الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الغر الميامين وعلى أصحابه الكرام المرضيين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد :
فإن الله تعالى أرسل محمد صلى الله عليه وسلم هاديا وبشيرا ، وداعيا إلى الله وسراجا منيرا ، أرسله ليجمع شمل المسلمين ، ويؤلف بين قلوبهم ، ويوحد صفوفهم ، فتقوى شكوتهم ، ولا يتصدع بنيانهم ، فيكونوا أشداء على غيرهم رحماء بينهم ، ينتصر أدناهم لأعلاهم ، وأعلاهم لدناهم ، وأبعدهم لأقربهم ، وأقربهم لأبعدهم ، ومحسنهم لمسيئهم ، فكانوا فترة من الزمان كذلك في حياته وبعد موته - صلى الله عليه وسلم- ، ثم اختلفوا ليفتحوا باب شر مغلق ، فتفسد ذات بينهم ، ويدخل منه أهل الباطل لينتصروا ويظهروا على أهل الحق ..
روى عطاء بن السائب عن الشعبي قال : ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها. (سير أعلام النبلاء (4/ 311)، وحلية الأولياء (4/ 313).
وقد حذرنا الله تعالى من الاختلاف ورسم لنا المنهج القويم والطريق المستقيم وأسباب القوة والاتحاد ، وأن الاختلاف من أعظم أسباب الفرقة وفساد ذات البين ، ومن أعظم أسباب الضعف ، ومن أعظم الأسباب التي تجعل الأعداء والخصوم يطمعون في رقابنا وذلنا وهواننا ؛ لأنهم عرفوا أن مكمن الضعف والهزيمة هو في تفرقنا واختلافنا .. وعدم اجتماعنا .
قال تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) }.فلا قوة مع الخلاف والنزاع والتفرق والانقسام ، ولا نصر ولا استقرار مع انتفاء الرحمة بين المؤمنين ، وقلة الصبر على بعضنا البعض ، وعدم الدفع بالتي هي أحسن للتي هي أقوم ..بين من منهجهم واحد وسبيلهم سبيل المؤمنين ..
ولكن جرت سنة الله تعالى أن يجعل في كل عصر ومصر شاهد على عصره ومصره ، قائم لله تعالى بالحجة عليهم ، يدعوهم إلى المحجة البيضاء ، ويبين لهم سبيل الفلاح والنجاح ، يصلح ذات بينهم ، ويؤلف بين جمعهم ، منتهجا العدل والوسطية ، يحارب الفساد ويبين أسبابه ، لعله يوجد في الأمة من يلقي السمع وهو شهيد فيستجيب ويترك حظوظ النفس والتعصب للطائفة والانتصار للباطل المزين بالتأويلات الفاسدة ...
وهذا ابن القيم - رحمه الله- واحد من أولئك ولا يكتفي أن يكون شاهدا على عصره حتى يسجل للتاريخ شهادته على ما يحدث للمسلمين في تاريخ الأمة قبله وبعده فيبين أن أسباب الفساد والتفرق والاختلاف والتحارب ، وفساد ذات البين في العالم هو التأويل الفاسد للوحي كتابا وسنة ..وتقديم الرأي على الوحي ، واتباع الهوى على العقل ، فها هو يقول في الرد على الجهمية والمعطلة (1/348) وكأنه شاهد عيان لما يحدث في عصرنا ..
إذا تأمل المتأمل فساد العالم وما وقع فيه من التفرق والاختلاف وما دفع إليه أهل الإسلام وجده ناشئا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم - التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدين وفروعه ؛ فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب ، وتفرق الكلمة ، وتشتت الأهواء ، وتصدع الشمل ، وانقطاع الحبل،وفساد ذات البين حتى صار يكفر ويلعن بعضهم بعضا..
وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين ، وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم ما هو أعظم مما يرصدهم به أهل دار الحرب من المنابذين لهم ..
فالآفات التي جنتها ويجنيها كل وقت أصحابها على الملة والأمة من التأويلات الفاسدة أكثر من أن تحصى أو يبلغها وصفُ واصف أو يحيط بها ذكرُ ذاكر ..
ولكنها في جملة القول أصل كل فساد وفتنة ، وأساس كل ضلال وبدعة والمولدة لكل اختلاف وفرقة والناتجة أسباب كل تباين وعداوة وبغضة ..
ومن عظيم آفاتها ومصيبة الأمة بها أن الأهواء المضلة والآراء المهلكة التي تتولد من قبلها لا تزال تنمو وتتزايد على ممر الأيام وتعاقب الأزمنة وليست الحال في الضلالات التي حدثت من قبل أصول الأديان الفاسدة كذلك ؛ فإن فساد تلكَ معلومٌ عند الأمة ، وأصحابها لا يطمعون في إدخالها في دين الإسلام ؛ فلا تطمع أهل الملة اليهودية ؛ ولا النصرانية ؛ ولا المجوسية ؛ ولا الثانوية ونحوهم أن يدخلوا أصول مللهم في الإسلام ، ولا يدعوا مسلما إليه ولا يدخلوه إليهم من بابه أبدا ..
بخلاف فرقة التأويل فإنهم يدعون المسلم من باب القرآن والسنة وتعظيمهما وأن لنصوصهما تأويلا لا يوجد إلا عند خواص أهل العلم والتحقيق (( عندهم ومنهم ..)) .
وأن العامة في عمىً عنه ؛ (( أي لا يفقهون ذلك التأويل إلا ببيان هذه الطائفة التي تدعو المسلم إليه وتحمله عليه ولو كان فاسدا ..)) فضرر هذه الفرقة على الإسلام وأهله أعظم من ضرر أعدائه المنابذين له .
ومثلهم ومثل أولئك كمثل قوم في حصن حاربهم عدو لهم فلم يطمع في فتح حصنهم والدخول عليهم فعمد جماعة من أهل الحصن ففتحوه له وسلطوه على الدخول إليه فكان مصاب أهل الحصن من قبلهم ..
((أي إنما نُؤتي من الداخل ، من أنفسنا ، من أبناء جلدتنا الذين فتنوا بالتأويل الفاسد للنصوص ففتحوا بذلك ثغرات لأعداء الملة المحمدية وخصوم السنة والنبوية)).
وبالجملة ؛ فالأهواء المتولدة من قبل التأويلات الباطلة غير محصورة ولا متناهية بل هي متزايدة نامية بحسب سوانح المتأولين وخواطرهم وما تخرجه إليه ظنونهم وأوهامهم ..
ولذلك لا يزال المستقصي عناء نفسه في البحث عن المقالات وتتبعها يهجم على أقوالٍ من مذاهب أهل التأويل لم تكن تخطر له على بال ولا تدور له في خيال ويرى أمواجا من زبد الصدور تتلاطم ليس لها ضابط إلا سوانح وخواطر وهوس تقذف به النفوس التي لم يؤيدها الله بروح الحق ولا أشرقت عليها شمس الهداية ولا باشرت حقيقة الإيمان فخواطرها وهوسها لا غاية له يقف عندها .. فإن أردت الإشراف على ذلك تأمل كتب المقالات والآراء والديانات تجد كل ما يخطر ببالك قد ذهب إليه ذاهبون ، وصار إليه صائرون ووراء ذلك ما لم يخطر لك على بال ، وكل هذه الفرق تتأول نصوص الوحي على قولها وتحمله على تأويلها..( لله درك يا ابن القيم وعلى أجرك ..)
ومع ذلك فتجد أولي العقول الضعيفة إلى الاستجابة لهم مسارعين وفي القبول منهم راغبين فهم يبادرون إلى أخذ ما يوردونه عليهم، وقبولهم إياه عنهم، وعلى الدعوة إليه هم أشد حرصا منهم على الدعوة إلى الحق الذي جاءت به الرسل ..
((أي والله ، أصبح الكثير من ضعاف العقول أحرص على الدعوة إلى التأويلات الفاسدة بل والكذب الواضح من الدعوة إلى الهدي النبوي .. فلما تحدث أحدا منهم عن آية ، أو حديث يحدث على الاجتماع والألفة لا يهتز لذلك ، فإذا حدثته عن كلام شيخه أو طائفته سلبا ينتفض ويزبد ويرعد وإذا حدثته عن ذلك إيجابا طرب لذلك وقابلك بكل لطف وتقدير .. فأصبح التأويلات كلام الخصوم هي الحق التي ينافح ويدافع عنه ..))
ولم يوجد الأمر في قبول دعوة الرسل كذلك ؛ بل قد علم ما لقي المرسلون في الدعوة إلى الله من الجهد والمشقة والمكابدة ، ولقوا أشد العناء والمكروه وقاسوا أبلغ الأذى حتى استجاب لهم من استجاب إلى الحق الذي هو موجب الفطر وشقيق الأرواح وحياة القلوب وقرة العيون ونجاة النفوس ، حتى إذا أطلع شيطان التأويل رأسه وأبدى لهم عن ناجذيه ورفع لهم علما من التأويل طاروا إليه زرافات ووحدانا فهم إخوان السفلة الطغام أشباه الأنعام بل أضل من الأنعام ، طبلٌ يجمعهم ، وعصا تفرقهم ..
فانظر ما لقيه نوح وإبراهيم وصالح وهود وشعيب وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم في الدعوة إلى الله من الرد عليهم والتكذيب لهم وقصدهم بأنواع الأذى حتى ظهرت دعوة من ظهرت دعوته منهم وأقاموا دين الله.
((الله أكبر رحمك الله رحمة واسعة وأعلى قدرك في عليين على هذا الوصف الدقيق ، وكأنك شاهد عيان على هذا العصر الذي طغى فيه التأويل الفاسد والرأي الكاسد وأصبح هو الحق الذي لا مرية فيه ، وغيره الباطل ولو كان نصا من كلام الله أو سنة رسوله ؛ وانتصر له وتعصب عليه وكان من أعظم الأسباب في تفرق أهل السنة خيار أهل الإسلام وقدوة الأنام ..))
قال الله تعالى مبينا ذلك :{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} آل عمران .
عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِذَا رأيتَ الَّذِينَ يتَّبِعُون مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ" لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ((4547) ومسلم برقم (2665)) .وفي مسند أحمد(6/48) : ((فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُون فِيهِ ...)) .
((ومن الأسباب التي جرت إلى الاختلاف واستحكمت على عقول كثير من الآتباع. تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل)) .
وقال في إعلام الموقعين (1/54): وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد .. فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل، وأُميت بها من هدى ، وأحيي بها من ضلالة؟
وكم هدم بها من معقل الإيمان، وعمر بها من دين الشيطان؟
وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل ؛ بل هم شر من الحُمر، وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] .
((سبحان الله لا يستجيبون للوحي المنزل ، وينقادون انقياد الحمر للرأي العاطل والتأويل الباطل )).
روى الدارمي (1/ 67)عن مالك هو ابن مغول قال: قال لي الشعبي: ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذ به وما قالوه برأيهم فألقه في الحش. وفي شرف أصحاب الحديث (ص.74)وغيره: فبل عليه. والإبانة (2/ 3/517/ 607). - وروى الدارمي (1/ 47)عن عيسى عن الشعبي قال: جاءه رجل فسأله عن شيء فقال: كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا، قال أخبرني أنت برأيك؟ فقال: ألا تعجبون من هذا؟ أخبرته عن ابن مسعود ويسألني عن رأيي، وديني عندي آثر من ذلك، والله لأن أتغنى أغنية أحب إلي من أن أخبرك برأيي. إعلام الموقعين (1/ 257).
((سبحان الله يقارن رأيه بأغنية، ربما لو قالها لتأثم بها؛ بل يجعل ذلك عنده أفضل ؛ فما بالك بمن يترك نص القرآن والسنة ، ويأخذ بأقوال من لم يشموا رائحة العلم ، أوشموها لكنهم حرفوها روائح الآراء وأولوها إلى أذواق الألوان .. )).
وقال: إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا. جامع بيان العلم وفضله (2/ 1050).
- وروى الدارمي (1/ 47)عن الشعبي قال: إياكم والمقايسة والذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال، ولكن ما بلغكم عمن حفظ من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فاعملوا به. وذم الكلام (ص.103)
وعنه قال: لو أدرك هؤلاء الآرائيون النبي - صلى الله عليه وسلم - لنزل القرآن كله: يسألونك، يسألونك. الإبانة (1/ 2/419/ 343).
((هكذا كانوا يذمون التأويلات الفاسدة ، ويتهمون الآراء الكاسدة ، ويهضمون النفس ويحتقرونها تواضعا لله )).
((ومن الفساد بمكان ترك مقاومة التأويل الفاسد ، وتقديم الرأي الكاسد ، وأتباع الهوى على العقل اللبيب حتى يفشو ويفرخ ، ويستحكم على النفوس ويكون له السلطان الذي يفرض نفسه ، ويذهب بكل سلطان ، فلا ترى حينها إلا التفرق والتمزق والاختلاف الذي يضعف الأمة ويذهب ريحها)) .
تنبيه مهم : الكلام الملون ليس من كلام ابن القيم - رحمه الله