قال الإمام ابن القيم في (مدارج السالكين)(2/ 287 )
(( .. أَنَّ الْمُؤْثِرَ لِرِضَا اللَّهِ مُتَصَدٍّ لِمُعَادَاةِ الْخَلْقِ وَأَذَاهُمْ ، وَسَعْيِهِمْ فِي إِتْلَافِهِ وَلَا بُدَّ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ. وَإِلَّا فَمَا ذَنْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَالْقَائِمِينَ بِدِينِ اللَّهِ، الذَّابِّينَ عَنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عِنْدَهُمْ؟
فَمَنْ آثَرَ رِضَا اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَادِيَهُ رَذَالَةُ الْعَالَمِ وَسَقْطُهُمْ ، وَغَرْثَاهُمْ وَجُهَّالُهُمْ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مِنْهُمْ، وَأَهْلُ الرِّيَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَكُلُّ مَنْ يُخَالِفُ هَدْيُهُ هَدْيَهُ. فَمَا يَقْدَمُ عَلَى مُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ إِلَّا طَالِبُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، عَامِلٌ عَلَى سَمَاعِ خِطَابِ {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] وَمِنْ إِسْلَامِهِ صُلْبٌ كَامِلٌ لَا تُزَعْزِعُهُ الرِّجَالُ. وَلَا تُقَلْقِلُهُ الْجِبَالُ، وَمِنْ عَقْدَ عَزِيمَةِ صَبْرِهِ مُحْكَمٌ لَا تَحُلُّهُ الْمِحَنُ وَالشَّدَائِدُ وَالْمَخَاوِفُ.
قُلْتُ: وَمِلَاكُ ذَلِكَ أَمْرَانِ: الزُّهْدُ فِي الْحَيَاةِ وَالثَّنَاءُ. فَمَا ضَعُفَ مَنْ ضَعُفَ، وَتَأَخَّرَ مَنْ تَأَخَّرَ إِلَّا بِحُبِّهِ لِلْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَنُفْرَتِهِ مِنْ ذَمِّهِمْ لَهُ. فَإِذَا زَهِدَ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، تَأَخَّرَتْ عَنْهُ الْعَوَارِضُ كُلُّهَا. وَانْغَمَسَ حِينَئِذٍ فِي الْعَسَاكِرِ.
وَمِلَاكُ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ: صِحَّةِ الْيَقِينِ. وَقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ.
وَمِلَاكُ هَذَيْنِ بِشَيْئَيْنِ أَيْضًا: بِصِدْقِ اللَّجَأِ وَالطَّلَبِ، وَالتَّصَدِّي لِلْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِمَا.
فَإِلَى هَاهُنَا تَنْتَهِي مَعْرِفَةُ الْخَلْقِ وَقُدْرَتُهُمْ. وَالتَّوْفِيقُ بَعْدُ بَيْدِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا - يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 30 - 31] .)) ا.هـ