل وأحكامه ، حيث بيان فيه ما يجوز الاشتراك فيه من الأضحية ثوابا وعددا ونوعا .
قال : (( فصل : وتجزئ الواحدة من الغنم عن الشخص الواحد، ويجزئ سبع البعير أو البقرة عما تجزئ عنه الواحدة من الغنم؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: " نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة ". رواه مسلم ، وفي رواية قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة" .
ففي هذا دليل على أن سبع البعير أو البقرة قائم مقام الواحدة من الغنم، ومجزئ عما تجزئ عنه؛ لأن الواجب في الإحصار والتمتع هدي على كل واحد، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة فدل على أن سبعها يحل محل الواحدة من الغنم ويكون بدلا عنها والبدل له حكم المبدل.
فأما اشترك عدد في واحدة من الغنم أو في سبع بعير أو بقرة؛ فعلى وجهين:
الوجه الأول: الاشتراك في الثواب، بأن يكون مالك الأضحية واحد ويشرك معه غيره من المسلمين في ثوابها فهذا جائز مهما كثر الأشخاص فإن فضل الله واسع، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قصة أضحيته بكبش قال لها: "يا عائشة، هلمي المدية" ـ يعني السكين ـ ، ثم قال:
" اشحذيها بحجر " ، ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ، ثم قال : "بسم الله، اللهم تقبل من محمد ومن آل محمد ومن أمة محمد"، ثم ضحي به .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عائشة وأبي رافع رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين: أحدهما عنه وعن آله، والآخر عن أمته جميعا ، ومن حديث جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما يضحي بكبش عنه وعمن لم يضح من أمته ([4]) ، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون، رواه ابن ماجه والترمذي وصححه .
فإذا ضحى الرجل بالشاة عنه وعن أهل بيته أو من شاء من المسلمين صح ذلك، وإذا ضحى بسبع البعير أو البقرة عنه وعن أهل بيته أو من شاء من المسلمين صح ذلك، لما سبق من أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السبع منهما قائما مقام الشاة في الهدي، فكذلك في الأضحية ولا فرق.
ومن تراجم صاحب (المنتقى) : باب أن البدنة من الإبل والبقر عن سبع شياه وبالعكس.
وقال في كتابه المحرر: ويجزئ عن الشاة سبع من بدنة، وعن البدنة بقرة، وقال في(الكافي) في تعليل له: لأن كل سبع مقام شاة
الوجه الثاني: الاشتراك في الملك، بأن يشترك شخصان فأكثر في ملك أضحية ويضحيا بها، فهذا لا يجوز، ولا يصح أضحية إلا في الإبل والبقر إلى سبعة فقط، وذلك لأن الأضحية عبادة وقربة إلى الله تعالى، فلا يجوز إيقاعها ولا التعبد بها إلا على الوجه المشروع زمناً وعدداً وكيفية.
فإن قيل: لماذا لا يصح وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}[الزلزلة: 7] .
وكما لو اشتركا في شراء لحم فتصدقا به ولكل منهما من الأجر بحسبه؟
فالجواب: أنه ليس المقصود من الأضحية مجرد اللحم للانتفاع أو الصدقة به، وإنما المقصود بالأضحية إقامة شعيرة من شعائر الله على الوجه الذي شرعه الله ورسوله، فوجب تقييدها بحسب ما جاء به الشرع، ولذلك فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين شاة اللحم وشاة النسك حيث قال :
"من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة اللحم أو فهو لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد الصلاة؛ فقد أصاب النسك ـ أو قال: فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين" ، كما فرق صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر بين ما دفع قبل الصلاة وما دفع بعدها، فالأول زكاة مقبولة، والثاني صدقة من الصدقات، مع أن كلا منهما صاع من طعام، لكن لما كان المدفوع قبل الصلاة على وفق الحدود الشرعية؛ كان زكاة مقبولة، ولما كان المدفوع بعدها على غير وفق الحدود الشرعية؛ لم يكن زكاة مقبولة، وهذه هي القاعدة العامة الشرعية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" ، أي: مردود على صاحبه، وإن كانت نيته حسنة؛ لعموم الحديث.
