بسم الله الرحمـٰن الرحيم

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته


مـعنى«الخشوع»




قالَ شيخُ الإسْلام الإمامُ ابن تيميَّة (ت: 728هـ) ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ: "وقد جمع اللّه بين وصفهم بوجل القلب إذا ذُكِر، وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته. قالَ الضَّحاك: "زادتهم يقينا". وقالَ الرَّبيع بن أنس: "خشية". وعن ابن عبَّاس: "تصديقًا". وهكذا.

قد ذكر اللّه هذين الأصلين في مواضع، قالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴿الحديد: 16﴾.


والخشوع يتضمَّن معنيين:

أحدهما: التَّواضع والذُّل.

والثَّاني: السُّكون والطُّمأنينة، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمَّن عبوديته للّه وطمأنينته أيضًا؛ ولهذا كان الخشوع في الصَّلاة يتضمَّن هذا، وهذا؛ التَّواضع والسُّكون.

وعن ابن عبَّاسٍ في قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴿المؤمنون: 2﴾، قالَ: "مخبتون أذلاء". وعن الحسن وقتادة: "خائفون".

وعن مقاتل: "متواضعون". وعن علِيٌّ: "الخشوع في القلب، وأنْ تلِين للمرء المسلم كنفك، ولا تلتفت يمينًا ولا شمالًا". وقالَ مجاهد: "غَضُّ البصر وخَفْض الْجنَاح، وكانَ الرَّجل مِنْ العُلماء إذا قام إلى الصَّلاة يُهاب الرَّحمن أنْ يشد بصره، أو أنْ يحدث نفسه بشيء مِنْ أمر الدُّنيا".

وعن عمرو بن دينار: "ليس الخشوع الرُّكوع والسُّجود، ولكنَّه السُّكون وحبّ حسن الهيئة في الصَّلاة".

وعن ابن سِيرِين وغيره: "كانَ النَّبِيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصَّلاة إلى السَّماء، وينظرون يمينًا وشمالاً حتَّى نزلت هذه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ الآية ﴿المؤمنون: 1، 2﴾، فجعلوا بعدَ ذلكَ أبصارهم حيثُ يسجدون، وما رؤي أحدٌ منهم بعدَ ذلكَ ينظر إلاَّ إلى الأرض".

وعَنْ عطاء: "هُوَ ألا تعبث بشيء مِنْ جسدك وأنتَ في الصَّلاة". وأبصر النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رجلاً يعبث بلحيته في الصَّلاة فقالَ: ((لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه)). ولفظ الخشوع ـ إنْ شاء اللّه ـ يبسط في موضعٍ آخر.

وخشوع الجسد تَبَعٌ لخشوع القلب، إذا لم يكن الرَّجل مُرائيًا يظهر ما ليس في قلبه، كما روي: ((تَعَوَّذُوا باللّه من خشوع النِّفاق))، وهُوَ أنْ يرى الجسد خاشعًا والقلب خاليًا لاهيًا، فهو ـ سُبْحَانَهُ ـ اِسْتبطأ المؤمنين بقوله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴿الحديد: 16﴾، فدعاهم إلى خشوع القلب لذكره وما نزل من كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالَّذين طالَ عليهم الأمد فقست قلوبهم، وهؤلاء هم الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا.

وكذلك قال في الآية الأخرى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴿الزُّمر: 23﴾، والَّذين يخشون ربهم، هم الَّذين إذا ذكر اللّه تَعَالَى وجلت قلوبهم.

فإنْ قيلَ: فخشوع القلب لذكر اللّه وما نزل من الحق واجب. قيلَ: نعم، لكن النَّاس فيه على قسمين: مقتصد وسابق، فالسابقون يختصون بالمستحبات، والمقتصدون الأبرار: هم عموم المؤمنين المستحقين للجنَّة، ومَنْ لم يكن مِنْ هؤلاء، ولا هؤلاء، فهو ظالمٌ لنفسه، وفي الحديث الصَّحيح عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ! إنِّي أعوذ بكَ مِنْ عِلْمٍ لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونَفْسٍ لا تَشْبَعُ، ودعاء لا يُسْمَع)).

وقد ذمَّ اللّه قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضع، فقالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴿البقرة: 74﴾.

قَالَ الزَّجَّاج: قَسَتْ في اللُّغة: غَلُظَتْ ويَبِسَتْ وعَسِيَتْ. فقسوة القلب، ذهاب اللِّين والرَّحمة والخشوع منه. والقاسي والعاسي: الشَّديد الصَّلابة، وقالَ ابن قُتيْبة: قَسَتْ وعَسَتْ وعَتَتْ، أيْ: يَبِسَتْ.

وقوَّة القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنَّهُ ينبغي أنْ يكون قويًّا مِنْ غير عنف، ولينًا مِنْ غير ضعف. وفي الأثر: "القلوب آنية اللّه في أرضه، فأحبّها إلى اللّه أصلبها وأرقها وأصفاها". وهذا كاليد فإنَّها قويَّة ليِّنة، بخلاف ما يقسو من العقب، فإنَّهُ يابس لا لين فيه، وإنْ كان فيه قوَّة، وهُوَ ـ سُبْحَانَهُ ـ ذكر وجل القلب مِن ذكره، ثمَّ ذكر زيادة الإيمان عند تلاوة كتابه علمًا وعملًا".اهـ.



([«مجموع الفتاوىٰ» (7/ 27، 30)])