بسم الله الرحمن الرحيم

مفاتيح شرعية لتقوية ملكة الفهم
(ستة مفاتيح)


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالغوص في نصوص الكتاب و السنة و فهم معانيها و استخراج الدرر و الفوائد منها و استتباط الأحكام، و اقتناص الشوارد واستخراج الملح الفقهية و الفوائد العلمية منها ، و فهمها على مراد الله عز وجل و مراد رسوله صلى الله عليه وسلم يحتاج بعد توفيق من الله عز وجل لمفاتيح، نثرت منها درر فنظمتها في هذا العقد البهي لتخرج في حلية رائعة :

أولا: تقوى الله.
فتقوى الله عز وجل سبب للسعادة في الدنيا والآخرة، جالبة للرزق والزيادة في الخير، وهي من أسباب زيادة قوة الفهم.
قال الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2-3].
وقال الله عز وجل: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96].
وقال الله سبحانه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأنفال: 53].
وقال الله جل جلاله: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66].
وأجمع تعريف للتقوى قول طلقُ بن حبيب رحمه الله: (التقوى أنْ تعملَ بطاعةِ الله، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله ، وأنْ تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله).
فتقوى الله عز وجل سبب أساسي في زيادة قوة الفهم.
قال الإمام ابن القيم رحمة الله في ((إعلام الموقعين)): ((وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق وترك التقوى)) اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمة الله في ((تفسير سورة الحديد)): (({ويجعل لكم نوراً تمشون به}، أي: أنكم إذا آمنتم وحققتم الإيمان مع التقوى يثبكم ثوابين {ويجعل لكم نوراً تمشون به} أي: علماً تسيرون به إلى الله - عز وجل - على بصيرة، وفي هذا دليل على أن التقوى من أسباب حصول العلم، وما أكثر الذين ينشدون العلم، وينشدون الحفظ، ويطلبون الفهم، فنقول: إن تحصيله يسير، وذلك بتقوى الله - عز وجل - وتحقيق الإيمان)) اهـ.
وقال رحمة الله في ((شرح رياض الصالحين)): ((الفائدة الأولى: { يجعل لكم فرقانا } أي: يجعل لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل وبين الضار والنافع وهذا يدخل فيه العلم بحيث يفتح الله على الإنسان من العلوم ما لا يفتحها لغيره فإن التقوى يحصل بها زيادة الهدى وزيادة العلم وزيادة الحفظ ولهذا يذكر عن الشافعي ـ رحمه الله ـ أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور *** ونور الله لا يؤتاه عاصي
ولاشك أن الإنسان كلما ازداد علما ازداد معرفة وفرقانا بين الحق والباطل والضار والنافع وكذلك يدخل فيه ما يفتح الله على الإنسان من الفهم لأن التقوى سبب لقوة الفهم وقوة الفهم يحصل بها زيادة العلم فإنك ترى الرجلين يحفظان آية من كتاب الله يستطيع أحدهما أن يستخرج منها ثلاثة أحكام ويستطيع الآخر أن يستخرج أكثر من هذا بحسب ما آتاه الله من الفهم فالتقوى سبب لزيادة الفهم)) اهـ.
وحسن الفهم وصحة التصور من أعظم نِعم الله عز وجل على عبده.
قال الإمام ابن القيم رحمة الله في ((إعلام الموقعين)): ((صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة)) اهـ.
فمن رزقه الله صحة الفهم {فقد أوتي خيرا كثيرا}.