ولو كان التشريك في الملك جائزا في الأضحية بغير الإبل والبقر؛ لفعله الصحابة رضي الله عنهم؛ لقوة المقتضى لفعله فيهم، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير، وفيهم فقراء كثيرون قد لا يستطيعون ثمن الأضحية كاملة، ولو فعلوه لنقل عنهم؛ لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله لحاجة الأمة إليه ، ولا أعلم في ذلك حديثا إلا ما رواه الإمام أحمد من حديث أبي الأشد عن أبيه عن جده قال: كنت سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا نجمع لكل واحد منا درهماً فاشترينا أضحية بسبعة دراهم فقلنا: يا رسول الله، لقد أغلينا بها فقال: "إن أفضل الضحايا أغلاها وأسمنها" ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل برجل، ورجل برجل، ورجل بيد، ورجل بيد، ورجل بقرن، ورجل بقرن، وذبحها السابع وكبرنا عليها جميعا .
قال الهيثمي: أبو الأشد لم أجد من وثقه ولا من جرحه، وكذلك أبوه. اه،.
وقال في (بلوغ الأماني شرح ترتيب المسند) : والظاهر أن هذه الأضحية كانت من البقر؛ لأن الكبش لا يجزئ عن سبعة، والبعير لا قرون له، والبقرة هي التي تجزئ عن سبعة ولها قرون، فتعين أن تكون من البقر والله أعلم.
وما استظهره ظاهر، ويؤيده أن الكبش لا يحتاج أن يمسك به السبعة، وفي إمساكهم به عسر وضيق، ويكفي في إمساكه واحد، اللهم إلا أن يقال: إن تكلف إمساكهم به ليس من أجل استعصائه؛ بل من أجل أن يحصل اشتراك الجميع في ذبحه، والله أعلم.
ونزل ابن القيم هذا الحديث على معنى آخر وهو أن هؤلاء السبعة كانوا رفقة واحدة فنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة أهل البيت الواحد في إجزاء الشاة عنهم.
قلت: وفيه شيء؛ لأن أهل البيت لا يشتركون في الأضحية اشتراك ملك، وإنما يضحي الرجل عنه، وعن أهل بيته من ماله وحده فيتأدى به شعار الأضحية عن الجميع. ([5])
وقد صرح الشافعية بمنع التشريك في الملك دون الثواب فقال النووي في(المنهاج وشرحه) : لو اشترك اثنان في شاة لم تجز، والأحاديث كذلك كحديث: " اللهم هذا عن محمد، وآل محمد" ، على أن المراد التشريك في الثواب لا الأضحية. ا.هـ.
وفي(شرح المهذب) : لو اشترك اثنان في شاتين للتضحية لم تجزئهما في أصح الوجهين، ولا يجزئ بعض شاة بلا خلاف بكل حال. ا.هـ.
وحمل حديث: " اللهم هذا عن محمد، وآل محمد" ، محمولة على أن المراد التشريك في الثواب متعين وظاهر؛ فإن آل محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يشاركونه في شرائها، وقد سبق في حديث أبي رافع قوله: فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤونة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم.
وعلى هذا فإذا وجد وصايا لجماعة، كل واحد موص بأضحية ولم يكف المغل كل واحد منهم لأضحيته التي أوصى بها؛ فإنه لا يجوز جمع هذه الوصايا في أضحية واحدة لما عرفت من أنه لا يجوز اشتراك اثنين فأكثر اشتراك ملك في الأضحية إلا في الإبل والبقر. )) ([6])
مسألة : اشترك جماعة من أشخاص في واحدة من الغنم أو في سبع من بعير أو بقرة ليضحوا بها عن شخص واحد .
قال الإمام في (أحكام الأضحية والذكاة)(2/233) : (( لو اشترك شخصان فأكثر في واحدة من الغنم أو في سبع من بعير أو بقرة ليضحيا به عن شخص واحد؛ فالظاهر الجواز، فلو اشترى اثنان شاة أو كانا يملكانها بإرث أو هبة أو نحوهما ثم ضحيا بها عن أمهما أو عن أبيهما جاز، لأن الأضحية هنا لم تكن عن أكثر من واحد، وكما دفعا ثمنها إلى أمهما أو أبيهما فاشترى به أضحية فضحى بها؛ فهو جائز بلا ريب.
وكذلك لو تعدد الموصون بالأضحية واتحد الموصى له بها ولم تكف غلة كل منهما لأضحيته؛ فالظاهر جواز جمع وصيتيهما مثل أن يوصي أخوان كل واحد منهما بأضحية لوالدتهما ثم لا تكفي غلة كل واحد منهما لأضحية كاملة فتجمع الوصيتان في أضحية واحدة قياسا على ما لو اشتركا في أضحية لها حال الحياة، وهذا ما ظهر لي في هذين الفرعين، والعلم عند الله سبحانه وتعالى. )) ا.هـ
باب ما جاء في الأضحية عن الميت وتنفيذ وصيته .
لقد بيّن ووضح الإمام ابن عثيمين هذا الباب أيما بيان في جمع من رسائله وفتاويه ، وفصل أقسامه ، وبيان الفاضل والمفضول منه نصيحة للمسلمين أحياء وأمواتا ، فلتقريب علم الشيخ للأمة ، وتوضيح تلك الأقسام التي جاءت في هذا الباب مما ذكرها ، استحسنت أن أجمع ما جاء عنه في ذلك ، مع تقطيع كلامه واستجماعه على حسب تلك الأقسام .
قال ـ رحمه الله ـ ([7]) : الأصل في الأضحية أنها للحي كما كان النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم خلافا لما يظنه بعض العامة أنها للأموات فقط ، وأما الأضحية عن الأموات؛ فهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول : أن تكون تبعا للأحياء : كما لو ضحى الإنسان عن نفسه وأهله وفيهم أموات ، فهذا جائز ويحصل للميت به أجر، وقد جاءت بمثله السنة فقد ضحى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكبشين، أحدهما عنه وعن آله، والثاني عن أمته وهو شامل للحي والميت عن آله وأمته ، وكان يقول صلى الله عليه وسلم :" اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد " ([8])
القسم الثاني: أن يضحي عن الميت استقلالا تبرعا بدون وصية منه : (( مثل أن يضحي الإنسان عن أبيه وأمه، أو ابنه، أو أخيه، أو غيرهم من المسلمين فلا أعلم لذلك أصلاً من السنة إلا ما جاء في بعض روايات مسلم لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه في قصة أبي بردة بن نيار رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله قد نسكت عن ابن لي".
فإن صحت هذه الزيادة فقد يتمسك بها من يثبت جواز الأضحية عن الميت وحده حيث لم يسأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ابنه أحيّ أم ميت ، ولو كان الحكم يختلف بين الحي والميت لاستفصل منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن في هذا نظر؛ لأن المعهود أن الأضحية كانت في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأحياء، والأموات تبع لهم ولا نعلم أنه ضحى عن الميت وحده في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذلك اعتمد من يجيزون الأضحية عن الميت وحده بدون وصية منه على قياس الأضحية على الصدقة حيث إن الكل عبادة مالية، قال ابن العربي المالكي في شرح صحيح الترمذي (ص 092 ج 6) :" اختلف أهل العلم هل يضحى عن الميت مع اتفاقهم على أنه يتصدق عنه، والضحية ضرب من الصدقة، لأنها عبادة مالية وليست كالصلاة والصيام " ا.هـ
والخلاصة: أن الأضحية عن الميت وحده بدون وصية منه لا أعلم فيها نصًّا صريحاً بعينها، لكن إذا فعلت فأرجو أن لا يكون بها بأس، إلا أن الأفضل والأحسن أن يجعل المضحي الأضحية عنه وعنه أهل بيته الأحياء والأموات اقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفضل الله واسع يكون الأجر بذلك للجميع إن
شاء الله تعالى.)) ([9])
2 ـ وقال : (( وإن كانت بتبرع من الحي فليست من العمل المأثور عن السلف الصالح؛ لأن ذلك لم ينقل عنهم، وعدم النقل عنهم مع توافر الدواعي، وعدم المانع، دليل على أن ذلك ليس معروفًا بينهم، وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر انقطاع عمل ابن آدم بموته إلى الدعاء له ، ولم يرشد إلى العمل له، مع أن سياق الحديث في ذكر الأعمال الجارية له بعد موته.
وقد قرأت ما كتبته أنت أعلاه فأعجبني ورأيته صحيحَا. وفق الله الجميع للعمل بما يرضيه.
