((هدم التأصيل البدعي عند عبد الرحمن بن عمر بن مرعي)).كتبه : أبو محمد صلاح كنتوش العدني وفقه الله وسدده وعصم قلبه.

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فاعلم أيها السلفي الحصيف عصم الله قلبك من الزلل والخطل, أن البدع والضلال في بادئ أمرها قد تلتبس على فئام من الناس؛ لكونها تدخل على الناس من أبواب الاشتباه, وما سميت الشبهة شبهة إلا لشبهها من بعض الوجوه بالحق؛ ولذلك تنفق على أكثر الناس.
ومن تصفح التاريخ وما وقع من الفتن, التي افتعلها المنحرفون عن المنهج السلفي القويم, سوف يرى بكل جلاء أن ما من بدعة نشأت ولا مخالفة وقعت, إلا وهي تقع بسبب جهال اعتلوا منابر العلماء, ورويبضات لبسوا ثياب العقلاء, وقد أبان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بوضوح وتحقيق بقوله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الله لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»( ), الحديث.
وقد أعجبني كلام للعلامة الشاطبي رحمه الله تعالى, القائل: كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك, فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق.
أحدها: أن يَعْتَقِد الإنسانُ في نفسه أو يُعْتَقَد فيه, أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين - ولم يبلغ تلك الدرجة - فيعمل على ذلك, ويعدُّ رأيه رأيًا وخلافه خلافًا, ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع, وتارة يكون في كلي وأصل من أصول الدين, - كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية -, فتراه آخذًا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها, حتى يصير منها ما ظهر له بادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها, ولا رسوخ في فهم مقاصده, وهذا هو المبتدع.
وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبض الله العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا, فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
قال بعض أهل العلم: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم, وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم, أفتى من ليس بعالم؛ فيؤتى الناس من قبله, وقد صرف هذا المعنى تصريفًا فقيل: «ما خان أمين قط, ولكنه ائتمن غير أمين فخان.
قال: ونحن نقول: «ما ابتدع عالم قط, ولكنه استفتى من ليس بعالم فضلَّ وأضل, قال مالك بن أنس: بكى ربيعة يومًا بكاء شديدًا، فقيل له: مصيبة نزلت بك؟ فقال لا! ولكن استفتي من لا علم عنده( )...اهـ
قلت: وقد يقول قائل ها نحن قد نجد من حكم عليه أئمة السنة بالبدعة وهو معدود بين أهل العلم ويشهد له أئمة السنة بالعلم, فيصفونه بالعلم, لكنه ضل وانحرف؟!!.
والجواب: اعلم وفقك الله لطاعته, أن مراد الأئمة بقولهم: «ما ابتدع عالم قط» أي في الجانب المعين, فإنه لا يقع في الباطل إلا بسبب جهله في الجانب الذي أفتى فيه وتكلم فيه, ومن ذلك ما وقع لداود بن علي الظاهري رحمه الله تعالى لما تكلم في بعض مضايق علم الكلام.
قال الحسين بن إسماعيل المحاملي: كان داود جاهلاً بالكلام, قال وراق داود، قال داود: أما الذي في اللوح المحفوظ فغير مخلوق، وأما الذي بين الناس فمخلوق.
قال الذهبي: هذا أدل شيء على جهله بالكلام, فإن جماهيرهم ما فرقوا بين الذي في اللوح المحفوظ وبين الذي في المصاحف، فإن الحدث لازم عندهم لهذا ولهذا, وإنما يقولون القائم بالذات المقدسة غير مخلوق، لأنه من علمه تعالى( )...اهـ
وقال العلامة الذهبي رحمه الله تعالى: وأما داود فقال: القرآن محدث, فقام على داود خلق من أئمة الحديث، وأنكروا قوله وبدَّعوه، وجاء من بعده طائفة من أهل النظر، فقالوا: كلام الله معنى قائم بالنفس، وهذه الكتب المنزلة دالة عليه، ودققوا وعمقوا، فنسأل الله الهدى واتباع الحق، فالقرآن العظيم، حروفه ومعانيه وألفاظه كلام رب العالمين، غير مخلوق( )...اهـ
قلت: وقد يقول قائل إن عنوان المقال «هدم التأصيل البدعي» فيه التصريح بتبديع عبد الرحمن مرعي ولم يسبق إلى ذلك أحد من أهل العلم المعتبرين؟!!.
والجواب: يعلم كل من له عناية بالعلم العناية الحقيقية أن الإنسان قد يقع في فعل البدعة ولكنه قد لا يوصف بالبدعة إلا بعد النصح والتوجيه فإن رجع فلله الحمد والمنة وإن أصر على ذلك بدعه أهل التحقيق والعلم من أهل العلم والفضل.
