إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من اقتدى بهديه إلى يوم الدين .
وبعد :
فقد أطلعني بعض إخواننا على مقال نشرته جريدة الشرور الجزائرية على عادتها في العقوق ، ونشر الشر والشقوق ، والشروق بالباطل والفسوق بتاريخ ( 24جمادي الثانية 1436هـ الموافق ل/ 14أفريل 2015م للدكتور نور الدين بوقروح وهو رجل جاهل غارق في ضلالة السياسات متشبع بما لم يعط؛ لا علاقة له بعلم الشرع لا من بعيد ولا من قريب ، بل هو دعي من أدعياء السخافة العقلانية طلع علينا بصبغة دينية تحمل فكرة بدعية يطالب فيها العلماء أن يردوا على اكتشافه الجديد (( طلب إعادة ترتيب سور القرآن حسب النزول الزمني للوحي )) بالحجج والبراهين وهو لم يأت في مقالته وبنت أفكاره إلا بالجهل المظلم والباطل الساقط في مسألة فُرغ منها واستقر عليها الأمر توقيفا من الشارع الحكيم منذ أربعة عشر قرنا من الزمان وعليها إجماع المسلمين من عصر الوحي إلى يوم النّاس هذا ، وقبل الرد عليه فيما جاء به من زيف وظلام ودخل وبدعة أذكره لعله يتذكر أو يخشى ، فالذكرى تنفع المؤمنين بقوله تعالى :{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }(36)الإسراء.
وليعلم أن الْقَفْوُ: الِاتِّبَاعُ، يُقَالُ: قَفَاهُ يَقْفُوهُ إِذَا اتَّبَعَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْقَفَا، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْعُنُقِ. وَاسْتُعِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِلْعَمَلِ. وَالْمُرَادُ بِ (( مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )) كل خَواطِر النفس التي لَا دَلِيلَ عَلَيْها وَلَا غَلَبَةَ ظَنٍّ بِها بل هي مجرد توهم وظن لا تغني من الحق شيئا ..
قال ابن كثير (5/75) وَمَضْمُونُ مَا ذَكَرُوهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنِ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ، بَلْ بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ التَّوَهُّمُ وَالْخَيَالُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الْحُجُرَاتِ: 12]،وَفِي الْحَدِيثِ:<< إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أكذبُ الْحَدِيثِ >>رواه البخاري في صحيحه برقم (6066) ومسلم في صحيحه برقم (2563).
وقال السعدي 01/457) أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله ، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسئول عما قاله وفعله وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يعد للسؤال جوابا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله وإخلاص الدين له وكفها عما يكرهه الله تعالى . انتهى كلامه .
قال الأمين الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان : وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ، وَأَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَقَدْ أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ؛ كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَوْلِهِ: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ }[ 59 يونس] ، وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا }( 28 النجم) .انتهى كلامه .
فالعبد مسئول عن كل ما يصدر عنه بعلم وبغير علم ، فإذا علم ذلك كيف يتجرأ أن يتكلم بغير علم، ويخوض في غير اختصاصه بالجهل ، ظنا منه أنه أتى بما لم يأتيه أحد من العالمين ، هذا من السفه بمكان وهو مسئول عنه بلا نكران .
وَمَا يَشْهَدُ لِإِرَادَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِجُمْلَةِ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئولًا}. أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تُسْألُ عَمَّا تُسْنِدُهُ إِلَى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ وَعَقْلِكَ فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ، وذلك هو عين الْقَفْوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فلا تتبعه .
فإياك والقول على الله بغير علم فإنه من الافتراء القبيح الذي لا يفلح صاحبه وأعد الله له العذاب الأليم في الآخرة ..وقال تعالى { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (117)النحل .فلا تقحم نفسك فيما ليس لك ، وتزكي بذلك نفسك وأنك بلغت مبلغ المجددين الذين لا يخلو زمان منهم أو أنك القائم لله بالحجة في هذا العصر حيث استدركت باكتشافك المزعوم أن عدم ترتيب القرآن حسب نزول الوحي أنه أدخل اضطرابا مهما في الدين فجئت تصوبه بهذا الاكتشاف المفترى - نعوذ بالله من الضلال - قال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا }(50) النساء.
