فصل في البدعة وأنواعها

باب في التحذير من البدع

س )- ما رأيكم فيمن يقول ان التحذير من بعض البدع يفرق بين المسلمين؟
أخرج الطبراني في " مسند الشاميين " ( ص 136 ) من طريقين , و في " المعجم الكبير " ( 18 / 248 / 623 ) من أحدهما عن أرطاة بن المنذر عن المهاصر بن حبيب عن العرباض بن سارية قال :
وعظنا رسول الله صلـى الله عليه وسلم بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون , و وجلت منها القلوب , فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله ! كأنها موعظة مودع , فقال : (أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و إن كان عبدا حبشيا , فإنه من يعش منكم بعدي يرى اختلافا كثيرا , فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي , عضوا عليها بالنواجذ [و إياكم و محدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة] ").
و الحديث من الأحاديث الهامة التي تحض المسلمين على التمسك بالسنة و سنة الخلفاء الراشدين الأربعة و من سار سيرتهم , و النهي عن كل بدعة , و أنها ضلالة , و إن رآها الناس حسنة , كما صح عن ابن عمر رضـي الله عنه . و الأحاديث في النهي عن ذلك كثيرة معروفة , و مع ذلك فقد انصرف عنها جماهير المسلمين اليوم , لا فرق في ذلك بين العامة و الخاصة , اللهم إلا القليل منهم , بل إن الكثيرين منهم ليعدون البحث في ذلك من توافه الأمور , و أن الخوض في تمييز السنة عن البدعة , يثير الفتنة , و يفرق الكلمة , و ينصحون بترك ذلك كله , و ترك المناصحة في كل ما هو مختلف فيه ناسين أو متناسين أن من المختلف فيه بين أهل السنة و أهل البدعة كلمة التوحيد , فهم لا يفهمون منها وجوب توحيد الله في العبادة , و أنه لا يجوز التوجه إلى غيره تعالى بشيء منها , كالاستغاثة و الاستعانة بالموتى من الأولياء و الصالحين *( و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )* . انتهى كلام الالباني من السلسلة الصحيحة الحديث رقم2735.

س)- ما المقصود بمَبدأُ (التصفِيَةِ والتربِيَةِ) الذي دائما ما تدعو إليه وَتدندن حوله في كثير من كتبك ومجالسك؟
أرَدتُ بالأوَّلِ مِنهُما أموراً :
الأولُ : تَصفيةُ العَقيدةِ الإسلاميَّةِ مِمَّا هو غَريبٌ عَنها، كالشِركِ ، وَجَحدِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ وتأويلِها ، وَرَدِّ الأحاديثِ الصَّحيحةِ لِتَعلُّقِها بالعَقيدَةِ وَنَحوِها .
الثاني : تَصفيةُ الفِقهِ الإسلاميِّ من الإجتهاداتِ الخاطِئةِ المخالِفةِ للكِتابِ والسُّنةِ .
الثالث : تَصفيةُ كُتُبِ التَّفسيرِ والفِقهِ والرَّقائِقِ من الأحاديثِ الضعيفةِ والموضوعةِ .
وأمَّا الواجِبُ الآخَرُ ؛ فأُريدَ بِهِ تربيَةُ الجيلِ الناشيء على هذا الإسلامِ المُصفَّى مِن كُلِّ ما ذَكرنا تَربيةً إسلاميةً صَحيحةً مُنذُ نُعومَةِ أظفارِهِ دونَ أيِّ تأثُّرٍ بالتربيَةِ الغربيَّةِ الكافِرةِ) انتهى كلام الالباني من السلسلة الصحيحة المقدمة.

س)- هل يوجد في الشرع تصنيف للبدعة بأنها واجبة أو حسنة؟
لطالما سمعتم ممن يذهبون إلى تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، أن هناك بدعة واجبة، ويضربون على ذلك مثلاً بجمع القرآن الذي جمعه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، يقولون: هذه بدعة في الإسلام، ولكنها واجبة، نحن نقول: تسمية هذا الأمر العظيم بالبدعة، التي إنما أطلقت للذم، كما ذكرنا في الحديث السابق (كل بدعة ضلالة) أعتقد أنه من أسوأ الاستعمالات التي دخلت في أذهان بعض العلماء. دروس ومحاضرات مفرغة من تسجيلات الشبكة الإسلامية .

