شبكة الأمين السلفية - Powered by vBulletin
لا إلهَ إلاَّ اللَّه وحْدهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحمْدُ، وَهُو عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ  |  لا حول ولا قوة إلا بالله  |  أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ وأتوب إليه
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: ابن القيم : الأدب هو الدين كله

العرض المتطور

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2009
    الدولة
    في إحدى الدول
    المشاركات
    4,889

    افتراضي ابن القيم : الأدب هو الدين كله

    ” قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ. … فَالْأَدَبُ: اجْتِمَاعُ خِصَالِ الْخَيْرِ فِي الْعَبْدِ … وَعِلْمُ الْأَدَبِ: هُوَ عِلْمُ إِصْلَاحِ اللِّسَانِ وَالْخِطَابِ، وَإِصَابَةِ مَوَاقِعِهِ، وَتَحْسِينِ أَلْفَاظِهِ، وَصِيَانَتِهِ عَنِ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ. وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْأَدَبِ الْعَامِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَالْأَدَبُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
    • أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
    • وَأَدَبٌ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرْعِهِ
    • وَأَدَبٌ مَعَ خُلُقِهِ.
    فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
    • أَحَدُهَا: صِيَانَةُ مُعَامَلَتِهِ أَنْ يَشُوبَهَا بِنَقِيصَةٍ.
    • الثَّانِي: صِيَانَةُ قَلْبِهِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِهِ.
    • الثَّالِثُ: صِيَانَةُ إِرَادَتِهِ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَا يَمْقُتُكَ عَلَيْهِ. …
    قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: نَحْنُ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ.
    وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنْفَعَ الْأَدَبِ؟ فَقَالَ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ. وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَا لِلَّهِ عَلَيْكَ.
    وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْأَدَبَ حِينَ فَاتَنَا الْمُؤَدَّبُونَ.
    وَقَالَ: الْأَدَبُ لِلْعَارِفِ كَالتَّوْبَةِ لِلْمُسْتَأْنِفِ.
    وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ فِي الْأَدَبِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَرُعُونَاتِهَا، وَتَجَنُّبُ تِلْكَ الرُّعُونَاتِ.

    • وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ اللَّهِ، وَخِطَابَهُمْ وَسُؤَالَهُمْ. كَيْفَ تَجِدُهَا كُلَّهَا مَشْحُونَةً بِالْأَدَبِ قَائِمَةً بِهِ؟
    قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ أَقُلْهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الْأَدَبِ. ثُمَّ أَحَالَ الْأَمْرَ عَلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَالِ وَسِرِّهِ. فَقَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] ثُمَّ بَرَّأَ نَفْسَهُ عَنْ عِلْمِهِ بِغَيْبِ رَبِّهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ثُمَّ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ. وَوَصَفَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ كُلِّهَا. فَقَالَ {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] ثُمَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ – وَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ – فَقَالَ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهِمْ. وَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] . ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ شَهَادَةٍ وَأَعَمُّ. فَقَالَ: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] ثُمَّ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. أَيْ شَأْنُ السَّيِّدِ رَحْمَةُ عَبِيدِهِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ عَبِيدُكَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِغَيْرِكَ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ – مَعَ كَوْنِهِمْ عَبِيدَكَ – فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَبِيدُ سُوءٍ مِنْ أَبْخَسِ الْعَبِيدِ، وَأَعْتَاهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَأَعْصَاهُمْ لَهُ – لَمْ تُعَذِّبْهُمْ. لِأَنَّ قُرْبَةَ الْعُبُودِيَّةَ تَسْتَدْعِي إِحْسَانَ السَّيِّدِ إِلَى عَبْدِهِ وَرَحْمَتَهُ. فَلِمَاذَا يُعَذِّبُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَعْظَمُ الْمُحْسِنِينَ إِحْسَانًا عَبِيدَهُ؟ لَوْلَا فَرْطُ عُتُوِّهِمْ، وَإِبَاؤُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَكَمَالُ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ.
    وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] أَيْ هُمْ عِبَادُكَ. وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ: عَذَّبْتَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْكَ بِمَا تُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ. فَهُمْ عِبَادُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا جَنَوْهُ وَاكْتَسَبُوهُ. فَلَيْسَ فِي هَذَا اسْتِعْطَافٌ لَهُمْ، كَمَا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ. وَلَا تَفْوِيضٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْمُلْكِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْحِكْمَةِ، كَمَا تَظُنُّهُ الْقَدَرِيَّةُ. وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] وَلَمْ يَقُلِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ قَالَهُ فِي وَقْتِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ، وَالْأَمْرِ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. فَلَيْسَ هُوَ مَقَامَ اسْتِعْطَافٍ وَلَا شَفَاعَةٍ. بَلْ مَقَامُ بَرَاءَةٍ مِنْهُمْ. فَلَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأَشْعَرَ بِاسْتِعْطَافِهِ رَبَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ الَّذِينَ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ. فَالْمَقَامُ مَقَامُ مُوَافَقَةٍ لِلرَّبِّ فِي غَضَبِهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ. فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُسْأَلُ بِهِمَا عَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ إِلَى ذِكْرِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، الْمُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ.وَالْمَعْنَى: إِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ فَمُغْفِرَتُكَ تَكُونُ عَنْ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. لَيْسَتْ عَنْ عَجْزٍ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا عَنْ خَفَاءٍ عَلَيْكَ بِمِقْدَارِ جَرَائِمِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَغْفِرُ لِغَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُ. وَلِجَهْلِهِ بِمِقْدَارِ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهِ. وَالْكَمَالُ: هُوَ مَغْفِرَةُ الْقَادِرِ الْعَالِمِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَكَانَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَيْنَ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ.
    وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ حَمَلَةُ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ. وَاثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ. وَلِهَذَا يَقْتَرِنُ كُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى. كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] .

    • وَكَذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78] وَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي. حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ.
    • وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] . وَلَمْ يَقُلْ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ أَعِيبَهَا. وَقَالَ فِي الْغُلَامَيْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] .
    • وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 10] وَلَمْ يَقُولُوا: أَرَادَهُ بِهِمْ. ثُمَّ قَالُوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] .
    • وَأَلْطَفُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] وَلَمْ يَقُلْ: أَطْعِمْنِي.
    • وَقَوْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وَلَمْ يَقُلْ: رَبِّ قَدَرْتَ عَلَيَّ وَقَضَيْتَ عَلَيَّ.
    • وَقَوْلُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] . وَلَمْ يَقُلْ: فَعَافِنِي وَاشْفِنِي.
    • وَقَوْلُ يُوسُفَ لِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] وَلَمْ يَقُلْ: أَخْرَجَنِي مِنَ الْجُبِّ، حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ إِخْوَتِهِ. وَتَفَتِّيًا عَلَيْهِمْ: أَنْ لَا يُخْجِلَهُمْ بِمَا جَرَى فِي الْجُبِّ. وَقَالَ {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] وَلَمْ يَقُلْ: رَفَعَ عَنْكُمْ جُهْدَ الْجُوعِ وَالْحَاجَةَ. أَدَبًا مَعَهُمْ. وَأَضَافَ مَا جَرَى إِلَى السَّبَبِ. وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى الْمُبَاشِرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَقَالَ: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] فَأَعْطَى الْفُتُوَّةَ وَالْكَرْمَ وَالْأَدَبَ حَقَّهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذَا الْخُلُقِ إِلَّا لِلرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ.
    • وَمِنْ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، عَلَى حَسَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةِ وَقَارِهِ.
    وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْزَمِ الْأَدَبَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا عُوقِبَ ظَاهِرًا. وَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ بَاطِنًا إِلَّا عُوقِبَ بَاطِنًا.
    وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ تَهَاوَنَ بِالْأَدَبِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ السُّنَنِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالسُّنَنِ. عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْفَرَائِضِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْفَرَائِضِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْمَعْرِفَةِ.
    وَقِيلَ: الْأَدَبُ فِي الْعَمَلِ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ.