اعلم أن الدين كمل والنعمة أتمها الله علينا ورضي لنا دين الإسلام دينا لا يقبل الله شيئا من الدين غيره ، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أكمل البلاغ وبينه أتم البيان فلا يحتاج إلى زيادة أحد مهما كان في كل زمان ومكان ..
وقد استقر أمر ترتيب سور القرآن على النحو الذي يقرؤه المسلمون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم النّاس هذا بالوحي ، وتلقته الأمة بالتواتر جيل عن جيل ، وأما نزوله حسب الترتيب الزمني للوحي فذلك من حكمة التشريع التي تناسبت مع الظروف والوقائع والأحوال الاجتماعية والنفسية وتهيئة للقلوب حتى يتمكن منها الوحي ويؤثر فيها وتكون ادعى للقبول ، والتربية التي يريدها الله تعالى أن يكون عليها الجيل الذي يحمل الرسالة .
وبالمثال يتضح لك بطلان ما قلت .
إن آية المائدة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 3 المائدة : نزلت حسب ترتيبها الزمني كما ذكرتَ (112) فلو نزلت حسب ترتيبها الحالي في المصحف ( 05) لتقاعست النفوس واكتفت بما كان قبلها من تشريع ولم تقبل كثيرا من النواهي والأوامر كما قالت أمنا عائشة – رضي الله عنها لو كان أول ما نزل : افعل أو لا تفعل لما قبل أحد ذلك ..أو كما قالت .
وإنزالها في آخر المُنزّل ووضعها في المصحف حسب الترتيب الحالي فباعتبار كمال الدين وانقطاع الوحي ، وما ذكرتَه من تعاليم الوضوء وقطع يد السارق والتحريم النهائي للخمر من نفس السورة نزل قبلها بلا شك ، وأُخر نزولها حتى اكتمل الدين وتمت النعمة .والمقصود بالدين في الآية وتمام هو بسط نفوذ الإسلام على البلد الحرام مهبط الوحي وذلك من أعظم النعم التي تمت للمسلمين أن حجوا دون أن يشاركهم أحد من المشركين.ولذلك أنزلها الله على رسوله في عرفة في حجة الوداع .ولا يمنع ذلك أن الآية تشمل تمام الدين بمفهوم التشريع وذلك ليناسب مضمونها ولقطع وحسم التشريع الأساسي الكلي بعدها والإحداث في الدين ..
وأما ما قيل أنه آخر ما نزل ، وفيه بعض الأحكام الفرعية كالربا والمكاتبة في الدين وأحكام القتل فليس فيه شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل صحابي قال فيه بما علم أو بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ..
وعلى فرض صحة ما قيل فيكون كمال الدين بمعنى قرب نهايته في التشريع ولا يمنع ذلك عقلا ولا شرعا ، فإنك لو بينت دارا وانتهيت من قواعدها وأسهها وجدرانها ولم يبق لك فيها إلا بعض الجزئيات من الكماليات وربما تكون ضرورية في بعض الأوقات كالمدفئة وزجاج نوافذ الغرف أو استخراج وثائق التسجيل في البلدية لصح لك أن تقول أكملتُ بناء الدار ولا يعاب عليك ذلك ولا ينتقده أحد .
نعم ربما أكملتها نهائيا من حيث التصميم والبناء ولكن من حيث وثائق التسجيل ، مزال هناك بعض الإجراءات ، وكذلك وسيلة التسخين والتبريد لم تكملها ، فمن رآها يقول حقا أنها كاملة ، ولا يمنعك بعد هذا الكمال الذي قلته أو قاله غيرك أن تضيف إليها التبريد والتسخين وغير ذلك مما قد يكون ضروريا ولو في بعض الأوقات .
