بسم الله الرحمن الرحيم
تنبيه الدارس على الاهتمام بوقت السير في الطرقات وإلى المدارس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:
فالذي ينظر في سير الصالحين وأهل العلم والدين، يلحظ أن من مميزاتهم حرصهم على أوقاتهم ومن خصائصهم شحهم بساعاتهم، وقد تنوعت عبارتهم في الحث على اغتنام الأوقات في مذاكرة العلم والأعمال الصالحات، وكذلك لهم كلمات في التحذير من قتل الوقت وإضاعة الزمان.
قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله:
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيعُ

ولهذا تجد أن كثيرا من العاطلين يضيعون أوقاتهم في فضول النوم والأكل والشرب وغير ذلك، وأما من علا كعبه وبرز نجمه وسما في العلم والتحصيل يحفظ وقته.


وكان بعض السلف شحيحا بوقته، يحاسب نفسه على الدقائق بل يحاسبها على الثواني التي يقضيها في الأكل، وكان منهم من يغتنم الوقت اليسير الذي يقضيه في الأكل، والبعض يبتكر طرقا لتقليل هذا الوقت الذي يهدره في طعامه، وهذا حرصا منهم على استثمار هذه الدقائق اليسيرة في العلم والطاعة والعبادة.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) : ((قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته)) اهـ.
فلما علم المجدون أهمية الوقت حافظوا عليه، ومن طرق حفاظهم على الوقت واستغلالهم له فيما ينفعهم – من مذكرة أو حفظ وقراءة قرآن أو ذكر وتسبيح أو مطالعة في كتاب - وهم يمشون، وفي هذه العجالة أذكر نماذج طيبة من السلف الأخيار في استغلال أوقاتهم في سيرهم وذهابهم.

1) إبراهيم التيمي (ت 136 هـ).
عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: كنت أعرض عليه ويعرض علي في السكة، فيمر بالسجدة فيسجد، قال: قلت: أتسجد في السكة؟
قال: نعم، سمعت أبا ذر، يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟
قال: ((المسجد الحرام)).
قال: قلت: ثم أي؟
قال: ((ثم المسجد الأقصى)).
قال: قلت: كم بينهما؟
قال: ((أربعون سنة)).
قال: ((ثم أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد)).
وقد قال أبو عوانة: كنت أقرأ عليه ويقرأ علي.
أخرجه أحمد في ((المسند)).
قال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
قال العلامة ابن قدامة رحمه الله في ((المغني)) : ((ولا بأس بقراءة القرآن في الطريق، والإنسان مضطجع)) اهـ.

2) عطاء بن السائب (ت 136 هـ).
قال عطاء بن السائب رحمه الله كما في ((معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار)) للذهبي: كنت أقرأ على أبي عبد الرحمن [السلمي] وهو يمشي.


3) الفتح بن خاقان (ت 247 هـ).
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه ((تقييد العلم)): ((وأما الفتح بن خاقان فإنه كان يحمل الكتاب في كمه أو في خفه، فإذا قام من بين يدي المتوكل للبول أو الصلاة، أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي، حتى يبلغ الموضع الذي يريده، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه، إلى أن يأخذ مجلسه. فإذا أراد المتوكل القيام لحاجة، أخرج الكتاب من كمه أو خفه، وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده)) اهـ.

4) ثعلب النحوي ثعلب النحوي أحمد بن يحيى الشيباني الكوفي البغدادي (ت 291 هـ).
قال ابن خلكان رحمه الله ((وفيات الأعيان)) : ((وتوفي يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الاولى، وقيل: لعشر خلون منها سنة إحدى وتسعين ومائتين ببغداد، ودفن بمقبرة باب الشام، رحمه الله تعالى، وكان سبب وفاته أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم لا يسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق فصدمته فرس فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فحمل إلى منزله على تلك الحال وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم)) اهـ.

وقال أبو هلال العسكري رحمه الله في ((الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه)) : ((وحكي عن ثعلب أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة شرط عليه أن يوسع له مقدار مسورة، يضع فيها كتابا ويقرأ)) اهـ.

5) أبو بكر بن الخياط النحوي محمد بن أحمد بن منصور السمرقندي البغدادي (ت 320 هـ).
قال أبو هلال العسكري رحمه الله في كتابه ((الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه)) : ((وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة)) اهـ.


6) عبد الرحمن بن أبي حاتم أبو محمد الرازي
(ت 327 هـ).
قال الحسن بن الحسين الدارستيني رحمه الله كما في ((سير أعلام النبلاء)): ((سمعت أبا حاتم، يقول: قال لي أبو زرعة: ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك.

فقلت له: إن عبد الرحمن ابني لحريص.
فقال: من أشبه أباه فما ظلم.
قال الرمام: فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له، وسؤالاته لأبيه.
فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه)).

