وفيك أخية نفع الله بك

وهذه فوائد أخرى للصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعنا الله وإياكم بها :

الخامسة والعشرون: أنها تنجي من نتن المجلس الذي لا يذكر فيه الله ورسوله ويحمد ويثنى عليه فيه، ويصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم .
السادسة والعشرون: أنها سبب لتمام الكلام الذي ابتدئ بحمد الله والصلاة على رسوله.
السابعة والعشرون: أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط ، وفيه حديث ذكره أبو موسى وغيره.
الثامنة والعشرون: أنه يخرج بها العبد عن الجفاء.
التاسعة والعشرون : أنها سب لإبقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض: لأن المصلي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه، والجزاء من جنس العمل ، فلا بد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك.
الثلاثون: أنها سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره، وأسباب مصالحه، لأن المصلي داع ربه أن بارك عليه وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنسه.
الحادية والثلاثون: أنها سبب لنيل رحمة الله له، لأن الرحمة إما بمعنى الصلاة كما قاله طائفة، وإما من لوازمها و موجباتها على القول الصحيح، فلا بد للمصلي عليه من رحمة تناله.
الثانية والثلاثون: أنها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به ، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه ، تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه ، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه بقلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه ، ولا أقر لقلبه من ذكره وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه، والحس شاهد بذلك ، حتى قال الشعراء بذلك:
عجبت لمن يقول ذكرت حبي وهل أنسى فأذكر من نسيت
فتعجب هذا المحب ممن يقول : ذكرت محبوب، لأن الذكر يكون بعد النسيان، ، ولو كمل حب هذا لما نسي محبوبه.
وقال آخر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
فهذا أخبر عن نفسه أن محبته لها مانع له من نسيانها.
وقال آخر:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فأخبر أن حبهم وذكرهم قد صار طبعاً له، فمن أراد منه خلاف ذلك أبت عليه طباعه أن تنتقل عنه، والمثل المشهور: من أحب شيئاً أكثر من ذكره، وفي هذا الجناب الأشرف أحق ما أنشد:
لو شق عن قلبي فرى وجهه ذكرك والتوحيد في سطر
فهذا قلب المؤمن: توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق إليهما محو ولا إزالة، ولما كانت كثرة ذكر الشيء موجبة لدوام محبته، ونسيانه سبباً لزوال محبته أو ضعفها، وكان الله سبحانه هو المستحق من عباده نهاية الحب مع نهاية لتعظيم، بل الشرك الذي لا يغفره الله تعالى هو أن يشرك به في الحب والتعظيم، فيحب غيره ويعظم من المخلوقات غيره، كما يحب الله تعالى ويعظمه، قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة: 165]، فأخبر سبحانه أن المشرك يحب الند كما يحب الله تعالى، وأن المؤمن أشد حباً لله من كل شيء، وقال أهل النار في النار: تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء: 97 ].
ومن المعلوم أنهم إنما سووهم به سبحانه في الحب والتأله والعبادة، وإلا فلم يقل أحد قط إن الصنم أو غيره من الأنداد مساو لرب العالمين في صفاته، وفي أفعاله، وفي خلق السماوات والأرض، وفي خلق عباده أيضاً، وإنما كانت التسوية في المحبة والعبادة.
وأضل من هؤلاء وأسوأ حالاً من سوى كل شيء بالله سبحانه في الوجود، وجعله وجود كل موجود كامل أو ناقص، فإذا كان الله قد حكم بالضلال والشقاء لمن سوى بينه وبين الأصنام في الحب، مع اعتقاد تفاوت ما بين الله وبين خلقه في الذات والصفات والأفعال، فكيف بمن سوى الله بالموجودات في جميع ذلك، وزعم أنه ما عبد غير الله في كل معبود.
والمقصود: أن دوام الذكر لما كان سبباً لدوام المحبة ، وكان الله سبحانه أحق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والإجلال، كان كثرة ذكره من أنفع ما للعبد، وكان عدوه حقاً هو الصاد عن ذكر ربه وعبوديته ، ولهذا أمر سبحانه بكثرة ذكره في القرآن، وجعله سبباً للفلاح، فقال تعالى: واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون [الجمعة: 10]، وقال: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً [الأحزاب: 35]، وقال: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [المنافقون:9] وقال: فاذكروني أذكركم [ البقرة:152].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبق المفردون ، قالوا: يا رسول الله وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات .
وفي الترمذي عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ألا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله ، وهو في الموطأ موقوف على أبي الدرداء.
قال معاذ بن جبل: ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم تبع لذكره.
والمقصود: أن دوام الذكر سبب لدوام المحبة، فالذكر للقلب كالماء للزرع ، بل كالماء للسمك،لا حياة له إلا به.
وهو أنواع: ذكره بأسمائه، وصفاته، والثناء عليه بها.
الثاني:تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ الذكر عند المتأخرين.
الثالث: ذكره بأحكامه وأوامره ونواهيه، وهو ذكر أهل العلم، بل الأنواع الثلاثة هي ذكرهم لربهم.
ومن أفضل ذكره ذكره بكلامه، قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى [طه:124]، فذكره هنا: كلامه الذي أنزله على رسوله.وقال تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد: 28]، ومن ذكره سبحانه : دعاؤه واستغفاره والتضرع إليه فهذه خمسة أنواع من الذكر .