لكن لا ننكر على من ضحى عن الميت، وإنما ننبه على ما كان يفعله غير من الناس سابقًا، فإن الواحد يضحي تبرعًا عن الأموات ولا يضحي عن نفسه وأهله، بل كان بعضهم لا يعرف أن الأضحية سنة إلا عن الأموات إما تبرعَا أو بوصية ، وهذا من الخطأ الذي يجب على أهل العلم بيانه ، كتبه محمد الصالح العثيمين حرر في 8/16/1419 هـ. )) ا.هـ ([10])
3 ـ وقال في ( لقاء الباب المفتوح)(52/ 23) : (( فالمشروع أن الأضحية عن الأحياء فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، وأنت إذا ضحيت بالشاة عنك وعن أهل بيتك ونويت بها كل أهل بيتك وأقاربك الذين ماتوا فلا بأس؛ لأنهم يدخلون في العموم، وأما تخصيص الميت بأضحية تبرعاً من عندك فإن هذا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يضح النبي صلى الله عليه وسلم عن زوجته خديجة رضي الله عنها مع أنها من أحب النساء إليه، ولم يضح عن عمه حمزة رضي الله عنه مع أنه من أحب الناس إليه، ولم يضح عمن مات من أقاربه وبناته، فدل ذلك على أن هذا ليس بمشروع، ولكن
لو أن إنساناً فعل فإننا لا نعيبه، بل نرشده إلى ما هو أفضل وهو الدعاء للميت. )) ا.هـ
تنبيهات وتحذيرات مما وقع في هذا القسم من الأخطاء والمخالفات
1 ـ قال الإمام : (( من الخطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يضحون عن الأموات تبرعا أو بمقتضى وصاياهم، ثم لا يضحون عن أنفسهم وأهليهم الأحياء، فيتركون ما جاءت به السنة، ويحرمون أنفسهم فضيلة الأضحية، وهذا من الجهل، وإلا فلو علموا بأن السنة أن يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته فيشمل الأحياء والأموات، وفضل الله واسع.)) ا.هـ ([11])
2 ـ وقال في (لقاء الباب المفتوح)(105/ 12) : (( .. الدعاء لهما أفضل من الصدقة لهما, وأفضل من الحج لهما, وأفضل من الأضحية لهما, وأفضل من كل عمل [12]؛ لأن هذا هو الذي دلنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا أظن أن أحداً يشك أن أعظم إنسان يدل على الخير هو الرسول صلى الله عليه وسلم, لا يمكن أن يحجب عنا الخير إطلاقاً, وقد قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية -أي: يعمل لنفسه عملاً يكون صدقة جارية له خلال حياته- أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له "،ولا يعمل له ، يدعو له، مع أن سياق الحديث في العمل, فلو كان العمل للميت أمراً مشروعاً لقال: أو ولد صالح يعمل له, أو يصلي أو يزكي أو ما أشبه ذلك لكن المشكلة أن العوام يقولون: لا, ويصرون على أن يتصدق أحدهم أو يعتمر لوالده أو يحج وما أشبه ذلك، ولو فتشت ما وجدته يدعو إلا قليلاً لوالده, وهذا لا شك أنه اختيار المرجوح على الراجح, نقول: يا أخي! اذهب واعتمر لنفسك وادع لأبيك في الطواف وفي السعي وفي الصلاة, أما أن تجعل عباداتك التي أنت ستحتاج إليها يوماً من الدهر تجعلها لهؤلاء الأموات الذين انقطع عملهم وتترك ما أرشدك إليه الرسول عليه الصلاة والسلام؟ هذا خطأ.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
إلا أن الناس الآن -الحمد لله- يسرنا كثيراً أنهم بدءوا ينتبهون, كنا نعهد سابقاً أنه لا أضحية إلا لميت, حتى لو قعدت أضحي لنفسي قالوا: باسم الله عليك! أنت ميت؟ الأضحية للميت, لا يعرفون أن الأضحية للحي, لكن الآن -الحمد لله- انتبهوا وصاروا يعرفون أن الأضاحي للأحياء, والأموات يدخلون تبعاً إذا قلت: اللهم إن هذه عني وعن أهل بيتي وفيهم ميت يدخل تبعاً, أو لهم وصايا هم أوصوا بها نعم يضحى لهم بها. )) ا.هـ
3 ـ وقال : (( إن بعض الناس يضحي بأضحية عن الميت أول سنة من موته يسمونها: أضحية الحفرة، أو أضحية الدفنة، وهذا من البدع؟ لأن تخصيص الميت بأضحية بهذا الاسم في أول سنة يموت لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، فيكون من البدع التي ابتدعها الناس، وكل بدعة ضلالة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم )) ([13])
4 ـ سئل - رحمه الله-: يقوم البعض بذبح الذبائح عند دخول شهر ذي الحجة، ويقولون: اللهم اجعلها
لأرواح موتانا فهل يصح فعلهم؟
فأجاب بقوله: (( هذا ليس بصحيح، بل. هو بدعة ولا يتقرب بالذبح لله إلا فيما وردت به السنة وهي
ثلاثة أمور:
الأول: الأضاحي.
الثاني: الهدايا للبيت الحرام.
والثالث: العقيقة.
