راحةُ البال واطمِئنانُ النفسِ وسعادةُ القلوب مطالِبٌ لجميع الإنسانية، وغاياتٌ لكل البشرية، يسعَون لإيجادِها، ويتنافَسُون في تحصيلها.
ألا وإنه مهما سعَوا إلى ذلك بشتَّى زخارِفِ الدنيا وشهواتها، فلن يجِدُوا إلى ذلك طريقًا، ولن يهتَدُوا إلى ذلك سبيلًا؛ ذلكم أن السببَ الحقيقيَّ للحياة الطيبة بمُختلَف صُورِها يكمُنُ فيما بيَّنه خالِقُ البشرية بقولِه – جلَّ وعلا -: ﴿ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].
والحياةُ الطيبةُ عند المُحقِّقين من المُفسِّرين في هذه الآية: هي الحياةُ الدنيا، فضلًا عمَّا في الآخرة مِن السُّرور، والحُبُور، والبهجَة، والنَّعيم.
إنه الإيمانُ بالله – جلَّ وعلا -، المُتضمِّنُ الاستِسلامَ لله بالطاعة الخالِصَة، والخُلُوِّ مِن الشرك، ذلكم الإيمانُ الذي يجعلُ الإنسانَ سعيدًا ظاهرًا وباطنًا، مُنشرِحَ الصدر مُطمئنَّ القلبِ، حتى ولو أصابَتْه الضرَّاءُ والبأساء، قلبُه دائمًا في نعيمٍ وبهجةٍ وسُرورٍ، بالإيمانِ بالله – جلَّ وعلا -، ومعرفتِه ومحبَّتِه، والإنابةِ إليه، والتوكُّل عليه، والإقبالِ على طاعتِه.
قال ربُّنا – جلَّ وعلا -: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11].
وقال – صلى الله عليه وسلم -: «عجَبًا لأمرِ المُؤمن، إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك إلا للمُؤمن؛ إن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته سرَّاءُ شكَر فكان خيرًا له»؛ رواه مسلم.
إنه الإيمانُ بالله – جلَّ وعلا – الذي يجعلُ الإنسانَ سعيدًا بما أُعطِيَ في هذه الدنيا، راضِيًا بما رزقَه الله – جلَّ وعلا -، قانِعًا بما آتاه – تبارك وتعالى -.
يقولُ – صلى الله عليه وسلم – مُذكِّرًا بهذه الحقيقة: «مَن أصبحَ مِنكم آمِنًا في سِربه، مُعافًى في جسَدِه، عنده قُوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافِيرِها»؛ رواه الترمذي وابن ماجَه.
فالفلاحُ للعبدِ بما يتضمَّنُه هذا الفلاحُ مِن السُّرور والنعيم لا يكونُ إلا بما أخبرَ به – صلى الله عليه وسلم – بقولِه: «قد أفلحَ مَن أسلَمَ ورزقَه الله كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه»؛ أخرجه مسلم.
وفي هذا المعنى يقولُ أحدُ الصالِحين: “واللهِ إنا فِي سعادةٍ لو علِمَها أبناءُ المُلُوك لجالَدُونا عليها بالسيُوف”.
ويقولُ آخر: “إنه لتمُرُّ بي أوقاتٌ أقولُ: إن كان أهلُ الجنَّة في مثلِ هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ”.
وفي قلوبِ العباد شعَثٌ لا يلُمُّه إلا الإقبالُ على الله – جلَّ وعلا -، وفي قلوبِهم وحشةٌ لا يُزِيلُها إلا الأُنسُ به – جلَّ شأنُه -، وفيها حزَنٌ – في هذه الدنيا – لا يُذهِبُه إلا السُّرورُ بتوحيدِه ومعرفتِه – عزَّ وجل -، وفيها نيرانُ حسراتٍ لا يُطفِئُها إلا الرِّضا بأمرِه ونهيِه، وقضائِه وقدَرِه، وهكذا هي الدنيا.
وفي القلوبِ فاقةٌ لا يسُدُّها إلا محبَّتُه – سبحانه -، والإنابةُ إليه، ودوامُ ذِكرِه – سبحانه وتعالى -، يقولُ – جلَّ وعلا -: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
ويقولُ – صلى الله عليه وسلم -: «أرِحنا يا بلالُ بالصلاة!»؛ رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ.
إنه معنى «أرِحنا بالصلاة» لا “أرِحنا مِن الصلاة”.
ويقولُ – صلى الله عليه وسلم -: «وجُعِلَت قُرَّةُ عيني في الصلاة»؛ رواه النسائي، وصحَّحه جمعٌ مِن الحُفَّاظ.
فمَن أرادَ السعادةَ الدائِمةَ، والراحةَ التامَّةَ ظاهرًا وباطنًا، في القلبِ وفي الجوارِح، فعليه أن يضبِطَ نفسَه بأوامرِ الله – سبحانه -، وأن يعيشَ بطاعةِ الله – جلَّ وعلا – في جميعِ حياتِه، وشتَّى تصرُّفاته؛ فإنه سينقلِبُ مِن نعيمٍ إلى نعيمٍ في هذه الدنيا، وفي دار البرزَخ، وفي الدار الآخرة، وعليه دلالةُ قولِه – جلَّ وعلا -: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الانفطار: 13].
واحذَر – أيها المُسلم – مِن العِصيان؛ فوبالُه حسرةٌ وخُسرانٌ.
قال ابنُ القيِّم – رحمه الله تعالى -: “إن العبدَ إذا عصَى اللهَ سلَّط الله عليه أمرَين لا ينفَكَّان عنه حتى يثُوبَ إلى الله – جلَّ وعلا -: الأول: الغمُّ، الثاني: الهمُّ، قال – جلَّ وعلا -: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 124]”.
فعلَّق قلبَك – أيها المُسلم – بالله – جلَّ وعلا -، أحسِن الظنَّ بربِّك، وكُن عبدًا نقيًّا تقيًّا طائِعًا؛ تكُن سعيدًا فرِحًا مسرُورًا، فربُّنا – جلَّ وعلا – يقول: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 22].
وإن المحبوسَ مَن حُبِسَ قلبُه عن ربِّه، والمأسُورَ مَن أسَرَه هواه، والمهمُومَ مَن ضيَّع نفسَه في المعاصِي، والمغمُومَ مَن غمَّ نفسَه بظُلُماتِ المعاصِي والمُوبِقات.
قال بعضُ العارِفين: “مساكِينُ أهل الدنيا خرَجُوا منها وما ذاقُوا أطيَبَ ما فيها”، قالوا: وما هو؟ قال: “محبَّةُ الله، والأُنسُ به، والشوقُ إلى لِقائِه، والإقبالُ عليه، والإعراضُ عمَّن سِواه”.
يقولُ ربُّنا – جلَّ وعلا -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: 13].
—————-
فضيلة الشيخ الدكتور / حسين آل الشيخ