بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيبين ، وصحبه أجمين وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فإن للسان أفتان أفة سكوت وأفة كلام ، إن سكت عما أو جب الله عليه وقع في آفة ، وإن نطق بما لا يحل فتلك آفة أخرى ، وسبيل النجاء هو أن يسخر لسانه فيما يحل ويمسكه عما يحرم ، بل يمسكه عن المباح بل عن فضول الكلام لأنه آلة تتراخى بسرعة وسهولة إلى كثرة الكلام فيقع في المحظور والهلاك . ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الخوف من الله وفزع يوم القيامة قول الخير والسكوت عما سواه .
عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليوم والآخر فليقل خيرا أو ليسكت)).
بوب عليه البخاري في صحيحه (8/100): باب حفظ اللسان ،ثم ذكر وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
فقوله : ما يلفظ من قول : عام في كل ما تلفظ به حتى الكلمة الواحدة التي يظنها أنها هينة وأنه لا شيء فيها يكون عقابه أن يهوي بها سبعين عاما في النّار . لا إله إلا الله سبعين خريفا أو ما بين المشرق والمغرب وهو يهوي ولا يصل إلى قعرها من أجل كلمة واحدة فقط ؟؟ يا لهو ذلك وفظاعته ؟؟
ففي الصحيحين، البخاري (6477) ومسلم (2988) «عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار بعد ما بين المشرق والمغرب» .
وفي رواية عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» لفظ مسلم ((2988). هذه كلمة واحدة لم يلق لها بالا ، ولم يكن يظن أن تبلغ به ما بلغت من سخط الله ، فكيف بمن يطلق للسانه العنان فيفري في أعرض إخوانه ويتفكه بالغيبة والنميمة والزور ؟؟ وكيف يغفل من أيقن الهلاك في كلمة تطيش من لسانه ؟؟ من يستطيع أن يصبر سبعين وهو يهوي سنة في النّار ولا يعلم بقاءه فيها بعد ذلك إلا الله ؟؟ ومن يستطيع أن ينجي نفسه من سخط الله وهو يعلم طول لسانه في طول أعراض إخوانه ..؟؟
يا الله ؛ ما أشد هذه الأحاديث على قلب المؤمن الذي يخاف الله ، ويخاف العواقب ، يخاف اليوم الآخر زيادة على ما فيه من فزع وشدة الهول.

