آثار محبة الله ونتائجها في الدنيا والآخرة ومغبة محبة غيره سبحانه وتعالى والتعلق بذلك:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي:
وقد استقرت حكمة الله به عدلا وفضلا أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنا أنه يبدل سيئاته حسنات، وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب، وقد قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم" فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ولكن هذا في حق التائبين خاصة وأما مفعول به كان في كبره شرا مما كان في صغره لم يوفق لتوبة نصوح ولا لعمل صالح ولا استدرك ما فات ولا أحيى ما مات ولا بدل السيئات بالحسنات، فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل الجنة، عقوبة له على عمله، فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب على السيئة بسيئة أخرى وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى فتضاعف الحسنات، وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبة لهم على الأعمال السيئة، قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله: واعلم أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابا، ولها طرق وأبواب أعظمها الإنكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها والإعراض عن الأخرى والإقدام والجرأة على معاصي الله عز و جل وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه وسبي عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجعت فيه موعظة فربما جاءه الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد وإن كرر عليه الداعي وأعاد، قال: ويروى أن بعض رجال الناصر نزل به الموت، فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلا الله فقال: الناصر مولاي فأعاد عليه القول فقال مثل ذلك أصابته غشية، فلما أفاق قال: الناصر مولاي، وكان هذا دأبه كلما له قيل لا إله إلا الله، قال الناصر مولاي ثم قال لابنه: يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك والقتل القتل ثم مات على ذلك.
قال عبد الحق رحمه الله: وقيل لآخر ممن أعرفه قل لا إله إلا الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا وقال: وفيما أذن أبو طاهر السلعي أن أحدث به عنه أن رجلا نزل به الموت فقيل له قل لا إله إلا الله فجعل يقول بالفارسية ده يازده، تفسيره عشر بإحدى عشر، وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب، قال: وهذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام، فمرت به جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب، فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار ودخل وراءها، فلما رأت نفسها فى داره، وعلمت أنه قد خدعها أظهرت له البشر والفرح بإحتماعها معه، وقالت خدعة منها له وتحيلا لتتخلص مما أوقعها فيه وخوفا من فعل الفاحشة: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح، ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت ولم تخنه في شيء، فهام الرجل وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول:
يارب قائلة يوما وقد تعبت ... أين الطريق إلى حمام منجاب.
فبينا يقول ذلك وإذا بجاريته أجابته من طاق قرنان:
هل لا جعلت سريعا إذ ظفرت بها ... حرزا على الدار أو قفلا على الباب.
فازداد هيمانه واشتد هيجانه، ولم يزل كذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا.
قال: ويرى أن رجلا عشق شخصا فاشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه حتى وقع ألما به ولزم الفراش بسببه وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده أن يعوده، فأخبر بذلك البائس، ففرح واشتد سروره وانجلى غمه وجعل ينتظر للميعاد الذي ضربه له، فبينا هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما، فقال أنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع فرغبت إليه وكلمته فقال: إنه ذكرني وبرح بي ولا أدخل مداخل الريب ولا أعرض نفسي لمواقع التهم، فعاودته فأبى وانصرف، فلما سمع البائس ذلك أسقط في يده وعاد إلى أشد مما كان به وبدت عليه علائم الموت فجعل يقول فى تلك الحال :
أسلم ياراحة العليل ... ويا شفاء المدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادى ... من رحمة الخالق الجليل
فقلت له: يافلان اتق الله، قال: قد كان، فقمت عنه، فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت، فعياذا بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة .
ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فلما أصبح، قيل له: أكل هذا خوفا من الذنوب؟، فأخذ تبنة من الأرض، وقال الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكى خوفا من الخاتمة.
وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى، وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه لما احتضر جعل يغمى عليه ثم يفيق ويقرأ "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون"
فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.
قال: واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد وإنما تكون لمن فيه فساد فى العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطلم قبل الإنابة فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله.
قال: ويروى أنه كان بمصر رجل يلزم المسجد للأذان والصلاة فيه، وعليه بهاء الطاعة ونور العبادة، فرقى يوماً المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار عليها! فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ قال: أريدك!! قالت: لماذا؟ قال: قد سلبت لبي وأخذت بمجامع قلبي! قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبداً. قال: أتزوجك، قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك! قال: أتنصر!! قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلم يظفر بها وفاته دينه..!"اهـ
هذا نتيجة التعلق بغير الله، واتباع أهواء النفس المردية التي تؤدي إلى الهلاك والعطب.
