بسم الله الرحمن الرحيم
التماوت في السجود

(بتعليق الشيخ الفاضل زاهد الساحلي حفظه الله)

قال الشيخ الفاضل زاهد الساحلي حفظه الله: ((السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
لقد قرأت رسالة الأخ عز الدين أبوزخار الطرابلسي حول ظاهرة التماوت والكسل في الصلاة فوجدتها رسالة نافعة قد عالج فيها كاتبها تلك الظواهر السلبية حيث ساق أدلة كل ظاهرة سلبية على حدة ودبجها بكلام أهل العلم وفصل فيها بالشرح والتوضيح، فهي جديرة بالنشر والتوزيع والاستفادة منها فجزاه الله خيرا إزاء وأقدم.
كتبه أبو حمزة زاهد الساحلي)) اهـ.

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذا نوع آخر من أنواع التماوت والكسل في الصلاة، وهو ما يقع فيه بعض المصلين من التماوت في السجود.
والتماوت في كيفية السجود في الصلاة على قسمين:

أولا: التماوت في الهوي للسجود.
من صور التماوت والكسل في الهوي للسجود من بعض المصلين ممن يضع يديه قريبا من ركبتيه وهذه المرحلة الأولى، ثم في المرحلة الثانية يضعها في الموضع الصحيح حذو المنكبين أو حذو الأذنيين، وهذا مخالف للسنة.
عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال وهو يصف صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام: (ثم هوى إلى الأرض ساجدا) [1].
وبعض المصلين – هداهم الله – يكتفي بالمرحلة الأولى بوضع راحتيه قريبا من ركبتيه ولا يضع يديه في الموضع الصحيح حذو المنكبين أو حذو الأذنيين.
وفي حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه السابق قال في بعض طرقه: (ووضع كفيه حذو منكبيه).
وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كبر فرفع يديه حين كبر ...).
ثم قال: (وسجد فوضع يديه حذو أذنيه) [2].

وبعض المصلين يزيد هذا السجود تماوتا فلا يمكن كفيه من الأرض ويكتفي بوضع أطراف أصابعه مقبوضة أو شبه مقبوضة بلا ضغط عليها، وهذا أيضا خلاف السنة، والسنة أن يسجد على راحتي الكفين مع شيء من الضغط والاعتماد عليهما.
وفي رواية لحديث وائل بن حجر رضي الله عنه عند مسلم (سجد سجد بين كفيه).
يحرف بعضهم أصابعه عن القبلة مع تفريجها حال السجود، والسنة أن تكون متجهة إلى القبلة مع ضم بعضهن الى بعض.