وفي موطأ مالك (3611): ((عَنْ [ص:1435] بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلْمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ. مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ. يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ. مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ يَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ. يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ )).
إن سبيل النجاة من هول يوم القيامة يوم يلقى المرء فيه ربه وهو ساخط عليه بسبب كلمة تكلم بها من سخط الله وهو غير مهتم بها ، وسبيل السلام من النّار ، هو أن يسمك لسانه ويلجمه بلجام المارقبة والمحاسبة الشديدة عن فضول الكلام فضلا عن المباح بله الحرام .
إن ضمان دخول الجنة هو أن يضمن العبد لسانه وفرجه ، فلا يخوض مع الخائضين ، ولا يطلق للسانه العنان في كل ما يعرض له أو عليه ، وكل ما يدخل جوفه ، وأن أن يحفظ فرجه عما حرم الله .
ففي البخاري (6474)عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» وأحمد (19559) بلفظ:(( مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فُقْمَيْهِ وَفَرْجَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ))
قال السندي: قوله: ما بين فَقْمَيْه؛ ضبط بفتح فاء، وسكون قاف، أي: لحييه، يريد الفم عن التكلم بما لا ينبغي، وعن أكل ما لا ينبغي.
وفي الموطأ باب حفظ اللسان
53 - قال مالك: «قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه ما يلقي لها بالاً، يهوي بها في نار جهنم.
وقال صلى الله عليه وسلم: من وقي شر اثنين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه.
وقال: أكثر الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل.
وقال: التَّقي ملجم لا يتكلم بكل ما يريد.
وقال عليه الصلاة والسلام: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وقال عيسى بن مريم صلى اللَّه على نبينا وعليه: لا تكثروا الكلام بغير
ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من اللَّه تعالى)).
54 - قال مالك: (( من لم يعد كلامه من عمله كثر كلامه )) قلت يريد : ومن كثر كلامه كثر خطأه ، وخطأه من علمه يحاسب عليه لذلك ينبغي عليه أن يرقب كلمه ويعده من عمله الذي يعاقب عليه .
ويقال: ((ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه )).
55 - قال مالك: ((ولم يكونوا يهذرون الكلام هكذا. ومن الناس من يتكلم بكلام شهر في ساعة)). أو كما قال.
56 - قال مالك: ((وكان الربيع بن خيثم أقل الناس كلاماً)).
57 - قال مالك: ((ويقال: إن البلاء موكل بالقول)).
قال أَبُو حاتم بن حبان في روضة العقلاء : الواجب على العاقل إذا ذكر المطيتين اللتين ذكرتهما قبلُ إصلاح السريرة ، ولزوم العلم أن يبلغ مجهوده حينئذ في حفظ اللسان حتى يستقيم له إذ اللسان هو المورد للمرء موارد العطب ، والصمت يكسب المحبة والوقار ، ومن حفظ لسانه أراح نفسه ، والرجوع من الصمت أحسن من الرجوع عَن الكلام ، والصمت منام العقل والمنطق يقظته . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حدثنا عماد بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ :(( إِنَّ مِنَ الْحِكَمِ الصَّمْتَ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ )). وأنشدني الكريزي :
أقلل كلامك واستعذ من شره ... إن البلاء ببعضه مقرون واحفظ لسانك واحتفظ من غيه ... حتى يكون كأنه مسجون وكل فؤادك باللسان وقل له ... إن الكلام عليكما موزون فزناه وليك محكما ذا قلة ... إن البلاغة في القليل تكون أَخْبَرَنَا ابْنُ قُتَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ نُوحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ :" كُلُّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِفَضْلِهِ إِلا الْكَلامَ فَإِنَّ فَضْلَهُ يَضُرُّ". أَخْبَرَنَا الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ عن سعيد ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: " لا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ إِلا لأَحَدِ رَجُلَيْنِ مُنْصِتٌ وَاعٍ أَوْ مُتَكَلِّمٌ عَالِمٌ ". أخبرنا مُحَمَّد بْن سليمان بْن فارس حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن علي الشقيقي أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيم بْن الأشعث قَالَ سمعت الفضيل بْن عياض يقول :" شيئان يقسيان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل. أخبرنا أَبُو يعلى حَدَّثَنَا عمرو بْن مُحَمَّد الناقد قَالَ سمعت يَحْيَى بْن اليمان يقول قال سُفْيَان الثوري : " أول العبادة الصمت ثم طلب العلم ثم العمل به ثم حفظه ثم نشره".
حدثنا عمرو بْن مُحَمَّد الأنصاري حَدَّثَنَا الغلابي حَدَّثَنَا العتبي عَن علي بْن جرير عَن أبيه قَالَ : قَالَ الأحنف بْن قيس:" الصمت أمان من تحريف اللفظ ، وعصمة من زيغ المنطق ، وسلامة من فضول القول ، وهيبة لصاحبه.
قال أَبُو حاتم : " الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم فما أكثر من ندم إذا نطق ، وأقل من يندم إذا سكت ، وأطول الناس شقاء ، وأعظمهم بلاء من ابتلى بلسان مطلق وفؤاد مطبق . واللسان فيه عشر خصال يجب على العاقل أن يعرفها ويضع كل خصلة منها في موضعها : 1 - هو أداة يظهر بها البيان ،2 - وشاهد يخبر عَن الضمير 3 - وناطق يرد به الجواب ، 4 - وحاكم يفصل به الخطاب، 5 - وشافع تدرك به الحاجات، 6 -وواصف تعرف به الأشياء ، 7 - وحاصد تذهب الضغينة ، 8 - ونازع يجذب المودة ، 9 - ومسل يذكي القلوب، 10- ومعز ترد به الأحزان . ولقد أحسن الذي يقول : إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا ولئن ندمت على سكوت مرة ... فلقد ندمت على الكلام مرارا إن السكوت سلامة ولربما زرع ... الكلام عداوة وضرارا وإذا تقرب خاسر من خاسر ... زادا بذاك خسارة وتبارا . أخبرنا مُحَمَّد بْن المنذر بْن سَعِيد حَدَّثَنَا كثير بْن عَبْد اللَّه التيمي حَدَّثَنَا العلاء ابن سَعِيد الكندي حدثني أَبُو حية قَالَ كنت أماشي إِسْمَاعِيل بْن سهل وكان أحد الحكماء فقال لي :" ألا أخبرك ببيت شعر خير لك من عشرة آلاف درهم؟ قال : نعم. قَالَ :" أيما أحب إليك نفسك أو عشرة آلاف درهم ؟ قَالَ قلت : نفسي . فأنشأ يقول: أخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل المقال . قال أَبُو حاتم : الواجب على العاقل أن يكون ناطقا كعيي وعالما كجاهل وساكتا كناطق لأن الكلام لا بد له من الجواب والجواب لو جعل له جواب لم يكن للقول نهاية وخرج المرء إلى ما ليس له غاية والمتكلم لا يسلم من أن ينسب إليه الصلف والتكلف والصامت لا يليق به إلا الوقار وحسن الصمت ولقد أحسن الذي يقول :
حتف امرئ لسانه ... في جده أو لعبه بين اللها مقتله ... ركب في مركبه ... أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا الْغَلابِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عائشة حدثنا دريد ابن مُجَاشِعٍ عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ :قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا أَحْنَفُ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ . وأنشدني الأبرش : ما ذل ذو صمت وما من مكثر ... إلا يزل وما يعاب صموت إن كان منطق ناطق من فضة ... فالصمت در زانه الياقوت .


