(منهج السلف في التعامل مع أخطاء العلماء)

(داود بن علي الظاهري)


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،، أما بعد:
فهذه المقالة -إن شاء الله تعالى- هي باكورة لسلسلة -يسر الله إتمامها- أذكر فيها سير بعض الأعلام، والمآخذ التي أخذت عليهم، متناولاً بالنقد والتحليل موقف السلف منها، مستعيناً في ذلك بكلام شيخ الإسلام وعلم الأعلام ابن تيمية، وغيره من أهل العلم، متحاشياً الكلام عن المواقف الشخصية، حتى لا يقال: إن هذا موقف شخصي من فلان ووقائع الأعيان لا عموم لها، آخذاً في الاعتبار أن تكون النماذج التي ضربت بها الأمثلة نماذج سلفية، كي لا يقال: إنما فلان هذا الذي نوهت به مرجئاً أو خارجياً، أو ما شابه ذلك، فينسب إلى نحلة فاسدة من تلك النحل التي خالف أصحابها سبيل المؤمنين، ولم ينتظموا في سلك الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، فاستحقوا الطرد والإبعاد من حظيرة أهل السنة والجماعة.
فرجال هذه السلسلة ليسوا سلفيين فحسب، بل هم من السلفية بمكان، فقد كانوا أئمة أعلاماً ونبلاء كراماً، بيد أنهم بدرت منهم هنات وصدرت عبارات، تغير عليهم أهل السنة من أجلها، ومنهم من بدعوه بسببها، مع أن جميع هذه المآخذ يمكن الاعتذار عنها، والتملص منها.
فإلى الشروع في المقصود، والله المستعان وعليه التكلان:
داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان.
إمام أهل الظاهر؛ الجهبذ الفقيه المجتهد المطلق، أحد الأئمة الأعلام، تتلمذ على عدد من أكابر أهل الملة، منهم: عبدالله بن مسلمة القعنبي، وسليمان بن حرب، ومسدد بن مسرهد، ومصعب بن عبدالله الزبيري، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو خيثمة، ويحيى بن معين، والحارث بن سريج، ومحمد بن عبدالله بن نمير، وأبو بكر بن أبي شيبة.

من أقوال أهل العلم فيه:
1-قال ثعلب: "كان داود بن علي عقله أكبر من علمه"اهـ
2-وقال أبو عمرو المستملي: "رأيت داود بن علي يرد على إسحاق بن راهويه, وما رأيت أحداً قبله ولا بعده يرد عليه هيبة له"اهـ
3-وقال أبو عبد الله المحاملي: "رأيت داود بن علي يصلي، فما رأيت مسلماً يشبهه في حسن تواضعه"اهـ
4-وقال: "صليت صلاة العيد يوم الفطر في جامع المدينة فلما انصرفت قلت في نفسي: أدخل على داود بن علي أسلم عليه وأهنؤه، فجئته وقرعت عليه الباب فأذن لي فدخلت عليه، وإذا بين يديه طبق فيه أوراق هندباء وغضارة فيها نخالة، وهو يأكل فهنيته وتعجبت من حاله، ورأيت أن جميع ما نحن فيه من الدنيا ليس بشيء، ودخلت على الجرجاني فلما علم بمجيئي إليه، خرج إلي حاسر الرأس حافي القدمين وقال لي: ما عنى القاضي أيده الله؟ فقلت: مهم، قال: وما هو قلت: في جوارك دواد بن علي ومكانته من العلم ما تعلم، وأنت فكثير البر والرغبة في الخير تغفل عنه، وحدثته بما رأيت، فقال لي: داود شرس الخلق، أُعلم القاضي أني وجهت إليه البارحة ألف درهم مع غلامي ليستعين بها في بعض أموره، فردها مع الغلام وقال للغلام: قل له: بأي عين رأيتني؟ وما الذي بلغك من حاجتي حتى وجهت إلي بهذا؟ فتعجبت من هذا. فقلت له: هات الدراهم فإني أحملها إليه أنا، فدعا بها ودفعها إلي ثم قال: يا غلام: ناولني الكيس الآخر، فجاء بالكيس الآخر فوزن ألفاً أخرى، فأخذت الألفين وجئت إليه فقرعت بابه وكلمني من وراء الباب، وقال: ما رد القاضي؟ فقلت: حاجة أكلمك فيها، فدخلت وجلست ساعة، ثم أخرجت الدراهم وجعلتها بين يديه، فقال: هذا جزاء من ائتمنك على سره؛ إنما بأمانة العلم أدخلتك إلي. ارجع فلا حاجة لي فيما معك، فرجعت وقد صغرت الدنيا في عيني"اهـ
5-وقال مسلمة بن قاسم: "كان داود من أهل الكلام والحجة والاستنباط لفقه الحديث، صاحب أوضاع، ثقة إن شاء الله تعالى"اهـ
6-وقال عمر بن محمد بن بجير الحافظ: "سمعت داود بن علي يقول: دخلت على إسحاق وهو يحتجم فجلست, فرأيت كتب الشافعي فأخذت أنظر؛ فصاح بي إسحاق: أيش تنظر؟ فقلت: (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)، قال: فجعل يضحك أو يتبسم"اهـ
7-وقال قاسم بن أصبغ: "ذاكرت ابن جرير الطبري وابن سريج في كتاب ابن قتيبة في الفقه, فقالا: ليس بشيء, فإذا أردت الفقه فكتب أصحاب الفقه, كالشافعي وداود ونظرائهما. ثم قالا: ولا كتب أبي عبيد في الفقه, أما ترى كتابه في (الأموال) مع أنه أحسن كتبه"اهـ
8-وقال ابن حزم: "كان داود عراقياً, كتب ثمانية عشر ألف ورقة"اهـ
9-وقال الخطيب: "كان إماماً ورعاً ناسكاً زاهداً، وفي كتبه حديث كثير، لكن الرواية عنه عزيزة جداً"اهـ
قلت: لكلام الإمام أحمد فيه من أجل مسألة اللفظ.
