التربية ليست كلام فاضي ، ولا حتى افتراضي

شاب طَموح;التربية كلام فاضي
بهذه العبارة جرحني كمتخصص في التربية أحد زملائي المتخصصين في أصول الفقة ، وبرر ذلك بأن التربية ليست علم وإنما هي فلسفة وكلام عام ونظريات غربية ولخبطة و...و.... الخ
أثار في نفسي هذا الكلام حقيقة مرة نعيشها في واقعنا العلمي وهي أن هناك (بعض المتخصصين في العلم الشرعي) ينظرون نظرة دونية لتخصص التربية والمتخصصين فيه ، ويبررون هذه النظرة أن التربية ليست علما قائما بذاته بل هي عبارة عن فلسفات ونظريات تغرد خارج السرب وتعيش في أجواء المثالية والأدهى من ذلك كله أنها تقوم على نظريات غربية كافرة وملحدة يتقبلها التربويون المغتربون ويريدون أن تنزيلها على واقعنا الإسلامي
ولا يخفى عليك قارئي الكريم أن هذا الكلام مليء بالمغالطات والسطحية الباردة ، ولكني أتساءل كيف لنا كمتخصصين في التربية الإسلامية أن نزيل هذه الغشاوة عن هؤلاء ، وأن نوضح لهم أهمية هذه المنظومة العلمية المسماة (بالتربية) وأنها قد تكون أهم من كثير من علوم الآلة في العلم الشرعي
أفتح لمرتادي المنتدى الكرام وفي مقدمتهم فضيلة شيخنا أ.د : خالد الحازمي ، أفتح لهم حلبة النقاش في هذا الموضوع ،،،،، والله من وراء القصد[/quote]


************************************************** ***************
بسم الله الرحمن الرحيم

أي بني ، أيها الشاب الطموح ، بارك الله فيك وجزاك كل خير على هذا الطرح المهم ، واعلم -رحمني الله وإياك- أن قائل مثل هذا الكلام من كان كلامه فاضي ، ووقته فاضي إلا لمثل هذه الشغل ، وربما يكون متأثرا بالعلم المتخصص فيه ، ومنه يرد عليه إذ هو علم يقوم على نظريات علم الكلام ، ومن هنا يقال له ، نفس ما قاله : إن علم الكلام علم فاضي ، فيه كثير من الفلسفة والمنطق اليونان ، وهذ ليس من علم الشرع ، وقد ذمه علماء السلف كالشافعي ومالك وغيرهما ، إلا أن بعض العلماء المتأخرين أخذوا منه ما وافق الحق الموافق للشرع ، وردوا ما خالفه من الزبد ، وعليه يقال له : عليك أن ترد جميع ما جاء به هؤلاء لأنه ليس من الشرع ، أم تقول ، لا بد من قبول الحق الذي جاؤوا به ورد ماخالفه ،فيقال لك : كذلك [ علم التربية ]، هذا تنزلا معه أن هذا العلم يقوم على نظريات دخيلة على الإسلام وحِكَم نطق بها عقلاء الأديان أو الثقافات الإنسانية ، فالإسلام لا يرد كل ما هو حق وجميل ، فالله جميل يحب الجمال ، والله هو الحق ،يحب الحق ، والله هو العدل يحب العدل فحيث كانت الحكمة ، وكان العدل فثم شرع الله أخي . والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها .
هذا أولا : وثانيا : يقال إن كلامه هذا فيه بعض الحق ، وبعض الباطل ،فالحق الذي فيه هو أن يقال : إن بعض الكتاب والمفكرين والأدباء ممن ينتسبون لهذه الملة من أبناء هذا الدين ممن تشبعوا بالحضارة الغربية ورضعوا من لبان الاستشراق وتأثروا بالأدب الغربي وفكرهم ، أيما تأثير – كما تأثر الكثير اليوم بالعلمانية ، وآخرون بالعولمة ،فتركوا ماعندهم من نصوص الوحي كتابا وسنة مما نزل من السماء ، أنزله الله قواعد وأسسا صالحة لكل زمان ومكان ، الشامل لجميع نواحي ومناحي الحياة ، وعلى رأسها تزكية النفوس ، وتربيتها على الربانية التي يريدها الله من عباده أن يكونوا عليها ، وذهبوا يلهثون وراء السراب مما يلمعه مفكري الغرب والشرق من المستشرقين والعلمانيين ، وغيرهم ، فانبهروا بحضارتهم وثقافتهم وانخدعوا بها ، بعد أن صارت تسري في عروقهم ، ثم جاءوا إلى أمتهم ينفثون سمومهم المزينة ، وينتقدون عليها تمسكها بدينها الذي نزل من السماء لأسعاد البشرية ، كما ينتقدون على أبناء ملتهم تأخرهم في ميدان العلم المادي المُزَوق ببعض الآداب المزيفة ؛ والسلوك المصطنع ، الذي أخذوه أصلا من ديننا ، ثم بلوروه وغلفوه بهذه التكنلوجية ، في مظرية جوفاء ، ومكر في الخفاء، ثم صدروه لنا عن طريق أولئك المخدوعين من أبناء بني جلدتنا ، الذين يحملون الخير في أعماقهم بفطرهم التي فطرهم الله عليها ورباهم الله بها إلا أنهم مزجوه بدخن الاستشراق ، وغثاء الفكر الغربي ، وزبد العلمانية ، وفلسفة المكر ومنطق الخداع ، لينتقصوا به قيمنا ، ويفسدوا علينا النعمة التي أتمها الله لهذه الأمة، وصدق فيهم قول رسولنا صلى الله عليه وسلم ففي حديث حذيفة الطويل قال :[... أيكون بعد هذا الشر من خير ؟ قال رسول الله :<< نعم ، وفيه دخن >>قلت : وما دخنه ؟قال:<< ..قوم تعرف منهم وتنكر >> قال صفهم لنا . قال :<< قوم من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويهدونا بغير هدينا ..>> فهؤلاء هم الذين يريدوننا أن ننسلخ من ديننا ونترك تراثنا وأن نتمسك بما جاءوا به .
وفي المقابل ، ونتيجة لردة الفعل قابلت طائفة هؤلاء بنظرة دونية وعقلية متنطعة صدرعنها الحكم بالرد والرفض لكل ما جاء به هؤلاء من الحق المختلط بالدخن ، والباطل المزين والمموه بالعقلانية والعصرنة ، دون تمحيص ولا تمييز؛ فوقع هذا التناقض والحق غير ذلك ، ودين الله وسط بين طرفي نقيض ، فلا نقبل كل ما جاء به هؤلاء ، ولا نرد كل ما رده أولئك ، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها .
فهذا ربنا يعلمنا ويربينا أن نقبل الحق ممن نطق به ، فقد وقّع سبحانه وأكد على الحق الذي جاءت به امرأة كافرة وهي الملكة بلقيس فقد أخبرنا بقولها حيث قال :{{ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها }} ثم صدّق عليه بقوله : {{ وكذلك يفعلون }} .
وهذا نبينا يصدّق على نصيحة غالية عظيمة يقدمها إبليس لأحد أصحابه صلى الله عليه وسلم وهو أبو هريرة رضي الله عنه، مع كذبه وعدم إلتزامه بها فقال له صلى الله عليه وسلم :<< صدقك وهو كذوب >> فالمؤمن لايتوانى عن أخذ الحق والحكمة ممن نطق به ، ولكن ينبغي أن نعرف الحق قبل أن نعرف الذي نطق به حتى نعرف من نطق بالحق ممن نطق بغيره من الباطل المزين والمموه ...
ثالثا : إن القول بأن التربية الإسلامية لا دليل عليها من الكتاب والسنة ، وأنها ليست علماقائما بذاته ، وإنما هي مجرد نظريات غربية كافرة وملحدة يتقبلها التربويون المغتربون ويريدون تنزيلها على واقعنا الإسلامي .. أو أنها عبارة عن فلسفات ونظريات تغرد خارج السرب وتعيش في أجواء المثالية ..
هذا كلام في غاية الخطورة ، كيف لاتكون علما قائما بذاته ، فأين هذا من الكتاتيب ؟ لتربية النشأ على حفظ كتاب الله ، والتخلق بما فيه من أخلاق عالية وآداب سامية، فهو أعظم كتاب يدعو للمثالية ، والقدوة الحسنة ، وأين هذا من معاهد التربية والمؤدبين عند السلف، فقد كانوا يخرجون أبناءهم للمؤدبين ، وأين هذا من المساجد التي تقام فيها حلقات العلم ، والتأديب ، فقد كان الكثير من الطلاب ممن يحضرون حلق العلم يقصدون التأدب بالهدي الصالح والسمت الحسن ، ويتربون على أخلاق العلماء .