س)- ما حكم ما يسمى (الموازنة) في نقد الرجال؟
ما يطرح اليوم في ساحة المناقشات بين كثير من الأفراد حول ما يسمى أو حول هذه البدعة الجديدة المسماة (الموازنة) في نقد الرجال.
أنا أقول : النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد ترجمة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن وما يقبح بما يتعلق بالمترجم من خيره ومن شره ، أما إذا كان المقصود بترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم عندهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال ؛ بل قد يكون له سمعة حسنة وجيدة ومقبولة عند العامة ، ولكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو على خلق سيئ ، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئاً من ذلك عن هذا الرجل .. حين ذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم بـ (الموازنة) ، ذلك لأن المقصود حين ذاك النصيحة وليس هو الترجمة الوافية الكاملة ، ومن درس السنة والسيرة النبوية لا يشك ببطلان إطلاق هذا المبدأ المحدث اليوم وهو (الموازنة) لأننا نجد في عشرات النصوص من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر السيئة المتعلقة بالشخص للمناسبة التي تستلزم النصيحة ولا تستلزم تقديم ترجمة كاملة للشخص الذي يراد نصح الناس منه ، والأحاديث في ذلك أكثر من أن تستحضر في هذه العجالة. انتهى كلام الالباني من شريط "من حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر.

س)- ما معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء)إلى آخر الحديث؟
ان جماهير العلماء اليوم وقبل اليوم ببضع قرون، يفسرون هذا الحديث تفسيراً على خلاف ما يدل عليه سبب وروده، فيقولون: معنى الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وعلى ذلك يضطرون إلى أن يخصصوا عموم قوله عليه السلام في الحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وكذلك يفعلون بالحديث الذي هو أوضح في الدلالة على عموم وشمول الذم لكل بدعة، ألا وهو قوله صلـى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). فحينما وقعوا في تأويل الحديث السابق: (من سن في الإسلام سنة حسنة) بمن ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، اضطروا توفيقاً بين ذاك الحديث وهذا المفهوم للحديث، ولا أقول بين ذاك الحديث وهذا الحديث؛ لأنه في الحقيقة لا تنافر ولا تنافي بينهما، وإنما جاء التنافر والتنافي بين ذلك الحديث العام الذي لا إشكال فيه: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)، وبين الفهم الخاص لقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة)، أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، فقالوا: إذاً قوله كل بدعة ضلالة من العام المخصوص، وحينئذٍ يكون معنى الحديث: ليس كل بدعة ضلالة. فما هو معنى الحديث الذي تأولوه بالبدعة؟ الحقيقة أننا نستطيع أن نفهم الحديث فهماً لا يتنافى مع العموم المذكور (كل بدعة ضلالة) من نفس المتن أولاً، ثم نبتغي دعماً لهذا الفهم من سبب وروده ثانياً. ذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما قال في الحديث: (من سن في الإسلام سنة) وصفها في الطرف الأول من الحديث بحسنة، وفي الطرف الثاني الذي استغنيت عن ذكره لشهرته بقوله: (سنة سيئة) فإذاً هذا الحديث يدلنا على أن في الإسلام سنة حسنة، وفي الإسلام سنة سيئة. دروس ومحاضرات مفرغة من تسجيلات الشبكة الإسلامية .

