بسم الله الرحمن الرحيم
​​​​​​​

بين مرض كرونا ومرض البدع والحجر الوقائي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد استشعر العالم بأسره خطورة انتشار فيروس كرونا في زمن قياسي، بعدما استهتر من استهتر بهذا الفيروس ولم يضعوا الاحترازات الوقائية للحد من اجتياح هذا العدو الصغير الذي لا يرى بالعين المجردة، فلما انهارت المنظومة الصحية لبعض الدول العظمى والمتقدمة، وتسارع الخبراء والأطباء لتقديم النصائح والارشادات لتحجيم هذا الوباء وتقليل من شره.
وقد اتفق الجميع على الحجر الصحي للمصابين، واستخدام الحجر الوقائي، بل لزم الكثير البيوت منهم على قناعة بخطر هذا العدو ومنهم بقوة السلطة.
وخرج علينا في الدول الإسلامية على برامج التواصل خرافات وبدع من حملة الاستغفار والتكبير وغيرها محددة بوقت ويوم.
ومن المتقرر عند سلفنا الصالح أن عبادة أو ذكر محدد بزمان أو مكان لم يأت في آية محكمة أو حديث صحيح فهي بدعة ضلالة.
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهماـ: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنهـ: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم عليكم بالأمر العتيق).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ((مجموع الفتاوى)) : ((كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى)) اهـ.
وهناك من أخذ يصطنع الكذب على سلفنا الصالح فنسبوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (سيأتي زمان يجتمع فيه الرقمان 2020 فيُمنع الحجيج ويكثر الضجيج ... الخ).
وعلى هذا المنشور بصمة بدع الرافضية، قوله: قال علي بن أبي طالب عليه السلام.
وتخصيص الصلاة أو السلام على أحد غير الأنبياء لا يجوز وهو من بدع الرافضية في هذا التخصيص لأئمة أهل البيت حتى أصبح شعارا لهم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((جلاء الأفهام)) : ((الصَّلَاة على غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله قد صَارَت شعار أهل الْبدع وَقد نهينَا عَن شعارهم ذكره النَّوَوِيّ
قلت وَمعنى ذَلِك أَن الرافضة إِذا ذكرُوا ائمتهم يصلونَ عَلَيْهِم بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا يصلونَ على غَيرهم مِمَّن هُوَ خير مِنْهُم وَأحب إِلَى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَنْبَغِي أَن يخالفوا فِي هَذَا الشعار)) اهـ.
ثم هذا القول المنسوب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليس له زمام ولا خطام ولم يعز لمصدره، وفي هذا القول المنسوب من علم الغيب الذي يلزم أنه صحة الخبر.
ثم أنهم نزلوا هذا القول على السنة الميلادية 2020 ولا يخفي أن الأحكام الشرعية وحسابها يقف على الأشهر القمرية، وأن التأريخ الهجري كان في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومما جاء أنه كان بإشارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
عن رافع عن ابن المسيب قال: فأول من كتب التاريخ عمر لسنتين ونصف من خلافته فكتبه لست عشرة من المحرم بمشورة علي بن أبي طالب.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق))، وإسناده ضعيف جدا فيه محمد بن عمر وهو: الواقدي متروك مع سعة علمه كما في ((التقريب)) وابن أبي سبرة وهو: أبو بكر بن عبد الله قال الإمام أحمد في ((العلل)): كان يكذب ويضع الحديث.
وعن سعيد بن المسيب قال: جمع عمر بن الخطاب من المهاجرين والأنصار فقال: متى نكتب التاريخ.
فقال له علي بن أبي طالب: منذ خرج النبي الله (صلى الله عليه وسلم) من أرض الشرك يعني يوم هاجر.
قال: فكتب ذلك عمر بن الخطاب.
أخرجه البخاري في ((تاريخ الكبير)) و((تاريخ الصغير)) ومن طريقه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) وأخرجه ابن شبة في ((تاريخ المدينة)).
هذا الأثر فيه عبد العزيز بن محمد بن عثمان بن رافع لم أجد فيه جرحا ولا تعديلا.
وعن عبد الرحمن بن المغيرة قال: كتب عمر التاريخ في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة من الهجرة بمشورة علي بن أبي طالب وكان عمر بن الخطاب استشار في التاريخ.
فقال قائل: من النبوة.
وقال قائل: من الهجرة.
وقال قائل: من الوفاة.
أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)).
هذا الأثر فيه أحمد بن سليمان الطوسي لم أجد فيه جرحا ولا تعديلا، وعبد الرحمن بن المغيرة ولم يأت له سمع من عمر وأبي موسى كما في ترجمته في ((تهذيب الكمال)) في ((التهذيب)).
وأن كانت هذه الآثار لا تخلوا من مقال غير أنه اشتهر أن التأريخ من سنة الهجرة كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله في ((تاريخ دمشق)): ((والمحفوظ أن الآمر بالتاريخ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه)) اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في ((البداية والنهاية)): ((والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم.
وهذا هو قول جمهور الائمة)) اهـ.
ومما ابتدع خلال انتشار فيروس كرونا أن هذا الفيروس ذُكر في سورة المدثر وأتي صاحب هذه الخرافة بما لم تستطعه الأوائل فقال: ((أن فيروس كورونا ذُكر في كتاب الله منذ أربعة َعشر قرنا - وأن الفيروس كورونا لا يُبقي ولا يذر وسيخرج في العام التاسع عشر – وأن القرن المقصود به في الآية هو التاج نفسه الذي في الفيروس كورونا)) اهـ.
كما سبق تنزيل هذا الهراء على الحساب الميلادي ليس من هدي السلف وأن تنزيل الأحكام على حركة القمر.
قال الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم} [التوبة: 36].
وقال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189].
فقد أتت هاتين الآيتين على قواعده فخر عليهم السقف من فوقهم فلما كان الأساس باطلا فما بني عليه كان باطلا، ومن أراد من مزيد لنسف هذا الباطل فليرجع لما كتبه الأخ الفاضل أنس بن محمد العموري حفظه الله (تنبيه حول سورة المدثر وعلاقتها بالفيروس كورونا).
فما أحوج هؤلاء المخرفين وأصحاب البدع بالحجر الصحي، وما أحوجهم لما صنعه عمر بن الخطاب مع صبيغ.
قال العلامة محمد بن عمر بازمول حفظه الله في ((كشكول ١٠٧٥)) : ((قصة صَبيغ بن عسل
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: صَبِيغُ بْنُ عَسَلٍ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ جَلَسَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، ثُمَّ أَهْوَى إِلَيْهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِتِلْكَ الْعَرَاجِينِ، فَمَا زَالَ يَضْرِبُهُ حَتَّى شَجَّهُ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ وَاللَّهِ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي").
أخرجه الدارمي (1/ 252، تحت رقم 146)، والآجري في الشريعة (1/ 483، تحت رقم 153)، ( 5/ 2556، تحت رقم 2065)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 702، تحت رقم 1137 – 1138).
قال حسين أسد في تحقيقه لسنن الدارمي: "رجاله ثقات غير أنه منقطع سليمان بن يسار لم يدرك عمر بن الخطاب"اهـ.
قلت: القصة مشهورة، ويشهد لروايته ماجاء عن نافع مولى ابن عمر في قصة صبيغ، وهي التالية، فلا تنزل عن الحسن لغيره إسناداً.
عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ صَبِيغًا الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ، فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: فِي الرَّحْلِ، قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ أَنْ يكونَ ذَهَبَ فَتُصِيبَكَ مِنِّي بِهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَسْأَلُ مُحْدَثَةً، فأرْسلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ، قَالَ: فقالَ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي، فَقَدْ وَاللَّهِ بَرَأْتُ، فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ: أنِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ".
وفي رواية ابن وضاح: "فَقَالَ عُمَرُ: تَسُلُّ حَدَثَة ً؟"، "فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ يُجَالِسُونَهُ").

أخرجه الدارمي في السنن (1/ 254، تحت رقم 150)، وابن وضاح البدع لابن وضاح (2/ 111، تحت رقم 148)، قال محقق سنن الدارمي : "إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن صالح"اهـ.
قلت : القصة مشهورة، وقد توبع عبدالله بن صالح في روايته عن الليث، تابعه ابن وهب، عند ابن وضاح.
وهذه القصة فيها فوائد؛ منها:
الأولى : ...
الثانية : مشروعية عقوبة الإمام لمن هذا حاله، وقد بوّب على القصة الآجري رحمه الله : "بَابُ تَحْذِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَعُقُوبَةِ الْإِمَامِ لِمَنْ يُجَادِلُ فِيهِ"اهـ وقال (الشريعة 5/ 2554- 2555): "بَابُ عُقُوبَةِ الْإِمَامِ وَالْأَمِيرِ لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَنْبَغِي لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأُمَرَائِهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ مَذْهَبُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ - مِمَّنْ قَدْ أَظْهَرَهُ - أَنْ يُعَاقِبَهُ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ ؛
فَمَنِ اسْتَحَقَّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلَهُ قَتَلَهُ.

وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَضْرِبَهُ وَيَحْبِسَهُ وُيُنَكِّلَ بِهِ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ.
وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَنْفِيَهُ نَفَاهُ, وَحَذَّرَ مِنْهُ النَّاسَ.
... الخ)).
فحبس عمر بن الخطاب لصبيغ نوع من الحجر الوقائي للمسلمين أن يبث فيهم سموم الشبهات.
قال الشيخ العالم عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد)) : ((ولم يبعد أحد شيوخنا المعاصرين إذ قال: وكما أنَّه يوضع في زماننا أماكن للحجر الصحيّ لمن بهم أمراض معدية، فإنَّ أهل البدع والأهواء الداعين إلى باطلهم أولى بالحجر من أولئك؛ لأنَّ هؤلاء يمرضون القلوب ويفسدون الأديان، وأولئك يفسدون الأجسام ويمرضون الأبدان)) اهـ.
فالمراض المعدية تفسد الأبدان وأهل البدع والأهواء يفسدون الأديان، فإذا كان الأمر كما ذكر من استشعار خطورة ما يحصل من أمراض بسبب فيروس كرونا، فمتى نستشعر خطورة البدع وأهلها؟ وقد كتب فيها أهل العلم والفضل مؤلفات عديدة في بيان خطرها، وبينوا ضررها على الفرد والأمة في الدروس والمحاضرات، وأنها تعمل على قتل الدين كما تعمل الأمراض الفتاكة على قتل البدن.
تنبيه:
الحجر بالحبس من خصائص السلطان، أما الحجر الوقائي وهجرهم فللجميع.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم السبت 3 شعبان سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 28 مارس سنة 2020 ف