النتائج 1 إلى 9 من 9
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    1,203

    افتراضي سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم .
    أما بعد :
    هذا شرح لمقدمة ابن أبي زيد القيرواني في معتقد أهل السنة والجماعة كنت قد شرحته للطلاب ، والآن أعيد شرحه ثانية في مسجد بلال بن رباح بالبليدة ، أنزله هنا في حلقات متتابعة لعل الله أن ينفع به إخواننا وأن يجعله دخرا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من جاء بقليب سليم ،فنسأل الله أن يتقبله منا خالصا لوجهه وأن يسلم قلوبنا من الشرك والعجب إن ربي سميع قريب مجيب .
    وهذا الشرح أرجو من الله أن يكون أوسع شرح لهذه المقدمة المباركة التي جعل الله لها القبول فبيعت الرسالة بوزنها ذهبا في عصر المؤلف - رحمه الله – وقد أقبل عليها العلماء شرحا وتدريسا ما بين مختصر ومتوسط ومطول ، ومن أفضل شروحها التي رأيت شرح علامة المدينة الشيخ العباد البدر -حفظه الله ورعاه - وقد استفدت منه شرحه كثيرا وخاصة المقدمة بين يدي الشرح التي فيها عشر قواعد مهمة جدا لطالب العلم .
    متن : قال الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رضي الله عنه وأرضاه:
    الحمد لله (1) ...................
    -------------------
    1 – قوله : الحمد لله ؛ افتتح المصنف رسالته بالحمدلة اقتداء بكتاب الله تعالى ؛ إذ ليس من مذهبه أن البسملة آية من الفاتحة .. تعريف الحمد :
    هو الثناء على المحمود المنعم بالجميل الاختياري محبة وتعظيما ، والألف واللام في الحمد لاستغراق جنس المحامد ، واللام في لفظ الجلالة ( لله ) أي للتمليك والاستحقاق ، فالقائل : الحمد لله كأنه يقول : أحمدك يا رب وأثني عليك محبة وتعظيما بجميع المحامد التي تملكها وحدك وتستحقها وحدك لا شريك لك ، ولذلك كان الحمد من أعظم العبادات التي يتقرب بها العبد لربه .

    قال ابن القيم في بدائع الفوائد(2/93- 95) فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه .
    وقال شيخ الإسلام في الفتاوى : "الْحَمْدُ ": هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَحَاسِنِ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهَا. فَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِمَحَاسِنِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مَحَبَّةٍ لَهَا لَمْ يَكُنْ حَامِدًا وَلَوْ أَحَبَّهَا وَلَمْ يُخْبِرْ بِهَا لَمْ يَكُنْ حَامِدًا.
    وَالرَّبُّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إذَا حَمِدَ نَفْسَهُ فَذَكَرَ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ
    الْعُلَى وَأَفْعَالَهُ الْجَمِيلَةَ وَأَحَبَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ فَكَانَ هُوَ الْحَامِدَ وَالْمَحْمُودَ وَالْمُثْنِي وَالْمُثْنَى عَلَيْهِ وَالْمُمَجِّدَ وَالْمُمَجَّدَ وَالْمُحِبَّ وَالْمَحْبُوبَ كَانَ هَذَا غَايَةَ الْكَمَالِ؛ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ وَلَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا هُوَ.
    والألف واللام في قوله "الحمد لله" فيها قولان: قيل : هي للجنس كما ذكره بعض المفسرين من المعتزلة وتبعه عليه بعض المنتسبين إلى السنة. والثاني : وهو الصحيح - أنها للاستغراق، فالحمد كله لله.
    ففي صحيح الترغيب والترهيب ( 1576)عن مصعب بن سعد عن أبيه : أَنَّ أعرابيّاً قال للنبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلّمْني دُعاءً لَعَلَّ الله أنْ ينفعني بِهِ؟ قال : ((قُلْ: اللهُمَّ لَكَ الحمدُ كلُّه، وإليكَ يرجعُ الأَمرُ كُلُّهُ)).قال الشيخ : حسن .
    وعن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :
    بينما أنا أصلي إذ سمعت متكلماً. يقول: اللهم! لك الحمد كله، بيدك الخير كله، إليك يرجع الأمر كله؛ علانيته وسره، فأهل أن تحمد، انك على كل شيء قدير. اللهم! ...))(1).
    قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في شرح حديث جابر رضي الله عنه في حجة الوداع (1/22) :
    تعريف الحمد: هو وصف المحمود بالكمال محبةً وتعظيماً، ولا يمكن لأحد أن يستحق هذا الحمد على وجه الكمال إلا الله عز وجل. وقول بعضهم: الحمد هو الثناء بالجميل الاختياري، أي : أن يثني على المحمود بالجميل الاختياري. ويفعله اختياراً من نفسه، تعريف غير صحيح، يبطله الحديث الصحيح: «أن الله قال : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى عليَّ عبدي» (2).
    فجعل الله تعالى الثناء غير الحمد لأن الثناء تكرار الصفات الحميدة، وأل في الحمد للاستغراق، أي: جميع أنواع المحامد لله وحده، المحامد على جلب النفع وعلى دفع الضرر، وعلى حصول الخير الخاص والعام، كلها لله على الكمال كله.
    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه «بدائع الفوائد» (2/ 92-96 ") بحثاً مستفيضاً نفيسا حول الفروق بين (المدح - والحمد) وكلمات أخرى في اللغة العربية تخفى على كثير من الناس .فلتراجع .
    والحمد يأتي في حق الله جل وعلا ، ويأتي في حق البشر . فإن كان في حق الله ، فهو الثناء على الله مطلقًا . نقول الحمد في حق الله هو الثناء عليه مطلقًا محبة وتعظيما .
    وأما في حق البشر فيكون الحمد هو الثناء على المنعم . ما الفرق هنا بين الثناء مطلقًا في حق الله ، وبين الثناء على المنعم في حق البشر ؟ نقول الفرق هو : أن الله سبحانه وتعالى يُحْمَد على كل حال . سواءٌ أنعم عليك بنعمة أو لم ينعم عليك بنعمة . فإنك تحمده سبحانه وتعالى على كل حال . فتحمده في السراء ، وتحمده في الضراء . لأن الشر لا يكون من الله جل وعلا شرًا محضًا . فما من بلاء أو مصيبة يلقيها على العبد إلا وفيها خير من وجه من الوجوه . بخلاف البلايا التي تقع من البشر ، والمصائب أو الشر الذي ينسب إليهم فقد يكون شرًا محضًا.
    وأما الله جل وعلا فالشر ليس إليه كما جاء في الحديث .
    عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: ((وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ)). رواه مسلم (771) وأبو داود (760) والترمذي (3422)والنسائي (897).
    وكما قال الله سبحانه وتعالى :{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا $ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }(78-79)النساء .
    قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، ولكن نسبة الشر ليست إلى الله عز وجل حقيقة وتأدبا مع الله لأنه لا يرضاه لعباده ، وأما من باب الخلق والإيجاد فهو الله جل وعلا الخالق للخير والشر ، للنفع والضُّر ، للنعمة والمصيبة كلها من إيجاد الله جل وعلا وخلقه ؛ ولكن تأدبًا مع الله لا تُذكر في مقابل النعمة . والشر ليس إليك . فبأي هذا كان الحمد في حق الله على كل حال .
    وأما في حق البشر فإنه لا يكون إلا مقابل الإنعام.

