حكم لبس الكمامة والإلتزام بالقوانين الوقائية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد : ففي ظل هذه الظروف الاستثنائية التي تعيشها الأمة ، في هذا الوباء الحقيقي النازل بالعالم قُننت قوانين وشرعت أحكام من أجل الحفاظ على سلامة المسلم وحياته .
ولقد جاء الإسلام وجميع الملل والشرائع التي سبقته بحفظ الكليات الخمس أو الضروريات الخمس التي تبنى عليها الحياة وعمارة الأرض ، وقد أجمعوا على حرمة المساس والإضرار بها ، وقد نقل الإجماع جمع من العلماء على ذلك.
قال القرافي في شرح تنقيح الفصول (1/392): الكليات الخمس : حكى الغزالي وغيره إجماع الملل على اعتبارها، فإن الله تعالى ما أباح النفوس ولا شيئاً من الخمسة المتقدمة في ملة من الملل (1).
-------------------
1 - المستصفى للغزالي(1/417) ، وانظر أيضا الإحكام للآمدي (3 / 274) والموافقات (1 / 20، 2 / 20،) وشرح الكوكب المنير (4 / 159)، وتيسير التحرير (3 / 306)، ونشر البنود (2 / 173).
-------------------
الصفحة الثاني:
والْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ المتقدمة في كلام القرافي هي: حفظ النفوس، والدين ، والأنساب ، والعقول ، والأموال، وقيل بدل االأنساب : والأعراض .
فمن عرض نفسه للوباء والعدوى ، وكان سببا في نقله إلى غيره ، ولم يمتثل القوانين الوقائية التي شُرعت من أجل حماية النفوس فقد عرضها للضرر والهلاك ، كما عرض غيره كذلك ،وهو مخالف للشرع ؛ ومسئول عن ذلك أمام الله يوم يلقاه ؛ لأن تلك القوانين التي شُرّعت لا تخالف الشرع ؛ بل هي من الشرع ؛ إذ الشرع جاء برفع الضرر وإزالته ، وتحصيل المصالح والمنافع وتكثيرها ، ودرء الأضرار وتقليلها ، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وأنّ الضرر يزال ، وأنّ ذرائع الفساد تسد ، وأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام ، وهذه القواعد متفق عليها بين علماء الأمة ، ولا يتم هذا الواجب الذي هو حفظ النفوس إلا بالالتزام وامتثال القوانين والإرشادات الوقائية ، لأن الوقاية خير من العلاج ، بل أثبت الواقع أنها هي العلاج كله ، وقد نهى ربنا جل في علاه عن قتل النفس أو تعريضها للهلاك :{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }(29) النساء.
قال القرطبي –رحمه الله - في تفسيرها (5/156): وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا.
ثُمَّ لَفْظُهَا يَتَنَاوَلُ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ بِقَصْدٍ مِنْهُ لِلْقَتْلِ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدنيا وطلب المال بِأَنْ يَحْمِلَ نَفْسُهُ عَلَى الْغَرَرِ الْمُؤَدِّيَ إِلَى التَّلَفِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) فِي حَالِ ضَجَرٍ أَوْ غَضَبٍ، فَهَذَا كُلُّهُ يتناول النَّهْيُ. وَقَدِ احْتَجَّ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِهَذِهِ الْآيَةِ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حِينَ أَجْنَبَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، فَقَرَّرَ النَّبِيُّ -r -احْتِجَاجَهُ وَضَحِكَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَقُلْ شيئا. خرجه أبو داود وغيره، .
قال ابن كثير في تفسيره(2/269):عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- t- أَنَّهُ قَالَ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ- r- عَامَ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، قَالَ: فَلَمَّا قدمتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - r- ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: (( يَا عَمْرُو صَلَّيت بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ! )) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أهلكَ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عز وَجَلَّ : {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - r- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
قلت : فإذا كان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - استدل بهذه الآية على فعله وهو تركه الغسل من أجل خوفه هلاك نفسه من البرد الشديد ؛ فكيف لا يستدل بها على عدم تعريض النفوس إلى ما هو أشد فتكا بها وإضرارا وهو هذا الوباء الذي نزل بالعالم أجمع ؟؟.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - r-: (( مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأ بِهَا بَطْنه يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ مُتَرد فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) صحيح البخاري (5778)وصحيح مسلم (109).
وقد ورد بلفظ :(( مَنْ قَتَلَ نَفْسَه بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).وَقَدْ أَخْرَجَهُ الجماعَةُ فِي كُتُبهم مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ،- t-.البخاري (6047،6105) ومسلم (110).
فمن قتل نفسه أو نفس غيره بشيء ، وهذا يشمل أي شيء يكون سببا في تلفها وقتلها فهو يتعذب بذلك الشيء في نار جهنم بمعنى يتعذب بذلك الوباء في نار جهنم هذا في نفسه أما قتل غيره فهو أشد وأشد.
وقال الله سبحانه :{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }(195) البقرة .
فالله ؛ الله في اتخاذ الأسباب الواقية من لبس الكمامات ؛ فلبسها واجب محتم في الأماكن العامة التي تكثر فيها الحركة ، ويكثر فيها الزحام مثل الأسواق ، والمراكز التجارية ومحطات النقل والمساجد وغيرها ..
والله ، الله في احترام المسافة القانونية الوقائية التي وضعها المختصون وهي ما بين المتر إلى المترين ولا تنسى تعقيم يديك ، كما لا تنسى إذا رجعت إلى بيتك أن تغسل يديك جيدا ، وإذا أمكن أن تغتسل وتغير ثيابك فذلك أفضل .
ويؤسفني كثيرا أن أسجل هنّا تهاون الكثير بل استنكار الكثير لهذه الإرشادات الوقائية ، وقد كنت يوما في طابور أمام مخبزة لأشتري الخبز فرأيت تقاربا بين الواقفين وعدم لبس الكمامات فقلت لهم
يا جماعة جزاكم الله خيرا احترموا الإرشادات الوقائية فقال لي بعضهم : وأنت ما شأنك وما دخلك فينا ؟؟ فدعوت لهم وانصرفت ..
ومما يجدر التنبيه إليه الالتزام بجميع الإرشادات والتوجيهات والقوانين التي سنت في هذا الموضوع ، والحرص الشديد على تطبيقها والحذر كل الحذر أن تكون سببا في موت نفس أحد
فإن عاقبة ذلك وخيمة والعقوبة شديدة حتى لو كانت نسبة مشاركتك في موتها ضعيفة جدا لا تكاد تذكر ، لأن الله توعد أهل السموات والأرض بالعذاب لو اشتركوا في قتل مسلم.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ قَتِيلًا، قُتِلَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( يُقْتَلُ قَتِيلٌ وَأَنَا فِيكُمْ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ، لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ مُؤْمِنٍ لَعَذَّبَهُمُ اللهُ، إِلَّا أَنْ لَا يَشَاءَ ذَلِكَ )) لَفْظُ حَدِيثِ الْمَالِينِيِّ، وَحَدِيثُ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُخْتَصَرٌ: (( لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى قَتْلِ امْرِئٍ مُؤْمِنٍ لَعَذَّبَهُمُ اللهُ )) أخرجه الترمذي (4/ 11 رقم 1398) وقال هذا حديث غريب، والبيهقي في لسنن الكبرى ،
قال الألباني في الضعيفة (11/619)بعد دراسته للحديث : لكن لعله يتقوى أحدهما بالآخر؛ فيكون الحديث حسناً بهما، وهو صحيح قطعاً بالشواهد التي سبقت الإشارة إليها.
هذا في مجموع أهل السموات والأرض ، فانظر فما نسبتك أنت إليهم ومع ذلك ينالك العذاب ؟ فكيف إذا كنت أنت لوحدك السبب في موت أحد أو عشرة ، وقد يكون من أقرب النّاس إليك ؟
وبعد الجولة القصيرة ، والتذكرة اليسيرة ، والتحذير من سوء العاقبة العسيرة ، لعلك تتعظ وتلتزم بالوقاية السهلة والجديرة ، حتى يرفع الوباء وترجع المياه إلى مجراها مستقرة ، والنفوس مرتاحة وعينها بقدرها قريرة .
ولا أنسى أن أذكر نفسي وإياك بهذه الإرشادات وهي:
1 - لبس الكمامة وخاصة في الأماكن التي تكون فيها كثرة الحركة والاختلاط بالآخرين حتى في البيت ومع الرفاق والأصدقاء وجلسات الجوار ..
2 - مسافة الآمان والتباعد بين الآخرين أثناء الطوابير ، والجلوس سواء في البيت أو في الشارع ، أو في العمل ، أو في الملاعب أو في جلسات النزهة فلا تحرج غيرك ..
3 - لا تصافح أحدا مهما كان لا قريب ولا حبيب ، لا غائب وحاضر ، وكذلك المعانقة ، والاحتكاك واكتفي بالتحية من بعيد ( السلام مع الإشارة ) فلا بد منهما معا لا تكتفي بالإشارة وحدها ، ولا بالسلام وحده إذا كان من تحييه بعيدا عنك .
4- لا تكثر ورود أماكن الزحام والاختلاط من غير ضرورة ، وإذا ألجأتك الضرورة فاحمل نفسك على التباعد واحترام المسافة القانونية التي فيها الأمان لك ولغيرك ما استطعت إلى ذلك سبيلا .
5 – إذا رجعت إلى البيت ، أو شيء تقوم به هو تعقيم ما في يديك من أغراض ، واترك حذاءك خارج البيت ، ثم غسل يديك بالصابون جيدا ، وإذا استطعت أن تستحم فذلك أفضل ..وإذا استطعت أن تجعل ثيابا خاصة بالخارج ولباسا خاصا بالبيت فذلك أفضل وأفضل للوقاية .
6 – احترم رجال الأمن أي كانوا شرطة ، أو درك أو جيش ، كذلك رجال الأمن الصحي الأطباء وأعوانهم فكلهم يسهر ويتعب على سلامة نفسك وعافية صحتك وعائلتك .
7 – فكر جيدا في العواقب فالأمر جد و ليس مزحة لا سياسة ، بل هو وباء حقيقي يحصد كل يوم أرواحا ، عبر العالم وفي بلدنا ، واعلم أنه كلما ارتفع العدد كلما اقترب منك الوباء ، وجاء الدور عليك ، فالحذر الحذر قبل أن لا يغني حذر من قدر .
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إن ربي سميع قريب مجيب ، اللهم ارفع ما حل بأمتنا من وباء ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا وتب علينا وارحمنا إنك رحمن رحيم ، اللهم إن نعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيء الأسقام ، اللهم نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة . وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد .