القاعدة السادسةقولهم: رجاله رجال

الصحيح ليس تصحيحا للحديث

علمت من القاعدة الأولى تعريف الحديث الصحيح وأن من شروطه أن يسلم من العلل التي بعضها الشذوذ والاضطراب والتدليس كما تقدم بيانه وعليه فقول بعض المحدثين في حديث ما: "رجاله رجال الصحيح" أو: "رجاله ثقات" أو نحو ذلك لا يساوي قوله: "إسناده صحيح" فإن هذا يثبت وجود جميع شروط الصحة التي منها السلامة من العلل بخلاف القول الأول فإنه لا يثبتها وإنما يثبت شرطا واحدا فقط وهو عدالة الرجال وثقتهم وبهذا لا تثبت الصحة كما لا يخفى.

وثمة ملاحظة أخرى وهي: أنه قد يسلم الحديث المقول فيه ذلك القول من تلك العلل ومع ذلك فلا يكون صحيحا لأنه قد يكون في السند رجل من رجال الصحيح ولكن لم يحتج به وإنما أخرج له استشهادا أو مقرونا بغيره لضعف في حفظه أو يكون ممن تفرد بتوثيقه ابن حبان وكثيرا ما يشير بعض المحققين إلى ذلك بقوله: "ورجاله موثقون" إشارة إلى أن في توثيق بعضهم لينا فهذا كله يمنع من أن تفهم الصحة من قولهم الذي ذكرنا.
والمؤلف كأنه لم ينتبه لهذا كله فجرى في كثير من الأحاديث على تصحيحها لمجرد قول البعض فيها ذلك القول وسنرى في تضاعيف التعليق التنبيه على ذلك.
ثم زدت هذه القاعدة بيانا في مقدمة كتابي "صحيح الترغيب والترهيب" ص 39 - 46 فراجعه فإنه مهم.


القاعدة السابعة عدم الاعتماد على

سكوت أبي داود

اشتهر عن أبي داود أنه قال في حق كتابه

"السنن":
"ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح".
فاختلف العلماء في فهم مراده من قوله: "صالح" فذهب بعضهم إلى أنه أراد أنه حسن يحتج به.
وذهب آخرون إلى أنه أراد ما هو أعم من ذلك فيشمل ما يحتج به وما يستشهد به وهو الضيف الذي لم يشتد ضعفه وهذا هو الصواب بقرينة قوله: وما فيه وهن شديد بينته فإنه يدل بمفهومه على أن ما كان فيه وهن غير شديد لا يبين فدل على أنه ليس كل ما سكت عليه حسنا عنده ويشهد لهذا وجود أحاديث كثيرة عنده لا يشك عالم في ضعفها وهي مما سكت أبو داود عليها حتى إن النووي يقول في بعضها: وإنما لم يصرح أبو داود بضعفه لأنه ظاهر" ومع هذا فقد جرى النووي رحمه الله على الاحتجاج بما سكت عنه أبو داود في كثير من الأحاديث ولم يعرج فيها على مراجعة أسانيدها فوقع بسبب ذلك في أخطاء كثيرة.
وقد رجح هذا الذي فهمناه عن أبي داود العلماء المحققون أمثال ابن منده والذهبي وابن عبد الهادي وابن كثير وقد نقلت كلماتهم في مقدمة كتابي "صحيح أبي داود".
ثم وقفت على كلام الحافظ ابن حجر في هذه المسألة وقد ذهب فيه إلى هذا الذي ذكرناه وشرحه واحتج له بما لا تراه لغيره ولولا خشية الإطالة لنقلته هنا فأكتفي بالإحالة إلى مصدره وهو "توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار" 1 / 196 - 199 للإمام الصنعاني.
القاعدة الثامنة رموز السيوطي في "الجامع الصغير" لا يوثق بها
اشتهر أيضا بين كثير من العلماء الاعتماد على رمز السيوطي للحديث بالصحة والحسن أو الضعف وتبعهم في ذلك الشيخ السيد سابق ونرى أنه غير سائغ لسببين:
1 - طروء التحريف على رموزه من النساخ فكثيرا ما رأيت الحديث فيه مرموزا له بخلاف ما ينقله شارحه المناوي عن السيوطي نفسه وهو إنما ينقل عن "الجامع" بخط مؤلفه كما صرح بذلك في أوائل الشرح وهو نفسه يقول فيه:
" وأما ما يوجد في بعض النسخ من الرمز إلى الصحيح والحسن والضعيف بصورة رأس "صاد وحاء وضاد" فلا ينبغي الوثوق به لغلبة تحريف النساخ على أنه وقع له ذلك في بعض دون بعض كما رأيته بخطه".
2 - أن السيوطي معروف بتساهله في التصحيح والتضعيف فالأحاديث التي صححها أو حسنها فيه قسم كبير منها ردها عليه الشارح المناوي وهي تبلغ المئات إن لم نقل أكثر من ذلك وكذلك وقع فيه أحاديث كثيرة موضوعة مع أنه قال في مقدمته: "وصنته عما تفرد به وضاع أو كذاب".
وقد تتبعتها بصورة سريعة وهي تبلغ الألف تزيد قليلا أو تنقص كذلك وأرجو أن أوفق لإعادة النظر فيها وإجراء قلم التحقيق عليها وإخراجها للناس ومن الغريب أن قسما غير قليل فيها شهد السيوطي نفسه بوضعها في غير هذا الكتاب فهذا كله يجعل الثقة به ضعيفة نسأل الله العصمة.

