545 - " رخص النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب في ثلاث : في الحرب و في الإصلاح بين
الناس و قول الرجل لامرأته . ( و في رواية ) : و حديث الرجل امرأته و حديث
المرأة زوجها
" .

قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 74 :
أخرجه الإمام أحمد ( 6 / 404 ) : حدثنا حجاج قال : حدثنا ابن جريج عن ابن شهاب
عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة أنها قالت : فذكره
. قلت : و هذا إسناد على شرط الشيخين و لم يخرجاه من هذا الوجه و إنما من وجه
آخر عن الزهري كما يأتي . ثم قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد قال : حدثنا
ليث يعني بن سعد عن يزيد يعني بن الهاد عن عبد الوهاب عن ابن شهاب به . و أخرجه
أبو داود ( 2 / 304 ) و الطبراني في " الصغير " ( ص 37 ) من طريقين آخرين عن
ابن الهاد به . و هذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الوهاب و هو
ابن أبي بكر : رفيع المدني وكيل الزهري . قال أبو حاتم : ثقة صحيح الحديث ما به
بأس من قدماء أصحاب الزهري . و قال النسائي : ثقة . و قد توبع ، فقال أحمد :
حدثنا يعقوب قال : حدثنا أبي عن صالح بن كيسان قال : حدثنا محمد بن مسلم بن
عبيد الله بن شهاب به بلفظ : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، فينمي خيرا أو يقول خيرا . و قالت : لم
أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث ... " فذكره بالرواية الثانية .
و كذا أخرجه مسلم ( 8 / 28 ) عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد به و أخرجه البخاري
( 5 / 328 - 329 فتح ) من طريق عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد به
. دون قوله " و قالت : لم أسمعه ... " .
و أخرجه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب بتمامه إلا أنه جعل هذه الزيادة التي من
قولها من قول ابن شهاب فقال : " قال ابن شهاب : و لم أسمع يرخص في شيء ... " .
و على هذه الرواية تكون الزيادة غير مرفوعة و إنما من قول الزهري و لهذا قال
الحافظ في " الفتح " : " و هذه الزيادة مدرجة بين ذلك مسلم في روايته من طريق
يونس عن الزهري فذكر الحديث ، قال : و قال الزهري . و كذا أخرجها النسائي مفردة
من رواية يونس و قال : يونس أثبت في الزهري من غيره . و جزم موسى بن هارون
و غيره بإدراجها . و رويناه في " فوائد بن أبي ميسرة " من طريق عبد الوهاب بن
رفيع عن ابن شهاب . فساقه بسنده مقتصرا على الزيادة و هو وهم شديد " .
و أقول : لا وهم منه البتة ، فإنه ثقة صحيح الحديث كما تقدم و قد تابعه ثقتان
ابن جريج و صالح بن كيسان و اقتصر الأول منهما على الزيادة أيضا كما سبق بيانه
فهؤلاء ثلاثة من الثقات الأثبات اتفقوا على رفع هذه الزيادة ، فصلها اثنان
منهما عن أول الحديث و وصلها به الآخر و هو صالح ، فاتفاقهم حجة و ذلك يدل على
أنها مرفوعة ثابتة و أنها ليست مدرجة كما زعم الحافظ و يتعجب منه كيف خفيت عليه
رواية ابن جريج فلم يذكرها أصلا و كيف اقتصر في عزوه رواية ابن رفيع على
" فوائد ابن أبي ميسرة " و هي في " السنن " و " المسند " ؟ !
و يشهد لها ما أخرجه الحميدي في " مسنده " ( 329 ) حدثنا سفيان قال حدثني صفوان
ابن سليم عن عطاء بن يسار قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
يا رسول الله : هل علي جناح أن أكذب على أهلي ؟ قال : لا ، فلا يحب الله الكذب
قال : يا رسول الله استصلحها و أستطيب نفسها ! قال : لا جناح عليك " .
قلت : و هذا إسناد صحيح و لكنه مرسل و ليس هو على شرط " مسنده " و قد أورده في
" أحاديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها " منه و كأنه أشار بذلك
إلى أن الحديث و إن كان وقع له هكذا مرسلا ، فهو يرجح إلى أنه من مسندها و لذلك
أورده فيه . و الله أعلم .
و يشهد لها أيضا حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث : كذب الرجل مع امرأته لترضى عنه
أو كذب في الحرب ، فإن الحرب خدعة أو كذب في إصلاح بين الناس " . أخرجه أحمد
( 6 / 459 ، 461 ) و الترمذي ( 3 / 127 - تحفة ) و قال : " حديث حسن " .
فقه الحديث :
بعد أن فرغنا من تحقيق القول في صحة الحديث و دفع إعلاله بالإدراج أنقل إلى
القارىء الكريم ما ذكره النووي رحمه الله في شرح الحديث : " قال القاضي لا خلاف
في جواز الكذب في هذه الصور و اختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو ؟
فقالت طائفة : هو على إطلاقه و أجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضيع للمصلحة
و قالوا : الكذب المذموم ما فيه مضرة و احتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه
وسلم : *( بل فعله كبيرهم )* و *( إني سقيم )* و قوله " إنها أختي " ، و قول
منادي يوسف صلى الله عليه وسلم *( أيتها العير إنكم لسارقون )* . قالوا : و لا
خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين
هو . و قال آخرون منهم الطبري : لا يجوز الكذب في شيء أصلا ، قالوا : و ما جاء
من الإباحة في هذا المراد به التورية و استعمال المعاريض لا صريح الكذب مثل أن
يعد زوجته أن يحسن إليها و يكسوها كذا و ينوي : إن قدر الله ذلك .
و حاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه و إذا سعى في
الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا و من هؤلاء إلى هؤلاء كذلك و ورى ،
و كذا في الحرب بأن يقول لعدوه : مات إمامكم الأعظم و ينوي إمامهم في الأزمان
الماضية أو غدا يأتينا مدد . أي طعام و نحوه ، هذا من المعاريض المباحة ، فكل
هذا جائز . و تأولوا في قصة إبراهيم و يوسف و ما جاء من هذا على المعاريض .
و الله أعلم " .
قلت : و لا يخفى على البصير أن قول الطائفة الأولى هو الأرجح و الأليق بظواهر
هذه الأحاديث و تأويلها بما تأولته الطائفة الأخرى من حملها على المعاريض مما
لا يخفى بعده ، لاسيما في الكذب في الحرب .
فإنه أوضح من أن يحتاج إلى التدليل على جوازه و لذلك قال الحافظ في " الفتح "
( 6 / 119 ) : " قال النووي : الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن
التعريض أولى . و قال ابن العربي : الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص
رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه و ليس للعقل فيه مجال و لو كان تحريم الكذب بالعقل
ما انقلب حلالا انتهى . و يقويه ما أخرجه أحمد و ابن حبان من حديث أنس في قصة
الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائي و صححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله
عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة و إذن النبي
صلى الله عليه وسلم و إخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين و غير ذلك
مما هو مشهور فيه " .