إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده وسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102] ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1] ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتُها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم فإنه قد سرّنا كثيراً لما رأيناه من الصحوة الإسلامية إذ أقبل كثير من الشباب على الله تائبين واتجهوا إليه منيبين وقرعوا أبواب الخير مخلصين .
فطمعنا أن الله ينصر بهم دينه، ويعليَ بهم كلمته، وينشر بهم الإسلام في ربوع الأرض، لكن هذا الطمع سرعان ما تبدد حينما رأيناهم قد تفرقوا شيعاً وأحزاباً يكيد بعضهم لبعض وينال بعضهم من بعض ويبغض بعضهم بعضاً..
قد قنع كل حزب بما لديه وظن أن الحق محصور فيما هو عليه، فتذكرت أن الشيطان الذي آلى على نفسه أن لا يزال يغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم والذي نذر عداوتهم وإضلالهم حين قال:
(( فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )) ([1])
قد أدخل في هذه الصحوة ما يضمن له فيهم الشقاق ويفرق الكلمة ويخلط الحق بالباطل والسنة بالبدعة وربما خلط التوحيد بالشرك، فيكون ذلك مقبولاً وإن خالف العقيدة ومستحسناً وإن ناقض الإسلام ، لأنه جاء من علماء يحسن بهم الظن وتضفى عليهم القداسة فكل ما جاءوا به فهو حسن إذ لا يتصور في نظر التابعين أن يخالفوا الإسلام وهم يدعون إليه، وأن يحصل منهم الهدم وهم يريدون البناء ، بل قد يصل بهم أو ببعضهم الظن أنهم لا يخطئون وبذلك يقعون في فخاخ الشيطان باتخاذهم لمتبوعيهم أرباباً من دون الله فيطيعونهم في معصية الله ويمشون على النهج الذي رسموه لهم وإن خالف نهج رسول الله ويلتزمون بما ألزموهم به وإن كان فيه إسخاط لله تعالى " ([2])
ومن ذلك أنهم إصطنعوا لهم وسائل الدعوة بدعية وأسسوا لهم أحزاب إسلامية ـ زعموا ـ مع أن أغراضها سياسية تنحر في جسم الأمة الإسلامية لما أحدثته من الفرقة والتمزق ، وهم في ذلك لا يخفى عليهم إن شاء الله الآيات والأحاديث التي نهى الله فيها ورسوله عن الاختلاف والتفرق والتحزب وذم أهل هذه الصفات كقوله تعالى: (( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ )) [الأنعام : 159]، وقوله تعالى: (( ولا تكونو من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً )) [الروم : 31،32] ، وكقوله تعالى: (( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )) الأنعام 153 ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))
فهل ترى أن نهي الله عزوجل عن التفرق والتحزب والتشيع وذم أهل هذه الصفات والتحذير من طريقتهم كان عبثاً أو أنزله الله عزوجل وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون ضرباً من ضروب التسلي أو ليكون حديثاً عابراً من أحاديث السمر؟
كلا. ثم كلا.. إن القرآن كله عظات وعبر وأوامر ونواهي وأخبار عن العصاة وعواقب العصيان السيئة في الدنيا والآخرة بالإخبار عما يصيبهم في الدنيا من قوارع واستئصال وما ينتظرهم في الآخرة من عذاب أليم وأنواع انتقام ونكال .
وإخبار عن المؤمنين أهل التصديق والأعمال الصالحة وما يحوزونه ويحرزونه بإيمانهم وأعمالهم ومتابعتهم للرسل من عز ونصر وفتوح وغلب وإدالة لهم على غيرهم وما سيلقونه في الآخرة من أمن واطمئنان وفرح واستبشار وعيشة راضية في جنان عالية قطوفها دانية ونعمها متوالية يبقون فيها بقاء الأبد ويخلدون فيها بلا انقطاع ولا زوال، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ما هي إلا ريحانه تهتز ونهر مطرد وثمرة ناضحة وقصر مشيد وأزواج حسان لأنهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .
وقد تبين مما ذكر أن نهي الله عزوجل عن الحزبية والتحزب والفرقة والتفرق لم يكن إلا ليعلم الله عباده بما فيها من الشر المؤكد والفشل المرتقب والعداوة المنتظرة بين من أمرهم الله عزوجل أن يكونوا أمة واحدة وحزباً واحداً يعبدون رباً واحداً ويتبعون رسولاً واحداً، ويتجهون إلى قبلة واحدة، ويدينون بدين واحد، وتربطهم رابطة واحدة، هي رابطة الدين ومما يؤكد هذا المعنى ويدل على أن التفرق مازال ممقوتاً ومحذوراً في كل زمان ومكان وعلى لسان كل نبي وحكيم، إخبار الله عزوجل عن هارون عليه السلام أنه قال لأخيه موسى حين عاتبه عند رجوعه من الطور فوجد قومه قد عبدوا العجل، فقال كما حكى الله عنه في سورة طه (( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري، قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي )) [طه : 92ـ94 ].
فقد حذر هارون من التفرقة وخافها على قومه وخاف أن أخاه يلومه عليها.
وروى عبدالله بن أحمد بن حنبل عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، قال ابن عباس، فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا في القرآن يومهم هذه المسارعة، قال فزجرني عمر رضي الله عنه ثم قال: مه، فانطلقت إلى منزلي مكتئباً حزيناً، فبينا أنا كذلك إذ أتاني رجل، فقال: أجب أمير المؤمنين. فخرجت فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذ بيدي فخلا بي فقال: مالذي كرهت مما قال الرجل آنفاً، فقلت يا أمير المؤمنين متى يتسارعوا هذه المسارعة يحتقوا، ومتى يحتقوا يختصموا ومتى يختصموا يختلفوا، ومتى يختلفوا يقتتلوا، قال لله أبوك إن كنت لأكتمها الناس حتى جئت بها " ([3] )
قلت ـ العلامة يحيى النجمي رحمه الله ـ : ما أشبه الليلة بالبارحة إن الاختلاف الذي خافه عبدالله بن عباس ووافقه عليه عمر رضي الله عنهماعلى أمة محمد قد وقع ثم وقع ثم وقع وما تفرقت أمة محمد شيعاً وأحزاباً كمن سبقهم إلا بسبب الاختلاف، وكان أول خلاف وقع في هذه الأمة هو خلاف الخوارج ثم خلاف الروافض بقيادة زعيمهم عبدالله بن السوداء الذي زعم لهم أن علياً لم يمت وأنه في السحاب ثم خلاف القدرية ثم المعتزلة ثم المرجئة ثم الجهمية.
والشاهد من هذا الأثر أن المحاقة موجبة للاختلاف، ومعنى المحاقة: أن كل واحد من المتخاصمين يقول الحق معي، وهي معنى قوله يحتقوا، ومتى يحتقوا يختلفوا، ومتى اختلفوا اقتتلوا، إما بالألسن والأقلام وإما بالأيدي والسيوف ."([4] )
ومن صور الحزبية الجديدة المستحدثة التي وضفت لها الألسن والأقلام للدفاع عنها وإحقاقها ، الجمعيات الدعوية أو قل الجمعيات الخيرية أو قل الجمعيات الإسلامية .... وقل فيها ما شيئت فالعبرة بحقيقتها وما تؤل إليه هذه الجمعيات من الفساد والإفساد ، فلا يغرنكم يا معشر أهل الإسلام بما زخرفت به هذه الجمعيات الحزبية من الهالات المصطنعة و الزخارف المكلفة والشعارات البراقة والمظاهر الخداعة مثل قولهم : إن الجمعيات ما هي إلا وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله ، وأنها مصلحة دعوية وأن الدعوة السلفية لا تتم ولا تتحقق أهدافها إلا تحت مظلتها ومباشرة الدعوة من خلالها وإلى غير تلك العبارات الرنانة الضخمة التي أصبغوها بالألفاظ الفخمة ليرعبوا بها شباب الأمة ،فمهما بنوا من القصور والعلالي وأشادوا من المباني في إطرائها ومدحها وتعداد إجابياتها المزعومة الوهمية فلا يشفع لها ذلك بأن تكون وسيلة دعوية مشروعة في دين الإسلام وخاصة إذا عرفنا حقيقتها حيث أثبت التاريخ بأنها من أقدم الوسائل التي استخدمها اليهود لنشر أفكارهم الماسونية المسمومة في تحطيم الخلافة الإسلامية وقد نجحوا في ذلك بواسطة جمعية الإتحاد والترقي في تركيا – التي أسست عام 1898 م – 1316هـ- في القضاء على هذه الخلافة .([5] ) ، وقد كان لهذه الجمعية فروعا في معظم الدول الإسلامية ، وممن باشر العمل فيها و تبناها في مسيرته السياسية ولقضاء أغراضه ومأربه المسمومة المتمثلة في منازعة حكام المسلمين والتآمر عليهم لإسقاطهم وقتلهم جمال الدين الأفغاني ، فهو أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث إلى مصر وكان حيثما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها ، كما سعى في إنشاء أحزاب سياسية ، وتبعه في هذا تلميذه محمد عبده ثم تبعه على ذلك محمد رشيد رضا وأشاد بها في كتابه المنار.
