بسم الله الرحمن الرحيم
تتابع الأجور مع الاحتساب والامتثال في لزوم الدور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد شعر الكثير بالحزن والألم بإغلاق المساجد وتوقف العمرة وزيارة المرضي في المستشفيات والصلاة على الأموات وغير ذلك من أبواب الخير عند جائحة كرونا، وربما يستمر هذا الألم والحزن حتى ما بعد شهر رمضان، والسلوى أن أمر المؤمن كله خير.
عن صهيب الرومي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له)).
أخرجه مسلم.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح رياض الصالحين)) : ((هذه حال المؤمن. وكل إنسان؛ فإنه في قضاء الله وقدره بين أمرين:
مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن على كل حال ما قدر الله له فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيراً له، فنال بهذا أجر الصائمين.
وإن اصابته سراء من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل شكر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله - عز وجل.
فيشكر الله فيكون خيرا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا)) اهـ.

فالفرح بالفطر من أهل الحي في المسجد والتلذذ بصلاة التراويح، وتصفية القلب من ملاذ الدنيا والخلوة بها في المعتكف وتفطير الفقراء والمحتاجين، والسرور بلبس الجديد وصلاة العيد، والسعادة برسم الابتسامة للأيتام والأطفال بهدايا في ذلك اليوم السعيد، فكل هذا الخير وغيره الأجر فيه موصول من رب كريم.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما))
أخرجه البخاري.
قال العلامة ابن سعدي رحمه الله في ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار)) : ((هذا من أكبر منن الله على عباده المؤمنين: أن أعمالهم المستمرة المعتادة إذا قطعهم عنها مرض أو سفر كتبت لهم كلها كاملة؛ لأن الله يعلم منهم أنه لولا ذلك المانع لفعلوها، فيعطيهم تعالى بنياتهم مثل أجور العاملين مع أجر المرض الخاص، ومع ما يحصل به من القيام بوظيفة الصبر، أو ما هو أكمل من ذلك من الرضى والشكر، ومن الخضوع لله والانكسار له. ومع ما يفعله المسافر من أعمال ربما لا يفعلها في الحضر: من تعليم، أو نصيحة، أو إرشاد إلى مصلحة دينية أو دنيوية وخصوصا في الأسفار الخيرية، كالجهاد، والحج والعمرة، ونحوها.
ويدخل في هذا الحديث: أن من فعل العبادة على وجه ناقص وهو يعجز عن فعلها على الوجه الأكمل، فإن الله يكمل له بنيته ما كان يفعله لو قدر عليه؛ فإن العجز عن مكملات العبادات نوع مرض. والله أعلم.
ومن كان من نيته عمل خير، ولكنه اشتغل بعمل آخر أفضل منه، ولا يمكنه الجمع بين الأمرين: فهو أولى أن يكتب له ذلك العمل الذي منعه منه عمل أفضل منه، بل لو اشتغل بنظيره. وفضل الله تعالى عظيم)) اهـ.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: ((إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا؛ إلا كانوا معكم)).
قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟
قال: ((وهم بالمدينة؛ حبسهم العذر)).
أخرجه البخاري.
قال العلامة ابن باز رحمه الله كما في ((الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري)) : ((وهذه بشارة أن من تأخر عن الخير للعذر فحكمه وأجره كمن حضر في الجهاد وصلاة الجماعة وغيرها)) اهـ

فمن حبسته جائحة كرونا على ما كان عليه في السنوات الماضية من خير ومن أقعدته رغبته في الطاعات بذلك السبب أجرك حاصل يا باغي الخير، فاصدق مع الله وأخلص النية وأحسن الطوية يكتب لك الأجر.
عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا، عملت فيه مثل الذي يعمل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء ...)) الحديث.
أخرجه أحمد في ((المسند)) والترمذي في ((الجامع)) وابن ماجه في ((السنن)) وصححه الألباني.
قال العلامة ابن رجب رحمه الله كما في ((جامع العلوم والحكم)) : ((على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل، دون مضاعفته، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه فلم يعمله)) اهـ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات: فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هم بعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة)).
متفق عليه.

كما أن في هذا من الدروس الشعور بألم من حبسه السرير الأبيض لمرض، أو حزن من جلس خلف القضبان لظلم ظالم أو لزلة أو لخطيئة، أو الإحساس بحال من تغرب عن الأهل والأوطان.
فكم في هذه الجائحة من دروس وعبر؟
وكم من مستشعر ضعفه أمام هذا المخلوق الضعيف (كرونا)؟
وكم من محن لصاحبها منح؟
فيا سعد وامتثل في الدار وصبر وحسن نيته ابتغاء من الله الأجر.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الأربعاء 21 شعبان سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 15 أبريل سنة 2020 ف