    مراتب الحمد : مراتبه ثلاثة وأعلاها:
    أ – الحمد لله :لما اشتملت عليه من الألف واللام التي تفيد استغراق جميع أنواع المحامد ، ولما فيها من لام التمليك والاستحقاق .
    فهذه الصيغة هي أفضل مراتب الحمد وأعلاها لأن الحامد بها يثني على الله بجميع المحامد التي يملكها سبحانه ويستحقها وحده لا شريك له .
    كيف لا يكون كذلك وقولها يملأ الميزان كما تملأ ما بين السموات والأرض مع سبحان الله ، وقولها صدقا وحقا يعتبر أكثر من ذكرك أيها المطيع الليل والنّار ، وقد جاء في فضل الحمد لله أحاديث كثيرة منها :
    ما في صحيح مسلم (223) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)).
    ومنها ما في صحيح الجامع ( 2615- 1206 ) (( ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار؟ تقول : الحمد لله عدد ما خلق ؛ الحمد لله ملء ما خلق ؛ الحمد لله عدد ما في السموات وما في الأرض ؛ الحمد لله عدد ما أحصى كتابه ؛ والحمد لله على ما أحصى كتابه والحمد لله عدد كل شيء؛ والحمد لله ملء كل شيء ؛ وتسبح الله مثلهن تَعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك)). قال العلامة الألباني (صحيح) ... [طب] عن أبي أمامة. الترغيب (2/252).
    وفي التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (2/211) (827 ): عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ : ((مَاذَا تَقُولُ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ )) قَالَ: أَذْكُرُ رَبِّي قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَكْثَرَ أَوْ أَفْضَلَ مِنْ ذِكْرِكَ اللَّيْلَ مَعَ النَّهَارِ وَالنَّهَارَ مَعَ اللَّيْلِ؟ أَنْ تَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ مَا خَلَقَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ كُلِّ شَيْءٍ وَتَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذلك)قال الشيخ الألباني - رحمه الله - : حسن صحيح ـ ((التعليق الرغيب)) (2/ 252 ـ 253). والصحيحة (2578).
    وفي مسند الإمام أحمد – رحمه الله - ( 22144) عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ حَدَّثَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : (( مَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ مَا خَلَقَ ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَسُبْحَانَ اللهِ مِثْلَهَا فَأَعْظِمْ ذَلِكَ )) (قال محققه ) حديث صحيح.
    وهذه صيغة الحمد التي أنزل الله بها كتابه فقال في سورة الحمد { الحمد لله رب العالمين }
    قال ابن القيم في صيغ الحمد(1/23- وَقَوله تَعَالَى فِي حَمده لنَفسِهِ الَّذِي أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يحمده بِهِ {وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا وَلم يكن لَهُ شريك فِي الْملك وَلم يكن لَهُ ولي من الذل وَكبره تَكْبِيرا}
    فَهَذَا حَمده الَّذِي أنزلهُ على عَبده ارْتَضَاهُ لنَفسِهِ وَأمر رَسُوله أَن يحمده بِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى حامدا لنَفسِهِ :{ الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا قيمًا لينذر بَأْسا شَدِيدا من لَدنه ويبشر الْمُؤمنِينَ الَّذِي يعْملُونَ الصَّالِحَات أَن لَهُم أجرا حسنا}.
    وَقَالَ : {قل الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى}
    وَقَالَ : { الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير}
    وَقَالَ : {الْحَمد لله فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء إِن الله على كل شَيْء قدير}
    وَقَالَ عَن أهل الْجنَّة {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده وأورثنا الأَرْض نتبوأ من الْجنَّة حَيْثُ نشَاء فَنعم أجر العاملين}
    وَقَالَ {الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن إِن رَبنَا لغَفُور شكور}
    فَهَذَا حَمده لنَفسِهِ الَّذِي أنزلهُ فِي كِتَابه وَعلمه لِعِبَادِهِ وَأخْبر عَن أهل جنته بِهِ وَهُوَ آكِد من كل حمد وَأفضل وأكمل كَيفَ يبر الْحَالِف فِي يَمِينه بالعدول إِلَى لفظ لم يحمد بِهِ نَفسه وَلَا ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن سَادَات العارفين من أمته.
    ب – حمدا لله ، أو أحمد لله :
    وهذه هي المرتبة الثانية لما اشتملت عليه من لام التمليك والاستحقاق ، ولكنها خالية من لام الاستغراق لجميع أنواع المحامد ، وكأن الحامد حمد الله وأثنى عليه بحمد معين يملكه الله ويستحقه وحده لا شريك له ، ولم يحمده بجميع أنواع المحامد
    .. قَالَ سُفْيَانُ الثوري : دَخَلْتُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: «إِذَا كَثُرَتْ هُمُومُكَ فَأَكْثِرْ مِنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَإِذَا اسْتَبْطَأْتَ الرِّزْقَ فَأَكْثِرْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَإِذَا تَدَارَكَتْ عَلَيْكَ النِّعَمُ فَأَكْثِرْ حَمْدًا لِلَّهِ» الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك( 342) لابن شاهين.
    ت – أحمد الله ، أو حمدت الله :
    وهذه المرتبة الثالثة ، وهي ثناء العبد على ربه ثناء غير شامل لأنواع المحامد ولا مُعَين لبعضه ، وهذا يمكن أن يشترك معه غيره فيه ، فهل يصح أن يشرك معه غيره في ذلك ، هذا من ناحية الصيغة واللغة جائز لكن من ناحية الشرع فلا بد أن يكون على وجه الترتيب ب ( ثم )وإلا فلا يصح أن تقول حمدت الله وفلان بواو المعية . شرح النظم الحبير بتصرف .
    وفي صحيح الأدب المفرد (ث 866) عن أنس بن مالك رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ سَأَلَ عُمَرُ الرَّجُلَ، كَيْفَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا الَّذِي أَرَدْتُ منك.صحيح موقوفاً ، وثبت مرفوعاً ـ «الصحيحة» (2952) .
    فَالْحَمْد لله ، فالحمد لله ، أحمده بمحامده الَّتِي حمد بهَا نَفسه وحمده بهَا الَّذين اصْطفى من عباده حمدا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يحب رَبنَا ويرضى وَصل اللهم على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وَآله وَصَحبه وَسلم.
    الهوامش: (1) أخرجه أحمد (5/395، 396) بإسناد منقطع من حديث حذيفة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بينما أنا أصلي إذ سمعت متكلما يقول: اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله بيدك الخير كله إليك يرجع الأمر كله علانيته وسره فأهل أن تحمد، إنك على كل شيء قدير، اللهم اغفر لي جميع ما مضى من ذنبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني عملا زاكيا ترضى به عني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك ملك أتاك يعلمك تحميد ربك".
    وقال الهيثمي في "المجمع" (10/96) : "رواه أحمد وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات". وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/428، 429) من حديث أنس بنحو القصة وقال : "رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الذكر" ولم يسم تابعيه".
    وقال الشيخ الألباني في الضعيفة (6850): ضعيف .
    (2) أخرجه مالك في الموطأ (39) والبخاري في "القراءة خلف الإمام" (71) و (79) ومسلم في كتاب الصلاة / باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (395) عن أبي هريرة رضي الله عنه.وأحمد (7291).

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    1,203

    افتراضي رد: سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    متن : الذي ابتدأ (1) الإنسان (2)....
    ------------------
    1 - وقوله : ابتدأ ؛ يعني ابتدأ خلق الإنسان بإيجاده من العدم .كما قال تعالى :{ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا }الإنسان (2).
    وقوله عز وجل :{ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }(29) الأعراف.
    وقوله تعالى :{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }(9). السجدة.
    2- وقوله الإنسان : كلمة الإنسان جنس البشر ، أي جميع البشر ذكورا وإناثا .وقد ذُكِر لفظ الإنسان في القرآن (56) مرة ، منها:
    قوله تعالى :{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (4) النحل .
    وقوله تعالى :{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ }(37)الأنبياء. وقوله :{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (3) الرحمن .
    وقوله تعالى :{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }(14) الرحمن.
    قوله تعالى :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ }(2) العلق.
    فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الإنسان وكرمه وعلّمه وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ، وأراه من آياته ما تدفعه ليكون عبدا مطيعا شاكرا لأنعمه ، ولكنه بعدما اشتد عوده فإذا هو خصيم مبين يجادل في آيات ربه ويجحد وجوده ونعمه عليه .
    قال تعالى :{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }(70) الإسراء.
    قال العلامة السعدي- رحمه الله - (1/463) :وهذا من كرمه عليهم وإحسانه الذي لا يقادر قدره حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام، فكرمهم بالعلم والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.
    {وحملناهم في البر} على الركاب من الإبل والبغال والحمير والمراكب البرية. {و} في {البحر} في السفن والمراكب {ورزقناهم من الطيبات} من المآكل والمشارب والملابس والمناكح. فما من طيب تتعلق به حوائجهم إلا وقد أكرمهم الله به ويسره لهم غاية التيسير.
    {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} بما خصهم به من المناقب وفضلهم به من الفضائل التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات؛ أفلا يقومون بشكر من أولى النعم ودفع النقم ولا تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم بل ربما استعانوا بها على معاصيه.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    1,203

    افتراضي رد: سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    متن : بنعمته (1)....
    ----------------
    1 – وقوله : بنعمته : أي تفضلا منه سبحانه وتعالى وإحسانا إليه ، وليس وجوبا عليه، إذ لا يجب على الله شيء؛ فهو المالك لهم ولما عندهم، وهو الملك لكل الخلق، وهو الرب مربيهم بنعمه، والسيد المدبر لجميع شؤونهم ، وهو خالق كل شيء ، ونعمة إيجادهم من أعظم النعم .
    قال تعالى : {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }(7)المائدة.
    وقال جل وعز {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (9)الأحزاب .
    وقال عز وجل {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }(53)النحل . {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}20 لقمان.
    قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله – (1/649)يمتن تعالى على عباده بنعمه، ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها؛ وعدم الغفلة عنها فقال: {ألم تروا} أي: تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم وقلوبكم، {أن الله سخر لكم ما في السماوات} من الشمس والقمر والنجوم ( والرياح والأمطار ) ، كلها مسخرات لنفع العباد.
    {وما في الأرض} من الحيوانات والأشجار والزروع ، والأنهار والمعادن ونحوها كما قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا}.
    {وأسبغ عليكم} أي: عمكم وغمركم نعمه الظاهرة والباطنة التي نعلم بها؛ والتي تخفى علينا، نعم الدنيا، ونعم الدين ، حصول المنافع ، ودفع المضار، فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم ؛ بمحبة المنعم والخضوع له ؛ وصرفها في الاستعانة على طاعته ، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته. {و} لكن مع توالي هذه النعم؛ {من الناس من} لم يشكرها؛ بل كفرها؛ ( وجحدها ) وكفر بمن أنعم بها ؛ وجحد الحق الذي أنزل به كتبه ؛ وأرسل به رسله، فجعل {يجادل في الله} أي: يجادل عن الباطل؛ ليدحض به الحق؛ ويدفع به ما جاء به الرسول من الأمر بعبادة الله وحده ، وهذا المجادل على غير بصيرة ، فليس جداله عن علم ، فيترك وشأنه، ويسمح له في الكلام {ولا هدى} يقتدي به بالمهتدين {ولا كتاب منير} [غير مبين للحق فلا معقول ولا منقول ولا اقتداء بالمهتدين] وإنما جداله في الله مبني على تقليد آباء غير مهتدين، بل ضالين مضلين.
    وقال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }(18) النحل.
    كم من نعمة يتقلب فيها العباد ؟؟ إنها نعم كثيرة وعظيمة ، وهل يمكن أن يحصي أحدنا نعم الله عليه ؟؟
    يجيبنا ربنا سبحانه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وإذا كان الأمر كذلك أنه لا يمكن أن نحصي نعمه فبالضرورة لا يمكن أن نؤدي شكرها كلها بل لابد من التقصير في الشكر ولكن الله غفور رحيم غفور للتقصير رحيم بعباده .
    يا له من إله عظيم ما قدرناه حق قدره ؛ وما شكرناه حق شركه ، ومع ذلك إنه غفور رحيم ، أنظروا كيف أسبغ علينا نعمه العظيمة الكثيرة ظاهرة وباطنة ، في السماء والأرض ، في البر والبحر ، وانظروا كيف أتمها علينا، وسخرها لنا ، وانظروا كيف يتحبب بها إلينا ، وكيف يذكرنا بها ؟؟!!
    وما كان ذلك التذكير كذلك إلا لأننا قصرنا وغفلنا عن شكره سبحانه ومع ذلك فإنه غفور رحيم شكور حليم .
    يتبع -إن شاء الله -