فما وجد الإخوان المسلمين من بعدهم أفضل من هذه الوسيلة يباشرون فيها دعوتهم في أراضي ينادون فيها بإعادة الخلافة المزعومة التي سعى جمال الدين الأفغاني بإسقاط حكامها ، وجعلوها طريقة من طرق الإصلاح المدعى ، وأنى لهم ذلك ، وهي قد جمعت بين أغصانها ما بين مبتدع مارق و بين رويبضة فويسق تجمعهم قاعدة "نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذُر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" ، فهدموا من حيث يريدون البناء و خربوا من حيث أرادوا التعمير والإنشاء ، وخاصة إذا عرفنا أنها بلية على الإسلام لما يترتب عليها من المعاطب وكانت سببا في كثير من المعايب وأنه ما تولد منها إلا المصائب وحسبك أنها مشغلة عن طلب العلم وإبتلاء أهلها بالتسول وجمع المال باسم الدعوة وبناء المساجد وغير ذلك ، وأنها مفتاح للتساهل في المعاملة مع البنوك الربوية وإلى تصوير ذوات الأرواح ، و أنها مما يعقد الولاء والبراء عليها ، بل ما هي إلا وسيلة من وسائل الانتخابات ، ولا نغفل ما فيها من الغش والخيانة في الدعوة إلى الله وأنها باب إلى الاستحسان في شرع الله الذي هو بوابة البدع والتشريع من دون الله وإلى غير تلك الويلات والبلاوي التي تنخر في الدعوة السلفية ، فبالله عليكم إذا كانت هذه الوسيلة وهذه هي حقيقتها ومآل أمرها فماذا يرجى منها ؟!! وأي الإسلام ستخدمه وهي تحطم في أصوله من الداخل ؟!!
فأين عقل ممن استحسن هذا السرطان ممن يدعي المشيخة والسلفية وهو يري أن هذا الداء الخبيث ينخر في جسد الأمة ويُضعفها، ويجعلها لقمة سائغة للأعداء ويفتك بأهلها ليلا ونهارا ، و هو قد مزقها وجعلها أحزابا وشيعا كل حزب بمنهجه مغرور مسرور، كما قال الله تعالى: (( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )) المؤمنون: 53
ومن أولئك الأدعياء ممن ينتسب إلى دعوتنا السلفيّة اسما ورسما وإن فارقنا منهجا ومسلكا بن حنفية العابدين المعسكري الجزائري صاحب رسالة : «الجمعيات من وسائل الدعوة إلى الله» المتضمّنة تسويغ إقامة جمعيات حزبية، والنشاط تحت لوائها ، فهذه الرسالة لهي كافية في معرفة منهج الرجل الذي يسير عليه لما تحتوي عليه من التحريف والتخريف ، فكيف لو أضفنا إليها مقالاته آخر التي حوت في طياتها تمييع أصول المنهج السلفي كما هو حال المأربي والحلبي ، بل ما كتابه " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله " إلا هدم أصول المنهج السلفي وطعن في أهله ، وإن كان هذا الكتاب الأخير مضمونه رد على شبه المجوزين تعدد الجماعات والأحزاب ، وليته ما فعل وكان يكفينا منه أن يمسك فمه ويكسر قلمه ولا يخوض فيما لا يحسنه ويفهمه ، لكان هذا يوجب منا نحوه الشكر ، وعلى أقل الشيء السكوت عن تخليطه ، أما وأنه ركب الصعب والذلول، مع جهله ما أمامه من العقبات التي لايعرف كنه حقيقتها إلا من جمع المعقول والمنقول مما هو عنها عري ، فهذا مما يقطع عند أهل العقول بأن خوضه هذا الغمار غير مرضي ولا مقبول ، بل أدهى من ذلك وأكبر إذا عرفنا أنه قد جلب في رسالته هذه ، بل في جمع من رسائله وكتاباته من الداء ما أعيى الطبيب وحير اللبيب وأتى فيهم من التخليط مما قد يئس من تلافيه ، فلم يبق للعارف الذي يكره الشغب إلا السكوت والتعجب وآفته في ذلك أنه سعى دهره في البناء على غير إحكام وإتقان، فما نصر في رسالته هذه([6]) السنة ولا كسر البدعة ، بل أظهر أهل البدعة على أهل السنة وخدمهم خدمة عظيمة ، فما أشبهه في إراده شبه أهل الباطل على أحسن ما يكن وعجزه عن رد عليها وتفتيت عبارتها بالأصول والمعقول ، بالفخر بن الخطيب ، فقد جاء في ترجمته من كتاب " لسان الميزان " (4 / 427) للحافظ العلامة ابن حجر ـ رحمه الله ـ أنه قال في شأنه : (( كان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها حتى قال بعض المغاربة يورد الشبه نقد ويحلها نسيئة... وكان ينقم عليه كثيرا ويقول يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية من الوهاء )) ا.هـ