ثانيا: التماوت في هيئة السجود.
من صور الكسل والتماوت في هيئة السجود بأن يبسط المصلي يديه كما يبسطها الكلب.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ ((الحمد لله رب العالمين)). وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك. وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما. وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعدا، وكان يقول في كل ركعتين التحية. وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى. وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم).
أخرجه مسلم.
قال العلامة عبد الله آل بسام رحمه الله في ((تيسير العلام شرح عمدة الأحكام)) : ((النهي عن مشابهة السبع في افتراشه، وذلك بأن يبسط المصلى ذراعيه في الأرض، فإنه عنوان الكسل والضعف)) اهـ.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)).
متفق عليه.
قال العلامة عبد الله آل بسام رحمه الله في ((تيسير العلام شرح عمدة الأحكام)) : ((أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتدال في السجود، وذلك بأن يكون المصلى على هيئة حسنة في السجود، حيث يجعل كفيه على الأرض، ويرفع ذراعيه ويجافيهما عن جنبيه، لأن هذه الحال، عنوان النشاط، والرغبة المطلوبين في الصلاة، ولأن هذه الهيئة الحسنة تمكن أعضاء السجود كلها من الأخذ بحظها من العبادة.
ونهي عن بسط الذراعين في السجود، لأنه دليل الكسل والملل، وفيه تشبيه أفضل حالات العبادة بحال أخس الحيوانات، وأقذرها، وهو تشبيه بما لا يليق)) اهـ.
وقال رحمه الله أيضا في ((تيسير العلام شرح عمدة الأحكام)) : ((النهي عن بسط الذراعين في السجود، لأنه دليل الكسل، وفيه تشبيه بجلوس الكلب. فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة يدعو إلى تركه في الصلاة)) اهـ.
وقال العلامة الأثيوبي رحمه الله في ((البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج)) : ((في فوائده:
1 - (منها): بيان الأمر بالاعتدال في السجود، وتقدم أن معنى الاعتدال في السجود أن يضع كفيه على الأرض، ويرفع مرفقيه عنها، وعن جنبيه، رفعا بليغا، بحيث يظهر باطن إبطيه إذا لم يكن مستورا.
قال النووي -رحمه الله-: وهذا أدب متفق على استحبابه، فلو تركه كان مسيئا مرتكبا النهي، وهو للتنزيه وصلاته صحيحة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "للتنزيه" فيه نظر لا يخفى، بل الظاهر أنه للتحريم؛ لأنه لا صارف للأمر، فتبصر، والله تعالى أعلم.
2 - (ومنها): أن الهيئة المنهي عنها مشعرة بالتهاون، وقلة الاعتناء بالصلاة.
3 - (ومنها): ما قيل: الحكمة في كراهية هذه الهيئة في الصلاة، واستحباب ضدها أنه إذا جنح كان اعتماده على يديه، فيخف اعتماده حينئذ على وجهه، ولا يتأثر أنفه، ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض، فلا يتشوش هو في الصلاة، وكان أشبه بهيئات الصلاة، واستعمال كل عضو فيها بأدبه، بخلاف ما إذا بسط ذراعيه، وضم عضديه لجنبيه، فإنه يكون اعتماده على وجهه، وحينئذ يتأذى، ويخاف عليه التشويش، وأيضا هذه هي صفات الكسلان المتهاون بحاله، مع ما فيها من التشبه بالسباع والكلاب، كما نهي عن التشبه بها في الإقعاء. انتهى كلام القرطبي -رحمه الله-، بزيادة من كلام القاضي عياض -رحمه الله-، وهو بحث نفيس.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاعتدال في السجود:
قال الإمام الترمذي -رحمه الله- بعد إخراج الحديث: إن العمل على هذا عند أهل العلم يختارون الاعتدال في السجود. انتهى.
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: وهذا يشعر بحكاية الإجماع عليه، وهو قول جمهور العلماء، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وابن عمر -رضي الله عنهم-، وفي ((المسند)) عن شعبة مولى ابن عباس، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إن مولاك إذا سجد وضع رأسه وذراعيه وصدره بالأرض، فقال له ابن عباس: ما يحملك على ما تصنع؟ قال: التواضع، قال: هكذا ربضة الكلب، رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد رؤي بياض إبطيه.
قال: ولكن روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يفرش ذراعيه، قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: كان ابن مسعود يذهب إلى ثلاثة أشياء: إلى التطبيق، وإلى افتراش الذراعين، وإذا كانوا ثلاثة يقوم في وسطهم، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يجافي في السجود، ولم تبلغه هذه الآثار. انتهى)) اهـ.

من صور التماوت الكسل في هيئة السجود أن يضم اليدين إلى جنبيه وهو خلاف ما جاء في السنة من التفريج بينهما.
عن عبد الله بن مالك ابن بحينة رضي الله عنه قال، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه).
متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)) : ((قوله: (فرج بين يديه) أي نحى كل يد عن الجنب الذي يليها، قال القرطبي: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنه يخف بها اعتماده عن وجهه ولا يتأثر أنفه ولا جبهته ولا يتأذى بملاقاة الأرض وقال غيره هو أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان)) اهـ.

ومن صور التماوت التجامع بحيث يأخر الجبهة إلى الصدر ويقدم الركبتين إلى البطن وعكسه زيادة التمدد بحيث يقدم جبهته عن موضعها المناسب، والسنة التوسط وتوزيع أعباء البدن على بقية الأعضاء السبعة بشكل متقارب ولا يحمل ثقل البدن على بعضها.