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    1,203

    افتراضي رد: سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    متن : وصوره (1) في الأرحام بحكمته ....
    ------------------
    1 - وقوله : وصوره في الأرحام بحكمته ...أي أن الله صور الإنسان وشكّله على صورته التي هو عليها فلا أحد من النّاس أختار صورته .. وهذه الصورة كانت في الرحم .
    قال تعالى :{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(6) آل عمران .
    قال قتادة قوله :"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء، من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تامّ خلقُه وغير تامّ. (1).
    قال ابن كثير : وحسن وقبيح ، وشقي وسعيد .
    وقال عز وجل{أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ }(8) الانفطار . قال ابن جرير (24/269) (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) يقول: الذي خلقك أيها الإنسان فسوّى خلقك (فَعَدَلَكَ).
    واختلفت القرَّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرَّاء المدينة ومكة والشام والبصرة (فعدّلك) بتشديد الدال، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بتخفيفها، وكأن من قرأ ذلك بالتشديد وجَّه معنى الكلام إلى أنه جعلك معتدلا معدّل الخلق مقوَّما..
    وكأن الذين قرءوه بالتخفيف ، وجَّهوا معنى الكلام إلى صرفك وأمالك إلى أيّ صورة شاء، إما إلى صورة حسنة، وإما إلى صورة قبيحة، أو إلى صورة بعض قراباته.
    وعن مجاهد، في قول الله: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) قال: في أيّ شبه أب أو أم أو خال أو عمّ.
    ومن أسمائه سبحانه (( المصور)) قال تعالى :{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(24) .
    قال ابن كثير (8/80): وقوله تعالى: {الخالق البارئ المصور} أي: الذي إذا أراد شيئا قال له: كن، فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار. كقوله: {في أي صورة ما شاء ركبك} [الانفطار: 8] ولهذا قال: {المصور} أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
    عن أبي هريرة- رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( خلق الله آدمعلى صورته، طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك، النفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن )) البخاري (6227). ومسلم (2841).
    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ )). أخرجه الحميدي في مسنده (1153).
    ومسلم (2612) (112) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (( إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)).
    وعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (( لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ صَوَّرَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ فِي الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ، عَرَفَ أَنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ )) أحمد(13661) وإسناده صحيح على شرط مسلم.
    ونقر (( بأن الرحمن خلق آدم على صورته ))(2).
    قال عبد الله بن أحمد: وكان في كتاب أبي "وطوله ستون ذراعا" (فلا أدري حدثنا به أم لا) وهذه الزيادة في البخاري. قال شيخ الإسلام : هذا الحديث لم يكن بين السلف في القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مستفيض من طرق متعددة من عدة من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك.(3).
    وأهل السنة يثبتون صفة الصورة لله ويؤمنون بها، ويقولون بإمرارها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. قال الآجري بعد روايته لحديث الصورة: هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإيمان بها، ولا يقال كيف؟ ولم؟ بل تستقبل بالتسليم والتصدق، وترك النظر، كما قال من تقدم من أئمة المسلمين. (الشريعة للآجري (2/106)) .
    وقد نص الأمام أحمد على ذلك فقال في حديث الصورة: (لا نفسره كما جاء الحديث) .
    ولذا أنكر الإمام أحمد على من أول حديث الصورة، وأعاد الضمير على غير الله. فقد قال في رواية أبى طالب (من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق) إبطال التأويلات (1/75) .
    وهذا تنبيه من الإمام أحمد على أن كل من أعاد الضمير على غير الله فقد سلك الطريقة الجهمية.
    ويقول ابن قتيبة: (والذي عندي - والله تعالى أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك ( أي الصفات )لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد) [تأويل مختلف الحديث (ص: 261] .
    قَالَ النَّوَوِيّ (16/166) في شرح صحيح مسلم: فَهُوَ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانُ حُكْمِهَا وَاضِحًا وَمَبْسُوطًا وَأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ تَأْوِيلِهَا.
    وَيَقُولُ نُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَلَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ أَحْوَطُ وَأَسْلَمُ .
    سئل الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله -: عن حديث: «خلق الله آدم على صورته» .
    فأجاب - رحمه الله -: " أي على صورة الرحمن كما ثبت في الرواية الأخرى خلافا للألباني، ولنسيب الرفاعي ، والصورة ثابتة لله تعالى في الصحيحين أنه تعالى يأتي على صورته وعلى غير صورته".(4).
    الصُورة ـ بالضم ـ الشكل، جمعها: صُور وهي الشكل، والهيئة والحقيقة .
    والصورة الإلهية وردت في أحاديث كثيرة لا يمكن دفعها ـ وإن لم ترد في الكتاب ـ إلا أنها وردت في السنة واشتهرت. ونحن لا نفرق بين الكتاب والسنة فكله وحي من مشكاة واحدة .
    منها حديث : "خلق الله آدم على صورته" . السنة لعبد الله بن أحمد (2/472).
    وهذا سياقه في كتاب السنة ، قال: حدَّثني أبو معمر، نا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا تُقبِّحوا الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن تبارك وتعالى)) وصححه الأئمة.
    والحديث بهذا السياق ضعَّفه بعضُ أهل العلم. (5).
    وصحَّحه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه كما نقل ذلك في الفتح (5/183) ، وصفة الصورة صفةٌ ذاتيةٌ خبريةٌ ثابتةٌ لله - عز وجل - بالأحاديث الصحيحة.
    الدليل :
    حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الطويل في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفيه: (فيأتيهم الجبار في صورته التي رأوه فيها أوَّل مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا ...) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} برقم (7439)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية برقم (183).
    ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته).أخرجه البخاري (2559)، (2612) واللفظ لمسلم.
    وجملة الخلاف عند أهل العلم على هذا الحديث يعود إلى أربعة أقوال هي كما يلي:
    أولاً: أن الضمير في قوله: (على صورته) عائد على غير الله تعالى: ففي حديث: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) يعود إلى المضروب.(6).
    ثانياً: أن الضمير في قوله: (على صورته) عائد إلى الله تعالى، وأن إضافة الصورة إلى الله تعالى من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وعلى هذا جمهور أهل السنة، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: -وهو ممن انتصر لهذا القول وأطال الكلام جداً على هذا الحديث (6).
    - قال: "هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك" (7).
    ثالثاً:أن الضمير في قوله: (على صورته) يعود على الله عز وجل، وتكون إضافة الصورة إلى الله تعالى من باب إضافة المخلوق إلى خالقه كما في قوله تعالى: {نَاقَةُ اللَّهِ} وكما يقال في الكعبة: بيت الله ... وهكذا (8).
    رابعاً:إنكار حديث: (إن الله خلق آدم على صورته) والنهي عن التحديث به، وهذا مروي عن الإمام مالك: (9).
    ومما لا ريب فيه أن الصورة ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، وأن الضمير في قوله: (على صورته) عائد إلى الله تعالى، وإضافة الصورة إليه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف - على ما جاء في القول الثاني- كما هو مقتضى ظاهر لفظ الحديث، ولا يجوز تأويل الحديث وصرفه عن ظاهره لمجرد توهم التشبيه والتمثيل، فإن هذا شأن أهل البدع، أما أهل السنة فإنهم يؤمنون بما صح من أحاديث الصفات كلها، ويجرونها على ظاهرها على ما يليق بجلال الله وعظمته مع نفي المماثلة على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11)الشورى: (10).
    والمفروض أن لا يعترض أحد على هذا المعنى من أن الضمير في حديث الصورة يعود على الله - وخاصة وهو يقرأ لشيخ الإسلام أنه لا خلاف بين السلف في أن الضمير راجع إلى الله ، ويدل عليه ؛بل نص في الموضوع الحديث الذي في النسائي وغيره : (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن).
    وقد علمت أن طائفة من العلماء المتقدمين صححوه ، ومن المتأخرين الشيخان ابن باز وابن عثيمين – رحمهما الله -. فيكون المعنى الصحيح الذي لا خلاف فيه عند السلف إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، أي : له وصورة ، كما للمخلوق صورة ، ووجه كما أن لله وجهاً، وله ساق كما أن لله ساقاً، وله يد كما أن لله يداً، وغير ذلك مما جاء من الصفات في الكتاب والسنة ، ولا يتلزم من ذلك التساوي والمماثلة والتشابه من كل وجه ، فالله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
    ولكن وقع اللبس في ذلك لمن وقع في التأويل قصد التنزيه لمّا قاسوا المخلوق على الخالق ، وتصورا الصورة والصفات التي أولها على ما في أذهانهم .
    قال الشيخ عبد الرحمن أبابطين – رحمه الله - في رسائله (1/221)جوابا لمن سأله عن هذا الحديث .
    بسم الله الرحمن الرحيم :
    ما يقول العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين- في حديث: "خلق الله آدم بيده على صورته". هل الكناية في قوله : على صورته راجعة إلى آدم، وأن الله خلقه على الصورة التي خلقه عليها، أم لها معنى، وتأويل غير ذلك؟ وأَجيبوا - أدام الله النفع بعلومكم- وابسطوا الجواب، أثابكم الله الجنة بمنه وكرمه.
    الجواب : هذا الحديث المسئول عنه ثابت في صحيحي البخاري ومسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا)).
    وفي بعض ألفاظ الحديث: (( إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)).
    قال النووي: هذا من أحاديث الصفات، ومذهب السلف أنه لا يتكلم في معناه، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله -تعالى-، مع اعتقادنا أن ليس كمثله شيء، انتهى.
    وقال بعض أهل التأويل: الضمير في قوله: "صورته" راجع إلى آدم، وقال بعضهم: الضمير راجع على صورة الرجل المضروب، ورد هذا التأويل بأنه إذا كان الضمير عائدا على آدم فأي فائدة في ذلك؟ إذ ليس يشك أحد أن الله خالق كل شيء على صورته، وأنه خلق الأنعام، والسباع على صورها، فأي فائدة في الحمل على ذلك.
    ورد تأويله بأن الضمير عائد على ابن آدم المضروب، بأنه لا فائدة فيه؛ إذ الخلق عالمون بأن آدم خلق على خلق ولده، وأن وجهه كوجوههم. ويرد هذا التأويل كله بالرواية المشهورة: "لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن"
    وقد نص الإمام أحمد على صحة الحديث، وإبطال هذه التأويلات، فقال في رواية إسحاق بن منصور: (( لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) صحيح.
    وقال في رواية أبي طالب: من قال:(( إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟))
    وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال رجل لأبي: إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله خلق آدم على صورته)) فقال: على صورة الرجل، فقال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟
    وقال أحمد في رواية أخرى: فأين الذي يروي: (( إن الله خلق آدم على صورة الرحمن؟)).
    وقيل لأحمد عن رجل: إنه يقول: على صورة الطين، فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية.
    واللفظ الذي فيه ((على صورة الرحمن )) رواه الدارقطني، والطبراني، وغيرهما بإسناد رجاله ثقات.قاله ابن حجر.
    وعن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرجها ابن أبي عاصم عن أبي هريرة مرفوعا، قال: (( من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن)) وصحح إسحاق بن راهويه اللفظ فيه على صورة الرحمن.
    وأما أحمد فذكر أن بعض الرواة وقفه على ابن عمر، وكلاهما حجة.
    وروى ابن منده، عن ابن راهويه قال : قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إن آدم خلق على صورة الرحمن )) وإنما علينا أن ننطق به..
    قال القاضي أبو يعلى: والوجه فيه أنه ليس في حمله على ظاهره ما يزيل صفاته، ولا يخرجها عما ما تستحقه، لأننا نطلق تسمية الصورة عليه، لا كالصور كما أطلقنا تسمية ذات ونفس، لا كالذوات والأنفس.
    وقد نص أحمد في رواية يعقوب بن يختان قال : (( خلق آدم على صورته)) لا نفسره كما جاء الحديث.
    وقال الحميدي لما حدث بحديث: (( إن الله خلق آدم على صورته)) 1 قال: لا نقول غير هذا على التسليم، والرضى بما جاء به القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول كما قال القرآن والحديث.
    قلت : كيف يستوحش بالقول بما جاء في كتاب ربنا وسنة نبينا وقد خاطب من نزل عليهم القرآن الكريم بلغتهم بما يفهمون ولم يخاطبهم بالألغاز حتى يستوحشوا أن يتكلموا بها، لا يستوحش من ذلك إلا من كان عنده قصور في فهمه لما فهمه الصلف الصالح وفي مقدمتهم الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم .
    وقال ابن قتيبة : الذي عندي - والله أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، هذا كلام ابن قتيبة.
    وقد ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (( فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون)) البخاري: (6574) ومسلم: (182) .
    وفي لفظ آخر: (( صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيعرفونه)) الحديث. البخاري: (7438) ومسلم: (182) . فالذي ينبغي في هذا ونحوه إمرار الحديث كما جاء على الرضى والتسليم، مع اعتقاد أنه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، والله -سبحانه- أعلم. انتهى كلامه .
    الهوامش: ----------------
    (1)- تفسير ابن جرير الطبري (6/168).
    (2) أخرجه أحمد: مسند أبى هريرة (14/45) ح (8291) ، البخاري كتاب الاستئذان (4/135) ح (6227).
    (3) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - قسم العقيدة (1/353).