وهذا الفخر بن الخطيب وإن كان رأسا في الذكاء والعقليات ، و لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة ، وهكذا صاحبنا ، فهو صاحب القلم ، وله أن يكتب ما يحلو له ويعرف ذلك من تأمل كتاباته ، ولكنه هو عري عن معرفة منهج أئمة الحديث في طريقة إصلاحهم ودعوتهم إلى الله ، فالرجل فيما يبدو متأثر بمنهجية رشيد رضا ومحمد عبده والمودودي ومن كان في فلكهم يدور من أمثال جمال الدين القاسمي في طريقة دعوتهم التي ميعت الإسلام وأصوله و ضيعت شبابه ، ولهذا تجده ينقل عن رشيد رضا ومحمد عبده كما هو ملاحظ في رسائله ، من غير إنكار عليهما وبيان حالهما للأمة وقرائه ، بل إن لنقطع ونجزم بأن الرجل متأثر بقاعدة المعذرة والتعاون في مسيرته الدعوية وما مقاله " التأليف لا الهجران " إلا أكبر الشاهد على ذلك ، فقد سعى فيه وفي غيره على الشباب السلفي وعلى مشايخهم بخيله ورجله يستفزهم ويسخر منهم ومن دعوتهم سالكا في هذا معهم أسلوب " يد تذبح وفم يسبح " استخفافا بهم ، فهذا مما يوجب ويتحتم على ما عرف حقيقة بضاعته ، وزيف سلفيته المصطنعة التي قد وجدت في سوق الجهالة والبطالة قبولا أن يبين زيفها و يكشف حقيقة أمرها نصحا لدين الله عز وجل ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم
فأقول ومن الله أستمد العون والتسديد :
لقد حوت رسالة الشيخ بن حنفية العابدين " الجمعيات من وسائل الدعوة إلى الله " من التلبيس والتدليس مما كانت سببا ومدفعا على أن يغتر بها معظم شباب الجزائري، وهو في هذا قد ألبسها لباس الإجمال والعموميات ، وأخرج باطلها في قالب الحق ، ولا يخفى عليكم يا أهل السنة أن هذه الثلاثة من أعظم الأسلحة و أمضى الوسائل التي يملكها أهل البدع و يحسنون إستعمالها لفتك بدين الإسلام وإصطياد أهله ([7] )
قال شيخ الإسلام ابن قيم رحمه الله في״ الصواعق المرسلة " ( 925 ) : (( إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة تحتمل معاني متعددة ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحق وباطل فبما فيها من الحق يقبل من لم يحط بها علما ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع كلها فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لما قبلت ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها ولو كانت حقا محضا لم تكن بدعة وكانت موافقة للسنة ولكنها تشتمل على حق وباطل ويلتبس فيها الحق بالباطل كما قال الله تعالى " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " [ البقرة: 24 ] ، فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان معنى صحيح ومعنى باطل فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ .
وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان هو حق من أحدهما وباطل من الآخر فيوهم إرادة الوجه الصحيح ويكون مراده الباطل فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ولا سيما إذا صادفت أذهانا مخبطة فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه وأن لا يوقعك في هذه الظلمات قال الإمام أحمد في خطبة كتابه في الرد على الجهمية:״ الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بكتاب الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين״....