هذه هي الذبائح المشروعة، وأما ما عداها فليس بمشروع، ثم إن زعمهم أن هذا حج الأموات ليس بصحيح، فالأموات انقطعت أعمالهم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" ، وهذا ليس من الصدقة الجارية؛ لأن معنى الصدقة الجارية أن الإنسان يوقف شيئًا ينتفع الناس به بعد موته، والعلم الذي ينتفع به من بعده إذا علم أحدًا علمًا نافعًا فعملوا به بعد موته، أو علموه، انتفع به، والولد الصالح الذي يدعو له الذكر أو الأنثى من أولاده إذا دعا له انتفع به.)) ([14])
القسم الثالث: أن يضحي عن الميت بموجب وصية منه تنفيذا لوصيته : فتنفذ كما أوصى بدون زيادة ولا نقص، والأصل في ذلك قوله تعالى في الوصية:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 181] ، والأضحية ليست جنفاً ولا إثماً، بل هي عبادة مالية من أفضل العبادات والشعائر ، وروي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ضحى بكبشين وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه. رواه أبو داود، ورواه بنحوه الترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك . ا.هـ.
قلت: وفي إسناده مقال ، وقال مرة : لكن الحديث سنده ضعيف عند أهل العلم، وعلى كل حال فالعمدة على آية الوصية. ([15])
حكم تنفيذها
قال الإمام : (( الأضحية عن الميت إن كانت بوصية منه مما أوصى به وجب تنفيذها؛ لأنها من عمله وليست جنفاً ولا إثماً.)) ([16])
تنبيهات وفوائد مما تخص هذا القسم
قال الإمام في (أحكام الأضحية والذكاة)(2/ 222 ـ 223) :
1 ـ إذا كانت الوصية بأضاحي متعددة ولم يكف المغل لتنفيذها مثل أن يوصي شخص بأربع ضحايا: واحدة لأمه، وواحدة لأبيه وواحدة لأولاده، وواحد لأجداده وجداته، ولم يكف المغل إلا لواحدة فإن تبرع الوصي بتكميل الضحايا الأربع من عنده فنرجو أن يكون حسنا، وإن لم يتبرع جمع الجميع في أضحية واحدة كما لو ضحى عنهم في حياته.
2 ـ إن كانت الوصية في أضحية واحدة ولم يكف المغل لها فإن تبرع الوصي بتكميلها من عنده فنرجو أن يكون حسنا، وإن لم يتبرع أبقى المغل إلى السنة الثانية والثالثة حتى يكفي الأضحية فيضحي به، فإن كان المغل ضئيلا لا يكفي لأضحية إلا بعد سنوات يخشى من ضياعه في إبقائه إليها، أو من أن تزايد قيم الأضاحي فإن الوصي يتصدق بالمغل في عشر ذي الحجة ولا يبقيه؛ لأنه عرضة لتلفه، وربما تتزايد قيم الأضاحي كل عام، فلا يبلغ قيمة الأضحية مهما جمعه، فالصدقة به خير.
واخترنا أن يتصدق به في عشر ذي الحجة؛ لأنه الزمن الذي عين الموصي تنفيذ وصيته فيه، ولأن العشر أيام فاضلة، والعمل الصالح فيها محبوب إلى الله عز وجل، قال النبي صلي الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها محبوب إلى الله من هذه الأيام العشر"، وقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:" ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" .
3 ـ يذكر بعض الموصين في وصيته قدراً معيناً للموصي به مثل أن يقول: يضحي عني ولو بلغت الأضحية ريالا. يقصد المغالاة في ثمنها؛ لأنها في وقت وصيته بربع ريال أو نحوه، فيقوم بعض من لا يخشى الله من الأوصياء فيعطل الوصية بحجة أن الريال لا يمكن أن يبلغ ثمن الأضحية الآن، وهذا حرام عليه، وهو آثم بذلك، ويجب تنفيذ الوصية بالأضحية، وإن بلغت آلاف الريالات مادام المغل يكفي لذلك؛ لأن مقصود الموصي معلوم، وهو المبالغة في قيمة الأضحية مهما زادت، وذكره الريال على سبيل التمثيل، لا على سبيل التحديد. ا.هـ
4 ـ سئل رحمه الله-: رجل يقول: عمتي قد أوصت بأضحية وعشاء في رمضان، وعندي لها ما يقرب من عشرين ألف ريال، وهذا المبلغ لا أستطيع أن أشتري به عقارًا أنفذ الوصية من ..، فهل يمكن أن أشتري به أسهَما من شركة الكهرباء مثلاً، وأنفذ الوصية من ربح هذه الأسهم؟
فأجاب بقوله: نعم يمكن ذلك؛ لأن فيه مصلحة. كتبه محمد الصالح العثيمين في 6/9/1408هـ. ([17])
5 ـ سئل فضيلته: إذا أوصى الميت بأضحية، ثم قال أحد الأقارب أو الأولاد أنا أضحي عن الميت من جيبي، فهل يجوز للوكيل مثلا أن يقبل ولا يضحي من دراهم الميت، وإذا وقع ذلك فما الحكم؟
فأجاب بقوله: الواجب على الوكيل أن ينفذ الوصية التي وكلت إليه، ومن أراد أن يضحي عن الميت فإنه
لا يمنع، ولكن الوصية لابد من تنفيذها ، وأنا قلت كلمة (الوكيل) مجاراة للسؤال، وإلا فالصواب: (الوصي) ؛ لأن المتولي لغيره إن كان الغير حيًّا فهو (وكيل) ، وإن كان ميتًا فهو (وصي) ، وإن كان على مال يتيم ونحوه فهو (ولي) ، وإن كان على وقف فهو (ناظر) . قاله كاتبه: محمد الصالح العثيمين في 18/12/1390هـ. ([18])
6 ـ سئل الشيخ : إذا أوصى بأضحية، فهل الورثة مخيرون بين ذبح شاة وبين الاشتراك في سبع بدنة أم لا؟
فأجاب : إذا أوصى الميت بأضحية فإن الواجب على الوصي أن يختار ما هو أفضل وأكمل، ومعلوم أن الشاة أفضل من سبع البدنة أو البقرة لكن إذا كانت الوصية قليلة لا تكفي للواحدة من الضأن أو الماعز وتكفي للسبع من البدنة أو البقرة فحينئذ يشتري سبع بدنة أو بقرة.([19]) يتبع إن شاء الله ..
([1]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (25/ 43 ـ 44)
([2]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(25/ 45 ـ 46)
([3]) (دروس الشيخ العثيمين)(5/ 15)
([4]) رواه الترمذي، كتاب الأضاحي باب رقم (20) حديث رقم (1521) وأحمد (3/8، 3/356) .
([5]) ما بينه الإمام ابن عثيمين هنا ، قد أيضا استظهره الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (4/ 174 ـ 175) حيث قال : (( 1678 - " إن أفضل الضحايا أغلاها وأسمنها " ، ضعيف.
أخرجه الإمام أحمد (3 / 424) وأبو العباس الأصم في " حديثه " (1 / 140 / 1) ومن طريقه الحاكم (4 / 231) وكذا البيهقي (9 / 168) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " (3 / 197 / 1) من طريق عثمان بن زفر الجهني: حدثني أبو الأشد (وقال الأصم: أبو الأسد) السلمي عن أبيه عن جده قال: " كنت سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمرنا أن نجمع لكل رجل منا درهما، فاشترينا أضحية بسبعة دراهم، فقلنا: يا رسول الله! لقد أغلينا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذكره) ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل برجل، ورجل برجل، ورجل بيد، ورجل بيد، ورجل بقرن، ورجل بقرن، وذبحها السابع، وكبرنا عليها جميعا ". سكت عليه الحاكم، وأما الذهبي فقال في " تلخيصه ": " قلت: عثمان ثقة "! فوهم، وأوهم!! أما الوهم، فإن عثمان هذا ليس بثقة، بل هو مجهول كما قال الحافظ في " التقريب "، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان! ولعل الذهبي توهم أنه عثمان بن زفر التيمي، فهذا ثقة، ولكنه آخر دون هذا في الطبقة، من شيوخ أبي حاتم وأبي زرعة وغيرهما. وأما الإيهام، فهو بسبب توثيقه لعثمان، وسكوته عمن فوقه، فإنه بذلك يوهم أنه ليس فيهم من يعل به الحديث، وليس كذلك، فإن أبا الأشد مجهول أيضا، وبه أعله الهيثمي فقال في " المجمع " (4 / 21) : " رواه أحمد، وأبو الأشد، لم أجد من وثقه ولا جرحه، وكذلك أبوه، وقيل: إن جده عمرو بن عبس ". وأورده الحافظ في " التعجيل "، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
والحديث أورده البيهقي في " باب الرجل يضحي عن نفسه وعن أهل بيته "! وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين "(3 / 502) : " نزل هؤلاء النفر منزلة أهل البيت الواحد في إجزاء الشاة عنهم، لأنهم كانوا رفقة واحدة ".
وأقره في " عون المعبود " (3 / 57) ، وفيه نظر من وجهين: الأول: أن الحديث لا يصح لما عرفت.
والثاني: أنه لو صح لكان دليلا على جواز الاشتراك في الشاة الواحدة من سبعة نفر، كما هو الشأن في البقرة، ولو كانوا من غير بيت واحد، على أن الحديث لم ينص فيه على الشاة، فيحتمل أن الأضحية كانت بقرة، ولو أن هذا فيه بعد. والله أعلم. )) ا.هـ ( ب)
([6]) (أحكام الأضحية والذكاة)(2/ 230 ـ 233)
([7]) (أحكام الأضحية والذكاة)(2/ 221)
([8]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(17/ 270) ، (أحكام الأضحية والذكاة)(2/ 221 ـ 223)
([9]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(17/ 270)
([10]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(25/ 115 ـ 116)
([11]) (أحكام الأضحية والذكاة)(2/ 222)
([12]) قلت ( بشير) : للإمام الألباني ـ رحمه الله ـ كلام قوي متين في تحقيق هذه المسألة ، فلقوته أحببت أن أتحف القراء الكرام به ، وأنقله لهم بحروفه وطوله لنفاسته وللاحتياج إليه ، قال في كتابه الفذ ( أحكام الجنائز وبدعها / ط مكتبة المعارف)(219 ـ 223) : ((قال الشوكاني في (نيل الاوطار) (4/ 79): (وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابها، فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى "وأن ليس للانسان إلا ما سعى" ، ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيوقف عليها، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها).
قلت: وهذا هو الحق الذي تقضيه القواعد العلمية، أن الآية على عمومها وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد لأنه من سعيه بخلاف غير الولد، لكن قد نقل النووي وغيره الإجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصله ثوابها، هكذا قالوا (الميت) فأطلقوه ولم يقيدوه بالوالد، فإن صح هذا الإجماع كان مخصصا للعمومات التي أشار إليها الشوكاني فيها يتعلق بالصدقة، ويظل ما عداها داخلا في العموم كالصيام وقراءة القرآن ونحوهما من العبادات، ولكنني في شك كبير من صحة الإجماع المذكور، وذلك لأمرين:
الأول: أن الإجماع بالمعنى الأصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي علمت من الدين بالضرورة، كما حقق ذلك العلماء الفحول، كابن حزم في (أصول الأحكام) والشوكاني في (إرشاد الفحول) والأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه (أصول الفقه) وغيرهم، وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد في كلمته المشهورة في الرد على من أدعى الإجماع - ورواها عنه أبنه عبد الله بن أحمد في (المسائل).
الثاني: أنني سبرت كثيرا من المسائل التي نقلوا الإجماع فيها، فوجدت الخلاف فيها معروفا! بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الإجماع فيها، ولو شئت أن أورد الأمثلة على ذلك لطال الكلام وخرجنا به عما نحن بصدده... وذهب بعضهم إلى قياس غير الوالد على الوالد، وهو قياس باطل من وجوه:
الأول: أنه مخالف العموميات القرآنية كقوله تعالى {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18] وغيرها من الآيات التي علقت الفلاح ودخول الجنة بالأعمال الصالحة، ولا شك أن الوالد يزكي نفسه بتربيته لولده وقيامه على فكان له أجره بخلاف غيره.
الثاني: أنه قياس مع الفارق إذا تذكرت إن الشرع جعل الولد من كسب الوالد كما سبق في حديث عائشة فليس هو كسبا لغيره، والله عز وجل يقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] ويقول {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله عز وجل {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]: (أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه.
ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل أهداه ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء) .
وقال العز بن عبد السلام في (الفتاوى) (24/ 2 - عام 1692): (ومن فعل طاعة الله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت، لم ينتقل ثوابها إليه، إذ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، فإن شرع في الطاعة ناويا أن يقع عن الميت لم يقع عنه، إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة والصوم والحج).
وما ذكره ابن كثير عن الشافعي رحمه الله تعالى هو قول أكثر العلماء وجماعة من، الحنفية كما نقله الزبيدي في (شرح الإحياء) (10/ 369).
الثالث: أن هذا القياس لو كان صحيحا، لكان من مقتضاه استحباب إهداء الثواب إلى الموتى ولو كان كذلك لفعله السلف، لأنهم أحرس على الثواب منا بلا ريب، ولم يفعلوا ذلك كما سبق في كلام ابن كثير، فدل هذا على أن القياس المذكور غير صحيح، وهو المراد.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (الاختيارات العلمية) (ص 54): (ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا، أو قروؤا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل).