ثم إن هذه الآية نزلت منفصلة عن السورة ولعل نور الدين بوقروح لا يفرق بين نزول السورة جملة ، وبين نزول الآية والآيات حسب الحاجة والوقائع ، فإن أغلب القرآن نزل مفرقا ، منه ما نزل ابتداء ومنه ما نزل جوابا لسؤال ومنه ما نزل حسب الحوادث والوقائع ومناسبات فتنزل الآية والآيات ولم ينزل من السور كاملة إلا القليل ،بالنسبة لعدد السور الذي نزل مفرقا ، فكان جبريل كلما نزل بآية أو آيات يخبر الرسول بمكانها من السورة الفلانية وإذا نزل بالسورة يخبره بمكانها من القرآن الكريم .وسورة المائدة لم تنزل جملة واحدة وما قيل فيها أنها نزلت كاملة فلا يصح فإسناده منقطع ؛ ناهيك أن فيه شهر بن حوشب كما قاله أهل الاختصاص .وترتيب القرآن على ما هو عليه اليوم في المصحف هو مطابق لما في اللوح المحفوظ لأن الله أنزله جملة واحدة إلى سماء الدنيا مرتبا كذلك ثم منها إلى الأرض منجما فكلما نزل بآية أو سورة قصيرة أوقفه على مكانها وترتيبها فتكون سور القرآن مترتبة بالدليل ولا دخل للعقل والاجتهاد في ترتيبها .هذا أولا .
ثانيا : أن ترتيب السور حسب نزول الوحي محفوظ وموجود في بطون الكتب التي نقلت لنا كل ما يتعلق بكتاب الله ، فمن أراد أن يرجع إليها ليسهل عليه إدراك المعني الحرفي والتصويري لآيات القرآن - حسب قولك – فما عليه إلا أن يطلب العلم ويرجع إلى المصادر والمراجع ويتتبع ذلك حسب حياة الرسول وسيرته وحسب سبب النزول فالكل محفوظ في كتب التفسير والحديث وكتب السيرة والتاريخ ، وقد أفردت كتب لكثير من علوم القرآن ، وليس هذا الأمر الذي تطالب به (إعادة ترتيب المصحف ) من أجل تسهيل إدراك المعنى الحرفي والتصوري للقرآن الكريم – كما تقول - متوقف على ترتيب المصحف مرة أخرى لا يقول هذا إلا جاهل بعلم الشرع .
ثالثا : أن ترتيب القرآن الكريم حسب المكتوب في المصحف ، هو على حسب ما هو مرتب في اللوح المحفوظ حيث أن الله أنزله جملة واحدة إلى اللوح المحفوظ ومن ثم إلى الأرض منجما وهذا قول حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما . وذلك لأسباب منها .
1 – أن الله جمع لنبيه القرآن في صدره فكان يقرأه على النحو المرتب في المصحف والموجود في اللوح المحفوظ.وقد ثبت عنه أنه ذكر بعض السور مرتبة على ترتيب الحالي في المصحف .
منها ..
ما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : في سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: (( أنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي )) فذكرهن كما استقر ترتيبها في المصحف .
وما رواه ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع المفصل في ركعة .وروى في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال : سمعت ربيعة يسأل : لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلها بضع وثمانون سورة مكية ، وإنما أنزلتا بالمدينة ؟ فقال : قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه ، ثم قال فهذا مما ينتهي إليه ولا يسأل عنه .
2 – أنه صلى الله عليه وسلم كان يراجعه ويذاكره مع جبريل كل عام في رمضان وفي السنة التي توفي فيها مرتين فلو كان يقرأه ويراجعه على ترتيب نزول الوحي لنقل إلينا لأنه أمر مهم – على قولك - لا يجوز إغفاله ، وقد نقل الصحابة أمورا كثيرة هي أقل شأنا بكثير من مسألتنا هذه ..
ثالثا : لقد جمع القرآن عدد كثير من الصحابة وحفظوه واستظهروه في صدورهم وهناك من كان يعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم كزيد ابن ثابت فلو كان يقرأه ويعرضه على غير المرتب في المصحف الآن لنقل إلينا ..وكانوا يحزبون ثلاث سور ، وحمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل من (ق) حتى نختم . أخرجه أبو داود وأحمد قال الحافظ ابن حجر : فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد رسول الله .ورجح ترتيبه التوقيفي .
رابعا : أن الصحابة الذين جمعوا القرآن جمعوه حسب ما كانوا يعلمونه من قراءته صلى الله عليه وسلم حيث كان يقرأه ، ويجمع بين قصار المفصل في القراءة والصلاة ..
خامسا : القرآن كان مجموعا في صدر النبي وفي صدور بعض الصحابة على النحو المرتب الآن في المصحف ، ولذلك أجمع الصحابة عليه ولم يخالفهم أحد فيما أعلم .
سادسا : إن ترتيب سور القرآن توقيفي وليس اجتهادي ، تولاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان جبريل كلما نزل بشيء منه أخبره بموضعه وقد دل عليه أدلة إضافة إلى ما ذكرت ، وقد الإجماع على هذا غير واحد من أهل العلم منهم الزركشي ، وأحمد بن إبراهيم الأندلسي والسيوطي وغيرهم . وهل تدري يا نور الدين بو قروح ما معنى توقيفي أم تجهل هذا المعنى ؟ ولا باس من الجواب مكانك ، فإن معنى التوقيفي أنه لا مجال للاجتهاد فيه ، فلا يجوز لأحد مهما كان أن يجتهد فيعمل عقله فيه ويغير ويبدل ما بدا له فيما أمر الله به أو شرعه بالدليل .والذي يظهر أنك تجهل ذلك، لأنك لو كنت تعلم التحقيق لمّا تجرأت على هذا الذي قلت ، وصدق الحافظ ابن حجر حيث قال في الفتح: من تكلم في غير فنه أتى بالغرائب والعجائب.
واعلم أن اعتقاد ما جئت به قد يخرجك من الإسلام لأنه خرق للإجماع ، واتهام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبلغ لأمته هذه المسألة المهمة التي بدونها لا يفهم المعنى الحرفي والتصوري لكلام الله ، وإنه إذ لم يفعل ذلك و سكت الله عنه يكون مخالفا لقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }(67) المائدة .
وهي من السورة التي تتكلم عنها وقد نزلت ورقهما حسب نزول الوحي( 112) وقد كان رسول الله قد بلغ أغلب ما نزل إليه فهل تعتقد أن الله لامه فيها لأنه أخفى شيئا لم يبلغه أو قصر في التبليغ ..
ألم تمر بك هذه الأحاديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ حَدّثَك أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنزل عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، اللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ. (4صحيح البخاري برقم (4612) وبرقم (4855، 7380) وصحيح مسلم برقم (177))وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ و َتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الْأَحْزَابِ:37] . (صحيح البخاري برقم (7420) ورواه مسلم في صحيحه برقم (177) وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جُحَيفَة وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ قَالَ : قُلْتُ : لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وفَكَاك الْأَسِيرِ، وَأَلَّا يقتل مسلم بكافر (10) . صحيح البخاري برقم (111) . وأين أنت من هذه الآيات وهي قوله تعالى :{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }(44)النحل وقوله عز وجل :{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (89) النحل.وقوله :{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }(38) الأنعام .أتراه سكت عن نبيه عن هذه المسألة حين كتمها ولم يبينها أو يبلغها فيكون قوله سبحانه في الآيات المشار إليها آنفا خطأ وتناقض لأنه قال :{ تبيانا لكل شيء } وقال ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقال قبلها لتبين للناس ما نزل إليهم ، وهذه المسألة مهمة عندك ، (( ترتيب السور حسب الوحي )) لأن الوحي نزل بها ، وقد أحدثت اضطرابا في فهم المعني الحرفي والتصوري للقرآن الكريم .فهل تعقل ما تقول ؟؟واعلم أن المطالبة بإعادة ترتيب سور القرآن حسب نزول الوحي اتهام للصحابة والسلف الصالح بأنهم غيروا وبدلوا وحرفوا القرآن بعد موته صلى الله عليه وسلم فرتبوه على غير مراد الله ومراد رسوله فحصل بذلك اضطرابا مهما في فهم النصوص الوحي ، وهذا قول الشيعة الأنجاس الأرجاس الذين يقولون أن القرآن محرف فما الفرق بين قولهم ذلك وبين قولك أن إهمال ترتيبه على حسب نزول الوحي اضطرابا ..