قال أَبُو حاتم - رَضِيَ اللَّه عنه- الواجب على العاقل أن ينصف أذنيه من فيه ويعلم أنه إنما جعلت له أذنان ، وفم واحد ؛ ليسمع أكثر مما يقول ؛

لأنه إذا قَالَ ربما ندم وإن لم يقل لم يندم ، وهو على رد مَا لم يقل أقدر منه على رد مَا قَالَ ، والكلمة إذا تكلم بها ملكته ، وإن لم يتكلم بها ملكها ،

والعجب ممن يتكلم بالكلمة إن هي رفعت ربما ضرته وإن لم ترفع لم تضره كيف لا يصمت ورب كلمة سلبت نعمة .


أخبرنا أَحْمَد بْن قريش بْن عَبْد العزيز حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن علي الذهلي قَالَ أنشدني رجل من ربيعة :
لعمرك مَا شيء علمت مكانه ... أحق بسجن من لسان مذلل على فيك مما ليس يعنيك شأنه ... بقفل وثيق مَا استطعت فأقفل فرب كلام قد جرى من ممازح ... فساق إليه سهم حتف معجل وللصمت خير من كلام بمأثم ... فكن صامتا تسلم وإن قلت فاعدل ...


أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ بُرْدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ ابن مُوسَى قَالَ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كفى بك ظالما أن لا تَزَالَ

مُخَاصِمًا وَكَفَى بِكَ آثما أن لا تَزَالَ مُمَارِيًا وَكَفَى بِكَ كَاذِبًا أن لا تَزَالَ مُحَدِّثًا إِلَّا حَدِيثًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .


أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْقَزَّازُ حَدَّثَنَا مَعْرُوفُ بْنُ الْحَسَنِ الْكِنَانِيُّ حَدَّثَنَا كثير ابن هِشَامٍ عَنْ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ

كَعْبٍ قَالَ : " الْعَافِيَةُ عَشْرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي السُّكُوتِ ".


أخبرنا الحسن بْن سُفْيَان حَدَّثَنَا أحمد بن إبراهيم الدوريقي حَدَّثَنَا يَحْيَى القطان عَن شعبة قَالَ : من الناس من عقله بفنائه ، ومنهم من عقله

معه ، ومنهم من لا عقل له فأما الذي عقله معه فالذي يبصر مَا يخرج منه قبل أن يتكلم ، وأما الذي عقله بفنائه فالذي يبصر مَا يخرج بعد أن يتكلم

، ومنهم من لا عقل له فحدثت به عَبْد الرحمن بْن مهدي بعد مَا رجعنا من عند يَحْيَى فقال هذه صفتنا يعني الذي عقله بفنائه واستحسن الكلام .

وقال لا ينبغي أن يكون هذا من كلام شعبة لعله سمعه من غيره.


اللهم إني أسأله أن توفقنا لحفظ ألسنتنا ، وأن تتوب علينا فيما وقع منّا من فلتات ألسنتنا في غابر أيامنا وأن تغفر لنا ولإخواننا الذين نلناهم

بشيء من ذلك وأن تعفو عنا وعنهم إنك سميع قريب مجيب .


وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم .