(مميزرَيْحانةَ البَصْرة و رَيْحانةَ المَدينَة
الثَّرى والثُّريَّا !!)


الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله الصادق الأمين، وعلى آله، وصحبهِ والتَّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فإنَّ الأوصَافَ الجَميلة، والكلماتَ الطيِّبة، تأسرُ القلبَ قبل السَّمع والبَصَر، وهذا أمرٌ يذوقُ حَلاوته، ويَأنسُ بلذَّته، كلُّ أحدٍ من العُقلاء. ولا أدلَّ على ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والكلمةُ الطيَّبة صَدَقة.

والشاهدُ من كلامي أنَّني أثناء تصفُّحي لكتابِ تهذيبِ الكمال للحافظ أبي الحجَّاج المزِّي - رحمه الله - والمتوفى سنة 742هـ، استوقفتني عبارةٌ جميلةٌ في (ج32/ ص124 ) أَطلقها إمامُ أهل السنَّة والجماعة، أحمدُ بن حنبل- رحمه الله- في ترجمة المحدٍّث الثَّقة الثَبْت، يَزيد بن زُرَيع العَيْشيُّ، أبو معاوية البصري، ت182هـ (مميزألا وهي قوله: كانَ رَيْحانةَ البَصْرَة.)

فجَلستُ بشَغَفٍ كبيرٍ أقرأ تَرجمةَ رَيْحانة البَصْرة - فكَّ الله أسرها- جَاهداً الوقوفَ على أسبابِ كونه بهذه المنزلة الرَّفيعة، والمرَّتبة المنيفة، حتى جَعَلتْ أهلَ البصرة يستنشقون مَحاسنهُ ودُرره.
فما زِلتُ أقرأ وأقلِّب في صَفَحات حياته، حتى وافق الخُـبْر الخَبَر، من علوِّ كعبه في العِلْم، والعِبادة، والصَّدق، والأَدب، والوَرع، والزَّهادة.

(مميزعندها سَرَح بي الفِكْر إلى عِبارةٍ شَبيهةٍ بها، أُطلقت في عَصْرنا على أحد أبنائها الفالحين!!) ألا وهي: (رَيْحانةُ المدينة).

ولِتعلم أنَّي والله لَستُ من الشَّامتين، وأستغفر الله، فحَالي وضَعْفي يعلمه الله، ولكنَّي من المُتَّعظين فكم سَقَط في الفِتَن من ظنَّها مَركباً للسَائرين، ولِذا فمنْ رام النجاة، فليبْدأ بمعرفة قَدْر نفسه، بأن يُدمن قراءة تراجمِ السَّلف الصالحين، والنَّظر في أحوالهم، ثُمَّ ليُقبل على نَفسه، وليبكي على خَطيئته. اللهمَّ يا حيُّ يا قيوم اجعلنا من المُتَّعظين.

أعودُ لرَيْحانةِ البَصْرة – رحمه الله– لأقفَ مع بعضِ ما قيل عنه:
1- (مميزقال عنه الإمام أحمد– رحمه الله–: إليه المنتهى في التثبَّت بالبصرة.)

فتأمَّل كيفَ أنَّه كان من المُتثبِّتين، قد قَفَى هَديَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المُبين، ونَهجَ سبيلَ السَّلف الصالحين، لا عَجلة تعْقبها نَدامة، كما هي سبيل بعضِ العجِلين، بل تأنٍ وتثبُّتٍ تَلْحقها بإذن الله سَلامة.
(مميزفشتَّانَ بين الرَّيحانتين.)

2- (مميزوقال عنه يحيى بن معين – رحمه الله–: الصَّدوقُ الثَّقةُ المأمون.)

ما أجملَ والله أن يَجمعَ اللهُ للعبدِ بين الحُسنيين، كالصِّـدقُ والأمـانةُ، فبها تَكْمن السَّعادة والسِّيادة. وقد أكرمَ الله بها نبيَّنا وقدوتنا محمداً صلى الله عليه وسلم فهو الصادقُ الأمين.
ولا عَجَب، فقد بُعثَ عليه الصلاة والسلام لكي يُلبسَ النَّاس من الأخلاق أحسنها، ومن الفضائلِ مكارمها، عندها وبحمد الله أثمرت دعوته ، وهكذا الداعية الموفَّق، والعالم الربَّاني، فأنْعم بك يا رَيْحانةَ البَصْرة، ورَحمك الله.