وما كتبته في هذا الموضع هو جملة الأخطاء من باب النصح والتوجيه, والأمر من بعد إلى علمائنا المكرمين الذين يقررون الحكم في هذه المزالق والمآخذ, والله من وراء القصد.
ثم إن الذي حملني أن أذكر هذا الكلام في هذا الموضع, ما قد وقع عند بعض المنتسبين إلى السنة والجماعة والعلم من الدفاع عن بعض المبطلين من أهل اليمن, وظهر منه ما يخرجه من ربقة السنة والجماعة إلى البدعة والفرقة.
وإنني في هذا المقام أقول لكل من يبلغه كتابي هذا ثم لم يأنف عن الاطلاع عليه, اقرأ كتابي ورسالتي إليك فلعلك تظفر بأحد أمرين: إما باطل فترده بحجة وبرهان, وإما حق فتقبله وترجع عن مذهبك, وكلا الحالين مطلوب, فلا تستعظم الكلام دون أن ترى البراهين, ولا تستصغر القول فيفوتك الحق.
ولعل من أعماه التعصب يقول: هذه شبهات وليست أدلة, أقول: كذلك قال من كان قبلكم ومضى في غيه وانحرافه وطلب تبرير هذه المزالق والأخطاء حتى جعلها من الدين القويم.
واعلم أن مقال هذا المدافع مبني على أركان ثلاثة:
الركن الأول: زعم أن المنتسب إلى العلم منهم باقٍ على الأصل, وأنه لم يعتبر بما وقع فيه وأنه لم ينقل عن الأصل ولم يخرجه عن السنة!!.
الركن الثاني: زعم أنهم خلفاء شيخنا الإمام الوادعي رحمه الله وغفر له وأدخله في الصالحين وأن كل ما قرروه, فهو عين طريقة شيخنا ومنهجه.
الركن الثالث: زعم أنهم قادرون علميًا وعمليًا على حل مشكلات الدعوة بغير حاجتهم لعون كبار أهل العلم والراسخين.
واعلم أيها القارئ اللبيب أن مقالنا هذا سيختلف الناس فيه اختلافًا كبيرًا بين موافق ومخالف, ولكني على أصنِّف الناس المختلفين إلى طبقات ثلاث:
الطبقة الأولى: من هو موافق على تصحيح كل ما وقع من النقد في هذا المقال, وفائدته من هذا المقال أن يزاد ثباتًا على ما هو عليه, والله تعالى المستعان.
الطبقة الثانية: من هو معرض عن القراءة والاطلاع على ما يطرق من النقد, ثم يجزم بعدم الإصابة فيه, وهذه الطبقة تنقسم إلى أصناف:
الصنف الأول: من هو مغلق الباب على نفسه, ويأبى الاطلاع على ما كتب في هذا المقال, وهذا إما لفرط التعصب الأعمى, ويرى أن قيل ما هو إلا من التلبيس والكذب والافتراء.
الصنف الثاني: من أغلق الباب على نفسه, خوفًا على نفسه من لهب الفتنة, ولتلبيس الشيطان عليه, وتوهمه أن هذا من باب الخوض في الفتنة, فيبقى أعمى فيخطفه أهل الباطل إلا أن يشاء الله.
الصنف الثالث: من هو مغلق الباب على نفسه, ويقول الكل إخواننا وإنما هي من نزغات الشيطان, ولا يعنف أحدًا من المختلفين.
وإني في هذا المقام أقول لكل من أغلق على نفسه باب القراءة الاطلاع, افتح الباب واطلع على كتب وقيل؛ لتحصل أحد أمرين: إما أن تظفر بحق فتتمسك به, وإما أن تقف على باطل- في زعم المعرضين- فتنكره, واعلم أن السبب الرئيس الذي دفع المعرضين عن قبول الحق هو أنهم لم يرتضعوا لبان السلفية الحق, وإنما فتحوا أعينهم فلم يروا إلا ما تحت أقدامهم, وقديمًا قيل: «لا يعرف الإنسان خطأ شيخه حتى يجلس عند شيوخ آخرين»؛ لذلك يجزم الكثير من طلاب العلم بأن شيخهم سالم ليس به عور, ولا ما ينقصه, فاعرض الأمر على أهل التخصص لتعلم هل أخطأ الخطأ الذي يخرجه على السنة أم لا!!! والله تعالى من وراء القصد.