فقوله يتكلمون بالمتشابه من الكلام هو الذي له وجهان يخدعون به جهال الناس كما ينفق أهل الزغل النقد المغشوش الذي له وجهان يخدعون به من لم يعرفه من الناس فلا إله إلا الله كم قد ضل بذلك طوائف من بني آدم لا يحصيهم إلا الله)) انتهى
ومن تلبيسات ومغالطات الرجل لتجويز مشرعية إنشاء الجمعيات الحزبية و مباشرة العمل من خلالها أنه استدل ([8]) على مشرعيتها بالأعمال والطاعات التي شرعها الله عزوجل لعباده وأمرهم بها إما أمرا واجبا أو مستحبا ، وحثهم على أن يتواصوا عليها أفرادا كانوا أو جماعات كل فرد على حسب حاله وإمكانيته وطاقته
وهذا الاستدلال منه لا يسلم له وهو فاسد الاعتبار، لا تشهد بصحته الأخبار ولا يعرج علي مثله الأئمة الأخيار ونقلة الأثار .
وذلك لا يخفى عليكم يا معشر أهل الإسلام أن نزاع أهل السنة مع مجوزين الجمعيات الحزبية والقائلين بالإنضمام تحت لوائها ليس من أجل أنها عمل جماعي تعاوني خيري !!! إنما النزاع لما عليه هذه الجمعيات الحزبية من الأنظمة والشروط والقوانين التي تخالف الكتاب والسنة ، ولما آل أمرها من الفساد والافساد في البلاد والعباد مما لا يقره العقل ولا النقل ، فهذا مما أوجب تحريمها وصياح على أهلها ، أما العمل الجماعي المشروع القائم على منهج الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة ، فهذا مما يرغب فيه ويسعى للقيام به ولا أحد يمنعه من أهل الإسلام فضلا أن يكون هذا من طلبة العلم السني ، ومن تقول عليهم غير هذا فقد أبعد النجعة وأتى في حقهم فرية بلا مرية
سئل العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي ـ رحمه الله ـ : يقول ـ أي السائل ـ إن العمل الجماعي بدعة هل هذا صحيح ؟
فكان من جواب الشيخ رحمه الله : أما العمل الجماعي فهو واجب على المسلمين لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " [المائدة : 02] ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وكما في " الصحيحين " من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه "
ودعوة الإسلام من بدء أمرها ما قامت إلا على التعاون والعمل الجماعي ، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بدء أمره يعرض نفسه على القبائل لينصروه ويؤووه حتى يسر الله سبحانه وتعالى له بالأنصار فنصروه وآووه عند أن هاجر إليهم ثم بقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يربي أصحابه حتى وجدوا بأنفسهم قوة على مواجهة العدو فأنزل الله سبحانه وتعالى : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " [ الحج : 39 ]
ومشاروة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للأنصار في غزوة بدر عند أن كان يقول : " أشيروا عليّ أيها الناس " فقام أبو بكر فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أجلس " ثم قام عمرفقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أجلس " فقام سعد بن معاذ وقال : كأنك تعنينا يا رسول الله فوالله لو خضت بنا البحر لخضناه ، ولو ضربت بنا برك الغماد لذهبنا معك فسالم من شئت وحارب من شئت
فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم ينهض بمفرده للجهاد في سبيل الله وإن كان الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم : " فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين على القتال " [ النساء : 84] ، فلابد من تعاون على الجهاد في سبيل الله وعلى الدعوة إلى الله وعلى العلم والتعليم وفي الأمثال " يد واحدة لا تصفق " ، حتى في التعاون الأسري وفي جميع مجالات الحياة والله سبحانه وتعالى علم ضعف البشر فهيأ هذا جمع المال وهيأ هذا للجهاد في سبيل الله وهيأ هذا للعلم وهيأ هذا للزراعة وهيأ هذا للسياسة وكان الصحابة هكذا يكمل بعضهم بعضا .
فالذي يقول : إن أهل السنة يرفضون العمل الجماعي فهو يفتري عليهم ويكذب ، لكن العمل الجماعي يجب أن يقيد بما لا يخالف الكتاب والسنة ، فإذا دعيت إلى مخالفة الكتاب والسنة وجب عليك أن تتبرأ من هذا وقد اتضحت الحقيقة وبان الصبح لذي العينين أن دعوة أهل السنة إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأن الحزبية دعوة إلى الدمار وإلى الجهل وإلى استعباد الناس والتحجر على أفكارهم فهي سجن للأفكار .... وهذه الحزبية تقود البلد إلى الدمار وإلى اشتعال الفتن بل إلى الحرب المدمرة ، ولا يبالون ببلد ولا بإسلام ......
أما العمل الجماعي فهذا مطلوب ، ولكن ليس عملا جماعيا على جهل ، وعلى حزبية عمياء ، بل عمل جماعي على ما لايخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " متفق عليه من حديث ابن مسعود ، ودعوة الجاهلية تشمل الدعوة إلى الحزبية ، بل هي رأس في الجاهلية ، يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أن أختصم أنصاري ومهاجري فقال الأنصاري : يا للأنصار وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟! دعوها فإنها منتنة " ... )) ا.هـ([9])
قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في كتابه "جماعة واحدة لا جماعات وصراط واحد لا عشرات " ( 49 ـ 50 / ط مجالس الهدى ) : ((أقول إني إلى يومي هذا لا أعرف أحداً من السلفيين يحرم العمل الجماعي المشروع ([10]) ، وأكبر دليل على هذا واقع السلفيين في كل مكان ، إذ لهم مدارس وجامعات لها إداراتها ومسؤوليها وأساتذتها وميزانياتها. ولهم جمعيات في الهند وباكستان وبنجلاديش وغيرها. ولهم مساجد ومشاريع تقوم كلها على أعمال جماعية ، وفي السعودية لهم وزارات عديدة منها وزارة العدل يتبعها عشرات المحاكم ، ووزارة التعليم العام ووزارة التعليم العالي يتبعها الجامعات وكل ذلك يقوم على التنظيم الإداري والعلمي والمالي ، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، ووزارة الحج . . . إلى آخر الوزارات .
وقامت فيها مراكز ومكاتب لدعم الجهاد ولإغاثة المنكوبين والعون للفقراء والمساكين وغير ذلك من الأعمال الجماعية المنظمة .
ولأنصار السنة في مصر والسودان مدارس ومساجد وأعمال تقوم على العمل الجماعي ، وفي اليمن مدارس ومساجد قائمة على العمل الجماعي ، وما سمعنا من عالم أو طالب علم سلفي يحارب العمل الجماعي المشروع ويحرم ويبدع أهله .
وإذا كان القصد من العمل الجماعي هو ما ذكرناه وأشباهه فلا داعي أبداً إلى التأليف والتأصيل فيه والأخذ والرد الذي أدى إلى الطعن والتجريح وكان ضرره أكثر من نفعه
وأما الأمر الثاني : فإنه كما تبين لي وكما سيظهر للقاريء ، فإنه وإن سمى من يدافع عنهم جماعات فإن مقصوده بذلك الدفاع عن فرق مزقتها الأهواء الحزبية السياسية والعقائد والمناهج البدعية .
وهذا هو الذي يرى السلفيون أنه تفرق محرم حرمه اللَّـه ورسوله ز وأطبق على تحريمه وذمه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى إلى يومنا هذا)) ا.هـ
وقال حفظه الله في نفس المصدر ( 101 ـ 102) : ((ليس هناك نص من كتاب ولا سنة ولا قول أحد من سلف الأمة ينكر التعاون على البر والتقوى بل فيها دعوة حارة إلى التعاون على البر والتقوى وقد كان سلف الأمة قد وعى هذه التوجيهات وطبقوها فملؤوا الدنيا براً وإحساناً لكنه ما كان على شكل المؤسسات والجمعيات الموجودة الآن والتي استفادتها الجمعيات والمؤسسات الحالية من أهل الغرب ومع أننا نقول بجواز هذه الجمعيات القائمة على البر والتقوى إلا أنك أنت وغيرك يعجزون عن الاتيان بأمثلة وصور من تاريخ المسلمين وتطبيقهم لأعمال البر والتقوى تشابه هذه الصور.
ثم إنني أؤكد لك ما سبق ذكره أن الإسلام بكتابه وسنته لا يجيز التفرق والتشتت والتنابز والتناحر والتهالك على المصالح والاستئثار بها والتحزب لأجلها وعلماء الإسلام كانوا ولا يزالون يحرمون هذا اللون من التفرق والتحزب مهما لبس من أشكال وألوان ومهما ادعى من الانجازات لأن ذلك على خلاف ما شرعه الله وأمر به من الاجتماع على الكتاب والسنة والاعتصام بهما عقيدةً وشريعةً ومنهجاً ومصادم لما نهى عنه اللَّـه ورسوله من الاختلاف وتفرق الأمة شيعاً وأحزاباً ، وتفريق الدين وتمزيقه إلى ملل ونحل فإن ذلك يعرض الأمة للهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة ويزهد أعداء الإسلام في الإسلام ويشوهه في نظر هؤلاء الأعداء فيقولون لو كان في هذا الدين خير وصلاح لما تفرق أهله فرقاً شتى يعادي بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً كما حصل لهذه الجماعات ، وكما هو حاصل اليوم في أفغانستان التي اعطت صورة شوهاء مزرية بالإسلام إذ صورت الحزبية فيها بتناحرها الوحشي الهمجي الإسلام في أحط صور الفوضوية والوحشية والهمجية وبرأ اللَّـه الإسلام وأهل السنة والحق منها)) ا.هـ

........ يتبع إن شاء الله



([1]) سورة ص الآية: 82 ـ 83.
([2]) " المورد العذب الزلال " ( 39 ـ 40 ) للعلامة المحدث أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله مع شيء من الاختصار مني
([3]) كتاب السنة رقم (89) (ص 135،136).
([4])" المورد العذب الزلال " ( 99 ـ 101 )
([5]) انظر إلى كتاب " دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام / ص 93 " ، و رسالة الأخ أبي الحسين محمد بن محيي الدين الجاوي الأندونيسي " الجـمعـيّـات حركة بلا بركة "
([6]) أي " هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله "
([7]) و لقد جال وصال أهل الباطل على أهل الحق بهذه الوسائل الخبيثة ، واستطلوا عليهم بخيلهم ورجلهم ، مع ما هم فيه من المكر والدهاء والكذب والخيانة للسنة وأهلها ، فكم ضاع شباب الأمة وكان أسير شباكهم من جراء هذه الوسائل الخسيسة ، إلا أنه فليبشر أهل الإسلام من أنه مهما كتم أصحاب الأهواء الحق و مهما سعوا في إظهار باطلهم في صورة الحق ، وكيفما كانت وسائلهم ، فالحق أحق أن يظهر ويعلو فوق الباطل ويضمحل معه الزغل وينكب أهله بإذن الله والعاقبة لأوليائه
قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ في كتابه ( تيسيرالكريم الرحمن / 553 ) عند تفسير قوله تعالى :(( و َكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)) الفرقان(31)
((أي: من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.
من بعض فوائد ذلك أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا عظيما لأن معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدلال وأن يتبين ما يفعل الله بأهل الحق من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة، فلا تحزن عليهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا } يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك. { وَنَصِيرًا } ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه.)) ا.هـ
وقال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ـ رحمه الله ـ في كتابه (القائد إلى العقائد / 21 ـ 22 / ط المكتب الإسلامي ) : ((وكما اقتضت أن الحكمة أن لا تكون حجج الحق مكشوفة قاهرة فكذلك اقتضت أن لا تكون الشبهات غالبة ، قال الله عز و جل : " وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ "[ الزخرف:33 - 35 ] .
وذلك أنه لو كان كل من كفر بالله تعالى بذلك النعيم دون المؤمنين ، لكانت تلك شبهة غالبة توقع الناس كلهم في الكفر .
فتخلص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بينات و شبهات ، و أن لا تكون البينات قاهرة و لا الشبهات غالبة ، فمن جرى مع فطرته من حب الحق و رباها و نماها و آثر مقتضاها ، و تفقد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها ، لم تزل تتجلى له البينات و تتضاءل عنده الشبهات ، حتى يتجلى له الحق يقيناً فيما يطلب فيه اليقين ، و رجحاناً فيما يكفي فيه الرجحان ، و بذلك يثبت له الهدى و يستحق الفوز ، و الحمد و الكمال على ما يليق بالمخلوق ، و من اتبع الهوى و آثر الحياة الدنيا ، تبرقعت دونه البينات ، و استهوته الشبهات ، فذهبت به ( إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم )) ا.هـ
([8]) انظر إلى رسالته من الصفحة ( 3 إلى 8 ) ( ط : مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع / الجزائر )
([9]) " غارة الأشرطة على أهل الجهل والسفسطة " ( ج 1 / ص 406 ـ 408 ) ، وهذا جاء من ضمن " أسئلة من محافظة شبوة "
([10]) قال الشيخ في الهامش: " القائم على منهج الكتاب والسنة وما عليه المسلمون قديماً وحديثاً ."