ثم يسر الله تبارك وتعالى فجعلت "الجامع الصغير وزيادته" المسمى ب "الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير" قسمين: "صحيح الجامع.." و "ضعيف الجامع.." وعدد أحاديث هذا 6469 حديثا والموضوع منها 980 حديثا على وجه التقريب وهو مطبوع كالصحيح والحمد لله تعالى.
القاعدة التاسعة سكوت المنذري على

الحديث في "الترغيب" ليس تقوية له

الأصل أنه لا يجوز إيراد الحديث الضعيف إلا ببيان حاله كما سيأتي بيانه ولذلك يظن بعضهم أن ما سكت عليه المنذري في "الترغيب والترهيب" يدل على أنه غير ضعيف عنده وعليه جرى الشيخ السيد سابق في غير ما حديث وهو ذهول عن اصطلاح المنذري الذي صرح به في مقدمة الكتاب حيث قال رحمه الله ص 4: "فإذا كان إسناد الحديث صحيحا أو حسنا أو ما قاربهما صدرته بلفظة "عن" وكذلك إذا كان مرسلا أو منقطعا أو معضلا أو في إسناده راو مبهم أو ضعيف وثق أو ثقة ضعف وبقية رواة الإسناد ثقات أو فيهم كلام لا يضر أو روي مرفوعا والصحيح وقفه أو متصلا والصحيح إرساله أو كان إسناده ضعيفا لكن صححه أو حسنه بعض من خرجه أصدره أيضا بلفظة "عن" ثم أشير إلى إرساله أو انقطاعه أو عضله أو ذلك الراوي المختلف فيه فأقول رواه فلان من رواية فلان أو من طريق فلان أو في إسناده فلان أو نحو هذه العبارة.
وإذا كان في الإسناد من قيل فيه: كذاب أو وضاع أو متهم أو مجمع على تركه أو ضعفه أو ذاهب الحديث أو هالك أو ساقط أو ليس بشيء أو ضعيف جدا أو ضعيف فقط أو لم أر فيه توثيقا بحيث لا يتطرق إليه احتمال التحسين صدرته بلفظة "روي" ولا أذكر ذلك الراوي ولا ما قيل فيه البتة فيكون للإسناد الضعيف دلالتان: تصديره بلفظة "روي" وإهمال الكلام عليه في آخره"
وقد فصلت القول على كلامه هذا وما فيه من الإجمال والغموض والمؤاخذات في مقدمة "صحيح الترغيب" فراجعها فإنها مهمة جدا.
القاعدة العاشرة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليس على إطلاقه
من المشهور عند أهل العلم أن الحديث إذا جاء من طرق متعددة فإنه يتقوى بها ويصير حجة وإن كان كل طريق منها على انفراده ضعيفا ولكن هذا ليس على إطلاقه بل هو مقيد عند المحققين منهم بما إذا كان ضعف رواته في مختلف طرقه ناشيءا من سوء حفظهم لا من تهمة في صدقهم أو دينهم وإلا فإنه لا يتقوى مهما كثرت طرقه وهذا ما نقله المحقق المناوي في "فيض القدير" عن العلماء قالوا:
"وإذا قوي الضعف لا ينجبر بوروده من وجه آخر وإن كثرت طرقه ومن ثم اتفقوا على ضعف حديث: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا"1 مع كثرة طرقه لقوة ضعفه وقصورها عن الجبر خلاف ما خف ضعفه ولم يقصر الجابر عن جبره فإنه ينجبر ويعتضد".
وراجع لهذا "قواعد التحديث" ص 90 و "شرح النخبة" ص 25.
وعلى هذا فلا بد لمن يريد أن يقوي الحديث بكثرة طرقه أن يقف على رجال كل طريق منها حتى يتبين له مبلغ الضعف فيها ومن المؤسف أن القليل جدا من العلماء من يفعل ذلك ولا سيما المتأخرين منهم فإنهم يذهبون إلى تقوية الحديث لمجرد نقلهم عن غيرهم أن له طرقا دون أن يقفوا عليها ويعرفوا ماهية ضعفها والأمثلة على ذلك كثيرة من ابتغاها وجدها في كتب التخريج وبخاصة في كتابي "سلسلة الأحاديث الضعيفة".
القاعدة الحادية عشرة لا يجوز ذكر الحديث