واعلم أيها الموفق لطاعة الله تعالى أن كثيرًا من الناس يظن أن الخلاف بيننا وبين أخينا عبد الرحمن بن مرعي هداه الله مبني على أصل واحد, وهو البحث عن الرياسة والتصدر والحسد لمكانته بين الناس, وهذا الأمر ليس بصحيح بل ليس له أساس من الصحة والله عليم بذات الصدور, وليس خلافنا معه وليد قضية الغرباء أو غيرها, وإنما لأمور ستعلمها في طيات هذا المقال إن أحببت أن تنقذ نفسك من التعصب إن كان لك في الدليل مطمع, ومن عجيب الأمر أن القوم جعلوا المسألة مبنية بناء كليًا على قضية الغرباء وإن كانت كما يقال القشة التي كسرت ظهر البعير, وإن كنا نعدها قشة أبدًا, والله تعالى هو الحكم العدل, وهو سبحانه علام الغيوب.
واعلم أولاً أنا نعتقد أن الله تعالى قد وهب أهل اليمن نعمة عظيمة ومنحهم فضلًا كبيرًا وهو وجود علماء وطلاب علم ودعاة إلى الله تعالى, وكان رأس هؤلاء العلماء وإمامهم هو شيخنا الإمام المحدث الفقيه بقية السلف وحامل لواء الدعوة مجدد العصر والدنا الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى وغفر له وأدخله في الصالحين, وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
ومن علمائنا الشيخ العلامة الوالد محمد بن عبد الوهاب الوصابي حفظه الله ورعاه وسدد على السنة خطاه وثبته على النهج السديد وختم له بالحسنى( ).
وهكذا بقية مشايخنا وطلاب العلم والدعاة إلى الله تعالى في اليمن جميعها حرسها الله من كل سوء ومكروه.
لكن اعلم أيها الموفق المسدد أن قولنا وإقرارنا بمشيختنا وعلمائنا ليس معناه أن يقر الواحد منهم على الخطأ والباطل, بل من النصح للأمة أن لا يُقَرَّ إلا على الحق والصواب, مع الاحترام له والإجلال ما دام الخطأ في حيز السنة, فإذا فعل ما يخرجه عن السنة هُتك عرضُه وأُبِيْنَ جلالُه وحُذِّر منه ومن خطأه ولا كرامه للمبتدع, وهذا أصل عظيم درج عليه أهل السنة والجماعة من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد كان من المعدودين من علماء أهل السنة ومشايخ السلفيين أبو الحسن المصري المأربي, وقد أبان أهل العلم انحرافه وزيغه, وما حصل له من التغير والتبدل, وبقي بعض الناس يصرخ مدافعًا عن أبي الحسن وعن باطله, ما ذا يريد فلان وفلان من أبي الحسن, أبو الحسن نجم في السماء, وصار يرمي علماء السنة وطلاب العلم بأنهم يطعنون في العلماء الذين زكاهم شيخنا ومات وهو عنهم راضٍ( ), وربما اعتقد صحة بعض أصوله وقواعده حتى كاد أن يهلك بهلاكه, ومنّ الله على هذا المدافع؛ فاستنقذه أهل العلم والسنة من وحل ودرن أبي الحسن, والحمد لله تعالى.
وممن كان معدودًا بين علماء أهل السنة ومشايخ السلفيين يحي بن علي الحجوري, حتى زاغ وانحرف وغير وبدّل, وقد أبان أهل العلم والسنة انحرافه واعوجاجه, وقام أصحاب الدفاع السابق ووقع في عين ما وقع فيه أولًا, فأشهر سلاحه طعنًا فيمن ينال من الحجوري ويصرح بخروجه من ربقة السنة, وأنه لا كرامة له ولا جلال, وبقيت الشبهة السابقة في رأس هؤلاء المدافعين, ويقولون: «لقد رضي مقبل فلانًا وفلانًا وفلانًا, فماذا يريد فلان وفلان من يحي الحجوري الجبل الأشم».
وبكل أسف على نفس السبيل جرى ومشى, ولدغ من جحر واحد ألف مرة, وربما وقع في بعض أصوله وتقعيداته, حتى كاد أن يهلك بهلاكه ويسقط بسقوطه, ومنّ الله تعالى على هذا المدافع؛ فاستنقذه أهل العلم والسنة من وحل ودرن الحجوري, والحمد لله تعالى.