كيف لا يكون علما قائما بذاته وأول سورة فيه مفتتحة بقول الله تعالى : {{ الحمد لله رب العالمين ..}} هذه السورة التي يقرؤها العبد أكثر من سبعة عشر مرة في اليوم يحمد الله تعالى الذي رباه بنعمه ، فمعنى الرب هو من رباني وربى جميع العالمين بنعمه ، فقد ربى العالمين وبين لهم سبل الهداية من الغواية ، والتوحيد من الشرك ، ومعالي الأمور من سفاسفها ..ومسائل التربية في إيطار العبودية له على منهاج النبوة ..
إن كتاب الله المنزل للتعبد والإعجاز مليء بالنصوص والأدلة الدالة على التربية والآداب ، والسلوك الإسلامي الرفيع ، والقدوة الحسنة الربانية ،والدعوة إلى المثالية التي تحدى بها الخالق البشرية على أن يربوا عبدا بشرا رسولا فيخرج للناس بكلامه الجامع المانع :<< إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق >> فقد جمع التربية بكاملها في هذه الجملة ، وقد قال فيه ربه الذي رباه ، :{{ وإنك لعلى خلق عظيم }} وبيّن تربيته المثلى في قوله :{{ لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك .. }}وأرشد سبحانه أمته بالاهتداء والإقتداء بتربيته وحسن خلقه بقوله :{{ ولكم في رسول الله أسوة حسنة .. }} وأمرهم أن يكونوا ربانيين في أنفسهم مربين للأجيال ليكون من ذلك المجتمع الرباني المنشود ، بقوله :{{ ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون }} وغير ذلك من النصوص التي يعجز الإنسان عن إفادة الدروس والعبر التربوية منها ..
والرسول صلى الله عليه وسلم رباه الله فهو سيد المربين ، وأدبه ربه فهو خير المؤدبين ، وكذلك كان في تربيته مع ربه ، وأهل بيته وعشيرته وأصحابه ، ومن لم يكن على هديه ، فأعطى صلى الله عليه كل ذي حق حقه مما يستحق من المعاملة الحسنة والتربية المستحسنة واوتي جوامع الكلم مما يكون قواعد للتربية ، وضرب أروع الأمثلة في المواقف التربوية فكان قمة في الربانية ، حيث شهد له الداني والقاصي والعدو قبل الصديق ، والمخالف قبل المؤالف ، وخير دليل على هذا فهؤلاء عقلاء الغرب والمستشرقين ينطقون بذلك بما تعلموا من دينه ويشهدون له بهذا..
ثم لعل صاحبنا- قائل ذلك الكلام – ذهل وهو يقرأ سورة لقمان ، و سورة يوسف ، أو لم تمر عليه سورة الحجرات ، التي يسميها بعض أهل العلم المؤدبة ، أو المربية ، ولو فقهنانا حق فقهها مع سورة لقمان لاتخذناهما قاعدتين أساسيتين لعلم الآداب فكيف إذا انضم إليها ما في صحيح البخاري من كتاب الاستئذان ، و كتاب الآداب ، والرقاق ، ولعل صاحبنا لم يقرأ هذا و لا مر عليه ما في كتب السنة الأخرى الصحيحة ككتاب السلام ، وصلة الأرحام ، وتزكية النفوس لابن رجب ، والغزالي ، وابن القيم ، وأخلاق العلماء للآجري ، وأخلاق أهل القرآن له ، وروضة العقلاء لابن حبان البستي، والسير والأخلاق لابن حزم ، وسير وأخلاق النجباء للقاسمي ، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر و آداب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ، وآداب العالم والمتعلم للزرنوحي، وحلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد وغيرها من كتب الإسلام فلا يكاد يخلو كتاب منها من حكمة في التربية والدعوة إلى حسن الخلق والسلوك الذي جاء به ديننا الحنيف ، فالتربية جزء لايتجزأ من علم الشرع ، كل هذا الكم الهائل من الأدلة على أنه جزء من علم نزل به الوحي لم يجد صاحبنا يغيته فيه حتى ذهب إلى ما ذهب إليه ،يسفه أحلام أبناء إخوانه المربين الذين يسعون إلى الرجوع بالمة إلى أصالتها التربوية فيربطون بين علم الكتاب والسنة ، ويقبلون الحكمة أي كانت وممن نطق بها ، نسأل الله لنا وله البصيرة في الدين والهداية للحق المبين ، كما نسأله تعالى أن يربي فينا النخوة الإيمانية ،والعزة والأنفة الإسلامية التي كان عليها أسلافنا وأجدادنا ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ..
وكتب أبو بكر يوسف لعويسي .