قلت ( أبوأنس ) معلقا
بارك الله فيكم على هذه الدرر والنفائس الغالية النفيسة التي نحن أحوج ما نحتاج إليها خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة التي إنتشر فيها العلم وملأ الدنيا بمقدور احدنا ان يجمع كتابا في ساعات بعدما كان سلفنا يفني عمره في جمعه ولكنهم سبقونا بالعمل وتأخرنا عنهم ، كان همهم العمل بما تعلموا كانت أجسادهم في الدنيا ولكن قلوبهم معلقة بالأخرة وما ينتظرهم في القبر والله المستعان
ومما جاء في جامع العلوم والحكم ص (390 ) للإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
كان عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - يقول : (إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً ، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً ، ولكُلٍّ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل ) .
قال بعضُ الحكماء : (عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه ، والآخرة مقبلةٌ إليه يشغتلُ بالمدبرة ، ويُعرِض عن المقبلة ) .
وقال عُمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته :( إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب على أهلها منها الظَّعَن ، فكم من عامرٍ موثَّق عن قليلٍ يَخْرَبُ ، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَنُ ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِن النقلة ، وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى) .
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطناً ، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين : إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه ، أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة ، بل هو ليله ونهارَه ، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة ، فلهذا وصّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين
فأحدهما : أنْ ينْزِل المؤمن نفسه كأنَّه غريبٌ في الدنيا يتخيَّلُ الإقامةَ ، لكن في بلد غُربةٍ ، فهوَ غيرُ متعلِّقِ القلب ببلد الغربة ، بل قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يَرجِعُ إليه ، وإنّما هو مقيمٌ في الدنيا ليقضي مَرَمَّةَ جهازه إلى الرجوع إلى وطنه ، قال الفضيلُ بن عياض : (المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزين ، همُّه مَرَمَّةُ جهازه ) .
ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا همَّ له إلا في التزوُّد بما ينفعُه عندَ عودِه إلى وطنه ، فلا يُنافِسُ أهلَ البلدِ الذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم ، ولا يَجْزَعُ من الذلِّ عندهم ،
قال الحسن : (المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يجزع من ذُلها ، ولا يُنافِسُ في عِزِّها ، له شأنٌ ، وللناس شأن ) .
لما خُلِق آدم أُسكِنَ هو وزوجتُه الجنّة ، ثم أُهبطا منها ، ووعُدا الرجوع إليها ، وصالح ذرِّيَّتهما ، فالمؤمن أبداً يَحِنُّ إلى وطنه الأوَّل ،
وكما قيل :
كمْ مَنْزِلٍ للمَرءِ يَألفُهُ الفتى .......وحنينُه أبداً لأوَّل مَنْزِل
ولبعض شيوخنا :
فحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها ....... منازِلُكَ الأولى وفيها المُخَيَّم
ولكنَّنا سَبيُ العدوِّ فَهلْ تَرَى ........نَعودُ إلى أوطاننا ونُسلِّمُ
وقَدْ زَعَموا أنَّ الغَريبَ إذا نَأى ........وشَطَّتْ به أوطانُه فهو مُغرَمُ
وأيُّ اغْترابٍ فوق غُربتنا التي .........لها أضحَت الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
.............. قيل لمحمد بن واسع : (كيف أصبحتَ ؟ قال : ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة )
وقال الحسن : (إنَّما أنت أيامٌ مجموعة ، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك ) .
وقال : (ابنَ آدم إنَّما أنت بين مطيتين يُوضعانِكَ ، يُوضِعُك النهار إلى الليل ، والليل إلى النهار ، حتى يُسلِمَانِك إلى الآخرة ، فمن أعظم منك يا ابنَ آدم خطراً ) ،
وقال : (الموتُ معقود في نواصيكم والدنيا تُطوى مِن ورائكم .)
