السؤال:
ما هو الرّاجحُ عندكم في قولِ الصّحابيِّ إذا لم ينتشرْ ولم يُعرفْ له مخالفٌ، وجزاكم الله خيرًا؟


الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فقولُ الصّحابيِّ إذا لم ينتشرْ ولم يُعرفْ له مخالفٌ قد اختلف العلماءُ في حجّيّتِه على غيرِه على آراءٍ مختلفةٍ، فمذهبُ جمهورِ الأشاعرةِ والمعتزلةِ والشّافعيِّ في قولٍ وروايةٌ عن أحمدَ إنكارُ حجّيّةِ قولِ الصّحابيِّ، وهو رأيٌ منسوبٌ إلى جمهورِ الأصوليِّين، واختاره الكرخيُّ وابنُ حزمٍ والغزّاليُّ والآمديُّ وابنُ الحاجبِ والشّوكانيُّ وغيرُهم، وذهب أئمَّةُ الحنفيّةِ ومالكٌ في المشهورِ عنه وأكثرُ المالكيّةِ والحنابلةِ وبعضُ الشّافعيّةِ إلى أنّه حجّةٌ شرعيّةٌ مقدَّمةٌ على القياسِ خلافًا لمن يقول بحجّيّتِه إذا انضمّ إليه قياسٌ، وهو ظاهرُ مذهبِ الشّافعيِّ في الجديدِ، ومن يرى حجّيّتَه فيما خالف القياسَ، وهو مذهبُ الحنفيّةِ وغيرِهم، والقولُ بمذهبِ الصّحابيِّ إذا لم يخالِفْ فيه قولَ صحابيٍّ آخَرَ ولم ينتشرْ حجّةٌ شرعيّةٌ أقوى نظرًا؛ لاحتمالِ أنّ قولَ الصّحابيِّ مبنيٌّ على أنّه سمع ذلك من النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم أو من صحابيٍّ آخَرَ، أو يكون فَهِمَه من آيةٍ قرآنيّةٍ فهمًا خفِيَ علينا، أو يكون قولُه متَّفَقًا عليه بينهم ولم يُنقلْ إلينا إلاّ قولُ المفتي به وحْدَه، ولأنّ قولَه مرجَّحٌ على رأيِ التّابعيِّ وهو أقربُ إلى إصابةِ الحقِّ وأبعدُ عن الخطإِ، وقد خصّ اللهُ تعالى الصّحابةَ رضي اللهُ عنهم بتوقُّدِ الأذهانِ وفصاحةِ اللّسانِ، فالعربيّةُ طبيعتُهم وسليقتُهم، والمعاني الصّحيحةُ مركوزةٌ في فِطَرِهم وعقولِهم، شهدوا التّنزيلَ وعرفوا التّأويلَ ووقفوا مِن أحوالِ النّبيِّ صلّى الله عليه وآلِه وسلّم ومرادِه من كلامِه على ما لم يقفْ عليه غيرُهم، فكانوا أبرَّ الأمّةِ قلوبًا وأعمقَهم علمًا وأقلَّهم تكلُّفًا، وقد أثنى اللهُ عليهم بقولِه سبحانَه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران].

ومن جهةٍ أخرى يُحتمل أن يكونَ قولُ الصّحابيِّ ناتجًا عن خطإٍ في فهمِه أو غَلَطٍ حاد به عن الصّوابِ في اجتهادِه، فهذا احتمالٌ واحدٌ واردٌ في قولِ الصّحابيِّ بالمقارنةِ مع الوجوهِ الصّحيحةِ السّالفةِ البيانِ، وهي أغلبُ على الظّنِّ من واقعِ احتمالِ خطإٍ واحدٍ، و«الحُكْمُ لِلْغَالِبِ»؛ لذلك كان قولُ الصّحابيِّ إذا لم يخالِفْ فيه قولَ صحابيٍّ آخَرَ ولم ينتشرْ أَوْلى بالاتّباعِ وأحظى بإصابةِ الحقِّ.
هذا، وجديرٌ بالتّنبيهِ أنّ قولَ الصّحابيِّ لا يُحتجّ به أصلاً إذا ما خالفه غيرُه من الصّحابةِ، كما أنّ قولَه لا تُخصَّص به النّصوصُ من الكتابِ والسّنّةِ ما عدا أحوالَ الرّفعِ وإجماعِ الصّحابةِ؛ لأنّ النّصوصَ الشّرعيّةَ حجّةٌ على كلِّ من خالفها وتُقدَّم على كلِّ من عارضها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.


فتاوى الشيخ فركوس