10-وقال الصفدي: "كان زاهداً متقللاً كثير الورع .. وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد. قيل: إنه كان يحضر مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر، وكان من عقلاء الناس"اهـ
11-وقال الداوودي: "الإمام الحافظ المجتهد الكبير ..كان إماماً فاضلاً صادقاً ورعاً"اهـ
12-وقال أبو العباس أحمد الإشبيلي: "وداود بن علي ثقة، فاضل، إمام من الأئمة لم يذكره أحد بكذب ولا تدليس"اهـ
13-وقال الشهرستاني: "وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه، فمنهم: مالك بن أنس رضي الله عنه، إذ قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ومثل أحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وداود بن علي الأصفهاني، ومن تابعهم"اهـ
14-وقال: "أصحاب الحديث: وهم أهل الحجاز؛ هم أصحاب مالك بن أنس، وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب أحمد ابن حنبل، وأصحاب داود بن علي الأصفهاني، وإنما سموا: أصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص؛ ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبراً أو أثراً؛ وقد قال الشافعي: إذا وجدتم لي مذهباً، ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر"اهـ
15-وقال النووي: "فضائل داود وزهده وورعه ومتابعته للسنة مشهورة"اهـ
16-وقال السبكي: "ونعتقد أن أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد والسفيانين والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وداود الظاهري وابن جرير، وسائر أئمة المسلمين: على هدى من الله تعالى في العقائد وغيرها، ولا التفات إلى من تكلم فيهم بما هم بريئون منه، فقد كانوا من العلوم اللدنية والمواهب الإلهية والاستنباطات الدقيقة والمعارف الغزيرة والدين والورع والعبادة والزهادة والجلالة بالمحل الذي لا يسامى"اهـ
17-وقال: "كان أحد أئمة المسلمين وهداتهم .. وقد كان موصوفاً بالدين المتين"اهـ
18-وقال: كان جبلاً من جبال العلم والدين، له من سداد الرأي والنظر ونور البصيرة ما يعظم وقعه"اهـ
19-وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -وحسبك به-: "وداود من أصحاب إسحاق، وقد كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن إسحاق يقول: أنا أُسأل عن إسحاق؟ إسحاق يسأل عني. والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وداود بن علي، ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث رضي الله عنهم أجمعين"اهـ
20-وقال: "هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم، وهذا مذهب الأئمة المتبوعين مثل مالك بن أنس، والثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وداود، ومحمد بن جرير الطبري، وأصحابهم"اهـ
21-وقال: "فإن داود وأكابر أصحابه، من المثبتين للصفات على مذهب أهل السنة والحديث"اهـ
22-وقال: "بخلاف أئمة الحديث الذين يحتجون به ويبنون عليه دينهم؛ مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينة، وعبد الله ابن المبارك، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي ابن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة، وابن المنذر، وداود بن علي، ومحمد بن جرير الطبري، وغير هؤلاء؛ فإن هؤلاء الذين يبنون الأحكام على الأحاديث، يحتاجون أن يجتهدوا في معرفة صحيحها وضعيفها وتمييز رجالها"اهـ
23-وقال: "وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، والطبري، ومن سلك سبيلهم؛ فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، مع الإخلاص بالنية الصادقة"اهـ
24-وقال: "وكان أئمة السنة: كأحمد وأمثاله، والبخاري وأمثاله، وداود وأمثاله، وابن المبارك وأمثاله، وابن خزيمة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن أبي شيبة وغيرهم؛ متفقين على أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته"اهـ
25-وقال الذهبي: "وفي الجملة, فداود بن علي بصير بالفقه, عالم بالقرآن, حافظ للأثر, رأس في معرفة الخلاف, من أوعية العلم, له ذكاء خارق, وفيه دين متين"اهـ
26-وقال: "الحافظ المجتهد أبو سليمان إمام أهل الظاهر .. كان بصيراً بالحديث صحيحه وسقيمه"اهـ
27-وقال العماد الحنبلي: "الإمام الفقيه .. كان ناسكاً زاهداً .. حافظاً مجتهداً"اهـ
28-وقال السفاريني: "المقتدى بأقوالهم وأفعالهم من كل عالم همام، وحبر قمقام، ومقدم مقدام، كالأئمة المتبوعة الآتي ذكرهم، والسفيانين، والحمادين، وإسحاق، وعبدالله بن المبارك، والليث بن سعد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعبد الملك بن جريج، وداود، وغيرهم؛ فإنهم وإن تباينت أقوالهم واختلفت آراؤهم من جهة الفروع الفقهية، فالجميع سلفية أثرية، ولهم في السنة التصانيف والتآليف الناصعة، كابن سعيد الدارمي وأبي بكر ابن خزيمة وأشباههم"اهـ
أما قول الأزدي فيه: "لا يُقنع برأيه ولا بمذهبه .. تركوه"اهـ فالأزدي نفسه ضعيف لا عبرة برأيه ولا بقوله، بل يحتاج لمثل داود كي يزكيه.