واعلم أن من أكثر الناس دفاعًا عن أبي الحسن في تلك الحقبة باستماتة كبيرة, واستبسال عظيم الشيخ محمد بن عبد الله الإمام وفقه الله تعالى للتوبة والرجوع, وقد وفق في الرجوع عن تلك المدافعة , لكن بسكوت لا عن اقتناع كما سيأتيك نبأ ذلك في القسم الثاني إن شاء الله من مقالنا المسمى «كشف اللثام عن أدلة الإخوانية عند محمد بن عبد الله الإمام» والله المستعان.
ونحن إذ نذكر هذا ليس من باب التعيير بالذنب بعد التوبة منه, فإن هذا لا يجوز كما هو معلوم, لكني أريد أن أتعرض لقضية بالغة الأهمية هنا, فأقول: هل كان رجوع المدافعين عن تزكية أبي الحسن والحجوري, كان لوضوح ما عند الرجلين من الباطل والانحراف أم لغير ذلك؟!!.
وسأستسمح القارئ اللبيب عذرًا بوضع إجابة ربما يعتبرها بعض الناس دعوة صارخة بإسقاط بعض مشايخ اليمن, لكني أقول بكل أسف وحزن إن ما يقرره محمد الإمام هداه الله ووفقه للتوبة هو بعينه ما قرره الإخوان المسلمون في منهاجهم وسبيلهم الذي يسيرون عليه, بل إن من الحقائق المرة سيئة الطعم والمذاق مما لا يكاد يبتلع ولا يستساغ ولا يطاق أن خلافنا مع محمد الإمام وفقه الله تعالى في أصل عظيم وقضية كبيرة, وهي عدم تكفيره لمن كفره أهل السنة والجماعة وهم الرافضة الحوثيون القائلون بنقص القرآن والطعن في أمنا عائشة وتكفير أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وغيرهم من الصحابة, وغير ذلك من أصولهم الباطلة المنحرفة, بينما كان خلافنا مع الحلبي وأبي الحسن والمغراوي وعرعور وأضرابهم هو دون ذلك, فواعجبًا!!!.
ولهذا قرر علماؤنا الناقدون كأمثال العلامة ربيع بن هادي والعلامة عبيد الجابري وأضرابهما أن الشيخ محمدًا الإمام إخواني فانبرى بعض من كان يدافع عن الأولين ومضى على نفس الطريقة والمنهج السابق في إسقاط كلام الأئمة والتوهين من أحكامهم على انحراف محمد الإمام.
فنقول لهؤلاء المدافعين قفوا قليلًا وخذوا أنفاسكم, واعتبروا بما قد وقعتم فيه من المدافعات الماضية, حتى استنقذكم منها علماء الأمة الكبار رحمة بكم وشفقة عليكم, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْن»( ), والعجب العجيب أن المدافعين أُتُوا من عين الجحر الذي أتوا منه في السابق واللاحق, ونعيذهم بالله من أن يستمروا على قبول اللدغ من عين الجحر السابق مرات بعد مرات, ولله الأمر من قبل ومن بعد, وهو تعالى أعلم بذات الصدور.
ولو أنهم تأنوا في التسرع بالدفع لحقائق شرعية وانتقادات عظيمة, وأمعنوا النظر واستمعوا لتوجيهات الأئمة والراسخين لما حصل منهم ما حصل.
وسأسلك في عرضي لهذه المؤاخذات طريقة الرد العلمي معرضًا عن طريقة الحجوري وحزبه من السباب واللعان والتنقص, بعد أن حاول بعض الإخوة نصحه مرارًا بجلسات خاصة, فأبى وأغلق جميع أبواب المحاورة بينه وبينهم, وبدأ يسخر من قولهم إن عند عبد الرحمن بن مرعي مخالفات عقدية ومنهجية, وقال: أخرجوا ما عندكم ليضحك الناس على ما تزعمون!!.
ولعله يطلق مثل هذه العبارات اعتمادًا على أنه لم يخرج تأليفًا ولا تحقيقًا وتعليقًا على كتاب ما ولو في بابه, حتى كتابه الذي يتغنى به وهو شرح الدراري المضية, ولم يخرج له منه إلا ملزمة لا بأس بها في أبواب البيوع من كتابه المذكور, ولذلك يبدو عليه الثقة في نفسه أنه لم يتكلم في أمور تتعلق بالعقيدة أو المنهج ليؤخذ عليه المآخذ والأخطاء, لكن كما قيل: «كل وعاء بما فيه ينضح», فقد أجرى الله على لسانه ما اعتقد من أصول وقواعد, فبدأ يدرس بعض الدروس التي كشفت عن الوجه الحقيقي له, فخرجت للعيان بعد أن كان يتخفَّى بها خوفًا من سيوف أهل التخصص والتحقيق من أهل السنة والجماعة, فخرجت ماثلة للناس.