ويعني أن كل علماء الصحابة والتابعين وكل علماء الأمة من ذلك العصر إلى يوم النّاس هذا الذين فسروا أو كتبوا فيما يتعلق بالقرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا لم يدركوا ذلك الاضطراب وفاتهم أو علموه وسكتوا عنه فيكونوا خانوا الله ورسوله ، راجع عقلك يا رجل وأنظر ما تقول وما يخرج منه ؟؟ثم أنت لم تأت بشيء جديد فنزول القرآن حسب نزول الوحي كان موجودا ومحفوظا في كتب أهل العلم من عصر الوحي إلى يوم النّاس هذا وما ترك العلماء شاردة ولا واردة تتعلق بالقرآن إلا ألفوا فيها فحفظوا لنا ترتيب السورة حسب نزول الوحي ، وحسب ما هو مكتوب في المصحف اليوم ، كما حفظوا عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه ، وحفظوا ما نزل كاملا وما نزل مجزئا وحفظوا ما نزل بالليل والنهار وما نزل خارج مكة وداخلها وبالمدينة وبينهما وخارجهما، وفسروه من جميع نواحيه ،عقيدة وإيمانا وأحكاما ولغة وبيانا وبلاغة ، وغريبا وإعرابا وإعجازا ومعاني وقصص ومعاملات وأخلاق فلم يتركوا شيئا للاحق .. فاللاحق عالة على تراثهم الضخم ، فإن المطبوع منه لا يمثل 30% من المخطوط فهل اطلعت على كل ذلك حتى جئت بهذا الاكتشاف ؟؟
أم أنك تقصد أن يجمع المصحف على ترتيب نزول الوحي ويطبع على ذلك النحو ويتعبد به الله ، ويقرأ به في الصلاة وغيرها ويتدبر من خلاله فهم المعني الحرفي للقرآن الكريم ؟أتريد أن تنحرف بالأمة عن كتاب ربها بهذه الضلالة من بنات أفكارك ، ألا تعلم أن هذا إحداث في دين الله ، وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو اتباع لغير سبيل المؤمنين ومن اتبع سبيلهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا .. إذ ترتيب السور توقيفي فكان عبادة لا يجوز الإحداث فيها .. وأي مخالفة من هذا النوع فهي ضلالة وأي ضلالة ؟؟ فلا يعلب بك الشيطان ليوقع بك في قعر النيران .
وأضيف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يقرأه ويراجعه في كل عام مرة وقد جمعه الله له على ما هو في اللوح المحفوظ ثم أنزل عليه آية تطمئنه أنه محفوظ إلى أن يأذن الله تعالى في رفعه فقال عز من قائل : {إن نحن نزلنا الذكر وإنا له حافظون } والذكر هنا هو القرآن بدليل قوله تعالى :{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }(44)النحل .وقوله تعال:{ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) ... الآية.
والذكر المنزل الذي جاءهم هو القرآن بإجماع العلماء وليس ما ذهبت تتفلسف فيه فقد وعد سبحانه ووعده صدق وحق أنه يحفظ هذا الذكر المنزل من التحريف والتبديل كما حرف وبدل الذكر المنزل قبله من التوراة الإنجيل .
والسؤال الذي يمكن أن أتوجه به إليك : هل علم الله أن الصحابة بعد موت النبي يغيرون المصحف الذي كان يقرأه ويدارسه مع جبريل في كل عام فيجمعون القرآن على ماهو عليه اليوم في المصحف أم جهل ذلك ؟؟ فإن قلت بالثاني ( أي جهل ذلك ) كفرت وخرجت من الإسلام لأن فيه اتهام لله بالجهل ، وما عليك إلا التوبة والرجوع والتسليم والانقياد وأن لا تخض برأيك واحذر بطش منتقم فخوضك فيه موجب النِّقم .
وإن قلت بالأول ( أي علم ذلك منهم ) فيقال لك :كيف يعلم الله تعالى من قوم أختارهم لصحبة نبيه أنهم يغيروا ويحرفوا القرآن ولا يرتبوه على نزول الوحي الزمني ثم يسكت عنهم ، ولم يذم ذلك منهم ولم يبينه لنبيه ؟؟ هذا أمر خطير متعلق بكتابه ومصير كثير من القضايا التي ذكرتها أنت من بنات فكرك المنحرف . وفيه اتهام لله تعالى بالخيانة لنبيه وكتم الحق عنه ...وأحلاهما مر .
الرد بالحجج العقلية :
لنفرض أنك كنت قد كتبت كتابا من خمسين سنة وقد اتفقت الأمة على ما فيه وتلقته بالقبول ، وعلى رأسها العلماء المختصين فيما كتبت وغير المختصين ثم جاء أحد من غير المختصين فيما كتبت فطلب منك أن تعيد ترتيبه وأن الترتيب الذي وضعته عليه لا يف بالغرض ولا يفهم المقصود من كلامك به؛ فكيف يكون موقفك منه ؟لاشك أنك ستغضب وتصخب وتصيح به ، والدليل ها أنت تفعله فقد انتقدك البعض في فكرتك فغضبت ووصفتهم بالعلماء المزيفين كما وصفت وزير الشؤون الدينية محمد عيسى بالجاهل ، فكيف بك وأنت تنتقد أربع عشرة قرنا من العلماء وفي مقدمتهم أهل الاختصاص في علوم القرآن والتفسير وفي مقدمة الكل الصحابة وعلمائهم الذين شهدوا نزول الوحي وحفظوا كتاب الله من التحريف والتبديل ورتبوه حسب ما كان يأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ويخبره جبريل .
ثانيا : هل يمكن لأحد من الناس من غير أهل الاختصاص في اللغة والبيان أن يأتي اليوم فيقول لا بد من إعادة ترتيب حروف الأبجدية بحروف الهجاء لأن العرب كانت تحسب بالأبجدية
وهي :
أَبْجَدْ هَوَّز حُطِّي كَلَمَنْ ...سَعْفَصْ قَرَشَتْ ثَخَذْ ضَظغ
أ = 1 ، ب = 2 ، ج =3، د =4 ، هـ =5 ،و = 6 ، ز = 7 ، ح =8 ، ط =9 ، ي =10 ، ك =20، ل =30، م =40، ن =50 ،وهكذا إلى مائة ، ثم كل حرف من الحروف الباقية بمائة إلى الألف .
=================
أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض

21 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15

ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن و ي هـ .

16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 .
فقارن بين هذه الأرقام في أبجد وبين رقم وجوده في حروف الهجاء فهل لأحد أن يأتي اليوم بعدما استقر الوضع على هذا الترتيب والعد به ، ويقول : لابد من إعادة ترتيبها على حروف الهجاء وأن نعد بحروف الهجاء لا بالأرقام ولا ب (أبجد..) لو قال أحد ذلك لعده أهل الاختصاص مجنونا ؛ فكيف بكتاب الله الذي نزل من عند الله مرتبا وما كان على الرسول إلا تبليغه وقد بينه وبلغه غاية البيان وأتم البلاغ ،وكذلك وأجمعت الأمة على ذلك فراجع عقلك يا رجل .
واعلم أن باقي ما تطرقت إليه من الأمثلة هو مبني على هذه النظرية الباطلة الفاسدة وما بني على فاسد فهو فاسد فلا ينبغي إضاعة الوقت فيه إذ أبطل أساسه من الأصل ، وعلى نور الدين بوقروح أن يتوب من قروح أفكاره وأن يعالجها بفهم السلف والآثار عنهم وليقف حيث وقف القوم فإنما وقفوا عن ورع وعلم وسكتوا بعلم وحلم ، وليعرف قدر نفسه فإنه مهما جاء به من فكر واجتهاد فإنه لا يمكن أن يبلغ علم السلف الصالح قيد أنملة وإذا كان بعض المبشرين بالجنة كابي بكر وعمر يخاف أن يقول في القرآن برأيه فكيف بك وأنت لا تفقه شيئا مما كان عليه القوم رضي الله عنهم من عمق علمهم وخوفهم من ربهم فقد كانوا أعلم الناس بكتاب الله وطريقهم فيه أسلم وأحكم ومع ذلك يقول الواحد منهم أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن أنا قلت في كتاب الله برأيي .
واعلم أنه جاء التحذير والوعيد الشديد لمن قال في القرآن برأيه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أخرجه النسائي في (( فضائل القرآن )) ( 109/ 110 ) ، والترمذي (2951) ، وأحمد في (( المسند )) ( 2069 ، 2429 ، 2976 ، 3025 ) ، والطبري في (( تفسيره )) ( 73/ 74/ 75/ 76/ 77 )) وعَبْدُ الرَّزَّاقِ في مصنفه (2)وهو صحيح بمجموع طرقه .
ولعل في هذا القدر كفاية وأرجو أن يكون فيما ذكرت شفاء لقروح أفكار الدكتور نور الدين بقروح وأن يراجع نفسه ولا يفتح عليها باب شر . والله المسئول أن يبصرنا وإياه بعيوبنا وأن يردنا والمسلمين إلى الإسلام على مراد الله ومراد رسوله ردا جميلا إنه ولي ذلك والقادر عليه .