    وَحَقِيقَةُ الْأَدَبِ اسْتِعْمَالُ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَدَبُ: اسْتِخْرَاجَ مَا فِي الطَّبِيعَةِ مِنَ الْكَمَالِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ.
    فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ الْإِنْسَانَ لِقَبُولِ الْكَمَالِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْأَهْلِيَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، الَّتِي جَعَلَهَا فِيهِ كَامِنَةً كَالنَّارِ فِي الزِّنَادِ. فَأَلْهَمَهُ وَمَكَّنَهُ، وَعَرَّفَهُ وَأَرْشَدَهُ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلَهُ. وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كَتَبَهُ لِاسْتِخْرَاجِ تِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَهَّلَهُ بِهَا لِكَمَالِهِ إِلَى الْفِعْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا – فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا – قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا – وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 – 10] . فَعَبَّرَ عَنْ خُلُقِ النَّفْسِ بِالتَّسْوِيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالتَّمَامِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قَبُولِهَا لِلْفُجُورِ وَالتَّقْوَى. وَأَنَّ ذَلِكَ نَالَهَا مِنْهُ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا. ثُمَّ خَصَّ بِالْفَلَاحِ مَنْ زَكَّاهَا فَنَمَّاهَا وَعَلَّاهَا. وَرَفَعَهَا بِآدَابِهِ الَّتِي أَدَّبَ بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ. وَهِيَ التَّقْوَى. ثُمَّ حَكَمَ بِالشَّقَاءِ عَلَى مَنْ دَسَّاهَا فَأَخْفَاهَا وَحَقَّرَهَا. وَصَغَّرَهَا وَقَمَعَهَا بِالْفُجُورِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

    وَجَرَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ: أَنْ يَذْكُرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَرَاهُ مَا أَرَاهُ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ هَذَا وَصْفٌ لِأَدَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ جَانِبًا. وَلَا تَجَاوَزَ مَا رَآهُ. وَهَذَا كَمَالُ الْأَدَبِ. وَالْإِخْلَالُ بِهِ: أَنْ يَلْتَفِتَ النَّاظِرُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، أَوْ يَتَطَلَّعَ أَمَامَ الْمَنْظُورِ. فَالِالْتِفَاتُ زَيْغٌ. وَالتَّطَلُّعُ إِلَى مَا أَمَامَ الْمَنْظُورِ: طُغْيَانٌ وَمُجَاوَزَةٌ. فَكَمَالُ إِقْبَالِ النَّاظِرِ عَلَى الْمَنْظُورِ: أَنْ لَا يَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. وَلَا يَتَجَاوَزَهُ. هَذَا مَعْنَى مَا حَصَّلْتُهُ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
    وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ. وَهِيَ مِنْ غَوَامِضِ الْآدَابِ اللَّائِقَةِ بِأَكْمَلِ الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَاطَأَ هُنَاكَ بَصَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ. وَتَوَافَقَا وَتَصَادَقَا فِيمَا شَاهَدَهُ بَصَرُهُ. فَالْبَصِيرَةُ مُوَاطِئَةٌ لَهُ. وَمَا شَاهَدَتْهُ بَصِيرَتُهُ فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ مَشْهُودٌ بِالْبَصَرِ. فَتَوَاطَأَ فِي حَقِّهِ مَشْهَدُ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ.
    وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى – أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 11 – 12] أَيْ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ.