ومن صور التماوت إلصاق البطن بالفخذ.
عن ميمونة رضي الله عنها، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت).
أخرجه مسلم.
وهذا يدل على أنه كان عليه الصلاة والسلام يرفع بطنه عن فخذيه، وحمل البطن على الأفخاذ من صور التماوت، والسنة المجافاة بينهما.
وفي رواية لحديث أبي حميد الساعدي قال: (وإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه).
أخرجها أبو داود [3].
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في ((نيل الأوطار)) : ((قوله: (غير حامل بطنه) بفتح الراء من (غير)، والمراد أنه لم يجعل شيئا من فخذيه حاملا لبطنه، بل يرفع بطنه عن فخذيه حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت. والحديث يدل على مشروعية التفريج بين الفخذين في السجود ورفع البطن عنهما ولا خلاف في ذلك)) اهـ.
وقال العلامة ابن سيد الناس رحمه الله في ((النفح الشذي شرح جامع الترمذي)) : ((قال الشافعي والأصحاب: يستحب أن يجافى مرفقيه عن جنبيه ويرفع بطنه عن فخذيه)) اهـ.
وإلصاق البطن بفخذين من التكاسل، وترتب عليها نوع آخر من التماوت وهو إلصاق الساقين بالفخذين والسنة تفريج بينهما.

ومن صور الكسل والتماوت في هيئة السجود على ظهر القدمين ولا ينصبهما وأطراف أصابع ملامسة الأرض، والسنة في الأصابع أن ترفع عن الأرض ويوجه أطراف أصابعه نحو القبلة.
وفي حديث أبو حميد الساعدي: (فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة).
أخرجه البخاري.
وضع ظهر القدمين على الأرض في السجود نوع من الكسل، والسنة في القدمين أن تكونا منصوبتين.
عن عائشة، قالت: (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
أخرجه مسلم

كذلك من صور التماوت في هيئة السجود تفريج القدمين، والسنة ضم القدمين مع الضغط والاعتماد على الأصابع مع كونها متجهة ناحية القبلة ولا تحصل السنة بوضع رؤوس أصابع الرجلين على الأرض .

فدع الكسل وأنشط في صلاتك وترك هذا التماوت تفلح وتنجح.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
🏻 كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الجمعة 6 ذي الحجة سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 16 يوليو سنة 2021 ف

[1] أخرجه الترمذي في ((الجامع)) وأبو داود في ((السنن)) والنسائي في ((الكبرى)) و ((الصغرى)) وابن ماجه في ((السنن)) وابن خزيمة في ((صحيحه)) وابن حبان في ((صحيحه)) والبزار في ((المسند)) والبغوي في ((شرح السنة)) وابن الجارود في ((المنتقى)) والبيهقي في ((الكبرى)) و ((الصغرى)) و ((معرفة السنن والآثار)) وصححه الألباني.
[2] أخرجه عبد الرزاق في ((المصنف)) ومن طريقه أحمد في ((المسند)) والطبراني في ((الكبير)).
قال محققو المسند: ((إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير حجر فقد أخرج له البخاري في ((القراءة)) وأبو داود والترمذي، وغير صحابيه فمن رجال مسلم، وأخرج له البخاري في ((القراءة)) و ((رفع اليدين)) اهـ.
[3] قال العلامة الألباني رحمه الله في ((إرواء الغليل)) : ((وهذا إسناد ضعيف، علته عتبة هذا وهو ابن أبى حكيم الهمدانى قال في ((التقريب)): ((صدوق يخطئ كثيرا)).
ثم وجدت الحافظ ابن حجر قد ذكر في ((الفتح)) (2/254) أن رواية عتبة أخرجها ابن حبان، وأن هذا القدر منها ورد في رواية عيسى يعنى ابن عبد الله بن مالك، وكان قد عزى هذه الرواية قبل صفحة لأبى داود وغيره، وهى عند أبى داود (733) لكن ليس فيها القدر الذى رواه عتبة. فالظاهر إنها عند غير أبى داود.
فإذا ثبت ذلك فالحديث حسن على أقل الأحوال، والله أعلم)) اهـ.