الضعيف إلا مع بيان ضعفه

لقد جرى كثير من المؤلفين ولا سيما في العصر الحاضر على اختلاف مذاهبهم واختصاصاتهم على رواية الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون أن ينبهوا على الضعيفة منها جهلا منهم بالسنة أو رغبة أو كسلا منهم عن الرجوع إلى كتب المتخصصين فيها وبعض هؤلاء - أعني المتخصصين - يتساهلون في ذلك في أحاديث فضائل الأعمال خاصة!
قال أبو شامة2:
"وهذا عند المحققين من أهل الحديث وعند علماء الأصول والفقه خطأ بل ينبغي أن يبين أمره إن علم وإلا دخل تحت الوعيد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" رواه مسلم.

هذا حكم من سكت عن الأحاديث الضعيفة في الفضائل! فكيف إذا كانت في الأحكام ونحوها؟
واعلم أن من يفعل ذلك فهو أحد رجلين:
1 - إما أن يعرف ضعف تلك الأحاديث ولا ينبه على ضعفها فهو غاش للمسلمين وداخل حتما في الوعيد المذكور. قال ابن حبان في كتابه "الضعفاء" 1 / 7 - 8:
"في هذا الخبر دليل على أن المحدث إذا روى ما لم يصح عن النبي مما تقول عليه وهو يعلم ذلك يكون كأحد الكاذبين على أن ظاهر الخبر ما هو أشد قال صلى الله عليه وسلم: "من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب..." - ولم يقل:
إنه تيقن أنه كذب - فكل شاك فيما يروي أنه صحيح أو غير صحيح داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر"
ونقله ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" ص 165 - 166 وأقره.
2 - وإما أن لا يعرف ضعفها فهو آثم أيضا لإقدامه على نسبتها إليه صلى الله عليه وسلم" دون علم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"3 فله حظ من إثم الكاذب على رسول اللهصلى الله عليه وسلملأنه قد أشار صلى الله عليه وسلم أن من حدث بكل ما سمعه - ومثله من كتبه - أنه واقع في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم محالة فكان بسبب ذلك أحد الكاذبين. الأول: الذي افتراه والآخر: هذا الذي نشره قال ابن حبان أيضا 1 / 9:
" في هذا الخبر زجر للمرء أن يحدث بكل ما سمع حتى يعلم علم اليقين صحته".
وقد صرح النووي بأن من لا يعرف ضعف الحديث لا يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا أو بسؤال أهل العلم إن لم يكن عارفا1وراجع "التمهيد" في مقدمة الضيفة ص 10 – 12.