والمُصيبَةُ تقعُ بفقْد أَحدِهما، وما ذاكَ إلا لويلاتها على الأمَّة، لا على مُعْتنِقها فحسب، بل يتفاقمُ الخْطبُ بمن جَمعَ بينها، وعِندها قُلْ على الدُّنيا السَّلام، لأنَّها قد قاربتْ على التَّمام، فإنَّ من أشراطِ السَّاعة فُشوُّ الكذب، وضَياعُ الأمانة، وما أقبحها في طَلاَّبِ العلم وإذا وسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهله فانتظر السَّاعة.

(مميزويبلغُ الإجرامُ ذِروته حينما يَفْتأتُ الأصَاغرُ على الأكابر، ويَنطحُ الضَعيفُ الجَبَلَ الأشمَّ، راغباً أن يُشكِّك في قوَّة جِبال الأمَّة ورسُوخها)
ولِذا نقولُ له ولأمثاله:
أَشفق على الرأس لا تُشفق على الجبل

(مميزوصَدق الإمامُ أحمد حينما قال فيمن تكلَّم في الإمام وكيع الجرَّاح: مَنْ كَذَّب أهلَ الصِّدق فهو الكذَّاب.)

فشتَّان بين الرَّيحانتين، فذاكَ جَمعَ بين الحُسنيين، وهذا وللأسف ! جَمعَ بين السوءتين.

3- (مميز وقال عنه أبو عَوانة- رحمه الله-: صَحِبتُ يزيدَ بن زُريعٍ أربعينَ سنة، فكان يزدادُ في كلِّ يَومٍ خيراً.)

وهكذا المؤمنُ، النَّاصحُ لنفسه، يَومُهُ خيرٌ من أمسه، وفي الحديث: " خيركُم من طالَ عُمُره، وحَسُن عَمُله، وشرُّكم من طال عُمُره، وسَاء عَمُله "

(مميزووالله إنَّه لريحانةُ بَلَده حقاً مَنْ يزدادُ في كلِ يومٍ خيراً، ولعلَّ رَيْحانةَ البَصْرة " يزيد " له من اسمهِ نَصيباً. أمَّا بعْضُهم وللأسَف يزدادُ كلَّ يوماً شرَّاً، وأخشى ألاَّ يكون من اسمه نَصيباً.)
فشتَّانَ بين الرَّيحانتين.

4- (مميزوقال عنه ابن حِبَّان البُستيُّ - رحمه الله-: وكان من أورعِ أهلِ زمانه.)

فما أطيب أن يكْتسيَ أهلُ العلم وطلابه كساءَ الوَرع، فذاك لِباس البرِّ والتقوى، فلا تَجدُ كَلمةً قالها أو عبارةً لَفَظها إلا وقد أعدَّ جواباً للسؤال عنها بين يدي الله. تراه لا يُقدِم على أمرٍ يَرتابُ فيه، أو يخشى من إثمه. مُتذكِّراً أنَّ المسلمَ بحقٍّ هو من سَلِم المسلمون من لسانه ويده. وهنا تسلم له دنياه، وتسلم له آخرته بإذن الله، فهنيئاً لمن شُهَد له بالوَرع في الدين. فهو الرَّيحانة بحقٍ وصدقٍ ويقين.

(مميزوأما مَنْ أطلقَ للسانه العَنان، فلم تسْلم منه عُلماءُ الأمَّة، فأخذ يُقذع بالسِّباب والكذِب والبُهتان، فليس عَمُله والله من الريحان، بل نخشى عليه من الإثمِ وسُوء الخاتمة والخُسران).

فاللهمَّ إنَّا نسألك العفو والغفران، والثَّبات على السنَّة والقرآن.
وصلي اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتب:
أحمد بن حمد جيلان