س)- ما هو سبيل معرفة السنة الحسنة والسنة السيئة؟ أهو العقل والرأي المحض أم هو الشرع؟

ما أظن أن قائلاً يقول: هو العقل والرأي، وإلا ألحق نفسه -ولا أقول نلحقه- بالمعتزلة الذين يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين! هؤلاء المعتزلة هم الذين عرفوا منذ أن ذروا قرنهم وأشاعوا فتنتهم بقولهم: إن العقل هو الحكم، فما استحسنه العقل فهو الحسن، وما استقبحه العقل فهو القبيح. أما رد أهل السنة والجماعة بحق فإنما هو على النقيض من ذلك، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع. إذاً حينما قال عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: شرعاً، (ومن سن في الإسلام سنة سيئة) أي: شرعاً، فالشرع هو الحكم في أن نعرف أن هذه سنة حسنة، وهذه سنة سيئة، إذا كان الأمر كذلك حينئذٍ لم يبق مجال للقول بأن معنى الحديث: من سن في الإسلام سنة حسنة، أن المعنى: بدعة حسنة، فنقول: هذه بدعة لكنها حسنة، ما يدريك أنها حسنة؟ إن جئت بالدليل الشرعي، فعلى الرأس والعين، والتحسين ليس منك وإنما من الشرع، كذلك إن جئت بالدليل الشرعي على سوء تلك البدعة؛ فالشرع هو الذي حكم بأنها سيئة وليس هو الرأي. فهذا الحديث إذاً من نفس كلمة (حسنة وسيئة) نأخذ أنه لا يجوز تفسير الحديث بالبدعة الحسنة، والبدعة السيئة، التي مرجعها الرأي والعقل، ثم ينعدم هذا الفهم الصحيح لهذا المتن الصحيح، بالعودة إلى سبب ورود الحديث، وهنا الشاهد. الحديث جاء في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد وغيرهما من دواوين السنة، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجاءه أعراب مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تمعر وجهه -أي تغيرت ملامح وجهه عليه الصلاة والسلام، حزناً وأسفاً على فقرهم الذي دل عليه ظاهر أمرهم- فخطب في الصحابة وذكر قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون:10] ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدق رجل بدرهمه.. بديناره.. بصاع بره.. بصاع شعيره) (تصدق): هو فعل ماض، لكن هذا من بلاغة اللغة العربية، أي: ليتصدق، فأقام الفعل الماضي مقام فعل الأمر، إشارة إلى أنه ينبغي أن يقع ويصبح ماضياً. ليتصدق أحدكم بدرهمه.. بديناره.. بصاع بره.. بصاع شعيره، وبعد أن انتهى عليه الصلاة والسلام من خطبته قام رجلٌ ليعود وقد حمل بطرف ثوبه ما تيسر له من الصدقة، من طعام، أو دراهم، أو دنانير، ووضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما رأى أصحابه الآخرون ما فعل صاحبهم، قام كل منهم ليعودوا أيضاًَ بما تيسر لهم من الصدقة، قال جرير : (فاجتمع أمام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الصدقة كأمثال الجبال، فلما رأى ذلك رسول الله صلـى الله عليه وسلم تنور وجهه كأنه مذهبة) قالوا في تفسير هذا التشبيه، (كأنه مذهبة): أي: كالفضة المطلية بالذهب. في أول الأمر لما رآهم عليه الصلاة والسلام قال: تمعر وجهه أسفاً وحزناً لكن لما استجاب أصحابه لموعظته عليه الصلاة والسلام تنور وجه كأنه مذهبة، وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة...) إلى آخر الحديث. الآن نقول: لا يصح بوجه من الوجوه أن يفسر الحديث بالتفسير الأول: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؛ لأننا سنقول: أين البدعة التي وقعت في هذه الحادثة، وقال عليه الصلاة والسلام بمناسبتها من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؟ لا نرى هناك شيئاً من هذا القبيل إطلاقاً، بل نجد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطبهم آمراً لهم بالصدقة، مذكراً لهم بآية في القرآن الكريم، كانت نزلت عليه مسبقاً، وهي: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [المنافقون:10] وأكد ذلك ببعض حديث: (تصدق رجل بدرهمه.. بديناره.. بصاع بره.. بصاع شعيره) إذاً ليس هناك إلا الصدقة، والصدقة عبادة، تارة تكون فريضة، وتارة تكون نافلة. فإذاً: لا يجوز أن نقول: معنى الحديث من ابتدع؛ لأنه لم يقع هنا بدعة، ولكن لو رجعنا إلى لفظة (سنَّ) في اللغة العربية، للمسنا منها شيئاً جديداً في هذه الحادثة، لكن ليست هي البدعة، الشيء الجديد هو قيام هذا الرجل أول كل شيء وانطلاقه إلى داره ليعود بما تيسر له من صدقة، فأصحابه الآخرون فعلوا مثل فعله، فسن لهم سنة حسنة، لكن هو ما سن بدعة، سن لهم صدقة، والصدقة كانت مأمور بها من قبل، كما ذكرت آنفاً. قد أكون أطلت قليلاً أو كثيراً، ولكن أرى أن هذا البيان لا بد منه لكل طالب علم؛ ليفهم النصوص الشرعية فهماً صحيحاً حتى لا يضرب بعضها ببعض. فقوله عليه الصلاة والسلام الذي أخذ بظاهره بعض العلماء فأباحوا أخذ الأجر على القرآن مطلقاً، لا يصح فهمه على هذا الإطلاق، بل ينبغي أن نربطه بالسبب وهو: الرقية، فلا يكون في ذلك أخذ الأجر المنصوص في الحديث لمجرد تلاوة قرآن أو تعليمه، بل للرقية بالقرآن الكريم، ويؤكد هذا أخيراً -ولعلي أكتفي بهذا الذي سأذكره- أن رجلاً علَّم صاحباً له في عهد النبي صلـى الله عليه وسلم القرآن، فأهدى إليه قوساً ولكنه توقف حتى يسأل النبي. عوداً إلى حديث أبي سعيد، لماذا توقف أبو سعيد من الاستفادة من الأجر الذي أخذه من أمير القبيلة، وهذا الرجل الثاني لما أهديت له القوس توقف حتى سأل الرسول عليه السلام، لماذا توقف هذا وذاك؟ لأنهم كانوا فقهاء حقاً، وكانوا يفهمون مثل الآية السابقة: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5] فأبو سعيد قرأ القرآن ولو أنها مقرونة بالرقية، وهذا الآخر علم صاحبه القرآن، فخشي أن يكون ذلك منافياً للإخلاص في عبادة الله عز وجل. فكان من ذلك أن أبا سعيد تورع عن الانتفاع بالأجر الذي أخذه مقابل الرقية، حتى قال له عليه السلام ما سمعتم، أما هذا الرجل الثاني الذي علم صاحبه القرآن، لما جاء إلى النبي صلـى الله عليه وسلم وذكر له بأنه علمه فأهدى إليه قوساً، قال: (إن أخذتها طوقت بها ناراً يوم القيامة) فإذاً أخذ الأجرة على تعليم القرآن بهذا الحديث والحديث الآخر: (يتعجلونه ولا يتأجلونه) لا يجوز إطلاقاً. دروس ومحاضرات مفرغة من تسجيلات الشبكة الإسلامية .