القاعدة الثانية عشرة ترك العمل بالحديث

الضعيف في فضائل الأعمال

اشتهر بين كثير من أهل العلم وطلابه أن الحديث الضعيف يجوز العمل به في فضائل الأعمال
ويظنون أنه لا خلاف في ذلك. كيف لا والنووي رحمه الله نقل الاتفاق عليه في أكثر من كتاب واحد من كتبه؟ وفيما نقله نظر بين لأن الخلاف في ذلك معروف فإن بعض العلماء المحققين على أنه لا يعمل به مطلقا لا في الأحكام ولا في الفضائل. قال الشيخ القاسمي رحمه الله في "قواعد التحديث" ص 94:
"حكاه ابن سيد الناس في "عيون الأثر" عن يحيى بن معين ونسبه في "فتح المغيث" لأبي بكر بن العربي والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضا.. وهو مذهب ابن حزم..".
قلت: وهذا هو الحق الذي لا شك فيه عندي لأمور:
الأول: أن الحديث الضعيف إنما يفيد الظن المرجوح ولا يجوز العمل به اتفاقا فمن أخرج من ذلك العمل بالحديث الضيف في الفضائل لابد أن يأتي بدليل وهيهات!
الثاني: أنني أفهم من قولهم: "...في فضائل الأعمال" أي الأعمال التي ثبتت مشروعيتها بما تقوم الحجة به شرعا ويكون معه حديث ضعيف يسمى أجرا خاصا لمن عمل به ففي مثل هذا يعمل به في فضائل الأعمال لأنه ليس فيه تشريع ذلك العمل به وإنما فيه بيان فضل خاص يرجى أن يناله العامل به. وعلى هذا المعنى حمل القول المذكور بعض العلماء كالشيخ علي القاري رحمه الله فقال في "المرقاة" 2 / 381:
قوله: إن الحديث الضعيف يعمل به في الفضائل وإن لم يعتضد إجماعا كما قاله النووي محله الفضائل الثابتة من كتاب أو سنة".
وعلى هذا فالعمل به جائز إن ثبت مشروعية العمل الذي فيه بغيره مما تقوم به الحجة ولكني أعتقد أن جمهور القائلين بهذا القول لا يريدون منه هذا المعنى مع وضوحه لأننا نراهم يعملون بأحاديث ضعيفة لم يثبت ما تضمنته من العمل في غيره من الأحاديث الثابتة مثل استحباب النووي وتبعه المؤلف إجابة المقيم في كلمتي الإقامة بقوله: "أقامها الله وأدامها" مع أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف كما سيأتي بيانه فهذا قول لم يثبت مشروعيته في غير هذا الحديث الضعيف ومع ذلك فقد استحبوا ذلك مع أن الاستحباب حكم من الأحكام الخمسة التي لا بد لإثباتها من دليل تقوم به الحجة وكم هناك من أمور عديدة شرعوها للناس واستحبوها لهم إنما شرعوها بأحاديث ضعيفة لا أصل لما تضمنته من العمل في السنة الصحيحة ولا يتسع المقام لضرب الأمثلة على ذلك وحسبنا ما ذكرته من هذا المثال وفي الكتاب أمثلة كثيرة سيأتي التنبيه عليها في مواطنها إن شاء الله.
على أن المهم ههنا أن يعلم المخالفون أن العمل بالحديث الضعيف في الفضائل ليس على إطلاقه عند القائلين به فقد قال الحافظ ابن حجر في "تبيين العجب" ص 3 - 4:
"اشتهر أن أهل العلم يتساهلون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف ما لم تكن موضوعة وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا وأن لا يشهر ذلك لئلا يعمل المرء بحديث ضيف فيشرع ما ليس بشرع أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة وقد صرح بمعنى ذلك الأستاذ أبو محمد بن عبد السلام وغيره وليحذر المرء من دخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم": "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" فكيف بمن عمل به؟! ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل إذ الكل شرع".

