بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :-
فقد قال يحيى بن علي الحجوري-هداني الله وإياه- في ثنايا إجابته على سؤال وجه له(1)في ليلة الخميس (7/شعبان/1435) :-
ولذلك(2) أجمع المسلمون على فضل البخاري على سائر الكتب المصنفة ولم يخالف في ذلك إلا ممسوخ ما يعرف الحديث وما يعرف شأنه أو صاحب عقيدة فاسدة ...الخ
أقول : لا يخفى على أطفال الحديث ما في هذا الكلام من مؤاخذات فضلاً عن كبارهم ومن لهم باع وحسن نظر في هذا العلم النافع و لكن للأسف الشديد أن المتفوه بهذا الكلام يُعد ممن بلغوا في هذا الفن غاية عند من اغتر به من أتباعه ولكن صدق من قال :-
ذهب الرِّجال المُقتدَى بفعالِهم ......والمنكرون لكلِّ فعل منكرِ
وبقيتُ في خلْف يُزكّي بعضُهم...........بعضاً ليدفع معور عن معورِ
فإليك بيان ما في كلامه من مؤاخذات :-
المؤاخذة الأولى : إطلاقه للإجماع من غير تثبت ولا دراية لما نقل
فقوله : (ولذلك أجمع المسلمون على فضل البخاري على سائر الكتب المصنفة) قول فيه إطلاق وتعميم
أ- إطلاقٌ على المسلمين من غير استثناء بأنهم أجمعوا على تفضيل صحيح البخاري على سائر الكتب المصنفة-كما يدل سياق كلامه على التفضيل وانظر الحاشية(2)- ومما يدخل في الكتب المصنفة صحيح الإمام مسلم !!
ب- تعميمٌ للأفضلية فتشمل الصحة وحسن الترتيب والسياق.....الخ وإطلاق الإجماع في كلا الأمرين خطأ
فإنه هناك ثلاثة أقوال في هذه المسألة تنقض ما قاله الحجوري –عفا الله عني وعنه- وإليك البيان :-
أولها : تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري
قال الحافظ ابن الصلاح رحمه الله تعالى :-
وأما ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ من أنه قال : " ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج " ، فهذا وقول من فضل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاري ، إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح....الخ معرفة علوم الحديث
وقول ابن الصلاح رحمه الله ( فهذا وقول من فضل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاري)
فيه عدم تسمية شيوخ المغرب وكذا صنع القاضي عياض رحمه الله تعالى في إكمال المعلم (1/80) والعراقي في فتح المغيث (ص13) وابن كثير في اختصاره لعلوم الحديث لابن الصلاح (ص26) وآخرون
ولكن قد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى معلقاً على كلام ابن الصلاح المذكور آنفاً :-
قد وجدت التصريح بما ذكره المصنف من الاحتمال عن بعض المغاربة فذكر أبو محمد القاسم بن القاسم التجيبي في فهرسته عن أبي محمد ابن حزم أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السرد أ.ه النكت (1/270)
ففي هذا القول تفضيل لصحيح مسلم على البخاري من بعض أهل العلم فكيف يُنقل الإجماع بأن صحيح البخاري أفضل من سائر الكتب المصنفة ؟!(3)
ثاني هذه الأقوال : التسوية بينهما
قال الزركشي رحمه الله تعالى :-
وفات المصنف-أي : ابن الصلاح- حكاية قول ثالث أنهما سواء حكاه بعض المتأخرين وإليه ميل أبي العباس القرطبي في مختصر البخاري إذ قال " والأولى ألا يقال في أحدهما أولى بل هما فرسا رهان وليس لأحد بمسابقتهما يدان " أ.ه النكت (1/170)
وكذلك قول أبي علي النيسابوري في قوله : (ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج ) يحتمل القول هذا والذي قبله كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :-
وأما ما قاله أبو علي النيسابوري فلم نجد عنه تصريحا قط بأن كتاب مسلم أصح من صحيح البخاري وإنما قال: "ما حكاه المؤلف من أنه نفى الأصحية على كتاب مسلم، ولا يلزم من ذلك أن يكون كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري لأن قول القائل: فلان أعلم أهل البلد بفن كذا ليس كقوله: ما في البلد أعلم من فلان بفن كذا"، لأنه في الأول أثبت له الأعلمية، وفي الثاني نفى أن يكون في البلد اعلم منه، فيجوز أن يكون فيها من يساويه فيه، وإذا كان لفظ أبي علي محتملا لكل من الأمرين فلم نجد ممن اختصر كلام ابن الصلاح فجزم بأن أبا علي قال: صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري فقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محي الدين النووي3 والقاضي بدر الدين بن جماعة4 والشيخ تاج الدين التبريزي وتبعهم جماعة. وفي إطلاق ذلك نظر لما بيناه أ.ه النكت (1/272)
علماً بأن الصنعاني رحمه الله تعالى لم يُسَلّم لما قاله ابن حجر فقال في توضيح الأفكار بعد ذكره لكلام الحافظ رحمه الله تعالى :-
قلت: ولا يعزب عنك أن هذا التأويل الذي ذكره الحافظ خروج عن محل النزاع؛ فإن الدعوى أن البخاري أصح الكتابين، وأن التأويل أفاد أنهما مثلان فما أتى التأويل إلا بخلاف المدعى، على أن قول القائل: ما تحت أديم السناء أعلم من فلان يفيد عرفا أنه أعلم الناس مطلقا، وأنه لا يساويه أحد في ذلك، وأما في اللغة فيحتمل توجه النفي إلى الزيادة أعني زيادة إنسان عليه في العلم لا نفي المساوي له فيه، والحقيقة العرفية مقدمة سيما في مقام المدح والمبالغة بقوله: "تحت أديم السماء" أ.ه (1/48)
فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينقل الإجماع ؟!