ثم قال رحمه الله: اشتغال القلب بما يصده عن ذلك ويحول بينه وبين الوقوع فيه وهو إما خوف مقلق أو حب مزعج، فمتى خلا القلب من خوف ما فواته أضر عليه من حصول هذا المحبوب أو خوف ما حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب أو محبته ما هو أنفع له وخير له من هذا المحبوب لم يجد بدا من عشق الصور، وشرح هذا أن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب أعلى منه، أو خشية مكروه حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب، وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين إن فقدا أو واحدا منهما لم ينتفع بنفسه، أحدهما: بصيرة صحيحة يفرق بها بين درجات المحبوب والمكروه، فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما، ويحتمل أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما، وهذا خاصة العقل، ولا يعد عاقلا من كان بضد ذلك، بل قد تكون البهائم أحسن حالا منه.
الثاني: قوة عزم وصبر يتمكن بهما من هذا الفعل والترك، فكثير ما يعرف الرجل قدر التفاوت، ولكن يأتي له ضعف نفسه وهمته وعزيمته على إيثار الأنفع من خسته وحرصه ووضاعة نفسه وخسة همته، ومثل هذا لا ينتفع بنفسه ولا ينتفع به غيره، وقد منع الله سبحانه إمامة الدين إلا من أهل الصبر واليقين، فقال تعالى وبقوله يهتدي المهتدون "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" وهذا هو الذي ينتفع بعلمه وينتفع به غيره من الناس، وضد ذلك لا ينتفع بعلمه ولا ينتفع به غيره، ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه ولا ينتفع به غيره، فالأول يمشي في نوره ويمشي الناس في نوره، والثاني قد طفأ نوره فهو يمشي في الظلمات ومن تبعه، والثالث يمشي في نوره وحده. من كانت قوة حبه كلها للمحبوب الأعلى الذي محبة ما سواه باطلة وعذاب على صاحبها صرفه ذلك عن محبة ما سواه وإن أحبه لن يحبه إلا لأجله، أو لكونه وسيلة له إلى محبته، أو قاطعا له عما يضاد محبته وينقصها.
والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته، وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يشرك في محبته غيره ويمقته لذلك ويبعده ولا يحظيه بقربه ويعده كاذبا في دعوى محبته مع أنه ليس أهلا لصرف قوة المحبة إليه، فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تنبغي المحبة إلا له وحده، وكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبالا، ولهذا لا يغفر سبحانه أن يشرك به في هذه المحبة ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فمحبة الصور تفوت محبة ما هو أنفع للعبد منها، بل يفوت محبة ما ليس له صلاح ولا نعيم ولا حياة نافعة إلا بمحبته وحده فليختر إحدى المحبتين، فإنهما لا يجتمعان في القلب ولا يرتفعان منه، بل من أعرض عن محبة الله وذكره والشوق إلى لقائه ابتلاه بمحبة غيره فيعذب به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، إما بمحبة الأوثان أو محبته الصلبان أو بمحبة النيران أو بمحبة المردان أو بمحبة النسوان أو بمحبة الأثمان أو بمحبة العشراء والخلان أو بمحبة ما هو دون ذلك مما هو في غاية الحقارة والهوان، فالانسان عبد محبوبه كائنا من كان، كما قيل:
أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
فمن لم يكن إلهه مالكه ومولاه، كان إلهه هواه، قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إله هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون."
فصل:
وخاصية التعبد الحب مع الخضوع والذل للمحبوب فمن أحب شيئا وخضع له فقد تعبد قلبه له بل التعبد آخر مراتب الحب ويقال له التتيم أيضا، فإن أول مراتبه العلاقة، وسميت علاقة لتعلق الحب بالمحبوب، قال الشاعر:
وعلقت ليلى وهي ذات تمائم ... ولم يبد للأتراب من ثديها ضخم
وقال الآخر:
أعلاقة أم الوليد بعد ما ... أفنان رأسك كالبغام الأبيض.
ثم بعدها الصبابة، وسميت بذلك لانصباب القلب إلى المحبوب، قال الشاعر
يشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي.