    وَلِهَذَا قَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرٍ: مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى – بِتَشْدِيدِ الذَّالِ – أَيْ لَمْ يُكَذِّبِ الْفُؤَادُ الْبَصَرَ. بَلْ صَدَّقَهُ وَوَاطَأَهُ. لِصِحَّةِ الْفُؤَادِ وَالْبَصَرِ. أَوِ اسْتِقَامَةِ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ. وَكَوْنُ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ حَقًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم: 11] بِالتَّخْفِيفِ. وَهُوَ مُتَعَدٍّ. وَ: مَا رَأَى مَفْعُولَهُ: أَيْ مَا كَذَبَ قَلْبُهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنَاهُ. بَلْ وَاطَأَهُ وَوَافَقَهُ. فَلِمُوَاطَأَةِ قَلْبِهِ لِقَالَبِهِ، وَظَاهِرِهِ لِبَاطِنِهِ. وَبَصَرِهِ لِبَصِيرَتِهِ: لَمْ يَكْذِبِ الْفُؤَادُ الْبَصَرَ. وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْبَصَرُ حَدَّهُ فَيَطْغَى. وَلَمْ يَمِلْ عَنِ الْمَرْئِيِّ فَيَزِيغَ، بَلِ اعْتَدَلَ الْبَصَرُ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ. مَا جَاوَزَهُ وَلَا مَالَ عَنْهُ، كَمَا اعْتَدَلَ الْقَلْبُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ. فَإِنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ. وَلِلْقَلْبِ زَيْغٌ وَطُغْيَانٌ. وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنْ قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ. فَلَمْ يَزِغْ قَلْبُهُ الْتِفَاتًا عَنِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَمْ يَطْغَ بِمُجَاوَزَتِهِ مَقَامِهِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ.
    وَهَذَا غَايَةُ الْكَمَالِ وَالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ سِوَاهُ. فَإِنَّ عَادَةَ النُّفُوسِ، إِذَا أُقِيمَتْ فِي مَقَامٍ عَالٍ رَفِيعٍ: أَنْ تَتَطَلَّعَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَفَوْقَهُ. .. وَلِهَذَا كَانَ مَرْكُوبُهُ فِي مَسْرَاهُ يَسْبِقُ خَطْوَهُ الطَّرْفَ. فَيَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، مُشَاكِلًا لِحَالِ رَاكِبِهِ، وَبُعْدِ شَأْوِهِ، الَّذِي سَبَقَ الْعَالَمَ أَجْمَعَ فِي سَيْرِهِ، فَكَانَ قَدَمُ الْبُرَاقِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ مَوْضِعِ نَظَرِهِ. كَمَا كَانَ قَدَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَحَلِّ مَعْرِفَتِهِ.
    فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَفَارَةِ كَمَالِ أَدَبِهِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَكْمِيلِ مَرَاتِبِ عُبُودِيَّتِهِ لَهُ، حَتَّى خَرَقَ حُجُبَ السَّمَاوَاتِ، وَجَاوَزَ السَّبْعَ الطِّبَاقَ. وَجَاوَزَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَوَصَلَ إِلَى مَحَلٍّ مِنَ الْقُرْبِ سَبَقَ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. فَانْصَبَّتْ إِلَيْهِ هُنَاكَ أَقْسَامُ الْقُرْبِ انْصِبَابًا. وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْحُجُبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِجَابًا حِجَابًا. وَأُقِيمَ مَقَامًا غَبَطَهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ. فَإِذَا كَانَ فِي الْمَعَادِ أُقِيمَ مَقَامًا مِنَ الْقُرْبِ ثَانِيًا، يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَاسْتَقَامَ هُنَاكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مِنْ كَمَالِ أَدَبِهِ مَعَ اللَّهِ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ عَنْهُ وَمَا طَغَى. فَأَقَامَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى أَقْوَمَ صِرَاطٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى. وَأَقْسَمَ بِكَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يس – وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ – إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ – عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1 – 4] فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ أَقَامَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَسْأَلُهُ السَّلَامَةَ لِأَتْبَاعِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ، حَتَّى يَجُوزُوهُ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

    وَالْأَدَبُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ. فَإِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنَ الْأَدَبِ. وَالْوُضُوءَ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ مِنَ الْأَدَبِ. وَالتَّطَهُّرَ مِنَ الْخُبْثِ مِنَ الْأَدَبِ. حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ طَاهِرًا. وَلِهَذَا كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَجَمَّلَ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ. لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ.
    وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ – رَحِمَهُ اللَّهُ – يَقُولُ: أَمَرَ اللَّهُ بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ أَخْذُ الزِّينَةِ. فَقَالَ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ، لَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، إِيذَانًا بِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ: أَنْ يَلْبَسَ أَزْيَنَ ثِيَابِهِ، وَأَجْمَلَهَا فِي الصَّلَاةِ.
    وَكَانَ لِبَعْضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بِمَبْلَغٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ. وَكَانَ يَلْبَسُهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ. وَيَقُولُ: رَبِّي أَحَقُّ مَنْ تَجَمَّلْتُ لَهُ فِي صَلَاتِي.
    وَمَعْلُومٌ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. لَاسِيَّمَا إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأَحْسَنُ مَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَلَابِسِهِ وَنِعْمَتِهِ الَّتِي أَلْبَسَهُ إِيَّاهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
    وَمِنَ الْأَدَبِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ: «أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ» . فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ – قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ – يَقُولُ: هَذَا مِنْ كَمَالِ أَدَبِ الصَّلَاةِ: أَنْ يَقِفَ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مُطْرِقًا، خَافِضًا طَرْفَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَلَا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى فَوْقٍ. قَالَ: وَالْجَهْمِيَّةُ – لَمَّا لَمْ يَفْقَهُوا هَذَا الْأَدَبَ، وَلَا عَرَفُوهُ – ظَنُّوا أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ. كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ: وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ. بَلْ هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ عَقَلَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ; إِذْ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ الْمُلُوكِ: أَنَّ الْوَاقِفَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَطْرُقُ إِلَى الْأَرْضِ. وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَيْهِمْ. فَمَا الظَّنُّ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ سُبْحَانَهُ؟
    وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ – فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ – إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَشْرَفُ الْكَلَامِ. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَحَالَتَا الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَالَتَا ذُلٍّ وَانْخِفَاضٍ مِنَ الْعَبْدِ. فَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ كَلَامِ اللَّهِ: أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَيَكُونَ حَالُ الْقِيَامِ وَالِانْتِصَابِ أَوْلَى بِهِ.
    وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ: أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ وَلَا يَسْتَدْبِرَهُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ وَسَلْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ هَذَا الْأَدَبَ: يَعُمُّ الْفَضَاءَ وَالْبُنْيَانَ. كَمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
    وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ، فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ: وَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى حَالَ قِيَامِ الْقِرَاءَةِ، فَفِي الْمُوَطَّأِ لِمَالِكٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ بِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ أَدَبِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ. فَعَظِيمُ الْعُظَمَاءِ أَحَقُّ بِهِ.
    وَمِنْهَا: السُّكُونُ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ الدَّوَامُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ أَخْبَرَهُ قَالَ: سَأَلْنَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] أَهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ دَائِمًا؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنَّهُ إِذَا صَلَّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ شِمَالِهِ وَلَا خَلْفَهُ. قُلْتُ: هُمَا أَمْرَانِ. الدَّوَامُ عَلَيْهَا. وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا. فَهَذَا الدَّوَامُ. وَالْمُدَاوَمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] وَفُسِّرَ الدَّوَامُ بِسُكُونِ الْأَطْرَافِ وَالطُّمَأْنِينَةِ.
    وَأَدَبِهِ فِي اسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ: أَنْ يُلْقِيَ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
    وَأَدَبُهُ فِي الرُّكُوعِ: أَنْ يَسْتَوِيَ. وَيُعَظِّمَ اللَّهَ تَعَالَى، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَيَتَضَاءَلَ وَيَتَصَاغَرَ فِي نَفْسِهِ. حَتَّى يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْهَبَاءِ.
    وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هُوَ الْقِيَامُ بِدِينِهِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

    • وَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَحَدٍ قَطُّ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
    – مَعْرِفَتُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
    – وَمَعْرِفَتُهُ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَمَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَه
    – وَنَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ لَيِّنَةٌ، مُتَهَيِّئَةٌ لِقَبُولِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا وَحَالًا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

    وَأَمَّا الْأَدَبُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِهِ. فَرَأَسُ الْأَدَبِ مَعَهُ: كَمَالُ التَّسْلِيمِ لَهُ، وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ. وَتَلَقِّي خَبَرِهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، دُونَ أَنْ يُحَمِّلَهُ مُعَارَضَةَ خَيَالٍ بَاطِلٍ، يُسَمِّيهِ مَعْقُولًا. أَوْ يُحَمِّلَهُ شُبْهَةً أَوْ شَكًّا، أَوْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ، وَزُبَالَاتِ أَذْهَانِهِمْ، فَيُوَحِّدُهُ بِالتَّحْكِيمِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ. كَمَا وَحَّدَ الْمُرْسِلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ.
    فَهُمَا تَوْحِيدَانِ. لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا بِهِمَا: تَوْحِيدُ الْمُرْسِلِ. وَتَوْحِيدُ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ. فَلَا يُحَاكِمُ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ. وَلَا يَقِفُ تَنْفِيذُ أَمْرِهِ. وَتَصْدِيقُ خَبَرِهِ. عَلَى عَرْضِهِ عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ وَإِمَامِهِ، وَذَوِي مَذْهَبِهِ وَطَائِفَتِهِ، وَمَنْ يُعَظِّمُهُ. فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ نَفَّذَهُ وَقَبِلَ خَبَرَهُ، وَإِلَّا فَإِنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ: أَعْرَضَ عَنْ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ وَفَوَّضَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلَّا حَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَسَمَّى تَحْرِيفَهُ: تَأْوِيلًا، وَحَمْلًا. فَقَالَ: نُؤَوِّلُهُ وَنَحْمِلُهُ. فَلَأَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ بِكُلِّ ذَنْبٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ – مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ – خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَذِهِ الْحَالِ.
    وَلَقَدْ خَاطَبْتُ يَوْمًا بَعْضَ أَكَابِرِ هَؤُلَاءِ. فَقُلْتُ لَهُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ. لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا. وَقَدْ وَاجَهَنَا بِكَلَامِهِ وَبِخِطَابِهِ. أَكَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَتْبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ وَكَلَامِهِ وَمَذْهَبِهِ، أَمْ لَا نَتْبَعَهُ حَتَّى نَعْرِضَ مَا سَمِعْنَاهُ مِنْهُ عَلَى آرَاءِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ؟
    فَقَالَ: بَلْ كَانَ الْفَرْضُ الْمُبَادَرَةَ إِلَى الِامْتِثَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى سِوَاهُ. فَقُلْتُ: فَمَا الَّذِي نَسَخَ هَذَا الْفَرْضَ عَنَّا؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ نُسِخَ؟ فَوَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلَى فِيهِ. وَبَقِيَ بَاهِتًا مُتَحَيِّرًا. وَمَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ.
    هَذَا أَدَبُ الْخَوَاصِّ مَعَهُ. لَا مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ. وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ، وَإِزْعَاجِ الْأَعْضَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ. وَعَزْلِ كَلَامِهِ عَنِ الْيَقِينِ. وَأَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، أَوْ يُتَلَقَّى مِنْهُ أَحْكَامُهُ. بَلِ الْمُعَوَّلُ فِي بَابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَلَى الْعُقُولِ الْمُتَهَوِّكَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ. وَفِي الْأَحْكَامِ: عَلَى تَقْلِيدِ الرِّجَالِ وَآرَائِهَا. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إِنَّمَا نَقْرَؤُهُمَا تَبَرُّكًا، لَا أَنَّا نَتَلَقَّى مِنْهُمَا أُصُولَ الدِّينِ وَلَا فُرُوعَهُ. وَمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ وَرَامَهُ عَادَيْنَاهُ وَسَعَيْنَا فِي قَطْعِ دَابِرِهِ. وَاسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِ {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ – حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ – لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ – قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ – مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ – أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ – أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ – أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ – وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ – أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ – وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ – وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 63 – 74] .
    وَالنَّاصِحُ لِنَفْسِهِ. الْعَامِلُ عَلَى نَجَاتِهَا: يَتَدَبَّرُ هَذِهِ الْآيَاتَ حَقَّ تَدَبُّرِهَا. وَيَتَأَمَّلُهَا حَقَّ تَأَمُّلِهَا. وَيُنْزِلُهَا عَلَى الْوَاقِعِ: فَيَرَى الْعَجَبَ. وَلَا يَظُنُّهَا اخْتَصَّتْ بِقَوْمٍ كَانُوا فَبَانُوا. فَالْحَدِيثُ لَكِ. وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
    وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا إِذَنٍ وَلَا تَصَرُّفٍ. حَتَّى يَأْمُرَ هُوَ، وَيَنْهَى وَيَأْذَنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وَهَذَا بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُنْسَخْ. فَالتَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْ سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَالتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَيَّاتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ.
    قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا تُقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ. أَيْ لَا تُعَجِّلُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ.
    وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تَأْمُرُوا حَتَّى يَأْمُرَ. وَلَا تَنْهُوا حَتَّى يَنْهَى.
    وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا تُرْفَعَ الْأَصْوَاتُ فَوْقَ صَوْتِهِ. فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحُبُوطِ الْأَعْمَالِ فَمَا الظَّنُّ بِرَفْعِ الْآرَاءِ، وَنَتَائِجِ الْأَفْكَارِ عَلَى سُنَّتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ؟ أَتُرَى ذَلِكَ مُوجِبًا لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ مُوجِبٌ لِحُبُوطِهَا؟
    وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا يَجْعَلَ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] . وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ.
    – أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ، كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بَلْ قُولُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ دُعَاءَكُمُ الرَّسُولَ.
    – الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَهُ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ دُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. إِنْ شَاءَ أَجَابَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، بَلْ إِذَا دَعَاكُمْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ بُدٌّ مِنْ إِجَابَتِهِ، وَلَمْ يَسَعْكُمُ التَّخَلُّفُ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ. فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ. أَيْ دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ.
    وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ – مِنْ خُطْبَةٍ، أَوْ جِهَادٍ، أَوْ رِبَاطٍ – لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَذْهَبًا فِي حَاجَتِهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَذْهَبًا مُقَيَّدًا بِحَاجَةٍ عَارِضَةٍ، وَلَمْ يُوَسِّعْ لَهُمْ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَكَيْفَ بِمَذْهَبٍ مُطْلَقٍ فِي تَفَاصِيلِ الدِّينِ: أُصُولِهِ، وَفُرُوعِهِ، دَقِيقِهِ، وَجَلِيلِهِ؟ هَلْ يُشْرَعُ الذَّهَابُ إِلَيْهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .
    وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا يُسْتَشْكَلَ قَوْلُهُ، بَلْ تُسْتَشْكَلُ الْآرَاءُ لِقَوْلِهِ: وَلَا يُعَارَضُ نَصُّهُ بِقِيَاسٍ بَلْ تُهْدَرُ الْأَقْيِسَةُ وَتُلْقَى لِنُصُوصِهِ. وَلَا يُحَرَّفُ كَلَامُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِخَيَالٍ يُسَمِّيهِ أَصْحَابُهُ مَعْقُولًا، نَعَمْ هُوَ مَجْهُولٌ، وَعَنِ الصَّوَابِ مَعْزُولٌ، وَلَا يُوقَفُ قَبُولُ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُوَافَقَةِ أَحَدٍ، فَكُلُّ هَذَا مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ عَيْنُ الْجُرْأَةِ.
    • وَأَمَّا الْأَدَبُ مَعَ الْخَلْقِ: فَهُوَ مُعَامَلَتُهُمْ – عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ – بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ. فَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ أَدَبٌ. وَالْمَرَاتِبُ فِيهَا أَدَبٌ خَاصٌّ. فَمَعَ الْوَالِدَيْنِ: أَدَبٌ خَاصٌّ وَلِلْأَبِ مِنْهُمَا: أَدَّبٌ هُوَ أَخُصُّ بِهِ، وَمَعَ الْعَالِمِ: أَدَبٌ آخَرُ، وَمَعَ السُّلْطَانِ: أَدَبٌ يَلِيقُ بِهِ، وَلَهُ مَعَ الْأَقْرَانِ أَدَبٌ يَلِيقُ بِهِمْ. وَمَعَ الْأَجَانِبِ: أَدَبٌ غَيْرُ أَدَبِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَذَوِي أُنْسِهِ. وَمَعَ الضَّيْفِ: أَدَبٌ غَيْرُ أَدَبِهِ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ.
    • وَلِكُلِّ حَالٍ أَدَبٌ: فَلِلْأَكْلِ آدَابٌ. وَلِلشُّرْبِ آدَابٌ. وَلِلرُّكُوبِ وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَالنَّوْمِ آدَابٌ. وَلِلْبَوْلِ آدَابٌ. وَلِلْكَلَامِ آدَابٌ. وَلِلسُّكُوتِ وَالِاسْتِمَاعِ آدَابٌ.
    – وَأَدَبُ الْمَرْءِ: عُنْوَانُ سَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ. وَقِلَّةُ أَدَبِهِ: عُنْوَانُ شَقَاوَتِهِ وَبَوَارِهِ.
    – فَمَا اسْتُجْلِبَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمِثْلِ الْأَدَبِ، وَلَا اسْتُجْلِبَ حِرْمَانُهُمَا بِمِثْلِ قِلَّةِ الْأَدَبِ.
    – فَانْظُرْ إِلَى الْأَدَبِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: كَيْفَ نَجَّى صَاحِبَهُ مِنْ حَبْسِ الْغَارِ حِينَ أَطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ؟ وَالْإِخْلَالُ بِهِ مَعَ الْأُمِّ – تَأْوِيلًا وَإِقْبَالًا عَلَى الصَّلَاةِ – كَيْفَ امْتُحِنَ صَاحِبُهُ بِهَدْمِ صَوْمَعَتِهِ وَضَرْبِ النَّاسِ لَهُ، وَرَمْيِهِ بِالْفَاحِشَةِ؟
    وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ كُلِّ شَقِيٍّ وَمُغْتَرٍّ وَمُدْبِرٍ: كَيْفَ تَجِدُ قِلَّةَ الْأَدَبِ هِيَ الَّتِي سَاقَتْهُ إِلَى الْحِرْمَانِ؟
    وَانْظُرْ قِلَّةَ أَدَبِ عَوْفٍ مَعَ خَالِدٍ: كَيْفَ حَرَمَهُ السَّلْبَ بَعْدَ أَنْ بَرَدَ بِيَدَيْهِ؟
    وَانْظُرْ أَدَبَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ: أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَيْفَ أَوْرَثَهُ مَقَامَهُ وَالْإِمَامَةَ بِالْأُمَّةِ بَعْدَهُ؟ فَكَانَ ذَلِكَ التَّأَخُّرُ إِلَى خَلْفِهِ – وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنِ اثْبُتْ مَكَانَكَ – جَمْزًا، وَسَعْيًا إِلَى قُدَّامَ؟ بِكُلِّ خُطْوَةٍ إِلَى وَرَاءَ مَرَاحِلُ إِلَى قُدَّامَ. تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ ” انتهى

    الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى
    [ مدارج السالكين ( 2 / من صفحة 355 ) ببعض التصرف ]
    قال أبو الدرداء -رضي الله عنه - : إني لآمركم بالأمر و ما أفعله ، ولكن لعلّ الله يأجرني فيه .
    سير أعلام النبلاء4/19.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2011
    المشاركات
    217

    افتراضي رد: ابن القيم : الأدب هو الدين كله

    بارك الله فيك على التذكير
    و زادك الله حرصا
    و يا ريت نضع يوميا مواضيع للاخلاق الحميدة لاننا في مسؤولية المنهج السلفي
    و كل فرق ضالة تنظر الينا باعواجنا يوميا
    فحبذا لو نتعاون على الامر

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    الدولة
    الجزائر
    المشاركات
    6,499

    افتراضي رد: ابن القيم : الأدب هو الدين كله

    وقال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« الأخلاق العالية من الصِّدق والبرِّ والإحسان والتقوى و الصَّبر والحلم، والسماحة في الأخلاق وفي البيع والشراء وفي كلِّ شأنٍ من الشئون، هذه أمور عظيمةٌ جدًّا لها آثارٌ بعيدة المدى في حياة المسلمين فلا نتساهل فيها، و لنلتزمها كما نلتزم سائر ديننا، و كثيرٌ من النَّاس يتهاون في شأن الأخلاق والعياذ بالله »[اللباب من مجموع نصائح الشيخ ربيع للشباب (ص288) ]

    هذه ملفات رفعتها على موقع نور اليقين
    حمل من هنا


    http://www.up.noor-alyaqeen.com/ucp.php?go=fileuser



  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    الدولة
    الجزائر
    المشاركات
    6,499

    افتراضي رد: ابن القيم : الأدب هو الدين كله

    جزاكم الله ونفع بكم
    قال العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله فيما نقَله عنه جماعة من طلابه:« إنَّ دعوتنا بفضل الله جاوزت القنطرة،وقد يئِس منها أعداؤها لكن الخوف على هذه الدعوة من أهلها »، وكان يقول رحمه الله:« والله لا نخاف على دعوتنا إلَّا من أنفسنا »

    هذه ملفات رفعتها على موقع نور اليقين
    حمل من هنا


    http://www.up.noor-alyaqeen.com/ucp.php?go=fileuser



معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. شرح أبواب من الأدب المفرد للشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى مكتبة الأمين العلمية الــشـاملة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 19-Apr-2022, 08:45 PM
  2. التنبيه على أن تشييع الميت بالسيارة بدعة..[الشيخ العلامة :: - محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله]
    بواسطة أبو خالد الوليد خالد الصبحي في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-Jun-2015, 02:50 PM
  3. [صوتيا] خطبتان عن كُرة القدم لفضيلة الشيخ عز الدين رمضاني الجزائري
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 01-Dec-2014, 09:05 AM
  4. كلام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني-رحمه الله- في من يتولى إنزال الميت للقبر..
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-Oct-2014, 11:46 AM
  5. فإذا صلحت النية فأبشر بالخير لأن من خدم الدين خدمته الدنيا بأمر الله عز وجل ومن خدم الدنيا استخدمته وأذلته
    بواسطة أبو خالد الوليد خالد الصبحي في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-Jan-2014, 09:21 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •