بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا يه ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد:
فإن المشركين على ما عندهم من انحراف وما فيهم من ظلم فقد كانوا يعظمون الأشهر الحرم تعظيما كبيرا حيث ينتهي أحدهم عن أخذ حقه من الثأر من ظالمه، فما لقومنا الذين أذهب الله عنهم عبية الجاهلية بالدين القيم الذي أنزل إليهم فأصبحوا لا يعظمون ما يعظمه أهل الجاهلية فضلا عن أن الله تعالى نهاهم عن الظلم فيهن .
قال تعالى :{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [سورة التوبة: 36].
قال أبو جعفر بن جرير : يقول تعالى ذكره : إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، الذي كتبَ فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى (يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، يقول: هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وهن: رجب مُضر وثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. انتهى كلامه.
قال بعض العلماء : وَإِنَّمَا سَمَّاهَا حُرُمًا لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا. وَالثَّانِي: لِتَعْظِيمِ انْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ فِيهَا ، نهى عن الظلم بجميع أنواعه ، واعتبر ظلم المؤمنين بمنزلة ظلم النفس لذلك قال ( فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ).
ظلم الأخ لأخيه ظلم لنفسه ، والظلم للنفس من أشد أنواع الظلم الذي تأباه النفس لذلك نهى عنه ، يقول العبد ربي ظلمت نفسي فاغفر لي وهو بظلمه لأخيه قد ظلم نفسه فلا يستغفر له بل يزيده ظلما على ظلم ، فالسعيد من عظم هذه الأشهر؛ بل وغيرها من الشهور فانتهى عن الظلم بجميع أنواعه فيها وفي غيرها ؛ لأن الظلم ظلمات يوم القيامة .
عن ابن عمر قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنًى في أوسط أيام التشريق، فقال: يا أيها الناس، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، أوّلهن رجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. إلى أن قَالَ:..."فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلالا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا هَلْ بَلَغْتُ؟ أَلَا لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ مِنْكُمْ، فَلَعَلَّ مَنْ يُبَلَّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ يَسْمَعُهُ . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِم.

ما أعظم هذا الحديث وما أشده وقعا على قلب المؤمن العاقل اسمع وكرر هذا وفكر كم عرض انتهكته ، وفكر أنك ستلقى ربك فيسألك عن ذلك فأعد صواب الجواب ليوم الحسب ، وتَخَلص من الظلم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار بل هي الحسنات والسيئات ، ومن العاقل الذي يقبل أن تأخَذ منه حسنة في يوم أحوج ما يكون إليها، ومن العاقل الذي يقبل أن تضاف إليه سئية في يوم أحوج ما يكون أن يتخلص منها :
" وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ " وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أَيْ: هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُسْتَقِيمُ، مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِيمَا جَعَلَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، والحَذْو بِهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ تُضَاعَفُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْحَجِّ: 25] وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ تَغْلُظُ فِيهِ الْآثَامُ..
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} الْآيَةَ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فِي كلِّهن، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حَرَامًا، وعَظم حُرُماتهن، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا، مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ.
فَعَظِّموا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تُعَظم الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ ، فَلا يكون أهل الجاهِلية أفَضل منكم يعظمون الأشهر الحرم ويكفون عن الظلم ورد العدوان .
قال ابن الجوزي فِي التبصرة : وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ الشُّهُورِ عَلَى بَعْضٍ لِيَكُونَ الْكَفُّ عَنِ الْهَوَى ذَرِيعَةً إِلَى اسْتِدَامَةِ الْكَفِّ فِي غَيْرِهَا، تَدْرِيجًا لِلنَّفْسِ إِلَى فِرَاقِ مَأْلُوفِهَا الْمَكْرُوهِ شَرْعًا. هَذِهِ أَوْقَاتٌ مُعَظَّمَةٌ وَسَاعَاتٌ مُكْرَمَةٌ وَقَدْ صَيَّرْتُمْ ضُحَاهَا بِالذُّنُوبِ عَتَمَةً، فَبَيِّضُوا بِالتَّوْبَةِ صُحُفَكُمُ الْمُظْلِمَةَ، فَالْمَلَكُ يَكْتُبُ خُطَاكُمْ وَنَفَسَكُمْ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنفسكم} .
لَقَدْ ضَيَّعْتُمْ مُعْظَمَ السَّنَةِ فَدَعُوا مِنَ الآنَ هَذِهِ السِّنَةَ، وَاسْمَعُوا الْمَوَاعِظَ فَقَدْ نَطَقَتْ بِأَلْسِنَةٍ، وَدَعُوا الْخَطَايَا فَيَكْفِي مَا قَدْ وَكَسَكُمْ {فَلا تظلموا فيهن أنفسكم} . الْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ الْفَوْتِ، الْحِذَارَ الْحِذَارَ فَقَدْ قَرُبَ الْمَوْتُ، الْيَقَظَةَ ؛ الْيَقَظَةَ فَقَدْ أُسْمِعَ الصَّوْتُ، قَبْلَ أَنْ يُضَيِّقَ الْحِسَابُ مَحْبَسَكُمْ {فَلا تَظْلِمُوا فيهن أنفسكم} .
لا بُدَّ أَنْ تَنْطِقَ الْجَوَارِحُ وَتَشْهَدَ عَلَيْكُمْ بالقبائح، فاملئوا الأَوْقَاتَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا نَزَلْتُمْ بُطُونَ الصفائح آنسكم {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} . اعْزِمُوا الْيَوْمَ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ، وَاجْتَهِدُوا فِي إِزَالَةِ الْعُيُوبِ، وَاحْذَرُوا سَخَطَ عَلامِ الْغُيُوبِ، وَاكْتُبُوا عَلَى صَفَحَاتِ الْقُلُوبِ مَجْلِسَكُمْ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنفسكم} . فَبَادِرُوا فِي هَذَا الشَّهْرِ مِنَ الْخَيْرِ كُلَّ مُمْكِنٍ مَا دَامَ الأَمْرُ يُمْكِنُ،
وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعُمْرَ لا قِيمَةَ لأَوْقَاتِهِ وَزَمَانُ الصِّحَةِ لا مَثَلَ لِسَاعَاتِهِ، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ الْحِسَابِ وَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ صَحِيحَ الْجَوَابِ، وَاحْفَظُوا بِالتَّقْوَى هَذِهِ الأَيَّامَ وَاغْسِلُوا عَنِ الإِجْرَامِ قَبِيحَ الإِجْرَامِ، قَبْلَ نَدَمِ النُّفُوسِ حِينَ سِيَاقِهَا، قَبْلَ طَمْسِ شَمْسِ الْحَيَاةِ بَعْدَ إِشْرَاقِهَا، قَبْلَ ذَوْقِ كَأْسٍ مُرَّةٍ فِي مَذَاقِهَا، قَبْلَ أَنْ تَدُورَ بُدُورُ السَّلامَةِ فِي أَفْلاكِ مَحَاقِهَا، قَبْلَ أَنْ تُجْذَبَ الأَبْدَانُ إِلَى الْقُبُورِ بِأَطْوَاقِهَا، وَتَفْتَرِشَ فِي اللُّحُودِ أَخْلاقَ أَخْلاقِهَا، وَتَنْفَصِلَ الْمَفَاصِلُ بَعْدَ حُسْنِ اتِّسَاقِهَا، وَتَشْتَدَّ شِدَّةُ الْحَسَرَاتِ حَاسِرَةً عَنْ سَاقِهَا، وَتَظْهَرَ مُخَبَّآتُ الدُّمُوعِ بِسُرْعَةِ انْدِلاقِهَا، وَتَتَقَلَّبَ الْقُلُوبُ فِي ضَنْكِ ضِيقِ خَنَاقِهَا، وَيَطُولَ جَزَعُ مَنْ كَانَ فِي عُمْرِهِ نَاقِهًا، وَتَبْكِي النُّفُوسُ فِي أَسْرِهَا عَلَى زَمَانِ إِطْلاقِهَا:
هَذَا حَادِي الْمَمَاتِ قَدْ أَسْرَعَ، هَذِهِ سُيُوفُ الْمُلِمَّاتِ قَدْ تَقْطَعُ، هَذِهِ قُصُورُ الإخوان بلقع، مال صاحب الْمَالِ فَإِذَا الْمَالُ يُوَزَّعُ، أَنَفِعَهُ حِرْصُهُ حِينَ سُلِبَ مَا جَمَعَ أَجْمَعَ، إِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَخُذْ مِنْهَا أَوْ دَعْ، إِنْ وَصَلَتْ فَعَلَى نِيَّةِ أَنْ تَقْطَعَ، وَإِنْ بَذَلَتْ فَبِعَزِيمَةٍ أَنْ تَمْنَعَ، انْتَظِرْ سَلْبَهَا يَا مَشْغُولا بِهَا، وَتَوَقَّعْ أَسَفًا لِكَبِدٍ عَلَى حُبِّهَا تَتَقَطَّعُ، أَتُرَاهَا أَنَّهَا مَا عَلِمَتْ أَنَّهَا تَخْدَعُ، أَفِيهَا حِيلَةٌ أَمْ فِي وَصْلِهَا مَطْمَعٌ، أَيْنَ كِسْرَى أَيْنَ قَيْصَرُ أَيْنَ تُبَّعُ، أَيْنَ حَاتِمُ الْجُودِ أَيْنَ مَنْ كَانَ يَجْمَعُ، أَيْنَ قَيْسٌ وَسَحْبَانُ أَيْنَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ، إِنَّهَا لَتَمْحُو الْعَيْنَ ثُمَّ لِلأَثَرِ تَقْلَعُ، إِنَّ لَكَ مَقْنَعًا فِي وَعْظِهَا لَوْ كَفَاكَ الْمَقْنَعُ، يَا مُفَرِّقًا فِي الْبِلَى قُلْ لِمَنْ تَجْمَعُ، إِذَا خَلَوْتَ وَخَلَّيْتَ فَكَيْفَ تَصْنَعُ، أَتُرَى أنت عندنا أو ما تَسْمَعُ، يَا أُطْرُوشَ الشَّقْوَةِ (( ارجع ؛ ارجع ما دمت فِي متسع)).
للَّهِ دَرُّ قَوْمٍ فَهِمُوا مِنَ الْوُجُودِ، وَتَأَمَّلُوا الْمَقْصُودَ وَاشْتَغَلُوا بِطَاعَةِ الْمَعْبُودِ، وَانْتَبَهُوا وَالْخَلْقُ رُقُودُ، يَصُفُّونَ الأَقْدَامَ [يُنَاجُونَ الْمَلِكَ الْعَلامَ] وَيَصُفُّونَ الْهِمَمَ، وَيُصَفُّونَ تَقْصِيرَهُمْ وَيُصْفُونَ الشُّكْرَ لِلنِّعَمِ، تَحَمَّلُوا تَعَبَ السَّهَرِ وَكَابَدُوا مَشَقَّةَ الظَّمَإِ، وَأَخْلَصُوا الْعَمَلَ فَزَادَ عَمَلُهُمْ وَنَمَا، وَجَرَى الْقَدَرُ فَرَضُوا وَلَمْ يَعْتَرِضُوا بِلَمْ وَلَمَّا، فَيَا حُسْنَ مُجْتَهِدِهِمْ يَذْكُرُ الذَّنْبَ فَيَبْكِي نَدَمًا. فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ الْفَوْتِ، الْحِذَارَ الْحِذَارَ فَقَدْ قَرُبَ الْمَوْتُ، الْيَقَظَةَ ؛ الْيَقَظَةَ فَقَدْ أُسْمِعَ الصَّوْتُ، قَبْلَ أَنْ يُضَيِّقَ الْحِسَابُ مَحْبَسَكُمْ {فَلا تَظْلِمُوا فيهن أنفسكم} .