قال داود الطائي : (إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زاداً لِما بَينَ يديها ، فافعل ، فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجلُ من ذلك ، فتزوَّد لسفرك ، واقض ما أنتَ قاضٍ من أمرك ، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك ) .
وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له : ( يا أخي يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم ، بل أنتَ دائبُ السَّيرِ ، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً ، الموت موجَّهٌ إليك ، والدنيا تُطوى من ورائك ، وما مضى من عمرك ، فليس بكارٍّ عليك حتى يَكُرَّ عليك يوم التغابن .
سبيلُكَ في الدُّنيا سبِيلُ مُسافرٍ ......ولابُدَّ من زادٍ لكلِّ مسافِر
ولابدَّ للإنسان من حملِ عُدَّةٍ .........ولاسيما إنْ خافَ صولَة قاهِر
قال بعضُ الحكماء :( كيف يفرحُ بالدنيا من يومُه يَهدِمُ شهرَه ، وشهرُه يهدِمُ سنَتَه ، وسنته تَهدِمُ عُمُرَه ، وكيف يفرح من يقوده عمرُه إلى أجله ، وتقودُه حياتُه إلى موته .)
وقال الفضيلُ بنُ عياض لرجلٍ : (كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة ، قال فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك يُوشِكُ أنْ تَبلُغَ ، فقال الرجل : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فقال الفضيلُ : أتعرف تفسيرَه تقول : أنا لله عبد وإليه راجع ، فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد ، وأنَّه إليه راجع ، فليعلم أنَّه موقوفٌ ، ومن علم أنَّه موقوف ، فليعلم أنَّه مسؤول ، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً ، فقال الرجل : فما الحيلةُ ؟ قال : يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي ، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي ) ، وفي هذا يقول بعضُهم :
وإنَّ امرءاً قد سارَ سِتِّينَ حِجَّةٍ .......إلى مَنهَلٍ من وِرده لقَريبُ
قال بعضُ الحكماء : (من كانت الليالي والأيام مطاياه ، سارت به وإنْ لم يسر )
وفي هذا قال بعضهم :
وما هذه الأيامُ إلاَّ مراحِلُ ...............يحثُّ بها داعٍ إلى الموتِ قاصدُ
وأعجَبُ شَيءٍ - لو تأمَّلت - أنَّها ....مَنازِلُ تُطوى والمُسافِرُ قَاعِدُ
وقال آخر :
أيا ويحَ نفسي من نهارٍ يقودُها ........إلى عسكر الموتى ولَيلٍ يذودُها
قال الحسن :( لم يزل الليلُ والنهار سريعين في نقص الأعمار ، وتقريبِ الآجال ، هيهات قد صحبا نوحاً وعاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراً ، فأصبحوا قَدِموا على ربِّهم ، ووردوا على أعمالهم ، وأصبح اللَّيلُ والنَّهارُ غضَّيْنِ جديدين ، لم يُبلِهُما ما مرَّا به ، مستعدِّين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى .)
وكتب الأوزاعيُّ إلى أخٍ له :( أما بعد ، فقد أُحيطَ بك من كلّ جانب ، واعلم أنَّه يُسارُ بك في كلِّ يومٍ وليلةٍ ، فاحذرِ الله ، والمقام بين يديه ، وأنْ يكونَ آخر عهدك به ، والسَّلام ) .
نَسيرُ إلى الآجالِ في كلِّ لحظةٍ .............وأيّامُنا تُطوى وهُنَّ مَراحِلُ
ولم أرَ مثلَ الموتِ حقاً كأنَّه ...............إذا ما تخطَّتْهٌ الأمانيُّ باطِلُ
وما أقبحَ التَّفريطَ في زمنِ الصِّبا .........فكيف به والشَّيبُ للرَّأس شامِلُ
ترحَّل من الدُّنيا بزادٍ من التُّقى .............فعُمْرُكَ أيامٌ وهُنَّ قَلائِلُ


منقول من شبكة سحاب