بسم الله الرحمن الرحيم

سلطان المسجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:
فقد أمرنا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بطاعة ولاة الأمر فينا، وكل ولي أمر بحسبه، فكما أن رأس الدولة - الملك أو الأمير أو الحاكم أو السلطان أو رئيس الدولة على اختلاف المسميات – أمرنا بطاعته في المعروف، كذلك أمرنا بالطاعة في المعروف لمن لهم علينا ولاية دون ولاية رأس الدولة، فالأب رأس البيت وزعيمه أمر بطاعته في المعروف، وإمام المسجد سلطان المسجد وهو رأس السلطة في المسجد وهو المسؤول على تطبيق الأوامر الصادرة من الجهة المختصة – وزارة الأوقاف – وإمام المسجد هو السلطة العليا داخل المسجد وواجب التقيد بما يصدره من رأي أو توجيه، وطاعة سلطان المسجد أيضًا تكون في المعروف، والافتيات عليه والضرب بكلامه الذي يصب في مصلحة المسجد والمصلين فيه عرض الحائط والتدخل في صلاحياته يوقع في الإثم.
وإمام المسجد له نواب ووزراء حسب اللوائح والأنظمة الصادرة عن وزارة الأوقاف، فعندنا في ليبيا لجنة المسجد تتكون من إمام المسجد والخطيب ومحفظ القرآن وقيم المسجد، وهذه اللجنة هي الوحيدة التي تنظم أعمال المسجد الصادرة من وزارة الأوقاف وكذلك ما تراه هذه اللجنة من أعمال تصب في صالح المسجد والمصلين فيه.
وما نراه من حب الزعامة من بعض المصلين وحب السيطرة على المسجد والتدخل في أعمال اللجنة المكلفة بالمسجد التي أمر بالتقيد بتوجهاتها ما هذه الزعامة إلا سفه وطيش وجهل تجر للوقوع في الإثم والذنب.
بل قد يصل الحال إلى أن بعض المارة بالمسجد يتدخل في شؤون المسجد.
فمواعيد فتح المسجد وإغلاقه والوقت المحدد بين الأذان والإقامة ونظافة المسجد وفتح النوافذ والمكيفات وترتيب الدروس والمحاضرات وغير ذلك من صلاحيات لجنة المسجد، والتعدي على هذه الصلاحيات يعتبر افتياتًا على سلطان المسجد الذي طاعته واجبة في المعروف.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم}. [النساء: 59].
وبعض المصلين يتدخل حتى في إمامة الصلاة، فما أن يتأخر الإمام دقيقتين أو ثلاث إلا وتجده ينتصب قائمًا قائلًا تأخر الإمام أقم الصلاة تقديم يافلان وهذا خلاف السنة.
عن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)).
أخرجه مسلم.
قال الإمام ابن باز رحمه الله في ((فتاوى نور على الدرب)): ((يحذر من التأخير الذي يضرهم أو التقديم الذي يضرهم، يكون مراعيا للأوقات التي حددت له، والتقدم اليسير أو التأخر خمس دقائق أو كذا لا يضر، المهم أنه لا يتأخر شيئا يضرهم، أو يتقدم شيئا يخالف التعليمات، بل يكون متحريًا للتعليمات، وإذا تأخر قليلا عن التعليمات خمس دقائق أو نحوه كل هذا لا حرج فيه، يراعي المصلحة في ذلك)) اهـ.
وبعض المصلين – هداهم الله - يقف ما أن تشير الساعة – تسمى ساعة والأذان – لانتهاء الوقت المخصص بين الأذان والإقامة، وهذا أيضًا مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام.
عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني)).
متفق عليه.
قال الإمام ابن بطال رحمه الله في ((شرح صحيح البخاري)): ((فائدة هذا الحديث: أن تكون الإقامة متصلة بالصلاة ، وألا يقام لها إلا بحضرة الإمام ، وأمرهم ، عليه السلام ، ألا يطيعوا المؤذن في ذلك خشية التراخي والمهلة بين الإقامة والدخول في الصلاة ، فينتظرونه قيامًا ؛ لأن شأن الدخول في الصلاة ، اتصاله بإقامة من غير فصل ، فلذلك نهانا عن القيام قبل خروجه ، والله أعلم .
ثم قال:
واختلف في قيام المأمومين إلى الصلاة إذا كان الإمام في المسجد ، فروى عن سالم ، وأبى قلابة ، والزهرى ، وعطاء أنهم كانوا يقومون في أول الإقامة ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة ، ومحمد : يقومون في الصف إذا قال المؤذن : حي على الفلاح ، وإذا قال : قد قامت الصلاة كبر الإمام ، وهو فعل أصحاب عبد الله ، والنخعى ، وقال أبو يوسف ، ومالك ، والشافعى : لا يكبر الإمام حتى يفرغ المؤذن من الإقامة ، وهو قول الحسن البصرى ، وأحمد ، وإسحاق . قال ابن المنذر : وعلى هذا جلّ الأئمة : مالك ، والشافعى ، والعمل في أمصار المسلمين ، يعنى في تكبير الإمام بعد تمام الإقامة)) اهـ.
ومن هنا يتبين أن الوقوف حين إشارة الساعة قبل وصول الإمام تقدم بين يديه وخلاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذه النصوص النبوية للتنظيم وقطع الخلاف ولعدم التقدم على سلطان المسجد واللجنة القائمة عليه.
ونصوص متابعة إمام المسجد في الصلاة تعلمنا أن نكون تبعا للإمام ولا نتقدم عليه.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه.
فقال: ((أيها الناس إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالإنصراف)).
أخرجه مسلم.
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك، فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع، فاركعوا وإذا رفع، فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا)).
متفق عليه.
ومن فوائد هذين الحديثين يجب أن تكون أقوال المأمومين وأفعالهم مترتبة على أقوال وأفعال الإمام – سلطان المسجد -.
وفي هذين الحديثين إشارة لأن نكون تبعًا لسلطان المسجد خارج الصلاة، إذا كنا تبعًا له في أعظم شعائر الإسلام الظاهر، فمن باب أولى أن نكون له تبعًا فيما هو دون الصلاة.
قال الإمام ابن باز رحمه الله كما في ((مجموع فتاواه)): ((ليس لأحد أن يتقدم على الإمام الراتب، إمام المسجد وهو صاحب السلطان، وهو أحق بإمامة المسجد، وليس له أن يتقدم عليه، وليس للناس أن يقدموه عليه، بل إمام المسجد أحق بذلك إلا إذا قدمه الإمام، فلا بأس إذا قدمه الإمام، وقال صل بالناس فلا بأس أن يتقدم وإن ترك ذلك، ترك الإمام يصلي فقد يكون هذا أحسن، إذا كان يظن أن الإمام إنما قاله حياء)) اهـ.
ومن المسائل التي يحسن التنبيه عليها أنه لا يتقدم على إمام المسجد في صلاة الجنازة.
قال الإمام ابن باز رحمه الله كما في ((مجموع فتاواه)): ((إمام المسجد أولى بالصلاة على الجنازة من الشخص الموصى له لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه))، وإمام المسجد هو صاحب السلطان في مسجده)) اهـ.
وسئل الإمام ابن عثيمين رحمه الله كما في ((مجموع فتاواه ورسائله)): ((من أولى الناس بالصلاة على الميت الإمام أو الولي؟
فأجاب فضيلته بقوله: إن صُلِّي عليه في المسجد فالإمام أولى (أعني إمام المسجد) لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَؤُمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه"، وإمام المسجد سلطان في مسجده، وإن صلِّي عليه في مكان غير المسجد فأولى الناس به وصيّه، فإن لم يكن له وصي فأقرب الناس إليه، وإن صلى أحد الحاضرين فلا بأس)) اهـ.
بل ذهب بعض أهل العلم لمتابعة إمام المسجد حتى في المسائل المرجوحة.
سئل الإمام ابن باز رحمه الله في ((فتاوى نور على الدرب)): ((يسأل السائل ويقول: إمام المسجد الذي يصلي بنا يقنت في معظم الأحيان في صلات الصبح، ونادرا ما يتركه، علما بأننا نصلي خلفه، هل للمأموم أن يرفع يديه خلف هذا ؟
الجواب: إذا قنت فلا بأس أن تقنت معه، لكن الأفضل أن يدع ذلك، السنة ألا يقنت للفجر إلا في الوتر فقط إلا في النوازل، إذا نزلت نازلة بالمسلمين؛ حرب، عدو، يدعو في صلاته بعد الركوع، يرفع يديه ويدعو، يقنت في النوازل كما كان النبي يفعل في الصبح وغيرها، أما اعتياد القنوت في الصبح دائما، فهذا خلاف السنة، والصواب تركه، لكن لو صليت مع إمام يقنت، فلا بأس أن تؤمن على دعائه، وأن ترفع يديك)) اهـ.
وهنا يحسن التنبيه على أنه ربما تسلط إمام المسجد ومن معه من لجنة المسجد على المصلين، وربما وقعوا في البدع وفيما يخالف الشرع، فعلى المصلين تقديم النصيحة بالتي هي أحسن للتي هي أقوم، فإن لم يستجب الإمام ومن معه، فعلى المصلين أن يرفعوا أمرهم لفرع الوزارة التابع له، ولا يواجهوا المخالفة بالمخالفة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم، من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به)).
أخرجه مسلم.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
مصراتة ليبيا: يوم الأثنين 23 ذي الحجة سنة 1442 هـ
الموافق لـ: 2 أغسطس سنة 2021 ف