ولكن من الناس من أعمى الله بصيرته وجعل يقول أين هذه الأخطاء التي تتشدقون بها, أم أنها ما تزال في القراطيس مخفاه, فأقول لهذا المتعجل ذبح نفسه هاك ما في القراطيس!!.
وإني إذ أسلك هذا المسلك من الرد العلمي أروم به وأطلب محاولة إغلاق باب وزعم من يزعم أن ما كتب في هذه الرسالة ما هو إلا تلبيس وتدليس وكذب وافتراء ومكر, وهم بلا شك عندي قائلون, لكنني لن آلو جهدًا في توثيق ما سطر ها هنا حتى تكون الحجة ظاهرة لمن كان له عينان تبصران وقلب يعقل, وأستحلف بالله قومًا عميت أبصارهم وخبلت عقولهم وقلوبهم أن يمدّوا إلي أيدهم لأضعها على مواطن اللهب ليدركوا بملمسهم إياه أن ثم نارًا محرقة, ويطلعوا على مواطن العطب والهلاك, فإن هم لم يروها بأعينهم ولم يتصوروها بقلوبهم وعقولهم, فلعلهم إذ يمدون أيدهم إلي فأقربها من لهب نار مشتعلة؛ فيشعرون بحرارتها على أقل الأحوال, فهاكم أدلتنا وحججننا فهاتوا حججكم, فأقول وعلى الله اعتمادي:
اعلم عصم الله قلبك من الانحراف أن أخانا عبد الرحمن بن مرعي هداه الله تعالى قد مهد الطريق أمام أتباعه ومن تعصب له بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن البشر عمومًا يحصل عندهم الخطأ والغلط, وهو من جملة البشر فليس هو من الملائكة ولا من الأنبياء فهو لا يبرئ نفسه من الوقوع في الأخطاء.
قلت: وهذا الأمر يقر به كل أحد, لكنه أراد من خلاله أن يهون من قبح ونكارة تلك الأخطاء والأغاليط.
الأمر الثاني: أنه وإن أقر بهذه الأخطاء واعترف بها, فإنه يقسمها إلى قسمين:
القسم الأول: أمور لا يقر بأنها أخطاء لكونها من الأمور التي وقع فيها خلاف بين مشايخ اليمن ومشايخ المملكة, ومنها قضية الإمام والموقف من قتال الرافضة الحوثيين.
القسم الثاني: أمور قد يقر بأنها أخطاء لكنها لا تخرجه من ربقة السنة, فهو لا يزال سلفيًا عند أتباعه ومحبيه, وأنه مستعد أن يتراجع منها أمام الملأ, وإن كانت لا تخرجه عن السنة في زعمه, وأن من أهل العلم المعتبرين من ربما قال بمقاله وأشد من ذلك, كقضية أن من الصحابة من سيلج النار, وغيرها.
الأمر الثالث: أنه يقابل الناقد له بالمقابل فيزعم أن من انتقده كذلك عنده أخطاء ومثالب يجب عليه أيضًا أن يتوب إلى الله تعالى.
ونحن نقول: إن كل من أخطأ فعليه أن يتوب إلى الله تعالى على الفور, ولكن الرجل أتى من باب رمتني بدائها وانسلت.
فهذه الأمور الثلاثة بنى عليه عبد الرحمن بن مرعي قضيته فاقتنع من حوله بأنه الطاهر المطهر من كل سوء يدعيه من ينتقده, والله تعالى أعلم بذات الصدور.
واعلموا حفظ الله علينا ديننا وعصم الله قلوبنا أن أخانا عبد الرحمن هداه الله تعالى قد غرس في قلوب أتباعه ومحبيه أن كل ما قرره من ينتقده إنما هي مجرد ثورة وراءها حظوظ النفوس, وطلب الرياسة, وأن من قام بهذه الثورة أرادوا إسقاط المرجعية في اليمن, وهذه الفرية هي بريد كل من أراد أن يغير الحال ويقلب الحقائق, فقد قال الله تعالى حاكيًا موقف أهل الباطل في ردهم الحق بمثل هذا المقال: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}, الآيات.
