تفسير ابن قيّم الجوزيّة — ابن القيم (٧٥١ هـ)
﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠]
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا في القَلْبِ، وضِياءً في الوَجْهِ، وقُوَّةً في البَدَنِ، وزِيادَةً في الرِّزْقِ، ومَحَبَّةً في قُلُوبِ الخَلْقِ، وإنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوادًا في الوَجْهِ، وظُلْمَةً في القَلْبِ ووَهَنًا في البَدَنِ، ونَقْصًا في الرِّزْقِ، وبُغْضَةً في قُلُوبِ الخَلْقِ، وهَذا يَعْرِفُهُ صاحِبُ البَصِيرَةِ، ويَشْهَدُهُ مِن نَفْسِهِ ومِن غَيْرِهِ.
فَما حَصَلَ لِلْعَبْدِ حالٌ مَكْرُوهَةٌ قَطُّ إلّا بِذَنْبٍ، وما يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أكْثَرُ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وَما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
وَقالَ لِخِيارِ خَلْقِهِ وأصْحابِ نَبِيِّهِ ﴿أوَلَمّا أصابَتْكم مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذا قُلْ هو مِن عِنْدِ أنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٥].
* (فائدة)
قوله تعالى: ﴿وَما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ
وفي هذا تبشير وتحذير إذ أعلمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا، وهو أرحم أن يثني العقوبة على عبده بذنب قد عاقبه به في الدنيا كما قال ﷺ: "من بلي بشيء من هذه القاذورات فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ومن عوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده"
وفي الحديث: "الحدود كفارات لأهلها" وفي الصحيحين من حديث عبادة: "ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له" وفي الصحيح عنه ﷺ: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"
وقال: "لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة"
وفي حديث آخر: "إن المؤمن إذا مرض خرج مثل البردة في صفائها ولونها"
وفي الحديث الآخر: "إن الحمى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبيث الحديد"
وفي حديث آخر: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم"
* وقال في (طريق الهجرتين)
قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أصابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيَكُمْ
فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة.
قال على بن أبي طالب: ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع بلاءٌ إلا بتوبة.