ثالثها : ترجيح صحيح البخاري من حيث الصحة ومسلم من حيث الصناعة
قال العلامة حافظ الحكمي :-
وبعضهم رجح البخاري من حيث الصحة ومسلما من حيث الصناعة رحمهما الله أ.ه دليل أرباب الفلاح (ص106)
وفي ذلك القول قال ابن الديبع :-
تشاجر قوم في البخاري ومسلم ............ إلي وقالوا أي ذين تقدم
فقلت لقد فاق البخاري صحة .............. كما فاق في حسن الصناعة مسلم
فبهذا وما تقدم قبله دليل على فساد ما تفوَّه به يحيى بن علي الحجوري-هداني الله وإياه- من نقله لإجماع المسلمين على أفضلية صحيح البخاري على سائر الكتب-كذا قال!- من غير استثناء فتأمل
وأما من رجح صحيح البخاري على صحيح مسلم –وهذا هو الصواب- قد حكى ذلك عن جمهور أهل العلم ولم ينقل في ذلك الإجماع كما صنع يحيى بن علي الحجوري-هداني الله وإياه- (4)
المؤاخذة الثانية : وصفه لمن خالف في ذلك بأوصاف لا يجوز أن يُوصفوا بها فقد قال : (ولم يخالف في ذلك إلا ممسوخ ما يعرف الحديث وما يعرف شأنه أو صاحب عقيدة فاسدة )
فعلى يحيى بن علي الحجوري-وفقني الله وإياه- أن يرجع عن هذا القول المخالف للصواب وأما إن قصد شيئاً آخراً فعليه أن يبين ما أراد ومن سبقه إلى ما أراد .
أسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يوفقنا لكل خير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
كتبه . أبو البركات مجد بن مصطفى اليمني في 8/شعبان/1435
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1)نص السؤال : ما أفضل مختصر لصحيح البخاري ؟ والنص المنقول هنا هو من الدقيقة (3:52) إلى (4:15) وهو منشور في موقعه وعنه في شبكة العلوم السلفية -زعموا-وغيرها ولذلك سارعت في كتابة هذه الوريقات بياناً للحق
(2) قال الحجوري قبل كلامه هذا وهو يذكر ميزات صحيح البخاري :
قالوا لمسلم فضل...... قلت البخاري أعلى
قالوا المكرر فيه .......قلت المكرر أحلى
قلت : هذان البيتان نسبهما الكتاني في فهرس الفهارس لأبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ الديبع رحمه الله ولكن بلفظ(جللا) بدل (أعلى) وقد ذكرهما غير واحد من أهل العلم في سياق ذكر المقارنة بين صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى كالعلامة صديق حسن خان فقد قال رحمه الله قبل ايراده لهذين البيتين :-
وبعض المغاربة رجحوا صحيح مسلم على صحيح البخاري والجمهور يقولون أن هذا فيما يرجع إلى حسن البيان والسياق وجودة الوضع والترتيب ورعاية دقائق الإشارات ومحاسن النكات في الأسانيد وهذا خارج عن البحث والكلام في الصحة والقوة وما يتعلق بها وليس كتاب يساوي صحيح البخاري في هذا الباب بدليل كمال الصفات التي اعتبرت في الصحة في رجاله وبعضهم توقف في ترجيح أحدهما على الآخر والحق هو الأول قال الحافظ عبد الرحمن بن علي بن الديبع نظم:
تنازع قوم في البخاري ومسلم........لدي وقالوا أي ذين يقدم
فقلت لقد فاق البخاري صحة..........كما فاق في حسن الصناعة مسلم ...الخ الحطة (ص159)
ثم ذكر بعد ذلك ما بنى عليه الحجوري نقله للإجماع لقوله -أي : الحجوري- بعد ذكره للبيتين المشار إليهما : ولذلك أجمع ...الخ كلامه المذكور
فبهذا ينتفي إيرادٌ قد يورده البعض من أنه لم يرد التفضيل وإنما أراد غير ذلك فتأمل
ثانياً : ولو أراد شيئاً آخراً فمن سبقه بنقل الإجماع على ما أراد و القدح والطعن والتشنيع على من خالف ذلك ؟
(3) علماً بأن من أهل العلم من قد بين أن تفضيل صحيح مسلم ليس راجعاً إلى الأصحية بل لأمور أخرى منها ما ذكره الحجوري في الأبيات التي قال بعدها ما قال !!!
انظر النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر رحمه الله (1/270) وإسعاف ذوي الوطر (1/52)
(4) إنما كان الإجماع -كماذكره بعض أهل العلم- على أن الإمام البخاري كان أعلم بالفن من مسلم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ويكفي في ذلك اتفاقهم على أنه كان أعلم بالفن من مسلم وأن مسلما كان يتعلم منه ...الخ النكت (1/274) وقد نقل السيوطي رحمه الله تعالى كلام ابن حجر بتصرف في التدريب فقال : وقال شيخ الإسلام : اتفق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم في العلوم وأعرف بصناعة الحديث وأن مسلماً تلميذه وخريجه و....الخ مانقل رحمه الله (1/161) وليس هذا محل النزاع مع كلام الحجوري ففرقٌ في التفضيل بين الإمامين و التفضيل بين كتابيهما فتنبه


رد مع اقتباس