ثم الغرام وهو لزوم الحب للقلب لزوما لا ينفك عنه، ومنه سمى الغريم غريما، لملازمته صاحبه، ومنه قوله تعالى: إن عذابها كان غراما" وقد أولع المتأخرون باستعمال هذا اللفظ في الحب وقل أن تجده في أشعار العرب، ثم العشق وهو سفر إفراط المحبة، ولهذا لا يوصف به الرب تبارك وتعالى ولا يطلق في حقه، ثم الشوق وهو سفر القلب إلى المحبوب ، وقد جاء إطلاقها في حق الرب تعالى، كما في مسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة، فأوجز فيها، فقيل له في ذلك، فقال: أما إني دعوت فيها بدعوات كان النبي يدعو بهن: اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضاء والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفذ، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين" وفي أثر آخر: طال شوق الأبرار إلى وجهك وأنا إلى لقائهم أشد شوقا، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه بقوله: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وقال بعض أهل البصائر في قوله تعالى" من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لآت" لما علم سبحانه شدة شوق أوليائه إلى لقائه وأن قلوبهم لا تهدي دون لقائه ضرب لهم أجلا موعدا للقائه تسكن نفوسهم به، وأطيب العيش واللذة على الإطلاق عيش المشتاقين المستأنسين، فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها، فهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" وليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار والإبرار والفجار من طيب المأكل والمشرب والملبس والمنكح، بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافا مضاعفة، وقد ضمن الله سبحانه لكل من عمل صالحا أن يحييه حياة طيبة، فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده، وأي حياة أطيب من حياة اجتمعت همومه كلها وصارت هي واحدة في مرضات الله ولم يستشعب قلبه، بل أقبل على الله واجتمعت إرادته وإنكاره التي كانت منقسمة، بكل واد منها شعبة على الله، فصار ذكر محبوبه الأعلى وحبه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه وهو المتولي عليه وعليه تدور همومه وإرادته وتصوره، بل خطرات قلبه، فإن سكت سكت بالله، وإن نطق نطق بالله وإن سمع فبه يسمع وإن أبصر فبه يبصر وبه يبطش وبه يمشى وبه يتحرك وبه يسكن وبه يحيى وبه يموت وبه يبعث، كما في صحيح البخاري عنه فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها فبي يسمع وبي يبصروبي يبطش وبي يمشى، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت فى شيء أنا فاعله ترددي عن قبضي روح عبدي المؤمن من يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه" فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه، والمراد به حصر أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه والتقرب إليه بالنوافل، وأخبر سبحانه أن أداء فرائضه أحب مما تقرب إليه المتقربون، ثم بعدها النوافل، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله فإذا صار محبوبا لله أوجبت محبة الله له محبة منه أخرى فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روحه ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة، فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكا لزمام قلبه مستوليا على روحه استيلاء المحبوب على محبه الصادق في محبته التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ومعه ومؤنسه وصاحبه، فالباء ههنا باء المصاحبة، وهى مصاحبة لا نظير لها ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة خيالية لا علمية محضة، وإذا كان المخلوق يجد هذا في محبة المخلوق التي لم يخلق لها ولم يفطر عليها كما قال بعض المحبين:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقال الآخر
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
ومن عجب أني أحن إليهم ....... فأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وقال الآخر
يراد من القلب نسيانكم ..... وتأبى الطباع على الناقل.
وخص في الحديث السمع والبصر واليد والرجل بالذكر، لأن هذه الآلات آلات الإدراك وآلات الفعل، والسمع والبصر يوردان على القلب الإرادة والكراهة ويجلبان إليه الحب والبغض، فتستعمل اليد والرجل،فإذا كان سمع العبد بالله وبصره به، كان محفوظا في آلات إدراكه فكان محفوظا في حبه وبغضه فحفظ في بطشه ومشيه، وتأمل كيف اكتفى بذكر السمع والبصر واليد والرجل عن اللسان فإنه إذا كان إدراك السمع الذي يحصل باختياره تارة وبغير اختياره تارة وكذلك البصر قد يقع بغير الاختيار فجأة، وكذلك حركة اليد والرجل التي لا بد للعبد منها، فكيف بحركة اللسان التي لا يقع إلا بقصد واختيار، وقد يستغنى العبد عنها إلا حيث أمر بها، وأيضا فانفعال اللسان عن القلب أتم من انفعال سائر الجوارح فانه ترجمانه ورسوله، وتأمل كيف حقق تعالى كون العبد به عند سمعه وبصره الذي يبصر به وبطشه ومشيه بقوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها تحقيقا لكونه مع عبده، وكون عبده في إدراكاته بسمعه وبصره وحركته بيديه ورجله، وتأمل كيف قال بي يسمع وبي يبصر وبي يبطش، ولم يقل فلي يسمع ولي يبصر ولي يبطش، وربما يظن الظان أن اللام أولى بهذا الموضع إذ هي أدل على الغاية ووقوع هذه الأمور لله، وذلك أخص من وقوعها به، وهذا من الوهم والغلط، إذ ليست الباء ههنا بمجرد الاستعانة فإن حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنما هي بمعونة الله لهم، وأن الباء ههنا للمصاحبة، إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشى وأنا صاحبه ومعه، كقوله في الحديث الآخر: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" وهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في قوله تعالى :إن الله معنا" وقول الرسول النبي عليه الصلاة والسلام: ما ظنك باثنين الله ثالثهما" وقوله تعالى :وإن الله لمع المحسنين" وقوله:إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وقوله :واصبروا إن الله مع الصابرين" وقوله: كلا إن معي ربي سيهدين" وقوله تعالى لموسى وهارون :إنني معكما أسمع وأرى" فهذه الباء مفيدة بمعني هذا المعية دون اللام،ولا يتأتى للعبد الإخلاص والصبر والتوكل ونزوله في منازل العبودية إلا بهذه الباء وهذه المعية، فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاق وانقلبت المخاوف في حقه أمانا، فبالله يهون كل صعب، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الأحزان والهموم والغموم، فلا هم مع الله، ولا غم مع الله، ولا حزن مع الله، وحيث يفوت العبد معنى هذه الباء، فيصير قلبه حينئذ كالحوت إذا فارق الماء يثب وينقلب حتى يعود إليه،ولما حصلت هذه الموافقة مع العبد لربه تعالى في محابه حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه، فقال ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، أي: كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إلى بمحابي، فانا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعل به، ويستعيذني أن يناله مكروه، وحقق هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه في إماتة عبده، ولأته يكره الموت والرب تعالى يكره ما يكره عبده ويكره مساءته، فمن هذه الجهة اقتضى أنه لا يميته، ولكن مصلحته في إماتته فإنه ماأماته إلا ليحييه، وما أمرضه إلا ليصحه، وما أفقره إلا ليغنيه، وما منعه الا ليعطيه، ولم يخرج من الجنة في صلب أبيه إلا ليعيده إليها على أحسن الأحوال، ولم يقل لأبيه أخرج منها إلا ليعيده إليها، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، بل لو كان في كل منبت شعر لعبد محبة تامة لله لكان بعض ما يستحقه على عبده .
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ........ وحنينه أبدا لأول منزل.
فصل
ثم التتيمم، وهو آخر مراتب الحب، وهو تعبد المحب لمحبوبه، يقال تيمه الحب إذا عبده، ومنه تيم الله أي عبد الله، وحقيقة التعبد الذل والخضوع للمحبوب، ومنه قولهم طريق معبد، أي: مذلل قد ذللته الأقدام، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، ولهذا كانت أشرف أحوال العبد ومقاماته في العبودية فلا منزل له أشرف منها وقد ذكر الله سبحانه أكرم الخلق عليه وأحبهم إليه، وهو رسوله محمد بالعبودية في أشرف مقاماته، وهي مقام الدعوة إليه ومقام التحدي بالنبوة ومقام الإسراء.
والله سبحانه خلق الخلق لعباديته وحده لا شريك له التي هي أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع والذل، وهذا هو حقيقة الإسلام وملة إبراهيم التي من رغب عنها فقد سفه نفسه، قال تعالى :ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" الآية، ولهذا كان أعظم الذنوب عند الله الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأصل الشرك بالله الإشراك مع الله في المحبة، كما قال تعالى :ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله" وأخبر سبحانه أن من الناس من يشرك به من دونه فيتخذ الأنداد من دونه يحبهم كحب الله، وأخبر أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم، وقيل بل المعنى: أنهم أشد حبا لله من أصحاب الأنداد، فإنهم وإن أحبوا الله، لكن لما أشركوا بينه وبين أندادهم في المحبة ضعفت محبتهم لله، والموحدون لله لما خلصت محبتهم له كانت أشد من محبة أولئك، والعدل برب العالمين والتسوية بينه وبين الأنداد هو في هذه المحبة، ولما كان مراد الله من خلقه هو خلوص هذه المحبة له أنكر على من اتخذ من دونه وليا أو شفيعا غاية الإنكار، وجمع ذلك تارة، وأقر واحدهما عن الآخر تارة بالإنكار.
والمقصود أن حقيقة العبودية وموجباتها لا تخلص مع الإشراك بالله في المحبة بخلاف المحبة لله فإنها من لوازم العبودية وموجباتها، فإن محبة رسول الله، بل تقديمه في الحب على الأنفس وعلى الآباء والأبناء لايتم الإيمان إلا بها، إذ محبته من محبة الله، وكذلك كل حب في الله ولله، كما في الصحيحين عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وفي لفظ في الصحيح: لا يجد عبد طعم الإيمان إلا من كان في قلبه ثلاث خصال أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرأ لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" وفي الحديث الذي في السنن: من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" وفي حديث آخر :ما تحاب رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه " فإن هذه المحبة من لوازم محبة الله وموجباتها وكل ما كانت أقوى كان أصلها كذلك." اهـ
.......................تتمة الموضوع لاحقا إن شاء الله.