بسم الله الرحمن الرحيم
فضل السابقين المستقيمين


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد حث الله عز وجل على المسارعة والمسابقة للخيرات.
قال الله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133-136].
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61].
وقال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
فهذا الآيات البينات جاء فيها الحث والأمر بالمسارعة والمسابقة وبيان فضل ذلك.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)): ((وسارعوا وقوله: سابقوا، وقوله: فاستبقوا تدل على الوجوب; لأن الصحيح المقرر في الأصول: أن صيغة افعل، إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب، وإليه أشار في المراقي بقوله:
وافعل لدى الأكثر للوجوب. . إلخ)) اهـ.


وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: (يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا).
أخرجه البخاري.
قال العلامة ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)): (( وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على الاستقامة فاستشهدوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو عاشوا بعده على طريقته فاستشهدوا أو ماتوا على فرشهم)) اهـ.
كذلك فيه الإشارة إلى فضل من سابق إلى الخيرات واستقام على شرع الله.
وقال العلامة عبيد الرحمن المباركفوري رحمه الله في ((مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)): ((فقد سبقتم بفتح السين والموحدة، قال الحافظ: هو المعتمد، وحكي بضم السين وكسر الباء مبنياً للمفعول، والمعنى على الأول: اسلكوا طريق الاستقامة؛ لأنكم أدركتم أوائل الإسلام، فإن تتمسكوا بالكتاب والسنة، تسبقوا إلى كل خير؛ لأن من جاء بعدكم إن عمل بعملكم لم يصل إليكم لسبقكم إلى الإسلام، ومرتبة المتبوع فوق مرتبة التابع، وإلا فهو أبعد منه حساً وحكماً. وعلى الثاني: أي سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله، فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى الانحراف عن سنن الاستقامة يميناً وشمالاً، الموجب للهلاك الأبدي. (سبقاً بعيداً) أي ظاهر التفاوت. (وإن أخذتم يميناً وشمالاً) أي خالفتم المذكور بالإعراض عن الجادة والانحراف عن طريق الاستقامة)) اهـ.
فالسابق إلى الاستقامة له مزية إن لم تأخذه الأهواء ذات اليمين وذات الشمال.


وقال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
قال العلامة الزجاج رحمه الله في ((معاني القرآن وإعرابه)): ((وقوله: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا).
لأن من تقدم في الِإيمان باللَّه وبرسوله عليه السلام وصَدَّقَ به فهو أفضل مِمنْ أتى بعدَه بالِإيمان والتصديق، لأن المتقدِّمينَ نالهم من المشقة أكثر مما نال مَنْ بَعْدَهُمْ، فكانت بصائرهم أيضاً أنفذ.
وقال: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).
إلا أنه أعلم فضل السابق إلى الِإيمان على المتأخر)) اهـ.
هذا في الغالب ينطبق على كل من أتي بعد الصحابة رضي الله عنهم، فيمن تساوى عندهم الإخلاص والمتابعة وغير ذلك.


وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة، كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة، يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر)).
أخرجه البخاري.
ففضل السابق إلى الجمعة على اللاحق بين واضح، فكيف بمن سبق إلى جمع كثيرة؟
قال العلامة الفاكهاني رحمه الله في ((رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام)): ((ومعلومٌ أن السابق له فضلٌ على اللاحق، فلا تتساوى مراتبُ النَّاس في كل ساعة)) اهـ.
وقال العلامة البسام رحمه الله في ((تيسير العلام شرح عمدة الأحكام)): ((القادمون في ساعة من هذه الساعات الخمس، يتفاوتون في السبق أيضاً فيختلف فضل قربانهم باختلاف صفاته)) اهـ.


وعن أبي سلمة، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلين من بلي - وهو حي من قضاعة - قتل أحدهما في سبيل الله، وأخر الآخر بعده سنة ثم مات قال طلحة: فرأيت في المنام الجنة فتحت، فرأيت الآخر من الرجلين دخل الجنة قبل الأول فتعجبت، فلما أصبحت ذكرت ذلك فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أليس قد صام بعده رمضان، وصلى بعده ستة آلاف ركعة وكذا وكذا ركعة لصلاة السنة)).
أخرجه البيهقي في ((الزهد الكبير)).
قال الألباني في ((الصحيحة)): ((وهذا إسناد حسن إن كان أبو سلمة سمع من طلحة، فقد نفى سماعه منه ابن معين وغيره، لكن الحديث صحيح لما له من الشواهد يأتي الإشارة إلى بعضها. وقد أخرجه ابن ماجه (3925) وابن حبان (2466) من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة به أتم منه)) اهـ.
وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة عن طلحة رضي الله عنهما.
بمفهوم المخالفة من سبق إلى التمسك بالسنة والاستقامة حاز من الخيرات والفضائل بقدر ما سبق.


فالسابقون للاستقامة وخاصة في الأماكن التي يفشوا فيها الجهل هم الذين لاقوا من أهليهم وأقوامهم ما لاقوا من تسفيه وتجهيل وتحقير ورميهم بالعظائم وأنهم أتوا بدين جديد وغير ذلك مما لاقوه، فصبرا على التمسك بالسنة والعمل على احياء من اندثر منها والدعوة إليها شيئا فشيئا حتى ألف القوم السنة وعرف صدقهم فلله درهم وعليه أجرهم.
فعلى من أتي بعدهم أن يعرف قدر سبقهم، فهم الذين مهدوا الطريق لمن بعدهم، وهم الذين زرعوا فلما أينعت ثماره واحمرت واصفرت، وجنى الأخير ما أنتج الأول وذاق حلاوة تلك الثمار، عرف أصحاب العقول السليمة والآراء السديد، أنهم حسنة من حسناتهم.
على خلاف الذي لما اشتد ساعته تنكر لهم، ونسي أو تناسى فضلهم وقدرهم، والأدهى من هذا والأمر من قلب لهم ظهر المجن، وأخذ يؤلب عليهم الخاصة والعامة، ويشيع عنهم الأباطيل.


أما ما ادعاه ذاك المدعي الذي خرج من البلد مع حداثة سنه وقلة علمه ثم غاب زمنا طويلا للطلب، ولم رجع كان مع كان وذهب مع من ذهب، حتى نبده معظم السلفيين وكانت السلفية قد عمت جل البقاع وعرفت في اقصاها وانتسب إليها من الكبار والصغار ومن الرجال والنساء حتى الأطفال وانتمى إليها كثير من الناس بفضل الله وحده ثم بتكاتف الجهود من السابقين المستقيمين ثم أتى ذلك الأفاك بعدما رجع عما كان عليه من انحراف فصاح صيحته: لقد غرسنا غرسا لن ينقلع إلا مع خروج الدجال أو كلمة نحوها.
هكذا تفوه _ عامله الله بعدله _ ولم ينسب هذا الفضل لله الكريم الرحيم الرحمن، وتنكر لإخوانه الذين كان لهم جهد في الدعوة إلى الله عز وجل، وممن كان له عطاء وبدل.
فعلى الجميع أن يعرفوا لإخوانهم السابقين فضلهم وقدرهم، ويلهجوا إلى الله بالدعاء لهم.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
يفرن ليبيا: يوم الأحد 30 المحرم سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 29 سبتمبر سنة 2019 ف