    (4) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (6/373)، تحقيق مجموعة من المحققين ، الناشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف.
    (5) انظر: السلسلة الضعيفة للألباني (1176) .
    (6) ينظر: فتح الباري لابن حجر (5/ 183)، شرح النووي على مسلم (16/ 403).
    (7)- في كتابه الذي يرد فيه على الرازي واسمه: (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية) أو (نقض تأسيس الجهمية)، وقد طبع منه مجلدان كبيران بهذا العنوان، وأما بقية الكتاب فلا يزال مخطوطاً، وقد قام عدد من الباحثين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بتحقيق الكتاب كاملاً، لكنه لم يطبع بعد.وكلام ابن تيمية عن هذا الحديث في هذه البقية التي لم تطبع، وقد لخصه الشيخ حمود التويجري - رحمه الله - في كتابه: (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن).ينظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعاً ودراسة، د. سليمان محمد الدبيخي (ص 122).
    (8) بيان تلبيس الجهمية تحقيق، د. عبد الرحمن اليحيى (2/ 396).
    9) انظر: التوحيد لابن خزيمة (1/87 -91)، الأسماء والصفات للبيهقي (2/63 - 64)، والمعلم للمازري (3/ 171)، وشرح النووي على مسلم (16/ 403 - 404).
    10) انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف النمري (7/ 150)، الضعفاء الكبير للعقيلي (2/ 251 - 252)، ونقله عنه الذهبي في الميزان (4/ 95)، وفي السير (5/ 449).
    (11) انظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعاً ودراسة، د. سليمان محمد الدبيخي (ص 137). منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده في تقرير العقيدة والرد على المخالفين (1/155)إعداد: أحمد بن علي الزاملي عسيري إشراف: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد المحسن التركي.
    يتبع إن شاء الله ...


  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    1,203

    افتراضي رد: سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    متن :/ وقوله - رحمه الله - : بحكمته ....
    ---------------
    ش/ الحِكمةُ: مَرْجِعُها إلى العَدْل والعِلْم والحِلْم ويقال : أحْكَمَتْه التَجارِبُ إذا كانَ حكيماً.. كتاب العين (3/66) للفراهيدي .
    قلت : وفي حق الله مرجعها أيضا إلى الخبرة والعزة ، ولذلك جاء اسمه سبحانه الحكيم مقرونا باسمه العليم ، والخبير ، والعزيز في أكثر الآيات .
    قال تعالى :{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(24) الحشر .
    وقد كرر قوله :{ وَهُوَ الْعَزِيزُ
    الْحَكِيمُ} في اثنا عشر آية فياضنا عشر سورة من كتابه.
    قال العلامة السعدي في تفسيره (1/ 421): وقوله : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الذي - من عزته - أنه انفرد بالهداية والإضلال، وتقليب القلوب إلى ما شاء، ومن حكمته أنه لا يضع هدايته ولا إضلاله إلا بالمحل اللائق به. والذي لا يريد شيئا إلا ويكون، ولا يكون شيئا إلا لحكمة ومصلحة.
    قال تعالى :{قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}(30)الذاريات .
    أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْكَرَامَةِ والتطهير وما ترغبون فيه مما تخفون في أنفسكم ، وقد وسع كل شيء علمًا فسلموا لحكمه، واشكروه على نعمته. حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ .
    قال تعالى :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }(1).سبأ .
    وهي عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم ، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم .النهاية في غريب الحديث (1/419).
    تعريف الحكمة في القرآن :
    قال شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى - في الوصية الكبرى : [وقال غير واحد من السلف: الحكمة: هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه رضي الله عنهن سوى القرآن هو سنته صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال- r- : (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) .
    وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل على النبي- r - بالسنة كما ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن].انتهى كلامه.
    ومما يعضد تعريف شيخ الإسلام للحكمة ما جاء عن بن عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَقَالَ:(( اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ )) وأخرجه البخاري (3756) وفي لفظ له ((اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ)) ويكون بمعنى العلم ، واللفظ الأول أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1923)وفي المسند (1840) بلفظ :(( مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْحِكْمَةِ ّ)).
    وَقَالَ أَيْضًا: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ» وهذا لفظ ابن ماجة (166)من صحيحه .
    وقال البخاري (5/27): وَالحِكْمَةُ: الإِصَابَةُ فِي غَيْرِ النُّبُوَّةِ "
    ولذلك قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ لَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
    وقال مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ : مَا رَأَيْت أَفْقَهَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا أَعْلَمَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وهو سبحانه وتعالى وتقدس الحكيم في عذره وحجته إلى عباده .
    قال ابن أبي حاتم في تفسيره: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}أي : الْحَكِيمُ فِي عُذْرِهِ وَحُجَّتِهِ إِلَى عِبَادِهِ . ثم ساق ذلك بسنده إلى محمد بن إسحاق فقال :
    3163 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن نحيى، أَنْبَأَ أَبُو غَسَّانَ، ثنا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَوْلُهُ : (( الْحَكِيمُ )) فِي عُذْرِهِ وَحُجَّتِهِ إِلَى عِبَادِهِ.
    قال الشيخ مجمد بن صالح العثيمين في تفسيره سورة الحجرات (1/359): والحكيم لها معنيان:
    المعنى الأول: ذو الحكمة..
    والمعنى الثاني: ذو الحكم التام، فهي مشتقة من شيئين: من الحكمة والحكم، فالحكمة هي أن جميع أفعاله وأقواله وشرعه حكمة، وليس فيه سفه بأي حال من الأحوال .
    ولهذا قيل في تعريف الحكمة: (إنها وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها) ، فما من شيء من أفعال الله، أو من شرع الله إلا وله حكمة، فإذا قدر الله الحر الشديد الذي يهلك الثمار فهو حكمة لا شك، وإذا منع الله المطر فهو حكمة، وإذا ألقى الله الموت بين الناس فهو حكمة، وكل شيء فهو حكمة، والشرائع كلها حكمة فإذا أحل الله البيع وحرم الربا فهو حكمة، لأنا نعلم أن الله حكيم، ففرق الله - عز وجل - بين البيع والربا، فالبيع أحله الله، والربا حرمه.
    وقال ابن القيم في مدارج السالكين (2/447) في بحث نفيس عن حقيقة الحكمة :
    فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْحِكْمَةِ: وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْحِكْمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] .
    وَقَالَ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48] . الْحِكْمَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ: مُفْرَدَةٌ. وَمُقْتَرِنَةٌ بِالْكِتَابِ. فَالْمُفْرَدَةُ: فُسِّرَتْ بِالنُّبُوَّةِ، وَفُسِّرَتْ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ عِلْمُ الْقُرْآنِ: نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ. وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ. وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَأَمْثَالِهِ.
    وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْفَهْمُ فِيهِ.
    وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: هِيَ الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

    وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَفَهْمُهَا.
    وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ. كَأَنَّهُ فَسَّرَهَا بِثَمَرَتِهَا وَمُقْتَضَاهَا.
    وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْكِتَابِ: فَهِيَ السُّنَّةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
    وَقِيلَ: هِيَ الْقَضَاءُ بِالْوَحْيِ. وَتَفْسِيرُهَا بِالسُّنَّةِ أَعَمُّ وَأَشْهَرُ.
    وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ. قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ: إِنَّهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَالْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، وَالْفِقْهِ، فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ.
    وَالْحِكْمَةُ حِكْمَتَانِ: عِلْمِيَّةٌ، وَعَمَلِيَّةٌ. فَالْعِلْمِيَّةُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ. وَمَعْرِفَةُ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبِّبَاتِهَا، خَلْقًا وَأَمْرًا. قَدَرًا وَشَرْعًا.
    وَالْعَملْيَّةُ : كَمَا قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " وَهِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ.
    [دَرَجَاتُ الْحِكْمَةِ] : [الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ حَقَّهُ] قَالَ : وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ حَقَّهُ وَلَا تَعُدِّيَهُ حَدَّهُ، وَلَا تُعَجِّلَهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَا تُؤَخِّرَهُ عَنْهُ.
    لَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ لَهَا مَرَاتِبُ وَحُقُوقٌ، تَقْتَضِيهَا شَرْعًا وَقَدَرًا. وَلَهَا حُدُودٌ وَنِهَايَاتٌ تَصِلُ إِلَيْهَا وَلَا تَتَعَدَّاهَا.
    وَلَهَا أَوْقَاتٌ لَا تَتَقَدَّمُ عَنْهَا وَلَا تَتَأَخَّرُ - كَانَتِ الْحِكْمَةُ مُرَاعَاةَ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ. بِأَنْ تُعْطَى كُلُّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا الَّذِي أَحَقَّهُ اللَّهُ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.
    وَلَا تَتَعَدَّى بِهَا حَدَّهَا. فَتَكُونَ مُتَعَدِّيًا مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ. وَلَا تَطْلُبُ تَعْجِيلَهَا عَنْ وَقْتِهَا فَتُخَالِفَ الْحِكْمَةَ. وَلَا تُؤَخِّرُهَا عَنْهُ فَتُفَوِّتَهَا.

    وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ مَعَ مُسَبَّبَاتِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا. فَإِضَاعَتُهَا تَعْطِيلٌ لِلْحِكْمَةِ بِمَنْزِلَةِ إِضَاعَةِ الْبَذْرِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ.
    وَتَعَدِّي الْحَقِّ: كَسَقْيِهَا فَوْقَ حَاجَتِهَا، بِحَيْثُ يَغْرِقُ الْبَذْرُ وَالزَّرْعُ وَيَفْسُدُ.
    وَتَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا: كَحَصَادِهِ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ وَكَمَالِهِ.
    وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ: إِخْلَالٌ بِالْحِكْمَةِ، وَتَعَدِّي الْحَدِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، خُرُوجٌ عَنْهَا أَيْضًا. وَتَعْجِيلُ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ: إِخْلَالٌ بِهَا. وَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ: إِخْلَالٌ بِهَا.
    فَالْحِكْمَةُ إِذًا: فِعْلُ مَا يَنْبَغِي، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي.
    وَاللَّهُ تَعَالَى أَوْرَثَ الْحِكْمَةَ آدَمَ وَبَنِيهِ.
    فَالرَّجُلُ الْكَامِلُ: مَنْ لَهُ إِرْثٌ كَامِلٌ مِنْ أَبِيهِ، وَنِصْفُ الرَّجُلِ - كَالْمَرْأَةِ - لَهُ نِصْفُ مِيرَاثٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِي ذَلِكَ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

    وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ فِي هَذَا: الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَأَكْمَلُهُمْ أُولُو الْعَزْمِ. وَأَكْمَلُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ، وَعَلَى أُمَّتِهِ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ.
    كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] .
    وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] .

    فَكُلُّ نِظَامِ الْوُجُودِ مُرْتَبِطٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَكُلُّ خَلَلٍ فِي الْوُجُودِ، وَفِي الْعَبْدِ فَسَبَبُهُ: الْإِخْلَالُ بِهَا. فَأَكْمَلُ النَّاسِ: أَوْفَرُهُمْ نَصِيبًا. وَأَنْقَصُهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْكَمَالِ: أَقَلُّهُمْ مِنْهَا مِيرَاثًا.
    وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْعِلْمُ، وَالْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ.
    وَآفَاتُهَا وَأَضْدَادُهَا: الْجَهْلُ، وَالطَّيْشُ، وَالْعَجَلَةُ.
    فَلَا حِكْمَةَ لِجَاهِلٍ، وَلَا طَائِشٍ، وَلَا عَجُولٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَشْهَدَ نَظَرَ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ]
    قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَشْهَدَ نَظَرَ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ. وَتَعْرِفَ عَدْلَهُ فِي حُكْمِهِ. وَتَلْحَظَ بِرَّهُ فِي مَنْعِهِ. أَيْ تَعْرِفُ الْحِكْمَةَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَشْهَدُ حُكْمَهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] .
    فَتَشْهَدُ عَدْلَهُ فِي وَعِيدِهِ، وَإِحْسَانَهُ فِي وَعْدِهِ، وَكُلٌّ قَائِمٌ بِحِكْمَتِهِ.

    وَكَذَلِكَ تَعْرِفُ عَدْلَهُ فِي أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْكَوْنِيَّةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْخَلَائِقِ، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ فِيهَا، وَلَا حَيْفَ وَلَا جَوْرَ. وَإِنْ أَجْرَاهَا عَلَى أَيْدِي الظَّلَمَةِ. فَهُوَ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ. وَمَنْ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ الظَّالِمُ. وَكَذَلِكَ تَعْرِفُ بِرَّهُ فِي مَنْعِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يُنْقِصُ خَزَائِنَهُ الْإِنْفَاقُ، وَلَا يَغِيضُ مَا فِي يَمِينِهِ سَعَةُ عَطَائِهِ. فَمَا مَنَعَ مَنْ مَنَعَهُ فَضْلَهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ كَامِلَةٍ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ الْجَوَادُ الْحَكِيمُ. وَحِكْمَتُهُ لَا تُنَاقِضُ جُودَهُ.
    فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَضَعُ بِرَّهُ وَفَضْلَهُ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ وَوَقْتِهِ. بِقَدْرِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَفَسَدُوا وَهَلَكُوا.
    وَلَوْ عَلِمَ فِي الْكُفَّارِ خَيْرًا وَقَبُولًا لِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَشُكْرًا لَهُ عَلَيْهَا، وَمَحَبَّةً لَهُ وَاعْتِرَافًا بِهَا، لَهَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] .
    سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَيَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَيْهَا.
    فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا أَعْطَى إِلَّا بِحِكْمَتِهِ. وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا أَضَلَّ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ.
    وَإِذَا تَأَمَّلَ الْبَصِيرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ: رَآهُ عَيْنَ الْحِكْمَةِ. وَمَا عَمَرَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ.
    فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ تَبْلُغَ فِي اسْتِدْلَالِكَ الْبَصِيرَةَ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَبْلُغَ فِي اسْتِدْلَالِكَ الْبَصِيرَةَ. وَفِي إِرْشَادِكَ الْحَقِيقَةَ. وَفِي إِشَارَتِكَ الْغَايَةَ.
    يُرِيدُ أَنْ تَصِلَ بِاسْتِدْلَالِكَ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ. وَهِيَ الْبَصِيرَةُ الَّتِي تَكُونُ نِسْبَةُ الْعُلُومِ فِيهَا إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْبَصَرِ. وَهَذِهِ هِيَ الْخِصِّيصَةُ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الصَّحَابَةُ عَنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ. وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعُلَمَاءِ.
    قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] أَيْ أَنَا وَأَتْبَاعِي عَلَى بَصِيرَةٍ.
    وَقِيلَ {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] عَطْفٌ عَلَى الْمَرْفُوعِ بِأَدْعُو أَيْ أَنَا أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَمَنِ اتَّبَعَنِي كَذَلِكَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ.
    وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمْ أَهْلُ الْبَصَائِرِ الدَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. فَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى الِانْتِسَابِ وَالدَّعْوَى.
    وَقَوْلُهُ: وَفِي إِرْشَادِكَ الْحَقِيقَةَ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ: أَنَّكَ إِذَا أَرْشَدْتَ غَيْرَكَ تَبْلُغُ فِي إِرْشَادِهِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ تَبْلُغُ فِي إِرْشَادِ غَيْرِكَ لَكَ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا تَقِفُ دُونَهَا.
    وانظر غير مأمور ما زبره وطرزه الإمام الرباني ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة (1/ 186... )) وما بعدها عن حكمة خلق الله تعالى في هذا الكون ترى العجب العجب مما يبهرك ويجذب عقلك إلى التدبر ، وقلبك إلى الإيمان ، ونفسك إلى الروحانية بذلك الحق الذي أراه الله سبحانه وتعالى أولي اللباب من عباده الذين يذكرونه قياما وقعودا ويتفكرون في خلق السموات والأرض ليزدادوا يقينا بالإيمان الذي اكستبوه في خلواتهم وسكناتهم وهم يتدبرون عجاب هذا الخلق وحكمة الله تعالى وتقدس فيه .
    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته :{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }(53) فصلت .
    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته: {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} (82) النساء والآية (47) محمد.
    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته :{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ }(68)المؤمنون .
    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته :{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (29) ص .
    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته :{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (101) يونس.
    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته :{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }(164) البقرة .
    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (191)


    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته :{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4
    ) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (5) الجاثية
    وقال سبحانه وتعالى وتقدس في علوه وكل شأنه وفي أسمائه وصفاته :{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (24) الروم .
    تدبر هذه الآيات من كلام ربك وتأمل هذا الكتاب المفتوح الذين يأمرك بالتفكر والتدبر فيه لتتجلى لك حكمة الله تعالى في أسمى معانيها إنه هو العليم العزيز الخبير الحكيم سبحانه .
    يتبع - إن شاء الله -

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Dec 2017
    المشاركات
    12

    افتراضي رد: سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    جزاكم الله خيرا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    1,203

    افتراضي رد: سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    وإياك أخي وبارك فيك

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    1,203

    افتراضي رد: سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    متن : وقوله – رحمه الله - : وأعذر إليه على ألسنة رسله (1)...
    ------------- 1 - ش / عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (( لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَى عَبْدٍ أَحْيَاهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً، لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْهِ ، لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْهِ )) رواه أحمد (7713) وأخرجه البخاري (6419) وبوب عليه باب من بلغ ستين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله : {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} [فاطر: 37]: «يعني الشيب» .
    قال أبو جعفر (20/475-478)وقوله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) :
    فتأويل الكلام إذن: أولم نعمركم يا معشر المشركين بالله من قريش من السنين، ما يتذكر فيه من تذكر، من ذوي الألباب والعقول، واتعظ منهم من اتعظ، وتاب من تاب، وجاءكم من الله منذر ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب الله، فلم تتذكروا مواعظ الله، ولم تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.
    اختلف أهل التأويل في مبلغ ذلك؛ فقال بعضهم: ذلك أربعون سنة. ذكر من قال ذلك:
    حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا بشر بن المفضل قال: ثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أربعون سنة. حدثني يعقوب قال: ثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله.
    وقال آخرون: بل ذلك ستون سنة. ذكر من قال ذلك:
    حدثنا محمد بن بشار قال: ثنا عبد الرحمن قال: ثنا سفيان عن ابن خُثَيم عن مجاهد عن ابن عباس (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قال: ستون سنة.
    حدثنا أَبو كريب قال: ثنا ابن إدريس قال: سمعت عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن مجاهد عن ابن عباس قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة.
    حدثنا علي بن شعيب قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن إبراهيم بن الفضل عن أَبي حسين المكي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إذا كان يومُ القيامةِ نُودِي: أين أبناء الستين، وهو العمر الذي قال الله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) ". حدثني أحمد بن الفرج الحمصي قال: ثنا بقية بن الوليد قال: ثنا مطرف بن مازن الكناني قال: ثني معمر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لَقدْ أعْذَرَ اللهُ إلَى صاحب السِّتَّين سنة والسَّبعين".
    حدثنا أَبو صالح الفزاري قال: ثنا محمد بن سوار قال: ثنا يعقوب بن عبدٍ القاريُّ الإسكندريُّ قال: ثنا أَبو حازم عن سعيد المقبري عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "منْ عَمَّرهُ اللهُ ستين سنةً فَقَد أعذرَ إليهِ في العُمْرِ".
    قلت : أخرجه البخاري في الرقاق، باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر: 11 / 238. حدثنا محمد بن سوار قال: ثنا أسد بن حميدٍ عن سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه في قوله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال: العمر الذي عمركم الله به ستون سنة.
    وأشبه القولين بتأويل الآية إذ كان الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خبرًا في إسناده بعض من يجب التثبت في نقله، قول من قال ذلك أربعون سنة، لأن في الأربعين يتناهى عقل الإنسان وفهمه، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عن كماله في حال الأربعين.
    قال ابن كثير (6/553): وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْم، عن مجاهد قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى ابْنِ آدَمَ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أَرْبَعُونَ سَنَةً.
    هَكَذَا رَوَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ لِابْنِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} سِتُّونَ سَنَةً.
    فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَيْضًا، لِمَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ -كَمَا سَنُورِدُهُ-لَا كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِي أَمْرِهِ. فَقَدْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الطَّرِيقُ الَّتِي ارْتَضَاهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ شَيْخُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَكَفَتْ. وَقَوْلُ ابْنُ جَرِيرٍ: (إِنَّ فِي رِجَالِهِ بَعْضُ مَنْ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِي أَمْرِهِ) ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ مَعَ تَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعُمُرَ الطَّبِيعِيَّ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَالْإِنْسَانُ لَا يَزَالُ فِي ازْدِيَادٍ إِلَى كَمَالِ السِّتِّينَ، ثُمَّ يَشْرَعُ بَعْدَ هَذَا فِي النَّقْصِ وَالْهَرَمِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
    إذَا بَلَغَ الفتَى ستينَ عَاما ... فَقَدْ ذَهَبَ المَسَرَّةُ والفَتَاءُ .
    وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ الْعُمُرُ الَّذِي يَعْذُرُ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ بِهِ، وَيُزِيحُ بِهِ عَنْهُمُ الْعِلَلَ، كَانَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَعْمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ.
    قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَن يَجُوزُ ذَلِكَ".
    وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ برقم (3550) وَابْنُ مَاجَهْ و ابن ماجه برقم (4236) .جَمِيعًا فِي كِتَابِ الزُّهْدِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
    وَهَذَا عَجَب مِنَ التِّرْمِذِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَطَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ".
    وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "كِتَابِ الزُّهْدِ"أَيْضًا برقم (2331) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هريرة، وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ. هَذَا نَصَّهُ بِحُرُوفِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    قال البغوي في تفسيره (6/425){وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٌ: هُوَ الشَّيْبُ. مَعْنَاهُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ حَتَّى شِبْتُمْ. وَيُقَالُ: الشَّيْبُ نَذِيرُ الْمَوْتِ. وَفِي الْأَثَرِ: مَا مِنْ شَعَرَةٍ تَبْيَضُّ إِلَّا قَالَتْ لِأُخْتِهَا: اسْتَعِدِّي فَقَدْ قَرُبَ الْمَوْتُ.
    وقال ابن الأثير في النهاية (3/ 196): لم يُبْقِ له موضعاً للإعذار).
    قال أبو سليمان الخطابي:" أعذر إليه" أي بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته.
    قال القرطبي (14/353)والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار.
    قَالَ مَالِكٌ : فَاللهُ أَعْذَرُ بِالْعُذْرِ.الموطأ (168) ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي .
    وذلك في قوله تعالى :{ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }(165) النساء ، وفي البقرة قبلها (213) وفي الأنعام (48) وفي الكهف (56).
    قال أبو جعفر (9/407): قوله : (( مبشرين))، يقول: أرسلتهم رسلا إلى خلقي وعبادي، مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدَّق رسلي، ((ومنذرين)) عقابي من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي.
    وقوله : (( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل))، يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إني أردتُ عقابه: { لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [سورة طه: 134] .
    فقطع حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه، إعذارا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه.
    وفي قوله :{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)} البقرة . وقوله :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}سبأ. وقوله :{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} فاطر . وقوله:{ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا..} (130)الأنعام.
    وقد أعذر الله عز وجل لجميع خلقه بأن أرسل لهم رسلاً، وهؤلاء الرسل كانت مهمتهم إثبات وحدانية الله عز وجل وربوبيته، الذي تستوجب عبادته وحده ، وهداية الخلق إليه عز وجل الذي خلقهم ورباهم وتولى أمرهم، وقام على شئونهم، وأنزل مع الرسل الكتب فيها الهدى والنور.وهاهم يوم القيامة تتنزل كلمة الحق على الكافرين ويشهدون بذلك على أنفسهم ولكن بعد فوات الأوان .
    وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 244): الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار، كأن يقول: لو مد لي في الأجل، لفعلت ما أمرت به، يقال: أعذر إليه: إذا بلغه أقصى الغاية في العذر، ومكنه منه.
    يعني ذلك أمده من العمر أقصاه ، وجاءتك كثير من العظات والعبر لتستيقظ وتفطن وتتذكر وتترك المعاصي والذنوب ، والرتع في الباطل والفجور والفسق ، بعد كل هذا تعتذر لم يبق لك أي عذر فالله تبارك وتعالى مد في عمرك وأقام عليك الحجة منذ ستين عاماً، ولا زلت مصراً على معصيته والفرار من عبوديته ؟ إنك على خطر عظيم جداً بين يدي الله عز وجل.
    ولم يكتف العبد بذلك حتى جاء يحتج على ربه ، ولكن أنى له ذلك والحق سبحانه كتب على نفسه تحريم ظلم عبده شيئا ، فهذه أعماله شاهدة عليه ، وهذه جوارحه تنطق بالحق عليه ، فأين المهرب وأين المخرج؟ وقد قطعت جميع أعذاره .
    أخرج مسلم في " الصحيح " من حديث فضيل، عن الشعبي، عن أنس، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فضحك ، فقال: " هل تدرون مما أضحك "؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا ربِّ ألم تُجرني من الظلم؟ يقول: بلى، فيقولُ: إني لا أُجيزُ اليوم على نفسي شاهداً إلاَّ مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالملائكة الكرام عليك شهوداً، فيُختم على فيه، ويُقالُ لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لَكنَّ وسُحقاً فعَنْكُنَّ كنتُ أُناضلُ ". أخرجه مسلم (2969)، وأبو يعلى (3975) و (3977)، وابن حبان (7358)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 217 - 218.
    فهذا عذرٌ حَقُّ من الله عزَّ وجلَّ يقابل العذر الباطل من العبد، وإلا فعلم العبد الضروري بأنه كاذبٌ أقوى حجة في باطن الأمر، وعلم الرب عز وجل أقوى من علم العبد الضروري.
    وهذا الحديث وإن كان حديثاً واحداً، فالقرآن يشهد له حيث قال مخبرا عنهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيء} [فصلت: 21] مع أن الحديث الظني في هذا المقام من أرفع ما يحتج به، لأن القصد في هذا المقام بيان مجرد احتمال الحكمة، وقطع قول من أحالها فيه، أو عيَّنها في وجهٍ باطل. وقد وَرَدَ من الحديث الصحيح نحو هذا، وصُرِّح فيه بلفظ العذر عن أبي هريرة في بعض رواياته في حديث الرؤية، قال: " فيلقى العبد فيقول: أيْ فُلْ: ألم أُكرمك وأسوِّدْك؟ فيقول: بلى، فيقول: أظننتَ أنك مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني ...
    إلى قوله في المنافق: "فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرُسُلِك، وصُمْتُ، وتَصَدَّقتُ، ويُثني بخيرٍ ما استطاع، فيقول: ها هنا إذاً، قال: فيقال: الآن نبعثُ شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه من الذي يشهدُ عليَّ، فيُختَمُ على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذُه ولحمه وعظامُه، وذلك ليُعْذِرَ من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه" هذا لفظ مسلم عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. أخرجه الحميدي (1178)، ومسلم (2968)، وأبو داود (4730) وابن حبان في صحيحه (7445).
    وفي البخاري (7416) قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ» ومسلم (1499). قال النووي في شرح مسلم في شرحه هذا الحديث (10/132) مَعْنَى الْأَوَّلِ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْأَعْذَارُ مِنَ اللَّهِ تعالى فالعذر هنا بِمَعْنَى الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا بَعَثَ الْمُرْسَلِينَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }(15) الإسراء .
    وَقَالَ تَعَالَى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 5].
    ومسألة العذر بالجهل اختلف فيها العلماء اختلافا بينا ، فمنهم من قال بالعذر مطلقا ، ومنهم من قال بعدمه مطلقا ، ومنهم من فصل في المسألة ، وقال بالعذر في المسائل الخفية ، دون الواضحة ، لأن تعتبر في حكم عدم بلوغ الحجة وعدم فمهما ، فإن عذبه بسبب ذلك انتفت حكمة الله ووجد العبد حجة له في مخاصمة ربه بأنه لا يظلم أحدا ، وهو هنا قد ظلمه بعدم بلوغ الحجة في المسألة الخفية التي هي فوق طاقته وقدرته وهو لم يكلفه شيئا فوق وسعه واستطاعته .
    وأحسن من رأيته تكلم في مسألة العذر بالجهل من المعاصرين شيخ مشايخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان وبعد أن نقل الخلاف في المسألة وناقشه ختم إلى القول بالجمع بين القولين والتفصيل في المسألة فقال .
    قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ الأمين الشنقيطي في أضواء البيان : الظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ: هَلْ يَعْذُرُ الْمُشْرِكُونَ بِالْفَتْرَةِ أَوْ لَا؟ هُوَ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْتَحِنُهُمْ بِنَارٍ يَأْمُرُهُمْ بِاقْتِحَامِهَا، فَمَنِ اقْتَحَمَهَا دَخْلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ امْتَنَعَ دَخَلَ النَّارَ وَعُذِّبَ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا؛ لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانُوا عَامِلِينَ لَوْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ.
    وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَمْرَيْنِ:
    الْأَوَّلُ - أَنَّ هَذَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثُبُوتُهُ عَنْهُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. فَلَا وَجْهَ لِلنِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ مَعَ ذَلِكَ.
    قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى عُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ وَامْتِحَانِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَادًّا عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَضْعِيفَ أَحَادِيثِ عُذْرِهِمْ وَامْتِحَانِهِمْ، بِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا عَمَلٍ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِدُخُولِ النَّارِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ مَا نَصَّهُ: وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَيْفٌ يَتَقَوَّى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ.
    وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ مُتَّصِلَةً مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ، أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا
    دَارُ جَزَاءٍ، وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ امْتِحَانِ الْأَطْفَالِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} .
    وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا: «أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَيَعُودُ ظَهْرُهُ كَالصَّفِيحَةِ الْوَاحِدَةِ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ خَرَّ لِقَفَاهُ» أخرجه البُخَارِيّ (6/2704) (7000) ، وَمُسلم (1/167) (183) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
    وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا: «أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَلَّا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا بن آدم، مَا أغدرك ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» أخرجه البُخَارِيّ (5/2403) (6204) ، وَمُسلم (1/163) (182) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
    وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمُ اللَّهُ دُخُولَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ؟ فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَمِنْهُمُ السَّاعِي، وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوسُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا، بَلْ هَذَا أَطَم وَأعظم!
    وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يرى أَنه نَار فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا . فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ. أخرجه البُخَارِيّ (3/1272) (3266) ، وَمُسلم (4/2248) (2934) من حَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ.
    وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ، وَهُمْ فِي عَمَايَةِ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ . انْظُر الْآثَار الْوَارِدَة فِي ذَلِك فِي " تَفْسِير الطَّبَرِيّ" (1/286).
    وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ عَمَّا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ.
    وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِقَلِيلٍ مَا نَصُّهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ، فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ دَاخِرًا، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ الشَّقَاوَةِ .
    أخرج أَحْمد (4/24) عَن الْأسود بن سريع أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَرْبَعَة يَوْم الْقِيَامَة رجل أَصمّ لَا يسمع شَيْئا وَرجل أَحمَق وَرجل هرم وَرجل مَاتَ فِي فَتْرَة فَأَما الْأَصَم فَيَقُول رب لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أسمع شَيْئا وَأما الأحمق فَيَقُول رب لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَالصبيان يحذفوني بالبعر وَأما الْهَرم فَيَقُول رَبِّي لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أَعقل شَيْئا وَأما الَّذِي مَاتَ فِي الفترة فَيَقُول رب مَا أَتَانِي لَك رَسُول فَيَأْخُذ مواثيقهم ليطيعنه فَيُرْسل إِلَيْهِم أَن أدخلُوا النَّار قَالَ فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا} ، وَأخرج نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الصَّحِيحَة (1434) ، وَهُوَ فصل النزاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
    وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ، الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ.
    وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ (الِاعْتِقَادِ) وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا.
    الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِلَّا هَذَا الْقَوْلُ بِالْعُذْرِ وَالِامْتِحَانِ، فَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الِامْتِحَانِ، وَيَتَّفِقُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الجموع البهية للعقيدة السلفية التي ذكرها العلامة الشِّنقيطي في تفسيره أضواء البيان(2/353).

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    1,203

    افتراضي رد: سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01

    متن : وقوله : على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه ..
    --------------------
    ش/ ليس من شك أن الرسل خير الخلق أجمعين ، فهم صفوة الخلق ، وهم الذين اصطفاهم الله عز وجل ، والله يصطفي من يشاء من خلقه ما يشاء .
    قال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} الحج .

    قال ابن جرير- رحمه الله - (18/687): يقول تعالى ذكره: الله يختار من الملائكة رسلا كجبرئيل وميكائيل اللذين كانا يرسلهما إلى أنبيائه، ومن شاء من عباده ومن الناس، كأنبيائه الذين أرسلهم إلى عباده من بني آدم.
    ومعنى الكلام: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس أيضا رسلا وقد قيل: إنما أنزلت هذه الآية لما قال المشركون: أنزل عليه الذكر من بيننا، فقال الله لهم: ذلك إلي وبيدي دون خلقي، أختار من شئت منهم للرسالة. انتهى كلامه .
    وفي الترمذي من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما - قال: "جلس ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه قال فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم : عجبا إن لله من خلقه خليلا اتخذ إبراهيم خليلا ، وقال آخر: ما ذلك بأعجب من كليمه موسى كلمه تكليما، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه ، وقال أخر: آدم اصطفاه الله ؛ فخرج عليهم فسلم وقال: ((سمعت كلامكم وعجبكم إن إبراهيم خليل الله ، وهو كذلك ، وكذلك موسى نجي الله وهو كذلك ، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر)) (ضعيف - المشكاة 5762)و(ضعيف الجامع الصغير 4077)) وضعيف الترمذي (742 – 3877).
    وإن كان الحديث ضعيفا من حيث سنده ؛ فبعض الفقرات فيه ثابتة بأحاديث صحيحة ، متنه كله تعضده آيات كثيرة في كتاب الله تعالى ؛ فالله يصطفي ويجتبي ويختار من يشاء من الرسل ومن آلهم وهم أتباعهم.
    قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} آل عمران .
    قال البغوي - رحمه الله - في تفسيره (2/28): {اصْطَفَى} اخْتَارَ، افْتَعَلَ مِنَ الصَّفْوَةِ وَهِيَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .وهو ماذكره الحميدي في تفسير غريب ما في الصحيحين (1/483).
    وفيه (1/296): اصْطفى :اخْتَار وانتخب وَرفع وَفضّل .
    وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} الْآيَةَ .قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَنَحْنُ عَلَى دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى هَؤُلَاءِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ. انتهى كلامه.
    قال ابن كثير- رحمه الله - (2/33):{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ () ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(33-34)آل عمران .
    يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اخْتَارَ هَذِهِ الْبُيُوتَ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَاصْطَفَى آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَهْبَطَهُ مِنْهَا، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ.
    وَاصْطَفَى نُوحًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ أَوَّلُ رَسُولٍ [بَعَثَهُ] إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، لَمَّا عَبَدَ النَّاسُ الْأَوْثَانَ، وَأَشْرَكُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانَا، وَانْتَقَمَ لَهُ لَمَّا طَالَتْ مُدَّتُهُ بَيْنَ ظَهْرَاني قَوْمِهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا فِرَارًا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَأَغْرَقَهُمُ اللَّهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ. وَاصْطَفَى آلَ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُمْ : سَيِّدُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هَذَا: هُوَ وَالِدُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، أُمِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
    قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسار رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ يَاشَمَ بْنِ أَمُونَ بْنِ مَيْشَا بْنِ حِزْقِيَا بْنِ أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أَمْصِيَا بْنِ يَاوشَ بْنِ أجريهو بْنِ يَازِمَ بْنِ يَهْفَاشَاطَ بْنِ إِنْشَا بْنِ أَبِيَّانَ بْنِ رُخَيْعَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
    قال ابن المنذر- رحمه الله - في تفسيره (1/171):368 - حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الأَصَمُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " إِّنَ اللهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةَ، وَاصْطَفَى مُوسَى بِالْكَلامِ، وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا بِالرُّؤْيَةِ "
    وقال الخازن - رحمه الله - في تفسيره (3/216): وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ }وقال تعالى في حق موسى :{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي } .
    وقال تعالى:{ وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ} وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة.
    وقال سبحانه وتعالى :{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} النمل .
    قال ابن كثير- رحمه الله –(6/181): يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ عَلَى نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَعَلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ وَهُمْ رُسُلُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ الْكِرَامُ، عَلَيْهِمْ من الله أفضل الصلاة والسلام، وَهَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، هُمُ الأنبياء، قال: وهو كقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصَّافَّاتِ: 180- 182] .
    وقال واثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ،: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» مسلم (2276) والترمذي (3606) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (1495) و (1496) .
    وقد اصطفى الله هذه الأمة من بين الأمم كما قال سبحانه وتعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } آل عمران (110) اصطفاهم واجتباهم لمقام صفوته وخيرته صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق.
    قال ابن كثير (2/9): يخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ فَقَالَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
    قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَيْسَرة، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ (صحيح البخاري برقم (4557) .
    وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ومُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطاء، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَطِيَّةُ العَوْفيّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} يَعْنِي: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
    وقد اصطفى الله الصحابة - رضوان الله عليهم – من هذه الأمة كما اصطفاهم على جميع الخلق بعد الأنبياء ، اصطفاهم ليناسبوا مقام النبي المصطفى ، فلا يليق أن يرسله الله في سفلة من النّاس وأراذلهم ، وإنما أرسله في خير النّاس وفي خير الأمكنة ، وخير الأزمنة ، وأختار له من خير النّاس أفضلهم وأصدقهم وهم صحابته .
    قال ابن جرير رحمه الله – (19/482-483): القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ (59) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (قُلِ) يا محمد (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على نعمه علينا، وتوفيقه إيانا لما وفِّقنا من الهداية، (وَسَلامٌ) يقول: وأمنة منه من عقابه الذي عاقب به قوم لوط، وقوم صالح، على الذين اصطفاهم، يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدِّين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به، الجاحدين نبوّة نبيه. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.ذكر من قال ذلك:
    حديث أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق، يعني ابن غنام، عن ابن ظهير، عن السديّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس: (وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) قال: أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه.
    حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: قلت لعبد الله بن المبارك: أرأيت قول الله (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) من هؤلاء؟ فحدثني عن سفيان الثوري، قال: هم أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
    وقال ابن كثير (6/181) : وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا، وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَى فَالْأَنْبِيَاءُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
    وَالْقَصْدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ وَمَنِ اتبعه بعد ذكره لَهُمْ مَا فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ مِنَ النَّجَاةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَمَا أَحَلَّ بِأَعْدَائِهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْقَهْرِ، أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَأَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ.
    وأخرجه البخاري من رواية عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - بلفظ: "خير الناس قرني" ومن رواية عمران بن حصين "خير أمتي قرني". (انظر البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي باب (1ج4/189) ومسلم فضائل الصحابة باب (52ج4/1962)، وأبو داود في كتاب السنة باب (10ج5/44)، والترمذي في كتاب الفتن باب (45ج4/500)ّ.
    وروي عنه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ : ((إنَّ اللهَ اختارَ أصحابي عَلى العالَمينَ؛ سِوى النبيينَ والمرسلينَ، واختارَ لي مِنْ أصحابي أربعةً - يعني -: أبا بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعلياً، رَحمهُمُ الله؛ فَجعلَهُمْ أصحَابِي. وقالَ في أصحابي كُلهُم خيرٌ، واختارَ أمتي عَلى الأممِ، واختارَ [من] أمتي أربَعَ قُرونٍ : القَرنَ الأولَ، والثاني، والثالثَ، والرابعَ)) . السلسلة الضعيفة (6123) وقال ضعيف .
    وَفِي رِوَايَة (أَنْتُم موفون سبعين أمة أَنْتُم خَيرهَا وَأَكْرمهَا على الله عز وَجل)مسند أحمد 20015 " قال محققه إسناده حسن. وقال في صحيح الجامع (2301) (حسن) ... [حم ت هـ ك] عن معاوية بن حيدة. المشكاة (6294).
    وقال تعالى :{ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: يصطفي من يشاء، فيجعله رسولًا، فيوحي إليه ذلك، أي: ليس الوحي من السماء إلى غير الأنبياء، عليهم السلام.
    فلله سبحانه وتعالى أن يصطفى من يشاء من عباده لا يسأل عما يفعل، والرسل عليهم الصلاة والسلام هم ممن اصطفاهم الله، واجتباهم لحمل رسالته إلى عباده، فجعلهم سفراءه إلى الناس بالرحمة والهدى..
    وهؤلاء الرسل- على علوّ مقامهم وشرف منزلتهم- هم درجات عند الله في الفضل.. بعضهم أفضل من بعض، فكما اصطفى سبحانه وتعالى هؤلاء الرسل من بين
    خلقه، اصطفى منهم صفوة جعلها في الدرجة العليا من هؤلاء المصطفين الأخيار..واصطفى من بينهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فأرسله رحمة للعالمين ، وجعله الرحمة المهداة والنعمة المسدات .
    واصطفى لهم- سبحانه وتعالى - من يناسبهم في خيرتهم من أصحابهم وأتباعهم وحواريهم ، وجعل نبينا أفضلهم وأمته أفضل المم وأصحابه أفضل الأصحاب والأتباع ، وقد كمل منهم الكثير ولم يكمل من النساء إلا أربعة .
    اللهم صل وسلم على من اصطفيتهم من عبادك وسلم تسليما كثيرا على أوليائك أتباعهم إلى يوم الدين ، ونسألك ربنا أن تحشرنا في زمرتهم ، وتبلغنا منازلهم في جنات عدن برحمتك يا أرحم الراحمين .

    يتبع - إن شاء الله -


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. درس الخامس من شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني - رحمه الله - في العقيدة
    بواسطة أبو بكر يوسف لعويسي في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20-Apr-2020, 10:11 PM
  2. درس الخامس من شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني - رحمه الله - في العقيدة
    بواسطة أبو بكر يوسف لعويسي في المنتدى المكتبة السمعية والدروس والمحاضرات للشيخ أبو بكر يوسف لعويسي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20-Apr-2020, 10:11 PM
  3. سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ) في الفقه رقم 01
    بواسطة أبو بكر يوسف لعويسي في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 21-Nov-2017, 11:12 PM
  4. سلسلة : ( معرفة الفوائد وجليل المعاني من شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني )رقم 01
    بواسطة أبو بكر يوسف لعويسي في المنتدى مقالات ورسائل الشيخ أبو بكر يوسف لعويسي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-Oct-2017, 11:03 PM
  5. شرح مقدمة إبن أبي زيد القيرواني
    بواسطة إشراقة السلفية المصرية في المنتدى مـنــبر الأســـرة المـــســلـــمـــة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 30-May-2012, 02:13 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •