بسم الله الرحمن الرحيم
إعلام الصديق بسنة إتحاف ما خص به من الطعام للرفيق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:
فهذه سنة عزيزة، يفعلها الكثير منا عادة، ويغفل عند تطبيقها أنها سنة وعبادة، والكثير يجهل أنها سنة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وهي إيثار الصديق والجليس وتقديمه على النفس بما يُخص من الطعام، وعلينا أن نستحضر النية عند التطبيق لهذه السنة وأننا بفعلها نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، لا مجرد عادة توارثناها من الآباء والأجداد.

قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق.
فقال: ((أنا نازل)).
ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب، فعاد كثيبا أهيل، أو أهيم، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟
قالت: عندي شعير وعناق.
فذبحت العناق، وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.
قال: ((كم هو ؟)).
فذكرت له.
قال: ((كثير طيب، قال: قل لها: لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال: قوموا)).
فقام المهاجرون، والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم.
قالت: هل سألك؟
قلت: نعم.
فقال: ((ادخلوا ولا تضاغطوا)).
فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية.
قال: ((كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة)).
أخرجه البخاري.
وفي هذه الحادثة آثر النبي عليه الصلاة والسلام تقديم من معه من المهاجرين والأنصار على نفسه بما خصه به جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.


وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ألله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي.
ثم قال : ((يا أبا هر)).
قلت : لبيك يا رسول الله.
قال : ((الحق)).
ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبنا في قدح، فقال : ((من أين هذا اللبن ؟)).
قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة.
قال : ((أبا هر)).
قلت : لبيك يا رسول الله.
قال : ((الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي)).
قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت.
قال : ((يا أبا هر)).
قلت : لبيك يا رسول الله.
قال : ((خذ فأعطهم)).
قال : فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم.
فقال : ((أبا هر)).
قلت : لبيك يا رسول الله.
قال : ((بقيت أنا وأنت)).
قلت : صدقت يا رسول الله.
قال : ((اقعد فاشرب)).
فقعدت فشربت.
فقال : ((اشرب)).
فشربت، فما زال يقول : ((اشرب)).
حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكا.
قال : ((فأرني)).
فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة.
أخرجه البخاري.
وفي هذه القصة آثر النبي عليه الصلاة والسلام أبا هريرة وأهل الصفة رضي الله عنهم على نفسه بما أهدي له.


ومن أبلغ صور إثار الطعام والشراب التي سطرت في كتب التاريخ بمداد من ذهب ما ذكره العلامة المؤرخ ابن كثير رحمه الله في ((البداية والنهاية)) (9/ 561) : ((قال عكرمة بن أبي جهل: يوم اليرموك قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم؟ !
ثم نادى: من يبايع على الموت؟
فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتل منهم خلق، منهم ضرار بن الأزور، رضى الله عنهم.
وقد ذكر الواقدي وغيره، أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا ماء، فجيء إليهم بشربة ماء، فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فتدافعوها بينهم، من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا، ولم يشربها أحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين)) اهـ.

فإيثار الرفيق بالأكل والشرب سنة نبوية، علينا استحضارها عند الإثار بالطعام، ولا يكون عملنا لها عادة.
قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
قال العلامة ابن سعدي رحمة الله في ((تيسير الكريم الرحمن)) : ((أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا، والإيثار عكس الأثرة، فالإيثار محمود، والأثرة مذمومة، لأنها من خصال البخل والشح، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون})) اهـ.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الثلاثاء 4 رجب سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 16 فبراير سنة 2021 ف