ثانيا: كثرة الاستغفار.
فللاستغفار فوائد عظيمة وثمرات جليلة، منها أن يرزقك الله عز وجل بسببه حسن الفهم ويفتح عليك ما أغلق من مسائل العلم، ففي الاستغفار قوة في العقل الذي يحصل به الفهم وحسن تصور المسائل ومعرفة الراجح منها وجودة الاستنباط.
قال الله عز وجل عن نبيه هود عليه الصلاة والسلام: {ويَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52].
ولعل كون الاستغفار سببا قوي في قوة الفهم، وذلك لأن العقل محله القلب، قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46].
ولما كانت الذنوب سببا في سواد القلب وضعفه، تأثر العقل سلبا بتأثره بالذنوب،
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((إن المؤمن إذا أذنب كانت نكته سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وان زاد زادت حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكر الله عز و جل في القرآن {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14])).
أخرجه أحمد في ((المسند)) وابن ماجه في ((السنن)) والبغوي في ((شرح السنة)) وحسنه الألباني.
فإذا حصل الاستغفار انجلى القلب بقدر ما حصل من الاستغفار، وكلما زِد في الاستغفار ازداد القلب بياضا ونورا، فحصل للعقل من الصفاء بقدر ما حصل للقلب من جلاء، وتأثر تأثرا ايجابيا بما وقع للقلب من صفاء.
قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله في ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (1/23): ((والذُّنوب من أكبر العوائق. قال الله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]. وهذا دليل على أنَّ تولِّي الإِنسان عن الذِّكر سببه الذُّنوب، ولكن مع الاستغفار وصدق النيَّة يُيسِّر الله الأمر.
واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 105-106]، أنَّه ينبغي للإِنسان إذا نزلت به حادثةٌ، سواءٌ إِفتاء أو حكم قضائيٌّ، أن يُكْثِرَ من الاستغفار؛ لأنَّ الله قال: {لِتَحْكُمَ} ثم قال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} وهذا ليس ببعيد؛ لأنَّ الذُّنوب تمنع من رؤية الحقِّ، قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14])) اهـ.
ولهذا قال العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله في ((العقود الدرية)) هو يتحدث عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ولقد سمعته في مبادئ أمره يقول إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تشكل على فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل قال وأكون اذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي)) اهـ.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((إعلام الموقعين)): ((وشهدت شيخ الاسلام قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللجأ إليه واستنزال الصواب من عنده والستفتاح من خزائن رحمته فقلما يلبث المدد الالهي أن يتتابع عليه مدا وتزدلف الفتوحات الالهية إليه بأيتهن يبدأ ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علما وحالا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطى حظه من التوفيق ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)) اهـ.
ولما كان من أذكار الصباح دعاء الله بطلب العلم النافع كما صح عن أم سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الفجر إذا صلى: ((اللهم اني أسألك علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا طيبا)).
أخرجه أحمد في ((المسند)) وابن ماجه في ((السنن)) والنسائي في ((السنن الكبرى)) والحميدي في ((المسند)) والطياسي في ((المسند)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) وأبو يعلى في ((المسند)) والبيهقي في ((الشعب)) كلهم بإسناد ضعف فيه مجهول، وأخرجه الطبراني في ((الصغير)) وجود إسناده الألباني في ((تمام المنة)).
ويقرنه بالاستغفار فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس ، فقال: ((ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مئة مرة)).
أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) والنسائي في ((السنن الكبرى)) والطبراني في ((الأوسط)) و ((الدعاء)) وعبد بن حميد في ((المسند)) والعقيلي في ((الضعفاء)) وأبو نعيم في ((أخبار أصبهان)) وصححه الألباني.
وبعد استفتاح اليوم بهذا الدعاء المبارك، جاء في السنة استحباب الإكثار من الاستغفار عند الصباح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رسول الله ونحن جلوس فقال: ((ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مئة مرة)).
ولا ينفك المرء من معافسة الذنوب والتلطخ بشيء من الخطايا، جاء الحث على استغفار الله عز وجل في اليوم مائة مرة، لتجلية ما يعلق على القلب من ران الذي سبب في حجب نور العلم والفهم.
فقد أخرج مسلم عن أبي بردة عن الأغر المزني وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)).
فمن أدمن الاستغفار حصل له من حسن فهم وطيب عيش فضل من الله وكرم منه سبحانه وتعالى.
قال الله عز وجل عن نبينا عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3].
ولهذا الاستغفار بصفة خاصة من الاسباب المعينة على الحفظ والفهم، وكذلك ذكر الله بصفة عامة، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((الوابل الصيب)): ((وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي أو كلاما قريبا من هذا)) اهـ.
ثالثا: زيادة الإيمان سبب في قوة الفهم.
فالإيمان بما جاء في الشريعة نعمة من نعم الله تعالى علينا، ونعمة الإيمان لها فوائد عظيمة وثمرات جليلة، منها أنها سبب في قوة الفهم، فكلما ازداد الإيمان ازداد الفهم وقوى.
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248].
قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله في ((تفسير القرآن الكريم سورة البقرة)) (3/ 220) : ((الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم)) اهـ.
فلهذا تجد العالم الرباني يستخرج من آية أو حديث العديد من الكنوز والفوائد والأحكام، بخلاف غيره الذي اقتصر على فائدة أو اثنتين.

