الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد جاء في تاج العروس للزبيدي أن للسَّلَفِ مَعْيَنان ، قال : «أحدُهما كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمْتَهُ أَو فَرَطٍ فَرَطَ لَكَ فهو لَكَ سَلَفٌ وقد سَلَفَ لهُ عَمَلٌ صَالِحٌ.
الثاني : كُلُّ مَن تَقَدَّمَكَ مِن آبَائِكَ وذَوِى قَرَابَتِك الذين هم فَوْقَكَ في السِّنِّ والفَضْلِ واحِدُهم سَالِفٌ ومنه قَوْلُ طٌفَيْلٍ الغَنَوِيٍّ يَرْثِى قَوْمَهُ :«مَضَوْا سَلَفاً قَصَدُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ وصَرْفُ الْمَنَايَا بِالرِّجَالِ تَقَلَّبُ».
أَرادَ أنَّهُم تَقَدَّمُونا، وقَصْدُ سَبِيلِنا عليهم أي : نَمُوتُ كما مَاتُوا فنَكُون سَلَفاً لِمَن بَعْدَنَا كما كانُوا سَلَفاً لنا.
ومنه حديثُ الدُّعَاءِ للمَيِّتِ : « وَاجْعَلْهُ سَلَفاً لنا»([1]). ولهذا سُمِّىَ الصَّدْرُ الأَوَّلُ مِن التَّابِعين السَّلَفَ الصَّالِحَ ومنه حديثُ مَذْحِجٍ : نَحْن عُبَاب سَلَفِهَا»([2]).
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضى الله عنها: «فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ»([3]).
قال النـووي في شرح مسلم (16/5-6) : «قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري فإنه نعم (السلف أنا لك)، (أُرى) بضم الهمزة أي أظن، و(السلف) المتقدم، ومعناه أنا متقدم قدامك فتردين عليَّ».
اصطلاحاً: قال أحمد بن محمد القلشاني: «السلف الصالح، هم الصدر الأول الراسخون في العلم، المهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، المحافظون لسنته، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانتخبهم لإقامة دينه، ورضيهم أئمة للأمة، فجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، وأفرغوا في نصح الأمة جهدهم، وبذلوا في مرضاة الله أنفسهم، قد أثنى الله عليهم في كتابه بقوله :﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ﴾الآية [الفتح:29]، و قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ﴾ الآيتان [الحشر:8-9]، وذكر الله تعالى فيهما المهاجرين و الأنصار، ثم مدح أتباعهم بحسن اتباعهم، و رضي بذلك منهم ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾[الحشر:10]، و توعد بالعذاب من خالفهم، و اتبع غير سبيلهم فقال: :﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾[النساء: 115]، فيجب اتباعهم فيمت نقلوه ،و اقتفاء آثارهم فيما عملوه، والاستغفار لهم. قال الله تعالى:﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا﴾الآية[الحشر:10]»([4]).
وقال السمعاني: «السلفي؛ بفتح السين واللام وفي آخرها فاء: هذه النسبة إلى السلف، وانتحال مذاهبهم على ما سعمت منهم»([5]).
وقال الإمام الذهبي عند ترجمة الحافظ أحمد بن محمد المعروف بـ أبي طاهر السلفي: «السلفي بفتحتين وهو من كان على مذهب السلف»([6]).
و تأكيدا للمعنى قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
العلمُ قال الله قال رسوله *** قال الصحابة هم أولوا العرفان.إذا فالسلف هم الصحابة رضي الله عنهم و يجب فهم القرآن و السنة على فهمهم لأنهم خير من فهم الوحيين فقد لازموا الرسول و فهموا منه و أقرهم على ذلك و كانوا إذا أشكل عليهم أمر رجعوا إليه صلى الله عليه و سلم فيسألونه فيجيبهم عما أشكل عليهم لهذا صار الدين واضحا لديهم ، و القرآن نزل بلغتهم التي يفهمون معانيها و تراكيبها ، و هو خير الناس كما في الحديث :«خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»([7]) و الخيرية هنا تشمل خيرية الفهم الصحيح السليم ، و من هنا نقول أن فهمهم لكتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم خير بكثير من فهم من تأخر ، كما أنهم ذكروا في القرآن و توعد ربنا عزوجل من اتبع غير سبيلهم بالوعيد حين قال سبحانه وتعالى:﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء: 115]. قال ابن تيمية في هذه الآية : «و قد شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه و سلم و من تبعهم بإحسان و بالإيمان ، فاعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة ، فقال تعالى : ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة:100] ، و قال تعالى : ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾[الفتح:18].فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم ولاه الله ما تولى و أصلاه جهنم»([8]).