س)- هل يوجد في الإسلام بدعة حسنة أم لا؟
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جملة جامعة لأصل الإسلام، وهذه الجملة مستنبطة أصالة من الشهادة التي هي الركن الأول من أركان الإسلام، حيث قال ابن تيمية رحمه الله: (الإسلام أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً) هذا قسم، والقسم الثاني: (ألا نعبده إلا بما شرع لنا). فالإسلام اجتمع في هاتين الكلمتين: أن نعبده تبارك وتعالى وحده لا شريك له، وألا نعبده إلا بما شرع، وهذا من تمام التوحيد، وهو اصطلاح علمي دقيق لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإن المشهور: أن التوحيد إنما هو ذو أقسام ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية أو العبادة، وتوحيد الصفات، فجاء ابن تيمية بهذا التعبير الوجيز: ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع. ألا نعبد الله إلا بما شرع.. وهذا ينطوي تحته بحث علمي خطير جداً، طالما اختلف فيه المتأخرون، ولم ينجُ من الاختلاف الممقوت منهم إلا الأقلون، أعني بذلك: اختلافهم في أنه هل يوجد في الإسلام بدعة حسنة أم لا؟ فجماهير المتأخرين -مع الأسف الشديد- يذهبون قولاً، وأصلاً، واعتقاداً، إلى أن هناك في الإسلام بدعة حسنة، ويقابلهم من أشرنا إليهم، ألا وهم الأقلون، الذين يقولون بما قال به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الكثيرة، والتي منها ما سمعتموه في مطلع كلمتنا هذه الليلة، وهي التي تتردد دائماً في خطبة الحاجة، التي كان رسول الله صلـى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، ونفتتح عادة خطبنا وكلماتنا بها، ثم نتبعها بما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتبع خطبة الحاجة في خطب الجمعة، حيث كان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبة الجمعة: (أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فقد كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكرر هذه الجملة الجامعة: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)؛ لكي تتركز في الأذهان. فالأقلون قد اهتدوا بهدي الله تبارك وتعالى، وتمسكوا بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام على عمومه وشموله، وقالوا كما قال هو عليه الصلاة والسلام: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). لكن الشيء المهم الذي ينبغي أن نلاحظه، هو: أنه يوجد في هؤلاء الأقلين -على سبيل الحكاية- من يقع في الابتداع في الدين؛ وما ذاك إلا لأنه لم يضبط قاعدة البدعة، فهو يقول في نفسه: كل بدعة ضلالة، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من الفريق القليل الذين اهتدوا بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، التي أطلقت الضلالة على كل بدعة، ولكن لكيلا يقع هؤلاء الأقلون في البدعة التي يفرون منها بتبنيهم القاعدة العامة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يجب أن يتقنوا بحث البدعة؛ ليميزوا بين ما يدخل في عموم النص، فلا يعملون به؛ لأن قوله: (كل بدعة ضلالة) شمله، وإن كان هذا الذي دخل في هذا النص العام له أصل في الشريعة. دروس ومحاضرات مفرغة من تسجيلات الشبكة الإسلامية .

س)- ماالفرق بين المشروع والمحدث غير المشروع؟
يشتبه الأمر على كثير من الناس حينما يرون بعض النصوص الحاضَّة على بعض الأعمال الصالحة، فيأخذون بعمومها، ولا يلاحظون أن بعض هذا العموم يشمله ذلك النص العام: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). فالتفريق بين هذا الشمول، وهو قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة) وبين الشمول في نصوص أخرى، حيث تأمر ببعض العبادات، أو تحض على بعض العبادات حضاً عاماً، هنا يقع كثير من الخلط واللبس على بعض الناس. وأنا قبل أن أذكر ما عندي في هذا الصدد، أريد أن أنصحكم بصفتكم -مثلي- طلاباً للعلم، أن تقرءوا لتفهموا هذه المسألة فهماً صحيحاً، ولتكونوا على ما كان عليه السلف الصالح، من الابتعاد عن الابتداع في الدين، ولو كان هذا الابتداع في الدين مستنداً إلى نص عام من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام -لكي لا تقعوا في الابتداع في الدين، أنصح بأن تقرءوا كتاباً هو أعظم كتاب عرفته في هذا الباب، ألا وهو كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي رحمه الله، فهذا الكتاب مختص في هذا الموضوع لا مثيل له فيما علمته، وكل من جاء بعده إنما هو عالة عليه، وإنما هو يستقي منه، كما أن هناك فصلاً خاصاً يجب -أيضاً- أن تقرءوه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ففي هذا الكتاب طرق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الموضوع الهام الخطير، فانتهى -من حيث الجملة- إلى ما يدل عليه الحديث السابق وما في معناه: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ولكنه نظر إلى المسألة من زاوية أخرى، وهي: أنه قد تحدث بعض الأمور، ويرى أهل العلم أنها أمور مشروعة، ومع ذلك فهي لم تكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف لم يطبق عليها القاعدة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؟ بينما حدثت محدثات كثيرة وكثيرة جداً، اعتبرها أهل العلم والتحقيق كالشاطبي وابن تيمية وغيرهما من المحدثات، فما هو الحكم الفصل بين ما يحدث ويكون مشروعاً، وبين ما يحدث ولا يكون مشروعاً؟ هذا ما فصل القول فيه الإمام الشاطبي في الكتاب السابق (الاعتصام )، وجمعه وأوجز الكلام فيه شيخ الإسلام في الكتاب المذكور آنفاً، فأنا أوجز لكم القول. لا أريد -بطبيعة الحال- أن أذكركم بالنصوص التي تؤكد هذه القاعدة الإسلامية العظيمة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، لأنني أعتقد أنكم على علم بذلك -كما أظن وأرجو- ولكن أريد في الواقع أن أبين لكم أمرين اثنين؛ لتتحققوا من معنى هذا الحديث الصحيح: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فلا تقعون في إفراط ولا تفريط. لأن بعض الناس لجهلهم بما سيأتي ذكره عن الشيخين يحدثون محدثات ويتمسكون بها؛ لأنها دخلت في نصوص عامة، وأناس آخرون ينكرون أموراً حدثت بحجة أنها حدثت، وهي ليست بالمحدثات من الأمور، هذا التفصيل الدقيق نحن جميعاً بحاجة إليه .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن ما يحدث بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ينظر إليه، فإن كان ما حدث ليس له علاقة بالدين فهو من الأمور المباحة، التي يجوز للمسلم أن يعمل بها بشرط واحد: ألا تخالف نصاً من كتاب أو سنة. لأن شيخ الإسلام كجماهير العلماء الأعلام يذهبون إلى القاعدة المعروفة ألا وهي: الأصل في الأشياء الإباحة. فكل ما يحدث من المحدثات مما ليس له علاقة بالدين -أي: بالعبادة- أي: لا يفعله المسلم ويقصد به زيادة التقرب إلى الله، هو من الأمور المباحة، إلا إذا خالف نصاً من كتاب أو سنة.
إذا كان هذا الذي حدث بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له علاقة بالدين، فينظر؛ فإن كان المقتضي للعمل بهذا المحدث قائماً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم هو لم يعمل به، ولاحض الناس عليه؛ فيكون العمل بهذا الأمر الحادث بدعة ضلالة، أي: إذا كان المقتضي لتشريع هذا الذي حدث بفعله عليه السلام، أو بقوله، ثم لم يشرع ذلك لا بفعله ولا بقوله، فالأخذ بهذا الأمر الحادث هو البدعة الضلالة، وهو الذي تنصب عليه الأحاديث التي تنهى عن الابتداع في الدين. مثال ذلك: الأذان لصلاة العيد، والقول: بـ(الصلاة جامعة) بالنسبة لغير صلاة العيد، كصلاة الاستسقاء، ونحو ذلك، فالأذان لصلاة العيدين باتفاق علماء المسلمين لم يكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو زين لعالم ما أن يعلن عن وقت صلاة العيد بالأذان، فهذا ما حكمه في الإسلام؟ على الرغم من أن الأذان ذكر لله عز وجل، وشعيرة من شعائر الإسلام؟ يقول شيخ الإسلام : الأذان لصلاة العيد يكون بدعة وضلالة؛ لأن كل بدعة ضلالة، ولأن هذا الأذان ذكر، وله صلة بصلاة العيد، وهي من أكبر العبادات، فإحداث هذا الأذان يكون بدعة ضلالة لا يجوز لمسلم أن يتقرب بها إلى الله عز وجل -السبب- قال: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يصلي العيدين، والمقتضي لإعلام الناس بهذا الأذان كان موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الناس بحاجة إلى هذا الإعلام، فما دام أننا عرفنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام مع وجود المقتضي لتبني هذا الأذان لم يتبنه ولم يأمر به، كان الأصل إحداثه، والأخذ به بدعة ضلالة. دروس ومحاضرات مفرغة من تسجيلات الشبكة الإسلامية .