بسم الله الرحمن الرحيم


و هنا ينبغي تحديد المفهوم الصحيح لمن يطلق عليه لفظ العالم ، و هذا من الأهمية بمكان ، إذ بسبب عدم الإدراك من الكثيرين تخلل صفوف العلماء من ليس منهم ، فوقعت الفوضى العلمية التي نتجرع الآن مرارتها ، فأصبح الكثير من الناس عامة و طلبة العلم خاصة يظن أن كل من ألف كتابا ، أو أخرج مخطوطة أو خطب أو ألقى محاضرة ، هو العالم .
إن من يستحق أن يطلق عليه اسم العالم في هذا الزمن هم قليل ، و أقل من القليل ، بل قليل جدا و ذلك لأن للعالم صفات ، قد لا ينطبق كثير منها على كثير ممن ينتسب إلى العلم اليوم ، وليس العالم من كان فصيحا بليغا في خطبه ومحاضراته ونحو ذلك ، وليس العالم من ألف كتابا ، أو حقق مؤلفا أو مخطوطة و أخرجها .
إن وزن العالم بهذه الأمور فحسب هو المترسب وللأسف في أذهان كثير من الشباب و العامة .
يقول الحافظ بن رجب الحنبلي رحمه الله في ذلك :
( وقد أبتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم ، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه و مقاله ) .
ويقول : ( وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا ، وظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك ) .
قلت : هذا في زمن ابن رجب رحمه الله ، فكيف لو اطلع على متعالمة زماننا الذين يملئون الأشرطة و الكتب بكلامهم ، فيغتر الناس بهم لكثرة ما يصدرون من أشرطة كل أسبوع ، ويخرجون الكتب كل شهر ، فيظنونهم هم العلماء .
و يقول ابن رجب رحمه الله أيضا : ( فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطه للقول و كلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك ) . انتهى من كتابه '' بيان فضل علم السلف على علم الخلف '' (ص38 ـ 40) .
ومما ينبغي أن يميز به من يطلق عليه لفظ '' عالم '' في هذا الزمن كبر السن ، و أن يكون أخذ العلم من الكبار شرطا في تلقي العلم ، وفي هذا الزمن بخاصة ، لأن الكبير يكون أغزر علما ، وأكمل عقلا ، وأبعد من غلبة الهوى ، وغير ذلك .
وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه : ( لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم ، وعن أمنائهم و علمائهم ، فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا ) .
وروى الخطيب البغدادي رحمه الله بسنده في كتابه : '' نصيحة أهل الحديث'' عن ابن قتيبة رحمه الله أنه سئل عن معنى هذا الأثر فأجاب : ( يريد : لايزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ، ولم يكن علماؤهم الأحداث ) . ويعلل هذا التفسير فيقول : ( لأن الشيخ زالت عنه متعة الشباب ، وحدته وعجلته وسفهه واستصحب التجربة و الخبرة ، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة ، ولا يغلب عليه الهوى ، ولا يميل به الطمع ، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدث ، ومع السن الجلالة والوقار والهيبة ، والحدث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ ، فإذا دخلت عليه و أفتى هلك و أهلك ) (ص7) .
وقد عقد ابن عبد البر في كتابه :'' جامع بيان العلم وفضله'' بابا بعنوان : ''من يستحق أن يسمى فقيها أو عالما حقيقة لا مجازا ، ومن يجوز له الفتيا عند العلماء ؟'' . فليراجعه طالب العلم والحق ، فإنه مهم ، والله أعلم .


المصدر :
حاشية كتاب الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة للشيخ الفوزان حفظه الله و تعليق الشيخ جمال بن فريحان الحارثي حفظه الله (ص130)