بسم الله الرحمن الرحيم

● التمسك بالدين سبب في قوة الفهم ●


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالعلو والظهور والتمكين في التمسك بالدين، والتمسك بالدين له فوائد عظيمة وثمرات جليلة منها أنه سبب في قوة الفهم، فكلما رسخت قدم المؤمن في الدين ازدادت قوة الفهم.
قال الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: 33].
قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله في ((تفسير القرآن الكريم سورة آل عمران)) (2/ 218) : ((إذن { ليظهره على الدين كله } يعليه، فإذا أردت تعلو على البشر فخذ بهذا الدين؛ لأن هذا الدين لا بد أن يكون هو الدين العالي على كل شيء)) اهـ.
ومن تأمل في التاريخ الإسلامي لما كان المسلمون متمسكين بدينهم كانوا في علو على الأمم الكافرة لهم قدم السبق في الصناعة والاختراعات والطب وغير ذلك.

ولما كان التمسك بالدين سبب في زيادة الإيمان وزيادة الإيمان سبب في زيادة الفهم.
قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله في ((تفسير القرآن الكريم سورة البقرة)) (3/ 220) : ((الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم)) اهـ.
فبهذا الاعتبار التمسك بالدين زيادة في قوة الفهم.

ولما كان العلماء الربانيون أفضل المتمسكين بالدين كانوا أغزر علما وأثقب فهما.
عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)).
متفق عليه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((الوابل الصيب من الكلم الطيب)) (ص: 135-138) : ((فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات.
الطبقة الأولى: ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أتباع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه حقا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها، وزكا الناس بها.
وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم الذين قال تعالى فيهم: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [ص: 45]، فالأيدي: القوة في أمر الله، والإبصار: البصائر في دين الله عز وجل، فبالبصائر يُدْرَكُ الحق ويُعْرَف، وبالقوى يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه، فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين، والبصر بالتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهما خاصا، كما قال أمير المؤمنين على أبن أبي طالب رضي الله عنه - وقد سئل -: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه.
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن:
الطبقة الثانية: فإنها حفظت النصوص، وكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها منهم، فاستنبطوا منها، واستخرجوا كنوزها، واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ووردها كل بحسبه {قد علم كل أناس مشربهم} [البقرة: 60].
وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)).
وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه: (سمعت) و (رأيت)، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك في فهمه والاستباط منه حتى ملأ الدنيا علما وفقها)) اهـ.
فالتمسك بالدين علو.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الثلاثاء 27 شعبان سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 21 أبريل سنة 2020 ف