واعلموا عصم الله قلوبنا من الزيغ, أنه مما يكاد يكون مجمعًا عليه أن المنهج الذي يسير عليه عبد الرحمن - هداه الله- أنه لا يعرف بموافقه المشرِّفة مع أهل البدع, فليس هو ممن يهاجمون المخالفين للمنهج السلفي النقي الصافي, بل نراه لا يتكلم فيهم إلا في إجمالات أو عمومات, وإن ذكر أحدًا من المبتدعة فربما نراه يملأ فاه بذكر الأشاعرة والمعتزلة وأضرابهم, وجميع أهل السنة يدركون أن هؤلاء قد فرغنا منهم, ولا نخاف على ناشئتنا منهم, بينا لا نراه يمتلأ فاه بذكر المبتدعة الذين نخاف على ناشئتنا منهم كالمنتسبين إلى الحدادية والإخوان المسلمين والقطبية والسرورية وأضرابهم, وإذا حصل أن ذكر بعضًا منهم فإنه لا يذكرهم إلا كالمكره, وإذا سألته من يحمل هذا الفكر الخبيث ممن ذكرت؟!! فلا تعرف له جوابًا وربما قال قد أحرجنا فلان وفلان بالسؤال!!!
فلا تراه يعرف لهم أصولًا ولا قواعد ولا انحرافات!! مما يدلك على أن بضاعته في هذا الباب كاسدة غثة ومزجاه قليلة.
أقول: وقد جعلت المؤاخذات التي وقع فيها أخونا عبد الرحمن بن مرعي على ثلاثة أقسام:
فالقسم الأول: مخالفات في بعض مسائل العقيدة
واعلم عصم الله قلبك وطهر جنانك أن المخالفات العقدية هي أخطر ما يقع فيه المخالف لمنهج السلف الصالحين, وأخذه شيء من أصول الفرق الضالة مما لا يستهان به, والله يعصمنا من الزلل, وإليك أيها القارئ اللبيب جملة من المسائل في العقيدة.
والعبد منا معرض للزلل والخطأ ولا يسلم من هذا إلا من عصمه الله تعالى, وليس هذا في حد ذاته بمستنكر ولا مستغرب, لكن الأمر المنكر والخطر العظيم أن يستمر العبد على باطله وخطئه, ثم يبحث بعد ذلك عن مسوغات ومخارج لما وقع فيه من الأخطاء ولاسيما ما يتعلق بأمر المعتقد؛ ليصبغ أخطاءه بصبغة الشرعية ثم يلصقها بالدين الحنيف, وإن ما حصل من أخينا عبد الرحمن بن مرعي وفقه الله من هذا الباب, والله تعالى المستعان.
واعلم أن المخالفات العقدية التي وقعت منه على صورتين:
الصورة الأولى: فيما قرره ثم رجع عنه
وهنا قد يقول قائل: وإذا كان عبد الرحمن بن مرعي قد رجع عن أشياء أخطأ فيها, فلِمَ تجعلها وتعتبرها من المخالفات وقد تاب ورجع عنه, والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؟!!.
والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: اعلم أن من الأخطاء والزلات ما تؤثر على أصحابها ولو تابوا منها, ولاسيما من كان له أتباع وطلاب, وخاصة إذا كان الخطأ يدل على عدم تمكن الإنسان من العلم بما يضمن للناشئة أن يأخذوا عنه في مأمن من زلقات وزلات أخرى وأخرى.
ولهذا كان بعض السلف يقول: لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيهٌ يُعْلِنُ السَّفه, وإن كان أروي الناس, وصاحبُ بدعةٍ يدعو إلي هواه, ومنْ يكذِبُ في حديث الناس، وإنْ كُنتُ لا أتهمهُ في الحديث, وصالحٌ عابدٌ إذا كان لا يحفظُ ما يحدِّث به( )...اهـ
وقال آخر من السلف: ثلاثةٌ لا تحمل عنهم: الرَّجلُ المتَّهم بالكذبِ، والرَّجلُ كثير الوهم والغلط، ورجلٌ صاحبُ هوىً يدعو إلى بدعةٍ( )...اهـ
والشاهد من الأثرين أن من لم يضبط قواعده في جانب معرفة الفرق والطوائف والرجال فإنه يكثر غلطه؛ ولهذا لوحظ على أخينا عبد الرحمن قلة مقاله في الأشخاص ويحرص على عدم الكلام في مثل هذه القضايا-رغم وضوحها-؛ ليحصل له أحد أمرين:
الأمر الأول: أن يسلم من النقد إن حصل الغلط منه, وذلك؛ لأنه ليس من المحققين ولا ممن يعرف أحوال الرجال والانحراف في هذا الباب.
الأمر الثاني: أن يسلم من وصفه بالتشدد والغلو, كما يرمي به غيره, ولهذا تراه دائمًا يمسك العصا من النصف ولا تراه يقطع في أمر حتى تميل الكفة ومن تأمل موافقه في فتن سابقة سيدرك حقيقة ما نقول, والله تعالى المستعان.
الوجه الثاني: اعلم عصم الله قلبك من الزيغ والانحراف أنا لم نذكر ما وقع فيه من الغلط والاعتقاد المخالف ثم رجع عنه, من باب التعيير بالخطأ والذنب وقد تاب منه, ولكننا نذكره في هذا الموضع لندلل على أنه غلطه ليس من باب مجرد الزلة العابرة التي يقع فيها شأنه شأن بقية بني آدم, ولكن هذه الزلة والغلط تدل على أنه ممن لا يصلح لأنه يكون معلمًا لخوف أن يقع مرات أخرى في تأصيل وتقعيد لا يرجع عنه بعد ذلك كما قد وقع منه في غيرها, ولذلك لما سبر الأئمة وكبار الأمة حالة قال بعضهم: «مغفل, لا يصلح للدعوة», والله المستعان.
وقد سئل العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى عن حكم تزويج التائب من الذنوب, فأجاب رحمه بجواب حاصله أن من الناس من يظهر التوبة إلى الله تعالى, وعلينا أن ننظر في حاله ونسبر خبره ولا نستعجل حتى نتأكد من صدقه, فالصدق بين والتمويه بين( )...الخ.
قلت: أفيكون الخوف على بضع امرأة والحيطة فيه أعظم من الحيطة في أمر رجل وقع في مهالك, يكاد أن يهلك بها الفئة الكبيرة من الناشئة والعوام, وقد ظهر فيه من العطب ما فيه الهلاك, فلئن نحتاط في هذا أولى وأعظم من حيطتنا في بضع امرأة, تأمل هذا تدرك سبب منع العلماء من الدراسة عليك, فسارع بإصلاح العطب, وعجل بالتوبة النصوح, والله تعالى يعصمنا من الزلل.
وهاك بعض ما قرره في أمور الاعتقاد وتأرجح فيه, وقرره ثم رجع عنه؛ لتعلم أنه لم يحقق القول في معتقد ومنهج السلف, ولعل من تتبع صوتياته القديمة والجديدة سيجد من هذا التقرير الكثير, لكن فيما وقفنا عليه الكفاية, فمن ذلك:
المخالفة الأولى: تخبطه وإنكاره الحد لله تعالى.
اعلم وفقك الله لمراضيه أن من المعلوم المقرر في اعتقاد سلفنا الصالح أن صفات الله تعالى لا تثبت عندنا إلا بما أثبته الله تعالى لنفسه إما في كتابه سبحانه أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وهذا ما يدركه صغار طلاب العلم من أهل السنة, لكن أخانا عبد الرحمن لم يدرج على هذه القاعدة في جميع ما يذكر في جانب صفات الله تعالى, حيث أنه لما تكلم مع إخواننا من طلبة العلم والفضل أطلق النفي للحد, وكان الأولى أن يدرج على القواعد السلفية في الألفاظ التي لم ترد في نصوص الوحيين كالجهة والمكان ونحوها, والقاعدة معروفة عند السلف أن من الغلط أن تنفى مطلقًا كما أنها لا تثبت مطلقًا ويستفصل عن معانيها, فإن كان المعنى من الحق أثبت المعنى, وإن كان المعنى باطلًا نفي الباطل وأثبت الحق, ومن هذا ما وقع هنا حيث أن أخانا عبد الرحمن نفى ذلك مطلقًا دون أن يستفصل في القضية, وإن من المعلوم أن أهل السنة لا يطلقون مثل هذه الألفاظ ابتداء, ولكنهم يتكلمون فيها بما يوافق النصوص الشرعية إن ذكرها أهل الباطل, تأمل.
وقد وجد من أهل العلم من أثبته لكنه إنما يريد به معنى المباينة للخلف وانفصاله تعالى عنهم وعدمهم مخالطته إياهم, ووجد من أهل العلم من نفاه باعتبار عدم علم الإنسان به, كما نفى الأئمة الكيف, بقولهم: «استوى بلا كيف» ومن المعلوم أن الاستواء له كيفية معينة يعلمها الله تعالى, وإنما كان نفيها باعتبار علم العباد به, وكذلك لله تبارك وتعالى حَدٌّ يعلمه هو لا يعرف الخلق كيفيته, تأمل والله تعالى أعلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وروى أيضًا شيخ الإسلام ما ذكره أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في «الرد على الجهمية» حدثنا علي بن الحسن السلمي سمعت أبي يقول: حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد بن الحسن الشيباني رجلًا في التجهم فتاب فجئ به إلى هشام ليمتحنه فقال: الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه, فقال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه؟ فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.
قال شيخ الإسلام: شرحت «مسألة حد البينونة» في كتاب الفاروق باب أغنى عن تكريره هاهنا.
قال شيخ الإسلام: وسألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم ابن حبان البستي قلت: رأيته؟ قال: كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير, ولم يكن كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه من سجستان( )...اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في موضع آخر: وروى الخلال أيضًا في «كتاب السنة»..., أن أبا عبد الله قيل له: ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئًا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال: نعم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} قال: أخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي: نحن نؤمن بالله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف ويحده أحد, فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية, وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب, ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه, ليس في الله شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته أحد, غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه, {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}..., فهو في هذا الكلام أخبر أنه بلا حد ولا وصف يبلغها واصف أو بحد أحد فنفى أن تحيط به صفة العباد أو حدهم وكذلك قال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} بحد ولا غاية, فبين أن الأبصار لا تدرك له حدًا ولا غاية وقال أيضًا: ولا يدركه صفة واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله تعالى شيء محدود, كما قال بعد هذا ولا يبلغ أحد حد صفاته فنفى في هذا الكلام كله أن يكون وصف العباد أو حد العباد يبلغه أو يدركه كما لا تدركه الأبصار.
قال الخلال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبل حدثهم قال سألت: أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى «أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا» و«أن الله تعالى يرى» و«أن الله تعالى يضع قدمه» وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله: «نؤمن بها ونصدق بها, ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئًا, ونعلم أن ما جاءت به الرسل حق, ونعلم أن ما ثبت به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحيحة ولا نرد على قوله ولا نصف الله تبارك وتعالى بأعظم مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية»..., وقال حنبل في مواضع أخر قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه تعالى ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين..., والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير.
[...,] فهذا الكلام من الإمام أبي عبد الله أحمد رحمه الله يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد أو يُقدِّرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره أو أنه هو يصف نفسه وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها كما ذكرنا من كلامهم في غير هذا الموضع ما يبين ذلك( )...اهـ
قلت: والقول الفصل في اعتقاد سلفنا رحمهم الله تعالى أن لله تعالى حدًا لا يعلم كنهه وحقيقته إلا الله تعالى, وأما ما وقع من نفي بعض أئمة السنة فإنما يريد نفي المخالطة للخلق, أو إحاطة الخلق بصفاته سبحانه, وأما إنكار أخينا عبد الرحمن بن مرعي فلم يكن إلا من باب عدم الإلمام بأصول معتقد أهل السنة, حتى أنكر عليه بعض المشايخ منهم الشيخ زكريا بن شعيب وفقه الله وأخبرنا أن أخانا عبد الرحمن بن مرعي قد رجع عن هذا, والمقصود هنا إظهار تخبطه وخلطه في مثل هذا, مما يدل على عدم تمكنٍ وتحقيقٍ؛ فكيف يؤمن في ثباته, وهو لم يحقق الاعتقاد السوي, تأمل تنتفع, والله يعصمنا من الزلل!!!.
المخالفة الثانية: قوله الأصل في الإنسان الكفر.
اعلم سدد الله سمعك وبصرك فيما أحبه ورضيه أن المعلوم المقرر عند صغار طلبة العلم فضلًا عن كبارهم وعلمائهم أن الأصل الذي خلق الله عليه الإنسان هو الإسلام ثم قد يطرأ عليه ما يخرجه عن الفطرة والأصل بحسب الطارئ عليه, وهذا أشهر من أن نذكر في مقامنا هذا الأدلة عليه, فما فوجئنا إلا بأخينا عبد الرحمن يقرر في الدرس العام أمام الناشئة من طلابه أن الأصل في الإنسان الكفر, وربما بناه على ما فهمه من مثل قوله تعالى: ( قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) [عبس: ١٧], وقوله سبحانه: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُور) [الشورى: ٤٨], وأضرابها من الآيات والأحاديث, ولا شك أن هذا الفهم سقيم عقيم يخالف النصوص الشرعية في هذه المسألة التي يدركها صغارنا وكبارنا, فما كان من بعض إخواننا طلاب العلم إلا أن تكلم مع أخينا عبد الرحمن بن مرعي وفقه الله وذكره بحقيقة المسألة فرجع عن ذلك واستعتب الأمر, ولا شك أن هذا التقرير ليس بمجرد زلة عابرة ولكنه يدل على ضعف في التأصيل السلفي, تأمل ستدرك خطر ما أقول, والله المستعان.
ولنا بقية إن شاء الله
كتبه أبو محمد صلاح كنتوش العدني