بسم الله الرحمن الرحيم
الرحلة في طلب الأدب

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فقد جاء الحث والترغيب في الرحلة لتفقه في الدين.
قال الله تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
ومن التفقه في الدين تعلم الأدب والهدي والدل والسمت، فالأدب قرين العلم.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في ((غريب الحديث)) : ((هَدْيه ودلّه فَإِن أَحدهمَا قريب الْمَعْنى من الآخر وهما من السكينَة وَالْوَقار فِي الْهَيْئَة والمنظر وَالشَّمَائِل وَغير ذَلِك.
وقال رحمه الله: فالسمت يكون فِي مَعْنيين: أَحدهمَا حسن الْهَيْئَة والمنظر فِي مَذْهَب الدَّين وَلَيْسَ من الْجمال والزينة وَلَكِن يكون لَهُ هَيْئَة أهل الْخَيْر ومنظرهم وأما الوجه الآخر فَإِن السَّمت الطَّرِيق يُقَال: الزم هَذَا السَّمْتَ كِلَاهُمَا لَهُ معنى جيد يكون أَن يلْزم طَريقَة أهل الْإِسْلَام وَيكون أَن يكون لَهُ هَيْئَة أهل الْإِسْلَام)) اهـ.
لهذا كان عناية السلف الصالح بالرحلة في طلب الأدب وتعلم الهدي الطيب والسمت العالي، وما ذاك إلا لإدراكهم أهمية الأدب ، ومكانته من الدين والعلم .

وقد أولى السلف الكرام الأدب اهتمامًا عظيمًا حتى رحلوا في طلبه، وقد سطر لنا التاريخ على صفحاته بمداد من ذهب من سيرة سلفنا الصالح في تجشم الأسفار وقطع الليالي وقفار لنيل الآداب الحسنة والأخلاق الرفيعة، وفي هذه المقالة أذكر شيء من نفحات تلك الرحلات الزكية ما يشنف الآذان ويطرب لفرحها الجنان وتعلوا بها همة الطلاب في طلب الآداب.

كان أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرحلون إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فينظرون إلى سمته وهديه ودلّه فيتشبّهون به.
ذكره أبو عبيدة القاسم بن سلام في ((غريب الحديث)).
وأن عبد العزيز بن مروان بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، وكان يلزمه الصلوات، فأبطأ يوما عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟
قال: كانت مرجلتي تسكن شعري.
فقال: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة.
وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولا إليه، فما كلمه حتى حلق شعره.
ذكره الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 116).
كان أبوه عبد العزيز بن مروان نائبًا لأخيه عبد الملك بن مروان على مُلك مصر ومن خيار الأمراء كَرَمًا وشجاعةً ودِينًا.
وقال الحسن البصري رحمه الله: (إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين).
ذكره ابن جماعة في ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 31).
وقال مالك: (وبعث ابن سيرين رجلا فنظر كيف هدي القاسم وحاله).
أخرجه الخطيب البغدادي في ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)).
وقال ابن وهب: (وحدثني مالك أن محمد بن سيرين قد ثقل وتخلف عن الحج، فكان يأمر من يحج أن ينظر إلى هدي القاسم ولبوسه وناحيته فيبلغوه ذلك فيقتدي بالقاسم قال ابن وهب: وحدثني مالك أن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان لي من الأمر شيء لوليت القاسم الخلافة).
أخرجه الفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)).
وقال ابن وهب: سمعت مالكا، يقول: إن حقا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية وأن يكون متبعا لأثر من مضى قبله.
أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) والبيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) والخطيب البغدادي في ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)).
وكان مالك يعجبه سمت يحيى [بن يحيى الليثي] وعقله. روي عنه إنه كان عنده يوماً جالساً في جملة أصحاب مالك، إذ قال قائل: قد حضر الفيل.
فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه. فقال له مالك لِمَ لم تخرج فتراه، إذ ليس بأرض الأندلس. فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي، لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، لا إلى أن أنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه العاقل.
ذكره القاضي عياض في ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك)) (3/ 382-383).
وعن محمد بن عيسى قال: قدم ابن المبارك قدمة فقيل له: إلى أين تريد؟ قال: إلى البصرة. قيل له: من بقي؟ قال: ابن عون آخذ من أخلاقه، آخذ من آدابه.
ذكره ابن الجوزي في ((صفة الصفوة)) (2/ 184).
وقال ابن وهب: ما نقلنا من أدب مالك، أكثر مما تعلمنا من علمه.
ذكره الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (8/ 113).
وقال عبد الله بن المبارك إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلا له أدب القس أتمنى لقاءه وأتأسف على فوته.
ذكره ابن مفلح في ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) (3/ 552).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: كنا نأتي الرجل ما نريد علمه ليس إلا أن نتعلم من هديه وسمته ودله، وكان علي بن المديني وغير واحد يحضرون عند يحيى بن سعيد القطان ما يريدون أن يسمعوا شيئا إلا ينظروا إلى هديه وسمته.
ذكره ابن مفلح في ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) (2/7 149).
وحكى أبو فهر المصري قال: كان أبو بكر بن إسحاق إذا ذكر عقل أبي علي الثقفي يقول ذلك عقل مأخوذ من الصحابة والتابعين وذلك أن أبا علي أقام بسمرقند منذ أربع سنين يأخذ تلك الشمائل من محمد بن نصر المروزي وأخذها ابن نصر عن يحيى بن يحيى، فلم يكن بخراسان أعقل منه وأخذها يحيى عن مالك أقام عليه لأخذها سنة بعد أ، فرغ من سماعه.
فقيل له في ذلك فقال إنما أقمت مستفيداً لشمائله فإنها شمائل الصحابة والتابعين، وكان مالك لذلك يسمى العاقل واتفقوا على أنه أعقل أهل زمانه.
ذكره القاضي عياض في ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك)) (1/ 128).
وقال ابن الجوزي رحمه الله في ((صيد الخاطر)): (قد كان جماعة من السّلف يقصدون العبد الصّالح للنّظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه، وذلك أنّ ثمرة علمه هديه وسمته).
وقد قيل: طلب الأدب أولى من طلب الذهب.
وأنشدني عبد الله بن محمد بن عبيد [1]، في مسعر بن كدام:
من كان ملتمسا جليسا صالحا *** فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها *** أهل العفاف وعلية الأقوام
أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)).
وعن الزهري قال: (كنا نأتي العالم، فما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه).
أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)).

أما من رحل للطلب ورجع وهو يحمل الكبر والتعالي واحتقر إخوانه ومن حوله، ثم جلس على هرم حلق الذكر ومجالس العلم، وقد حزب صبية من حوله لا يخرجون عن أمره، وبثهم للتحريش وتصيد الأخطاء لإسقاط من له جهود في الدعوة، لتخلوا له الساحة ومن تم يحظى بالتبجيل والتكبير والإكرام.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في ((الجامع لأخلاق الراوي)) : ((وقد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويعدون أنفسهم من أهله المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يدعون، وأقلهم معرفة بما إليه ينتسبون. يرى الواحد منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، أنه صاحب حديث على الإطلاق، ولما يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقْتهُ مشقه الحفظ لصنوفه وأبوابه
ثم قال:
وهم مع قلة كَتبِهم له وعدم معرفتهم به ، أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيها وعجبا ، لا يراعون لشيخ حرمة ، ولا يوجبون لطالب ذمة ، يخرقون - يجهلون - بالراوين ويعنفون على المتعلمين خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه ، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه)) اهـ.
وأمثال هؤلاء أحق بالتعلم ممن يعلم، ويصدق فيه قول الدؤلي:
يأيها الرجلُ المعلمُ غيرَهُ *** هلا لنفسِكَ كان ذا التعليمُ
تصفُ الدواء لذي السقامِ وذي الضنى *** كيما يصحَّ به وأنتَ سقيمُ
ونراكَ تصلحُ بالرشادِ عقولَنا *** أبداً وأنتَ من الرشادِ عديمُ
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثلهُ *** عارٌ عليكَ إِذا فعْلتَ عظيمُ
وابدأ بنفسِكَ فانَهها عن غَيِّها *** فإِذا انتهتْ منه فأنتَ حكيمُ
فهناكَ يقبلُ ما وعظْتَ ويفتدى *** بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
فحلية طالب العلم الأدب الرفيع ورأس ماله الخلق الجميل.
لا تحسبنَّ العلم ينفع وحده *** ما لم يُتَوَّج ربُّـــه بخــــلاق
وصدق من قال:
ليس اليتيم الذي قد مات والده *** إن اليتيم يتيم العلم والأدب
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
🏻 كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة السبت 24 ربيع الأول سنة 1443 هـ
الموافق لـ: 30 أكتوبر سنة 2021 ف

[1] وهذان البيتان نسبتا لعبد الله بن المبارك، ذكرهما الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 170) وقال: وهذان البيتان أظنهما لابن المبارك وقال في ((تاريخ الإسلام)) (4/ 216) : ولبعضهم، وفي ((تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال)) (8/ 423) وقال: ولابن المبارك ولغيره؛ وابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (10/ 115) جزم بنسبتها لابن المبارك.