ما العلم نصبُك للخلاف سفاهةً *** بين الرسول وبين رأي فلان.
وقال رحمه الله تعالى : «فكل من شاق الرسول من بعدما تبين له الهدى، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وكل ما ابتع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعدما تبين له الهدى. فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطئ فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطئ، وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة مخالفة الرسول ، وأن كل ما أجمعوا عليه فلا بد أن يكون فيه نص عن الرسول ...» ([9]).
و إليك أخي القارئ مثال على أن الصحابة هم خير من فهم الكتاب و السنة فَعَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ: «كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الأيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإسْلامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[البقرة: 195]، فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الإقَامَةَ عَلَى الأمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ»([10]).
و من الأمثلة كذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، قال : «حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن دَاوُد الْهَاشِمِيّ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَ : قُلْت أَرَأَيْت قَوْل اللَّه تَعَالَى:﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعَائِر اللَّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اِعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾[البقرة:158] قُلْت فَوَاَللَّهِ مَا عَلَى أَحَد جُنَاح أَنْ لَا يَتَطَوَّف بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَة : بِئْسَمَا قُلْت يَا اِبْن أُخْتِي إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا أَوَّلْتهَا عَلَيْهِ كَانَتْ : فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطُوف بِهِمَا وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ لِأَنَّ الْأَنْصَار كَانُوا قَبْل أَنْ يُسْلِمُوا كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاة الطَّاغِيَة الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْد الْمُشَلَّل ؛ وَكَانَ مِنْ أَهْل لَهَا يَتَحَرَّج أَنْ يَطُوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَة فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّه إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّج أَنْ نَطُوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَة فِي الْجَاهِلِيَّة فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعَائِر اللَّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اِعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّف بِهِمَا﴾ قَالَتْ عَائِشَة : ثُمَّ قَدْ سَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَاف بِهِمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَع الطَّوَاف بِهِمَا»([11]).
فلتتأمل فهمهم للقرآن فستجده فهما قام على العلم و التلقي من رسول الله صلى الله عليه و سلم عكس الذين يرفضون فهم السلف فهم يفسرون القرآن بفهمهم القاصر فضلوا و أضلوا، و لله درء التابعين فقد كانوا يرجعون إلى فهم الصحابة و كهذا من بعدهم من أهل السنة و الأثر ، و اعلم رحمك الله أنه يعلم من هذه الأمثلة أنه يجب فهم القرآن بما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم ، و انه لا يتصور أن يفهم القرآن على غير فهمهم ، فنسأل الله أن يجعلنا ممن يتبع سبيل الصحابة و من تبعهم بإحسان كما نسأله تعالى أن يُعزَّ أولياءَه، ويُذِلَّ أعداءَه، ويهديَنا للحقِّ، ويرزقَنا حقَّ العِلم وخيرَه وصوابَ العمل وحُسنَه، فهو حَسْبُنَا ونعم الوكيل، وعليه الاتكال في الحال والمآل، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
======
([1]): الحديث حسنه الألباني في : (أحكام الجنائز) (ص: 160/161)
([2]): تاج العروس مادة: (سلف).
([3]): صحيح مسلم:كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام، رقم (2450).
([4]): تحرير المقالة من شرح الرسالة (ص:207-208).
([5]): الأنساب (7/104).
([6]): سير أعلام النبلاء (21/6).
([7]):أخرجه البخاري (2652) ، (3651) ومسلم (6472) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([8]): مجموع الفتوى (4/1-2).
([9]): مجموع الفتاوى (7/38).
([10]): رواه الترمذي ( 2972 ) واللفظ له ، وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح ، وأبو داود (2512) ، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح موارد الظمآن ( 2 / 119) و الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند من أساب النزول.
([11]): بواسطة تفسير ابن كثير ، و الحديث أخرجه البخاري في كتاب الحج : باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله، رقم (1643).