وللشيخ رحمه الله تعالى قول آخر في المسألة، خالف فيه ما ذكره آنفا عن السلف، فذهب إلى أن الميت ينتفع بجميع العبادات من غيره!.
وتبنى هذا القول وانتصر له ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الروح) بما لا ينهض من القياس الذي سبق بيان بطلانه قريبا، وذلك على خلاف ما عهدناه منه رحمه الله من ترك التوسع في القياس في الأمور التعبدية المحضة لا سيما ما كان عنه على خلاف ما جرى عليه السلف الصالح رضي الله عنهم ....
وقد استغل هذا القول كثير من المبتدعة، واتخذوه ذريعة في محاربة السنة، واحتجوا بالشيخ وتلميذه على أنصار السنة وأتباعها، وجهل أولئك المبتدعة أو تجاهلوا أن أنصار السنة، لا يقلدون في دين الله تعالى رجلا بعينة كما يفعل أولئك! ولا يؤثرون على الحق الذي تبين لهم قول أحد من العلماء مهما كان اعتقادهم حسنا في علمه وصلاحه، وأنهم إنما ينظرون إلى القول لا إلى القائل، وإلى الدليل، وليس إلى التقليد، جاعلين نصب أعينهم قول إمام دار الهجرة (ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر)! وقال: (كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر).
وإذا كان من المسلم به عند أهل العلم أن لكل عقيدة أو رأى يتبناه في هذه الحياة أثرا في سلوكه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فإن من المسلم به أيضا، أن الأثر يدل على المؤثر، وأن أحدهما مرتبط بالأخر، خيرا أو شرا كما ذكرنا، وعلى هذا فلسنا نشك أن لهذا القول أثرا سيئا في من يحمله أو يتبناه، من ذلك مثلا أن صاحبه يتكل في تحصيل الثواب والدرجات العاليات على غيره، لعلمه أن الناس يهدون الحسنات مئات المرات في اليوم الواحد إلى جميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، وهو واحد منهم، فلماذا لا يستغني حينئذ بعمل غيره عن سعيه وكسبه!
ألست ترى مثلا أن بعض المشايخ الذين يعيشون على كسب بعض تلامذتهم، لا يسعون بأنفسهم ليحصلوا على قوت يومهم بعرق جبينهم وكد يمينهم! وما السبب في ذلك إلا أنهم استغنوا عن ذلك بكسب غيرهم! فاعتمدوا عليه وتركوا العمل، هذا أمر مشاهد في الماديات، معقول في المعنويات كما هو الشأن في هذه المسألة.
وليت أن ذلك وقف عندها، ولم يتعدها إلى ما هو أخطر منها، فهناك قول بجواز الحج عن الغير ولو كان غير معذور كأكثر الأغنياء التاركين للواجبات فهذا القول يحملهم على التساهل في الحج والتقاعس عنه، لأنه يتعلل به ويقول في باطنه: يحجون عني بعد موتي! بل إن ثمة ما هو أضر من ذلك، وهو القول بوجوب إسقاط الصلاة، عن الميت التارك لها! فإنه من العوامل الكبيرة على ترك بعض المسلمين للصلاة، لأنه يتعلل بأن الناس يسقطونها عنه بعد وفاته!
إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سوء أثرها علي المجتمع، فمن الواجب على العالم الذي يريد الإصلاح أن ينبذ هذه الأقوال لمخالفتها نصوص الشريعة ومقاصدها الحسنة.
وقابل أثر هذه الأقوال بأثر قول الواقفين عند النصوص لا يخرجون عنها بتأويل أو قياس تجد الفرق كالشمس. فإن من لم يأخذ بمثل الأقوال المشار إليها لا يعقل أن يتكل على غيره في العمل والثواب، لأنه يرى أنه لا ينجيه إلا عمله، ولا ثواب له إلا ما سعى إليه هو بنفسه، بل المفروض فيه أن يسعى ما أمكنه إلى أن يخلف من بعده أثرا حسنا يأتيه أجره، وهو وحيد في قبره، بدل تلك الحسنات الموهومة، وهذا من الأسباب الكثيرة في تقدم السلف وتأخرنا، ونصر الله إياهم، وخذلانه إيانا، نسأل الله تعالى أن يهدينا كما هداهم، وينصرنا كما نصرهم.)) ا.هـ
([13]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(25/ 25)
([14]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(25/ 122 ـ 123)
([15]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(25/26 ـ 27) ، (أحكام الأضحية والذكاة)(2/222)
([16]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(17/ 244)
([17]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(25/ 46)
([18]) (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(25/ 47)
([19]) (دروس الشيخ العثيمين)(5/ 18)