فهذه شروط ثلاثة مهمة لجواز العمل به:
1 - أن لا يكون موضوعا.
2 - أن يعرف العامل به كونه ضعيفا.
3 - أن لا يشهر العمل به.
ومن المؤسف أن نرى كثيرا من العلماء فضلا عن العامة متساهلين بهذه الشروط فهم يعملون بالحديث دون أن يعرفوا صحته من ضعفه وإذا عرفوا ضعفه لم يعرفوا مقداره وهل هو يسير أو شديد يمنع العمل به. ثم هم يشهرون العمل به كما لو كان حديثا صحيحا ولذلك كثرت العبادات التي لا تصح بين المسلمين وصرفتهم عن العبادات الصحيحة التي وردت بالأسانيد الثابتة.
ثم إن هذه الشروط ترجح ما ذهبنا إليه من أن الجمهور لا يريد المعنى الذي رجحناه آنفا لأن هذا لا يشترط فيه شيء من هذه الشروط كما لا يخفى.
ويبدو لي أن الحافظ رحمه الله يميل إلى عدم جواز العمل بالضعيف بالمعنى المرجوح لقوله فيما تقدم: "...ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل إذ الكل شرع".
وهذا حق لأن الحديث الضعيف الذي لا يوجد ما يعضده يحتمل أن يكون كذبا بل هو على الغالب كذب موضوع وقد جزم بذلك بعض العلماء فهو ممن يشمله قوله "صلى الله عليه وسلم ": "...يرى أنه كذب" أي يظهر أنه كذلك. ولذلك عقبه الحافظ بقوله: "فكيف بمن عمل به؟" ويؤيد هذا ما سبق نقله عن ابن حبان في القاعدة الحادية عشرة.
" فكل شاك فيما يروي أنه صحيح أو غير صحيح داخل في الخبر".
فنقول كما قال الحافظ: "فكيف بمن عمل به...؟!".
فهذا توضيح مراد الحافظ بقوله المذكور وأما حمله على أنه أراد الحديث الموضوع وأنه هو الذي لا فرق في العمل به في الأحكام أو الفضائل كما فعل بعض مشايخ حلب المعاصرين فبعيد جدا عن سياق كلام الحافظ إذ هو في الحديث الضعيف لا الموضوع كما لا يخفى!
ولا ينافي ما ذكرنا أن الحافظ ذكر الشروط للعمل بالضعيف كما ظن ذلك الشيخ لأننا نقول: إنما ذكرها الحافظ لأولئك الذين ذكر عنهم أنهم يتسامحون في إيراد الأحاديث في الفضائل ما لم تكن موضوعة فكأنه يقول لهم: إذا رأيتم ذلك فينبغي أن تتقيدوا بهذه الشروط وهذا كما فعلته أنا في هذه القاعدة والحافظ لم يصرح بأنه معهم في الجواز بهذه الشروط ولاسيما أنه أفاد في آخر كلامه أنه على خلاف ذلك كما بينا.

وخلاصة القول أن العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال لا يجوز القول به على التفسير المرجوح إذ هو خلاف الأصل ولا دليل عليه ولا بد لمن يقول به أن يلاحظ بعين الاعتبار الشروط المذكورة وأن يلتزمها في عمله والله الموفق.
ثم إن من مفاسد القول المخالف لما رجحناه أنه يجر المخالفين إلى تعدي دائرة الفضائل إلى القول به في الأحكام الشرعية بل والعقائد أيضا وعندي أمثلة كثيرة على ذلك لكني أكتفي منها بمثال واحد. فهناك حديث يأمر بأن يخط المصلي ببن يديه خطا إذا لم يجد سترة ومع أن البيهقي والنووي هما من الذين صرحوا بضعفه فقد أجازا العمل به خلافا لإمامهما الشافعي وسيأتي مناقشة قولهما في ذلك عند الكلام على الحديث المذكور.
ومن شاء زيادة بيان وتفصيل في هذا البحث الهام فليراجع مقدمة "صحيح الترغيب" 1 / 16 – 36.
القاعدة الثالثة عشرة

لا يقال في الحديث الضعيف: قال صلى الله

عليه وسلم أو: ورد عنه ونحو ذلك

قال النووي في "المجموع شرح المهذب" 1 / 63:

"قال العلماء المحققون من أهل الحديث وغيرهم: إذا كان الحديث ضعيفا لا يقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو: فعل أو: أمر أو: نهى أو: حكم وما أشبه ذلك من صيغ الجزم وكذا لا يقال فيه: روى أبو هريرة أو: قال أو: ذكر... وما أشبهه وكذا لا يقال ذلك في التابعين ومن بعدهم فيما كان ضعيفا فلا يقال في شيء من ذلك بصيغة الجزم وإنما يقال في هذا كله: روي عنه أو: نقل عنه أو: حكي عنه ... أو: يذكر أو: يحكى... أو: يروى وما أشبه ذلك من صيغ التمريض وليست من صيغ الجزم. قالوا: فصيغ الجزم موضوعة للصحيح أو الحسن وصيغ التمريض لما سواهما. وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه فلا ينبغي أن يطلق إلا فيما صح وإلا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه وهذا الأدب أخل به المصنف4 وجماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم بل جماهير أصحاب العلوم مطلقا ما عدا حذاق المحدثين وذلك تساهل قبيح منهم فإنهم يقولون كثيرا في الصحيح: "روي عنه" وفي الضعيف: "قال" أو: روى فلان وهذا حيد عن الصواب".

قلت: ومؤلفنا - جزاه الله خيرا - وإن كان قد حاد عن الصواب مع من حاد عنه من الجماهير - كما سيأتي بيان ذلك في مواضعه من التعليق عليه -فإن لي رأيا خاصا فيما حكاه النووي عن العلماء لا بد لي من الإدلاء به بهذه المناسبة فأقول:
إذا كان من المسلم به شرعا أنه ينبغي مخاطبة الناس بما يفهمون ما أمكن وكان الاصطلاح المذكور عن المحققين لا يعرفه أكثر الناس فهم لا يفرقون بين قول القائل: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقوله: "روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" لقلة المشتغلين بعلم السنة فإني أرى أنه لا بد من التصريح بصحة الحديث أو ضعفه دفعا للإيهام كما يشير إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "دع ما يريبك إلى مالا يريبك". رواه النسائي والترمذي وهو مخرج في "إرواء الغليل" 2074 وغيره.


القاعدة الرابعة عشرة


وجوب العمل بالحديث الصحيح وإن لم يعمل به أحد

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "رسالته" الشهيرة:

"إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قضى في الإبهام بخمس عشرة فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صاروا إليه قال: ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى هذا الحديث دلالتان: إحداهما قبول الخبر والأخرى قبول الخبر في الوقت الذي يثبت فيه وإن لم يمض عمل أحد من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا ودلالة على أنه لو مضى أيضا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد
عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله ودلالة على أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده"5.



القاعدة الخامسة عشرة

أمر الشارع للواحد أمر لجميع أفراد الأمة

إذا خاطب الشارع الحكيم فردا من الأمة أو حكم عليه بحكم فهل يكون هذا الحكم عاما في الأمة إلا إذا قام دليل التخصيص؟ أو يكون خاصا بذلك المخاطب؟.

اختلف في ذلك علماء الأصول والحق الأول وهو الذي رجحه الشوكاني وغيره من المحققين6 قال ابن حزم في "أصول الأحكام" 3 / 88 - 89:

"وقد أيقنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان حيا في عصره في معمور الأرض من إنس أو جن وإلى من يولد بعده إلى يوم القيامة وليحكم في كل عين وعرض يخلقها الله إلى يوم القيامة فلما صح ذلك بإجماع الأمة المتيقن المقطوع به المبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالنصوص الثابتة بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة ولزومه الإنس والجن وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل لمشاهدته عليه السلام من يأتي بعده كان أمره صلى الله عليه وسلم لواحد من النوع وفي واحدمن النوع أمرا في النوع كله وللنوع كله وبين هذا أن ما كان من الشريعة خاصا لواحد ولقوم فقد بينه عليه السلام نصا وأعلمه أنه خصوص كفعله في الجذعة بأبي بردة بن نيار وأخبره عليه السلام أنه لا تجزئ عن أحد بعده وكان أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة وإقامة ابن عباس وجابر عن يمينه في الصلاة حكم على كل مسلم ومسلمة يصلي وحده مع إمامه. ولا خلاف بين أحد في أن أمره لأصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة.

ثم شرع قي الرد على من خالف في ذلك تأصيلا أو تفريعا فراجعه.

وهذا آخر ما اقتضت المصلحة إيراده الآن من القواعد الحديثية والفقهية ومن المؤسف أن مؤلف "فقه السنة" لم يتقيد بها أو - على الأقل - لم يرعها حق رعايتها مع وثيق اتصالها بموضوع الكتاب كما رأيت
وسيأتي بيان هذا كله في مواضعه من هذا التعليق المفيد إن شاء الله تعالى أسأله تعالى أن يجعل الصواب حليفه وينفع به إخواني المسلمين في سائر الأقطار إنه سميع مجيب الدعاء.

___________________
1 وهو مخرج في "الضعيفة" 4589
2 في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" ص 54.
3 رواه مسلم رقم: 5 في مقدمة "صحيحه" وهو مخرج في "الصحيحة" 205.1
4راجع "قواعد التحديث".
5 أي: الشيرازي صاحب "المهذب".
6"الرسالة" ص 422 تحقيق أحمد شاكر.1 راجع أصول الفقه للشيخ محمد الخضرى ص 208 – 209.
المؤلف

دمشق 3 شوال 1373هـ