ثالثا: زيادة الإيمان.
الإيمان بما جاء في الشريعة نعمة من نعم الله تعالى علينا، ونعمة الإيمان لها فوائد عظيمة وثمرات جليلة، منها أنها سبب في قوة الفهم، فكلما ازداد الإيمان ازداد الفهم وقوى.
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248].
قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله في ((تفسير القرآن الكريم سورة البقرة)) (3/ 220) : ((الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم)) اهـ.
فلهذا تجد العالم الرباني يستخرج من آية أو حديث العديد من الكنوز والفوائد والأحكام، بخلاف غيره الذي اقتصر على فائدة أو اثنتين.

رابعا: التمسك بالدين.
فالعلو والظهور والتمكين في التمسك بالدين، والتمسك بالدين له فوائد عظيمة وثمرات جليلة منها أنه سبب في قوة الفهم، فكلما رسخت قدم المؤمن في الدين ازدادت قوة الفهم.
قال الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: 33].
قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله في ((تفسير القرآن الكريم سورة آل عمران)) (2/ 218) : ((إذن { ليظهره على الدين كله } يعليه، فإذا أردت تعلو على البشر فخذ بهذا الدين؛ لأن هذا الدين لا بد أن يكون هو الدين العالي على كل شيء)) اهـ.
ومن تأمل في التاريخ الإسلامي لما كان المسلمون متمسكين بدينهم كانوا في علو على الأمم الكافرة لهم قدم السبق في الصناعة والاختراعات والطب وغير ذلك.
ولما كان التمسك بالدين سبب في زيادة الإيمان وزيادة الإيمان سبب في زيادة الفهم.
قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله في ((تفسير القرآن الكريم سورة البقرة)) (3/ 220) : ((الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم)) اهـ.
فبهذا الاعتبار التمسك بالدين زيادة في قوة الفهم.
ولما كان العلماء الربانيون أفضل المتمسكين بالدين كانوا أغزر علما وأثقب فهما.
عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)).
متفق عليه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((الوابل الصيب من الكلم الطيب)) (ص: 135-138) : ((فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات.
الطبقة الأولى: ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أتباع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه حقا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها، وزكا الناس بها.
وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم الذين قال تعالى فيهم: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [ص: 45]، فالأيدي: القوة في أمر الله، والإبصار: البصائر في دين الله عز وجل، فبالبصائر يُدْرَكُ الحق ويُعْرَف، وبالقوى يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه، فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين، والبصر بالتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهما خاصا، كما قال أمير المؤمنين على أبن أبي طالب رضي الله عنه - وقد سئل -: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه.
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن:
الطبقة الثانية: فإنها حفظت النصوص، وكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها منهم، فاستنبطوا منها، واستخرجوا كنوزها، واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ووردها كل بحسبه {قد علم كل أناس مشربهم} [البقرة: 60].
وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)).
وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه: (سمعت) و (رأيت)، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك في فهمه والاستباط منه حتى ملأ الدنيا علما وفقها)) اهـ.
فالتمسك بالدين علو.

