الذرتان



الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فليس العجب الخلط بين الذرتين من عوام المسلمين، ولكن العجب ممن يحسب على أهل العلم، ويشار إليه بالبنان، وهو يخبط خبط عشواء، ويفسر القرآن وفق النظريات الحديثة، والمخترعات الجديدة.
الذرة بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء، وهي في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لها معاني، وفي مصطلح علم الكيمياء له معنى، فخلط المعاني الشرعية بعضها في بعض قبيح، فكيف الخلط بما اصطلح عليه الكيميائيين.
الذرة في اصطلاح الكيمياء: هي أصغر جزء في عنصر ما يصح أن يدخل في التفاعلات الكيميائية.
أما الذرة في اصطلاح الشرع:
قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)): ((اختلف العلماء في المراد بالذرة على خمسة أقوال:
أحدها أنها رأس نملة حمراء رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني ذرة يسيرة من التراب رواه يزيد بن الأصم عن ابن عباس.
والثالث أصغر النمل قاله ابن قتيبة.
والرابع الخردلة.
والخامس الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب ذكرهما أبو إسحق الثعلبي)) اهــ.


ومن الفروق اللغوية بين الذرتين:
الذرة الشرع مفرد ذرات وذر، ذرات لجموع القلة وذر لجموع الكثرة.
الذرة الكيميائية مفرد ذرات، لجموع القلة والكثرة.


وجاءت الذرة في كتاب الله عز وجل في خمسة مواضع:
1) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 77].
قال الإمام البغوي رحمه الله في ((تفسيره)): ((والذرّة: هي النملة الحمراء الصغيرة، وقيل: الذرّ أجزاء الهباء في الكُوّة وكل جزء منها ذرّة ولا يكون لها وزن، وهذا مثلٌ، يريد: إن الله لا يظلم شيئًا)) اهــ.
2) قال الله جل جلاله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النساء: 77].
جاء في ((تفسير الجلالين)): (({وما يعزب} يغيب {عن ربك من مثقال} وزن {ذرة} أصغر نملة)) اهــ.
وقال القاسمي رحمه الله في ((محاسن التأويل)): (({ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أي : نملة أو هباء)) اهــ.


3) قال الله عز وجل: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].
قال العلامة القرطبي رحمه الله في ((أحكام القرآن)): (({مثقال ذرة}، أي: قدر نملة صغيرة)) اهــ.
4) قال الله سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22].
جاء في ((المصحف الميسر)): ((يملكون وزن نملة صغيرة في السموات ولا في الأرض)) اهــ.
5) قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8 ].
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في ((فتح القدير)): ((أي: وزن نملة. وهي أصغر ما يكون من النمل)) اهــ.
وقال العلامة الزرقاني رحمه الله في ((شرح الموطأ)): (({فمن يعمل مثقال ذرة}، أي: نملة صغيرة وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء)) اهــ.


كذلك وردة الذرة في السنة في عدة أحاديث منها:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ! )).
فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنة ؟
قال : (( إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بطر الحق وغمط الناس )).
أخرجه مسلم .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة)) .
متفق عليه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)): ((والمراد بالذرة ان كان النملة فهو من تعذيبهم وتعجيزهم بخلق الحيوان تارة وبخلق الجماد أخرى وان كان بمعنى الهباء فهو بخلق ما ليس له جرم محسوس تارة وبماله جرم أخرى)) اهــ.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة)).
أخرجه مسلم .
قال العلامة النووي رحمه الله في ((شرح على مسلم)): ((قوله صلى الله عليه و سلم ( وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة ) المراد بالذرة واحدة الذر وهو الحيوان المعروف الصغير من النمل وهي بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء)) اهــ.
كذلك وردة بصيغة الجمع في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)).
أخرجه أحمد في ((المسند)) الترمذي في ((الجامع)) والنسائي في ((الكبرى)) وغيرهم وحسنه الألباني.
هذه صيغة جموع الكثرة الذر؛ أما بصيغة جموع القلة ذرات لم أقف على شيء منها في السنة.
تنبيه:
جاء في السنة الذُرَة بضم الذال المعجمة وفتح الراء المخففة وهو حب معروف.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الأربعاء 15 صفر سنة 1440 هـ
الموافق 24 اكتوبر 2018 ف