قال الذهبي: "لا يلتفت إلى قول الأزدي؛ فإن في لسانه في الجرح رهقاً"اهـ
وقال العراقي: "الأزدي يطلق لسانه في الجرح كثيراً ويجازف في ذلك، قد تكلم فيه بعض أئمة النقد فلا ينبغي أن يرجع إلى قوله في المحكوم بثقتهم"اهـ
وقال ابن حجر: "والأزدي لا يعتمد عليه إذا انفرد فكيف إذا خالف"اهـ
وقال المعلمي: "فأما أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي، فليس في نفسه بعمدة حتى لقد اتهموه بوضع الحديث"اهـ
وأما قول ابن أبي حاتم: "كان ضالاًً مبتدعاً مموهاً ممخرقاً قد رأيته وسمعت كلامه"اهـ
فالرد عليه من وجوه:
أولاً: ينقضه ما جاء في لسان الميزان من قوله: "وهو مع ذلك صدوق في روايته ونقله واعتقاده"اهـ بعد أن ذكر شيئاً من سيرته، فكلامه هذا يدل على علم بحاله وأقواله، يدل على هذا، أنه بعد أن ذكر مآخذ أهل العلم عليه، واعتراضه على طريقته في الفقه، وثقه في روايته ونقله وأثنى عليه في اعتقاده، وهذا يقطع بأنه عني بكلامه الأول رجلاً آخر.
لذا قال المعلمي رحمه الله: "وقد يظن أن هذا الرجل هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني إمام أهل الظاهر، لكن في ترجمته من لسان الميزان: (وقد ذكره ابن أبي حاتم فأجاد في ترجمته فإنه قال: روى عن إسحاق الحنظلي وجماعة من المحدثين وتفقه للشافعي رحمه الله تعالى، ثم ترك ذلك ونفى القياس وألف في الفقه على ذلك كتباً شذ فيها عن السلف، وابتدع طريقة هجره أكثر أهل العلم عليها وهو مع ذلك صدوق في روايته ونقله واعتقاده، إلا أن رأيه أضعف الآراء وأبعدها من طريقة الفقه وأكثرها شذوذاً) وليست هذه العبارة في هذه الترجمة ولا في غيرها من هذا الباب في الأصلين اللذين عندنا، الله أعلم"اهـ
ثانياً: "من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه، وندر الواقعين فيه وكانت هناك قرينة دالة على سبب الكلام فيه من تعصب مذهبي أو غيره، فينبغي أن يضرب به عرض الحائط ولا يلتفت إليه، بل نعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هذا الباب وأخذنا بتقديم الجرح على إطلاقه، لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد تكلم فيه متكلمون، وهلك فيه هالكون".
قال الذهبي -في معرض كلامه على ابن معين وانتقاده له لتكلمه في الشافعي-: "قد آذى ابن معين نفسه بذلك، ولم يلتفت الناس إلى كلامه في الشافعي ولا إلى كلامه في جماعة من الأثبات، كما لم يلتفتوا إلى توثيقه لبعض الناس، فإنا نقبل دائماً قوله في الجرح والتعديل، ونقدمه على كثير من الحفاظ ما لم يخالف الجمهور في اجتهاده"اهـ
قلت: والجمهور على توثيق داود واعتباره إماماً مجتهداً في مسلاخ الأئمة؛ مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، لذا قال ابن عبد البر: "الصحيح في هذا الباب: أن من ثبتت عدالته وصحت في العلم إمامته، وبانت ثقته وبالعلم عنايته،لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات"اهـ
ولم يأت ابن أبي حاتم رحمه الله بجرح مفسر نقدمه على توثيق هؤلاء الأئمة، فغاية ما يقال في كلامه هذا –على فرض ثبوته- أنه من قبيل الجرح غير المفسر الذي عارضه تعديل الأئمة الثقات الذين سبروا حال داود، وإلا فلو كان كلامه صحيحاً لتوافرت الدواعي على نقله.
قال ابن حزم في حق الإمام العلم يحيى بن معين: "وإنما يؤخذ كلام يحيى بن معين وغيره إذا ضعفوا غير مشهور بالعدالة"اهـ

ما أخذه أهل العلم على داود الظاهري:
أُخذت على داود، ثلاثة مآخذ:

المأخذ الأول: نفيه للقياس.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: "روى عن إسحق الحنظلي -يعني: ابن راهويه- وجماعة من المحدثين، وتفقه للشافعي رحمه الله تعالى، ثم ترك ذلك ونفى القياس وألف في الفقه على ذلك كتباً شذ فيها عن السلف، وابتدع طريقة هجره أكثر أهل العلم عليها، وهو مع ذلك صدوق في روايته ونقله واعتقاده، إلا أن رأيه أضعف الآراء وأبعدها من طريقة الفقه وأكثرها شذوذاً"اهـ
قلت: كلام ابن أبي حاتم هذا لا يخلو من تعقيب، بيد أني سأذكر أولاً أقوال أهل العلم في اعتبار خلاف الظاهرية من عدمه، ثم أثني بالتعقيب على قوله مع ذكر الموقف الصحيح منهم.

اختلفت أنظار أهل العلم في داود وأتباعه، على أقوال:
1-"هم من أهل العلم في الجملة، لكنهم لا يبلغون رتبة الاجتهاد، ولا يجوز تقليدهم القضاء".
قلت: لم يشترط أهل العلم في المجتهد أن يأخذ بالقياس، وقد بلغ غير واحد من أئمة أهل الظاهر رتبة الاجتهاد باعتراف المخالف قبل الموافق.
2-"لا اعتبار بخلافهم في الأصول، أما في الفروع فيعتبر".
قلت: الخلاف في الأصول غير معتبر من كل أحد كائناً من كان، فليس هو مقصور على أهل الظاهر فقط.
3-"يقبل خلافهم في المسائل غير القياسية، وأما القياسية فلا يعتد بخلافهم".
قلت: التفريق بين المسائل التي يدخلها القياس والتي لا يدخلها القياس فيه خلاف بين أهل العلم أصلاً، فليست كل المسائل يتفق أهل العلم على جريان القياس فيها، فالعبادات والحدود والكفرات، الخلاف دائر بين أهل العلم في جريان القياس فيها من عدمه.