خامسا: شرب ماء زمزم بنية زيادة الفهم.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ماء زمزم لما شرب له)).
أخرجه أحمد في ((المسند)) وابن ماجه في ((السنن)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) والطبراني في ((الأوسط)) والبيهقي في ((الكبرى)) و ((الشعب)) وصححه الألباني.
وعن أبي بكر محمد بن جعفر قال كما في ((سير أعلام النبلاء)) سمعت ابن خزيمة وسئل: من أين أوتيت العلم ؟
فقال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ماء زمزم لما شرب له))؛ وإني لما شربت سألت الله علما نافعا).
وقال ابن العربي رحمه الله في ((أحكام القرآن)): ((ولقد كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة ، وكنت أشرب ماء زمزم كثيرا ، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان حتى فتح الله لي بركته في المقدار الذي يسره لي من العلم ، ونسيت أن أشربه للعمل؛ ويا ليتني شربته لهما ، حتى يفتح الله علي فيهما)).
وقال ابن حجر رحمه الله كما في ((مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل)): ((وقد ذكر لنا الحافظ العراقي أنه شربه لشيء فحصل له وأنا شربته مرة وأنا في بداءة طلب الحديث وسألت الله أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث ثم حججت بعد عشرين سنة وأنا أجد من نفسي طلب المزيد على تلك الرتبة فسألت مرتبة أعلى منها فأرجو الله أن أنال ذلك)).

سادسا: الدعاء.
من أجل العبادات الدعاء، وهو من أعظم الأسباب لحل المعضلات وإزالة الإشكالات وزيادة في الفهم وسبب من أسباب العلم.
لهذا جاءت وصية ربنا لرسوله عليه الصلاة والسلام فقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طـه: 144].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)): ((ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم)) اهـ.
وكان من دعائه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما ...)).
أخرجه الترمذي في ((السنن)) وابن ماجه في ((السنن)) وعبد بن حميد في ((المسند)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) والبيهقي في ((الشعب)) والبغوي في ((شرح السنة)) وصححه الألباني.
ولما كان من أذكار الصباح دعاء الله بطلب العلم النافع كما صح عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الفجر إذا صلى: ((اللهم اني أسألك علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا طيبا)).
أخرجه أحمد في ((المسند)) وابن ماجه في ((السنن)) والنسائي في ((السنن الكبرى)) والحميدي في ((المسند)) والطياسي في ((المسند)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) وأبو يعلى في ((المسند)) والبيهقي في ((الشعب)) كلهم بإسناد ضعف فيه مجهول، وأخرجه الطبراني في ((الصغير)) وجود إسناده الألباني في ((تمام المنة)).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فوضعت له وضوءا من الليل، فقالت له ميمونة: وضع لك هذا عبد الله بن عباس. فقال: ((اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل)).
أخرجه أحمد في ((المسند)) وله تخرجات وألفاظ ذكرها الإمام الألباني في ((الصحيحة)) (رقم: 2589).
فببركة هذا الدعاء تحصل ابن عباس رضي الله عنهما على علم غزير وفهم عميق حتى لقب بالحبر.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) : ((حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنَّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
وكان شيخُنا كثيرَ الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلِّمَ إبراهيم علمني، ويكثر الاستغاثة بذلك اقتداءً بمعاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته، وقد رآه يبكي فقال: واللَّه ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه-: "إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد اللَّه بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء فسائرُ أهلِ الأرض عنه أعجز فعليك بمعلم إبراهيم صلوات اللَّه عليه.
وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أنت الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].
وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم، وكان مالك يقول: ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه العلي العظيم، وكان بعضهم يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25 - 28] وكان بعضهم يقول: اللهم وَفّقني واهدني وسدّدني واجمع لي بين الصواب والثواب وأعذني من الخطأ والحرمان، وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجزَبنا ذلك نحن، فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة.
والمعوَّل في ذلك كله على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلِّم الأول معلِّم الرسل والأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم؛ فإنه لا يرد من صَدَق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلّص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقت نيّتُه ورغبته في ذلك لم يعدم أجرًا، إنْ فاته أجران، واللَّه المستعان)) اهـ.
فعلى طالب العلم أن يلتجئ لله العليم الحكيم أن يعلمه ويفهمه ويتضرع لمولاه لمن عنده خزان العلم ومفاتيح الفهم أن يمن عليه بحظ وافر من الفقه في الدين وفهم مراد الله عز وجل ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام.

هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الخميس 28 رمضان سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 21 مايو سنة 2020 ف