7) أبو نعيم الأصفهاني أحمد بن عبد الله (ت 430 هـ).
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في ((تذكرة الحفاظ)) : ((قال أحمد بن مردويه: كان أبو نعيم في وقته مرحولا إليه، لم يكن في أفق من الآفاق أحد أحفظ منه، ولا أسند منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم، يقرأ ما يريده إلى قريب الظهر، فإذ قام إلى داره ربما يقرأ عليه في الطريق جزء، وكان لا يضجر، لم يكن له غذاء سوى التسميع والتصنيف)) اهـ.


8) أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم الرازي (ت 447 هـ).
قال ابن عساكر رحمه الله في ((تاريخ دمشق)) و ((تبيين كذب المفتري)): ((قرأت بخط شيخنا أبي الفرج غيث بن علي بن عبد السلام التنوخي الصوري غرق أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم الرازي في بحر القلزم عند ساحل جدة بعد عوده من الحج في صفر سنة سبع وأربعين وكان قد نيف على الثمانين حدثني بذلك ابنه إبراهيم وكان فقيها جيدا مشارا إليه في علمه صنف الكثير في الفقه وغيره ودرس وحدث عن أبي حامد الإسفرايني وغيره حدثنا عنه جماعة وهو أول من نشر هذا العلم بصور وانتفع به جماعة وكان أحد من تفقه عليه بها الفقيه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وحدثت عنه أنه كان يحاسب نفسه على الأنفاس لا يدع وقتا يمضي عليه بغير فائدة إما ينسخ أو يدرس أو يقرأ وينسخ شيئا كثيرا ولقد حدثني عنه شيخنا أبو الفرج الإسفرايني أنه نزل يوما إلى داره ورجع فقال قد قرأت جزءا في طريقي)) اهـ.

وقال ابن عساكر رحمه الله في ((تاريخ دمشق)) : ((كان سليم ببغداد في حال طلبه العلم ترد عليه كتب من الري، فلا يقرأ شيئا منها، ولا ينظر فيها، ويجمعها عنده، إلى أن فرغ من تحصيل ما أراد، ثم فتحها فوجد في بعضها:
ماتت أمك، وفي بعضها ما يضيق له صدره. فقال: لو كنت قرأتها قطعتني عن تحصيل ما أردت، وتفقه بعد أن جاز الأربعين)) اهـ.

9) الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي (ت 463 هـ).
قال ابن الآبنوسي رحمه الله كما في ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي : ((كان الحافظ الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه)) اهـ.


10) النووي يحيى بن شرف (ت 676 هـ).
قال أبو الحسن بن العطار رحمه الله في ((تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي)) : ((ذكر لي شيخنا [النووي] رحمه الله تعالى أنه كان لا يضيع له وقتا، لا في ليل ولا في نهار إلا في الاشتغال بالعلم حتى في الطريق يكرر أو يطالع، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق. وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة بعد عشاء الآخرة، ويشرب شربة واحدة عند السحر، ويمتنع من أكل الفواكه والخيار، ويقول: أخاف أن يرطب جسمي ويجلب لي النوم، ولم يتزوج)) اهـ.


11) ابن حجر شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن أحمد الكناني العسقلاني
(ت 852 هـ).
قال السخاوي رحمه الله في ((الجواهر والدرر)) عن شيخه ابن حجر: ((إنما كانت همَّتُه المطالعة والقراءة والسماع والعبادة والتصنيف والإفادة، بحيث لم يكن يخلي لحظة مِنْ أوقاته عن شيء مِنْ ذلك، حتى في حال أكله وتوجُّهه وهو سالك كما حكى لي ذلك بعض رفقته الذين كانوا معه في رحلته، وإذا أراد اللَّه أمرًا هيّأ أسبابه)) اهـ.


12) أحمد بن سليمان بن نَصْر الله البُلْقاسي ثم القاهري الشافعي المتوفى سنة (ت 852 هـ).
قال السخاوي رحمه الله في ((الضوء اللامع)) : ((وكان إماما علامة قوي الحافظة حسن الفاهمة مشاركا في فنون طلق اللسان محبا في العلم والمذاكرة والمباحثة غير منفك عن التحصيل بحيث أنه كان يطالع في مشيه ويقرئ القراءات في حال أكله خوفا من ضياع وقته في غيره)) اهـ.


فهذا نماذج طيبة من روائع قصص سلفنا الصالحين في بيان حفاظهم على أوقاتهم عند سيرهم في الطرقات وذهابهم لقضاء الحاجات.
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** فإن التشبه بالرجال فلاح
وأختم بوصية نافعة أوصى بها أحد السلف أصحابه فقال كما نقلها ابن الجوزي رحمه الله في ((صيد الخاطر)) : (إذا خرجتم من عندي فتفرقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم).
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الخميس 15 جمادي الآخرة سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 28 يناير سنة 2021 ف