4-"يعتبر قولهم إلا فيما خالفوا فيه القياس الجلي، أو ما بنوه على أصل قام الدليل القاطع على بطلانه، كمسألة التغوط في الماء الراكد، وقولهم: لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها. فخلافهم في هذا أو نحوه غير معتد به، لأنه مبني على ما يُقطع ببطلانه".
قلت: أما مسألة التغوط في الماء الراكد؛ فنعم. وأما مسألة (لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها) فقد قال بها غير الظاهرية من أرباب المذاهب. على أنه ما من عالم إلا وله رأي ضعيف -وهذا من لوازم الاجتهاد- طرحه أهل العلم ولم يأخذوا به، والقول الذي لا يعضده أثر أو نظر يرد بقطع النظر عن قائله.
5-"هم ليسوا من حملة الشريعة أصلاً، فضلاً عن أن يكونوا من علماء الأمة، بل يلحقون بالعوام .. وإذا تظاهروا بمسألة معلومة البطلان كمسح الرجلين: أدبناهم وعزرناهم وألزمناهم بالغسل جزماً".
قلت: نسبة هذا إلى داود -ومن ثم إلى الظاهرية- فيه نظر، فإن القائل به ليس داود بن علي الإمام، بل رأس الرفض والتجسيم داود الجواربي، فلما وافق اسم هذا الضال اسم الإمام داود، ظن بعضهم أنه هو؛ ومن ثم نسب القول إليه، وقد تكرر هذا مع غير واحد من الأئمة، كابن جرير وابن قتيبة وابن بطة وغيرهم، فيوجد في الرافضة من وافق هؤلاء الأئمة في الاسم والكنية، فينبغي التفطن لذلك.
قال ابن القيم في تهذيب السنن: "وحكي داود الجواربي وابن عباس، وحكي عن ابن جرير أنه مخير بين الأمرين -يعني المسح والغسل- فأما حكايته عن ابن عباس فقد تقدمت، وأما حكايته عن ابن جرير فغلط بين، وهذه كتبه وتفسيره كله يكذب هذا النقل عليه، وإنما دخلت الشبهة لأن ابن جرير القائل بهذه المقالة رجل آخر من الشيعة يوافقه في اسمه واسم أبيه، وقد رأيت له مؤلفات في أصول مذهب الشيعة وفروعهم"اهـ
فالصحيح أنهم من علماء الأمة، وأن منهم المتبحر الذي بلغ رتبة الاجتهاد ومنهم من عده كثير من كبار أهل العلم إماماً من الأئمة كرئيسهم (داود) رحمه الله، وما زال أهل العلم -بل الأئمة- يجالسونهم ويتناظرون معهم وينصبون معهم الخلاف في تصانيفهم قديماً وحديثاً، بل لو قيل: إن الإجماع منعقد على قبول خلاف الظاهرية -على اعتبار ما مضى- لكان متوجهاً، ومع ذلك فلهم مسائل مستشنعة لا يجوز متابعتهم عليها، ولهم مسائل سُبقوا إليها بقول صاحب أو تابع، فهي من مسائل الخلاف فلا تهدر.
ولو أن كل من قولاً شاذاً تفرد به، طُرح وتُرك لقوله هذا، للزمنا ترك غير واحد من أكابر أهل الملة وأفاضلها؛ فهذا ابن عباس رضي الله عنهما، حكيت عنه أقوال: في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول، كما حكي عن طائفة من الصحابة ترك الغسل من الإيلاج وأشباه ذلك.
على أن هذه المسائل أغلبها في الفروع، وإلا فالخلاف في الأصول غير جائز ولا يسوغ، وداود بن علي والحمد لله، كان في الأصول على مذهب السلف.
فالحق أن هذا لا يعد مأخذاً، فضلاً عن أن يكون سبيلاً للطعن واللمز، فداود رحمه الله لم يخالف في هذا، أصلاً أو إجماعاً، والخلاف في القياس معروف، نعم الجمهور على القول به، لكنهم مع ذلك لم يضللوا من ترك الأخذ به وينسبوه للانحراف، وإلا للمز الأئمة داوداً، وابن حزم فإنما لمزه أهل العلم بسبب ما فيه من تجهم. وقد أكثر شيخ الإسلام رحمه الله من ذكر مذهب داود وأصحابه، والاستشهاد بأقواله، وهو من هو علماً وتحقيقاً وتدقيقاً، وقد مر بنا ثناءه عليه -في أكثر من موطن- وذكره مع كبار الأئمة، ووسمه بالإمامة، وها هي بعض أقواله:
1- قال رحمه الله: "ورويم وإن كان من رفقاء الجنيد فليس هو عندهم من هذه الطبقة ؛ بل الصوفية يقولون: إنه رجع إلى الدنيا وترك التصوف؛ حتى روي عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال: من أراد أن يستكتم سراً فليفعل كما فعل رويم، كتم حب الدنيا أربعين سنة فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال: ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما مودة أكيدة؛ فجذبه إليه وجعله وكيلاً على بابه، فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي، وأكل الطيبات وبني الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا ما لم يجدها، فلما وجدها أظهر ما كان يكتم من حبها. هذا مع أنه -رحمه الله- كان له من العبادات ما هو معروف، وكان على مذهب داود"اهـ
2- وقال: "وجمهور العلماء على أنه يشرع التسبيح في الركوع والسجود، وروي عن مالك أنه كره المداومة على ذلك لئلا يظن وجوبه. ثم اختلفوا في وجوبه. فالمشهور عن أحمد وإسحاق وداود وغيرهم وجوبه"اهـ
3- وقال: "ولو قال: (الله أعظم) لم تنعقد به الصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف وداود وغيرهم"اهـ
4- وقال: "فدل على أن قوله في الحيض: (حتى يطهرن فإذا تطهرن). أراد به الاغتسال كما قاله الجمهور: مالك والشافعي وأحمد. وأن من قال: هو غسل الفرج. كما قاله داود، فهو ضعيف"اهـ
5- وقال: "السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق. ثم قد تنازع الناس في جنس السفر وقدره، أما جنسه فاختلفوا في نوعين، أحدهما: حكمه. فمنهم من قال: لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو. وهذا قول داود وأصحابه"اهـ
6- وقال: وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز؛ محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية، ومنع منه داود بن علي وابنه أبو بكر، ومنذر بن سعيد البلوطي وصنف فيه مصنفاً"اهـ
7- وفي كلام له حول صلاة الفذ خلف الصف، قال: "ومع هذا فهذا القول هو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما، ومذهبه باق إلى اليوم، وهو مذهب داود بن علي وأصحابه، ومذهبهم باق إلى اليوم"اهـ
فما وافق فيه الظاهرية الحق أخذنا به، وما ليس كذلك رددناه، شأنهم في ذلك شأن المذاهب الأربعة المعروفة، وما زال ذلك صنيع أهل العلم إلى يومنا هذا.
قال ابن القيم رحمه الله: "وذنبهم -أي: الظاهرية- عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم ونبذهم القياس وراء ظهورهم فلم يعبأوا به شيئاً"اهـ
وقال الذهبي رحمه الله: "هذا القول من أبي المعالي (هو الجويني؛ وقد كان سيء الرأي فيهم) أداه إليه اجتهاده, وهم: فأداهم اجتهادهم إلى نفي القول بالقياس, فكيف يرد الاجتهاد بمثله؟! وندري بالضرورة أن داود كان يقرئ مذهبه ويناظر عليه ويفتي به في مثل بغداد وكثرة الأئمة بها وبغيرها, فلم نرهم قاموا عليه ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه، ولا سعوا في منعه من بثه، وبالحضرة مثل إسماعيل القاضي شيخ المالكية وعثمان بن بشار الأنماطي شيخ الشافعية والمروذي شيخ الحنبلية وابني الإمام أحمد وأبي العباس أحمد بن محمد البرتي شيخ الحنفية وأحمد بن أبي عمران القاضي، ومثل عالم بغداد إبراهيم الحربي، بل سكتوا له حتى لقد قال قاسم بن أصبغ : ذاكرت الطبري وابن سريج, فقلت لهما: كتاب ابن قتيبة في الفقه أين هو عندكما؟ قالا: ليس بشيء, ولا كتاب أبي عبيد, فإذا أردت الفقه فكتب الشافعي وداود ونظرائهما. ثم كان بعده ابنه أبو بكر وابن المغلس وعدة من تلامذة داود, وعلى أكتافهم مثل: ابن سريج شيخ الشافعية وأبي بكر الخلال شيخ الحنبلية وأبي الحسن الكرخي شيخ الحنفية وكان أبو جعفر الطحاوي بمصر، بل كانوا يتجالسون ويتناظرون ويبرز كل منهم بحججه ولا يسعون بالداودية إلى السلطان، بل أبلغ من ذلك ينصبون معهم الخلاف في تصانيفهم قديماً وحديثاً"اهـ
وقال الشوكاني: "ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب وسنة ولا قياس مقبول -وتلك شكاة ظاهر عنك عارها- نعم؛ قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه البتة قليلة جداً"اهـ
فقول ابن أبي حاتم رحمه الله: (ونفى القياس وألف في الفقه على ذلك كتباً شذ فيها عن السلف، وابتدع طريقة هجره أكثر أهل العلم عليها) فهذا رأيه الخاص، وهو مردود عليه بما ذكرنا من أقوال ابن القيم والذهبي والشوكاني، وقد تقدم قول القاسم بن أصبغ: "ذاكرت ابن جرير الطبري وابن سريج في كتاب ابن قتيبة في الفقه, فقالا: ليس بشيء, فإذا أردت الفقه فكتب أصحاب الفقه, كالشافعي وداود ونظرائهما. ثم قالا: ولا كتب أبي عبيد في الفقه, أما ترى كتابه في (الأموال) مع أنه أحسن كتبه"اهـ
وابن جرير الطبري وابن سريج، من أئمة الفقه والاجتهاد، وابن أبي حاتم في هذا الباب لا يعشرهما، وهو وإن كان نفى القياس قولاً، فقد اضطر إليه فعلاً وسماه دليلاً.

المأخذ الثاني: القول بخلق القرآن:
ذكر هذا عنه، أحمد بن كامل القاضي، قال: أخبرني أبو عبد الله الوراق: أنه كان يورق على داود بن علي, وأنه سمعه يسأل عن القرآن, فقال: "أما الذي في اللوح المحفوظ فغير مخلوق, وأما الذي هو بين الناس فمخلوق"اهـ
قال الذهبي: "هذه التفرقة والتفصيل ما قالها أحد قبله فيما علمت, وما زال المسلمون على أن القرآن العظيم كلام الله ووحيه وتنزيله, حتى أظهر المأمون القول: بأنه مخلوق, وظهرت مقالة المعتزلة, فثبت الإمام أحمد بن حنبل وأئمة السنة على القول: بأنه غير مخلوق. إلى أن ظهرت مقالة حسين بن علي الكرابيسي وهي: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن ألفاظنا به مخلوقة, فأنكر الإمام أحمد ذلك, وعده بدعة, وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق, يريد به القرآن فهو جهمي. وقال أيضاً: من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع. فزجر عن الخوض في ذلك من الطرفين.
وأما داود، فقال: القرآن محدث. فقام على داود خلق من أئمة الحديث وأنكروا قوله وبدعوه, وجاء من بعده طائفة من أهل النظر, فقالوا: كلام الله معنى قائم بالنفس, وهذه الكتب المنزلة دالة عليه, ودققوا وعمقوا, فنسأل الله الهدى واتباع الحق, فالقرآن العظيم, حروفه ومعانيه وألفاظه كلام رب العالمين غير مخلوق, وتلفظنا به وأصواتنا به من أعمالنا المخلوقة, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)، ولكن لما كان الملفوظ لا يستقل إلا بتلفظنا, والمكتوب لا ينفك عن كتابة، والمتلوا لا يسمع إلا بتلاوة تال صعب فهم المسألة، وعسر إفراز اللفظ الذي هو الملفوظ من اللفظ الذي يُعنى به التلفظ، فالذهن يعلم الفرق بين هذا وبين هذا، والخوض في هذا خطر. نسأل الله السلامة في الدين، وفي المسألة بحوث طويلة، الكف عنها أولى ولا سيما في هذه الأزمنة المزمنة"اهـ
فهذا الذهبي رحمه الله؛ يذكر أن القول المحكي عن داود بأن: الذي بين الناس مخلوق، والذي في اللوح المحفوظ غير مخلوق.لم يعرفه عن أحد قبل داود، ويستنكره، ثم قال: (أما داود، فقال: القرآن محدث). فذكر المشهور والمعروف عنه، وكأنه يضعف القول الآخر، فإن كان كذلك، فهو المتوجه لعدة اعتبارات:
الأول: أن المشهور عن دواد أنه قال: القرآن محدث. يدل على ذلك أن الحسين بن عبد الله -كما ذكر الخلال في السنة- قال: سألت المروذي عن قصة داود الأصبهاني, وما أنكر عليه أبو عبد الله -أي: الإمام أحمد- فقال: "كان داود خرج إلى خراسان إلى ابن راهويه, فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وآخر, شهدا عليه أنه قال: القرآن محدث"اهـ
فلو كان عند أبي بكر شيء آخر عن داود -غير هذا- لذكره، لا سيما وقد سئل عنه، ويبعد جداً أن يقول داود هذا الكلام المحكي عنه ولا يذكره المروذي، بل حري أن يذكر أولاً، فإنه أشنع من قوله: القرآن محدث.
الثاني: أن الخلال ذكر في السنة، ما أخذ على داود، فقال: "سمعت أحمد بن محمد بن صدقة, سمعت محمد بن الحسين بن صبيح, سمعت داود الأصبهاني يقول: القرآن محدث، ولفظي بالقرآن مخلوق"اهـ ولو كان شيء آخر لذكره.
الثالث: أن الذي وصل أحمد وأصحابه عن داود إنما جاءهم من طريق محمد بن يحيى الذهلي، كما قال أحمد رحمه الله: "جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داود الأصبهاني قال ببلدنا: إن القرآن محدث"اهـ فلو كان ثمة شيء غير هذا أُخذ عليه، لذكره الذهلي لأحمد، لا سيما والمقام مقام تفصيل وتحذير.
الرابع: ذكر الذهبي في ترجمة الوليد بن أبان الكرابيسي، حكاية عن داود يمتنع معها نسبة الكلام السابق إليه، وهي أن داود بن علي حكى قصة للوليد مفادها، أن الوليد رأى بشراً المريسي خرج إلى ناحية الزابيين ليغتسل ويتطهر، فقال له الوليد الكرابيسي وهو في الماء: مسألة؟ فقال بشر: وأنا على هذه الحال، فقال له: نعم، فقال: أليس رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع؛ فهذا الذي أنت فيه أيش؟ قال: إبليس يوسوس لي ويوهمني أني لم أطهر. قال: فهو الذي وسوس لك حتى قلت القرآن مخلوق"اهـ
فحكاية دواد لهذه القصة وإعجابه برد الكرابيسي على المريسي وإفحامه له، وأن قوله هذا ما هو إلا من تلبيس إبليس يفيد أنه لا يعتقد هذا الاعتقاد ومن ثم لا يقول ما يفضي إليه.
الخامس: هذا التفريق المذكور من أعجب ما يكون، ويبعد جداً على داود وهو من أئمة الاجتهاد، ومن الثقات المعروفين بحسن المعتقد وصحة المذهب أن يقول به. فضلاً عن أن هذه الحكاية مدارها على وراق دواد، الحسين بن عبد الله بن شاكر، وقد ضعفه الدارقطني.
السادس: أن شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الخبير بمذاهب الناس وأقوالهم، والبصير بصحيحها وضعيفها،لم يذكر ذلك عن دواد -ولو كان ثابتاً عنه لذكره- بل ذكر افتراق الناس بعد المحنة، فقال: "ثم صار التفرق موروثاً في أتباع الطائفتين؛ فصارت طائفة تقول: إن اللفظ بالقرآن غير مخلوق، موافقة لأبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهم، كأبي عبدالله بن منده وأهل بيته، وأبي عبدالله بن حامد، وأبي نصر السجزي، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم.
وقوم يقولون نقيض هذا القول، من غير دخول في مذهب ابن كلاب. مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله؛ لم يحدث غيره شيئاً، ولا خلق منه شيئاً في غيره لا حروفه ولا معانيه، مثل حسين الكرابيسي، وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما"اهـ
فقوله رحمه الله: "مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله؛ لم يحدث غيره شيئاً، ولا خلق منه شيئاً في غيره لا حروفه ولا معانيه، مثل حسين الكرابيسي، وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما"اهـ يبرئ دواد مما نسب إليه، فقد ذكر اعتقاده في القرآن وأنه يعتقد أنه كلام الله لم يحدث غيره ولا خلق منه شيئاً في غيره لا حروفه ولا معانيه، فكيف بعد هذا ينسب لهذا الإمام أنه يقول: (الذي في اللوح المحفوظ غير مخلوق, وأما الذي هو بين الناس فمخلوق).
وهذا يدل على أن كثيراً مما نسب لبعض الأئمة يحتاج إلى مراجعة وتمحيص، ولا شك أن لشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في ذلك السبق والريادة مع ما حباهما الله به من سعة اطلاع ومعرفة بأقوال الرجال والفرق، واستقراء تام لمذهب السلف الصالح، حتى لكأنهما عاشا مع القوم.
ومع ما سبق ذكره؛ يبقى الاحتمال قائماً على صحة ما نسب لداود رحمه الله، فنقول: إن ثبت ذلك عنه، فإنه يقصد ألفاظنا وأصواتنا، فإن ذلك من أعمالنا المخلوقة، ولم يقصد قطعاً الملفوظ؛ كيف؛ وهذه أقوال الأئمة تشيد بمعتقده وتفيد بأنه يقول بقول أهل السنة فيه، وأنه كله كلام الله ليس بمخلوق.

تنبيه:
قلت آنفاً إن ألفاظنا وأصواتنا من أعمالنا المخلوقة، ولا شك أن هذا ما يقصده داود -لو ثبت عنه ما نسب إليه- من باب التماس المعاذير له، وحمل كلامه على أحسن المحامل، إضافة إلى أن أصوله تشهد له بذلك، وهذا وإن كان قال به بعض أكابر السلف، إلا أن الأولى ترك ذلك، وعدم الخوض في هذه المسالك، لما في هذا اللفظ من إيهام واحتمال، ولا يغيب عن ذهن القارئ ما جرى من محنة للإمام البخاري بسبب ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التلاوة الظاهرة من العبد عقيب حركة الآية: منهم من يصفها بالخلق -وأول من قال ذلك فيما بلغنا حسين الكرابيسي وتلميذه داود الأصبهاني- وطائفة ؛ فأنكر ذلك عليهم علماء السنة في ذلك الوقت، وقالوا فيهم كلاماً غليظاً. وجمهورهم -وهم اللفظية عند السلف- الذين يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، أو: القرآن بألفاظنا مخلوق ونحو ذلك. وعارضهم طائفة من أهل الحديث والسنة كثيرون، فقالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق.
والذي استقرت عليه نصوص الإمام أحمد وطبقته من أهل العلم: أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع. هذا هو الصواب عند جماهير أهل السنة أن لا يطلق واحد منهما، كما عليه الإمام أحمد وجمهور السلف؛ لأن كل واحد من الإطلاقين يقتضي إيهاماً؛ فإن أصوات العباد محدثة بلا شك، وإن كان بعض من نصر السنة ينفي الخلق عن الصوت المسموع من العبد بالقرآن -وهو مقدار ما يكون من القرآن المبلغ- فإن جمهور أهل السنة أنكروا ذلك وعابوه جرياً على منهاج أحمد"اهـ (بتصرف)

المأخذ الثالث: قوله: القرآن محدث.
وهو قول موهم لما يحمله من معاني فاسدة، إذ المحدث هو المخلوق المنفصل؛ فإن أراد بقوله: (محدث) -مع اعتقاده بأنه كلام الله ليس بمخلوق- أنه حديث، كما هو قول أكثر أصحاب الحديث، قال تعالى: (من ذكر من ربهم محدث)، فمسلم، لكن اللفظة محدثة لم ينطق السلف بها، إضافة إلى ما فيها من إيهام. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن الاصطلاح المشهور عند المتناظرين الذين تناظروا في القرآن في محنة الإمام أحمد، أن لفظ (المحدث) لا يطلق إلا على المخلوق المنفصل، لم يكونوا يعرفون للمحدث معنى إلا المخلوق المنفصل، ومن ثم فلا يجوز عند أهل السنة أن يقال: (القرآن محدث)، بل من قال: إنه محدث، فقد قال: إنه مخلوق.
قال رحمه الله: "ولهذا أنكر الإمام أحمد هذا الإطلاق على داود لما كُتب إليه أنه تكلم بذلك؛ فظن الذين يتكلمون بهذا الاصطلاح أنه أراد هذا فأنكره أئمة السنة. وداود نفسه لم يكن هذا قصده، بل هو وأئمة أصحابه متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، وإنما كان مقصوده أنه قائم بنفسه؛ وهو قول غير واحد من أئمة السلف، وهو قول البخاري وغيره. والنزاع في ذلك بين أهل السنة لفظي، فإنهم متفقون على أنه ليس بمخلوق منفصل، ومتفقون على أن كلام الله قائم بذاته"اهـ
وإن أراد بقوله: (محدث): أي: مخلوق منفصل، أو: أن الله تعالى تحله الحوادث بعد أن لم تكن تحله، فتكلم بعد أن لم يكن متكلماً وإن كان قادراً على الكلام، كما أنه خلق السموات والأرض بعد أن لم يكن خلقهما، وإن كان قادراً على الخلق، ]أهل السنة يقولون: إن الله لم يزل متكلما إذا شاء، تكلم بالقرآن بمشيئته، وإن كان قد تكلم بغيره قبل ذلك[ أو: ليوافق به قول الواقفة الذين لا يقولون: القرآن مخلوق ولا غير مخلوق، يطلقون عليه أنه محدث بمعنى أنه أحدثه في غيره -وهو معنى قول من قال: إنه مخلوق ليس بينهما فرق إلا في اللفظ-، فهذا قول باطل وزور لم يقله إلا أهل البدع. ولا شك أن الإمام داود رحمه الله، لم يكن قصده هذه المعاني الباطلة.
قال شيخ الإسلام: "وإن كان داود وأبو معاذ (التومني) وغيرهما،لم يريدوا بقولهم: إنه محدث. بأنه بائن عن الله كما يريد الذين يقولون إنه مخلوق، بل ذهب داود وغيره -ممن قال إنه محدث وليس بمخلوق من أهل الإثبات- أنه هو الذي تكلم به، وأنه قائم بذاته ليس بمخلوق منفصل عنه"اهـ
فتلخص مما سبق؛ أن داود رحمه الله على جلالته ومكانته وإمامته في العلم وشدته في السنة، لما قال قولاً موهماً،لم يشفع له ذلك عند أئمة السلف، مع أنه اعتذر وبين أن هذا مغلوط عليه، مع ما بينه شيخ الإسلام من أن النزاع لفظي -على المعنى الذي يقصده داود- ومع ذلك فقد رفضوه وهجروه، وامتنع الناس عن الرواية عنه.
قال شيخ الإسلام: "ولعل هذا كان مستند داود في قوله لعبدالله: أحب أن تعذرني عنده، وتقول له: ليس هذا مقالتي أو ليس كما قيل لك، فإنه قد يكون قصد بذلك أني لا أقول إنه محدث بالمعنى الذي فهموه وأفهموه وهو أنه مخلوق، وليس هذا مذهبي، ولم يقبل أحمد قوله لأن هذا القول منكر، ولو فسره بهذا التفسير لما ذكرناه، ولأنه أنكر مطلقاً فلم يقر باللفظ الذي قاله، وقد قامت عليه البينة به فلم يقبل إنكاره بعد الشهادة عليه"اهـ
قال المروذي: "قال لي أبو عبد الله: من داود بن علي؟ لا فرج الله عنه"اهـ
وقال: "حدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري, أن إسحاق بن راهويه لما سمع كلام داود في يبته, وثب على داود وضربه وأنكر عليه"اهـ
وقال محمد بن عبدة: "دخلت إلى داود, فغضب علي أحمد بن حنبل, فدخلت عليه, فلم يكلمني، فقال له رجل: يا أبا عبد الله إنه رد عليه مسألة. قال: وما هي؟ قال: قال: الخنثى إذا مات من يغسله؟ قال داود: يغسله الخدم. فقال محمد بن عبدة: الخدم رجال، ولكن يُيمم, فتبسم أحمد وقال: أصاب, أصاب, ما أجود ما أجابه"اهـ
وقال أبو زرعة: "ترى داود هذا؛ لو اقتصر على ما يقتصر عليه أهل العلم لظننت أنه يكمد أهل البدع بما عنده من البيان والآلة ولكنه تعدى, لقد قدم علينا من نيسابور فكتب إلي محمد بن رافع ومحمد بن يحيى وعمرو بن زرارة وحسين بن منصور ومشيخة نيسابور بما أحدث هناك, فكتمت ذلك لما خفت من عواقبه، ولم أبد له شيئاً من ذلك, فقدم بغداد وكان بينه وبين صالح بن أحمد بن حنبل حسن, فكلم صالحاً أن يتلطف له في الاستئذان على أبيه, فأتى صالح أباه, فقال: رجل سألني أن يأتيك, فقال: ما اسمه؟ قال: داود. قال: من أين هو؟ قال: من أصبهان. فكان صالح يروغ عن تعريفه, فما زال الإمام أحمد يفحص حتى فطن به, فقال: هذا قد كتب إلى محمد بن يحيى في أمره أنه زعم أن القرآن محدث, فلا يقربني. فقال: يا أبة إنه ينتفي من هذا وينكره. فقال: محمد بن يحيى أصدق منه, لا تأذن له"اهـ
فرحم الله داود الذي كان ينتصر للإمام الشافعي، وهو أول من ألف كتاباً في مناقبه، وارتحل إلى إسحاق بن راهويه، فسمع منه المسند والتفسير وناظر عنده، وجمع وصنف وتصدر، وتخرج به الأصحاب، حتى لقد كان في مجلسه أربع مئة صاحب طيلسان، ومن تلاميذه ابن جرير الطبري، وإبراهيم بن محمد بن عرفة المعروف بنفطويه، الذي صنف كتاباً في الرد على من قال بخلق القرآن.
قال المعلمي: "وحكوا عن داود كلمة أخرى عابها عليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه ومحمد بن يحيى وأبو زرعة وغيرهم من الأئمة، ولا أراه نحا بها إلا منحى البخاري وإن لم يحسن التعبير، وقصته شبيهة بقصة البخاري"اهـ
قلت: فكان ماذا! امتنع أحمد عن الاجتماع به، بل وعاب على من جلس معه، ونهى أئمة الإسلام عنه، فهجره الناس.


الفوائد:
1-أن أهل العلم -فيما مضى- كانوا يردون على المخالف مخالفته ولو دقت، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم.
2-شدة تمسك هذا الجيل بالسنة، وغيرته عليها، وحرصه على صيانتها وحماية جنابها.
3-التمسك بالدليل، وعدم التعصب للأشخاص وإن بلغوا من العلم ما بلغوا.
4-الولاء والبراء -في زمنهم- كان للدين، ولم يكن للأوطان أو الأشخاص.
5-الابتعاد عن الكلمات الموهمة، والألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى، وإن كانت نية القائل حسنة وعقيدته سليمة. فكيف إذا كان القول يخالف صراحة معتقد السلف ولا يمكن تأويله.
6-أن السلف -رحمهم الله- كانوا يبدعون بأشياء أقل بكثير مما نرى ونسمع اليوم، فكيف بهم -اليوم- إذا رأوا الرجل يخالف صراحة أصلاً من الأصول، بل ويشغب على المسلمين عقائدهم، ويشتد ويعلن النكير على من صرح بمعتقد السلف ونافح عنه ودعا إليه، وليس ثم محذر أو منكر، بل الأدهى والأمر أن يشار إليه بالبنان على أنه شيخ السلفية الهمام.


(والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم)