قصة عجيبة للحافظ بن حجر - رحمه الله - مع يهودي ..
================
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد :
فقد كنت قرأت من حوالي عشرين سنة قصة عجيبة يمكن أن تبين لمن يقرأها معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( الدُّنيا سجنُ المؤمنِ وجنَّةُ الْكافرِ )) رواه مسلم .
هذه الدنيا المترامية الأطراف شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا على سعتها تعتبر سجنا للمؤمن مهما أوتي من نعيمها ، والسعة فيها ، أما بالنسبة للغرباء فهي زنزانة لا تكاد تتسع إلا للتوحيد ولزوم السنة والقبض عليها بالنواجد .. كيف لا تكون سجنا وهي لا تساوي جناح بعوضة ، فكيف لا تكون سجنا وهي مثل جيفة زهد فيها أهلها ، كيف لا تكون سجنا وهي كظل شجرة استظل تحتها الراكب ثم تركها ورحل ، هذه حقيقة الدنيا الدنية .
وبالمقابل فهي جنة الكافر رغم دنو منزلتها ، وحقارة قيمتها ؛ وهوانها على العقلاء من أهلها ، فهي لا تساوي جناح بعوضة كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولا حتى جيفة ، ومع ذلك فإن الكافر يراها بزينتها وجمال طبيعتها المادية جنة غناء عظيمة وحلوة خضرة يتنعم فيها كما يحلوا له ، لا يرى شيئا أفضل منها ولا أجمل منها ولا أنعم فيها منها ..
وهذه القصة التي أرويها بمعناها تبين معنى ذلك بوضوح ، وهي أن الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري - رحمه الله - كان قاضيا في مصر ،وكان القضاء في ذلك الوقت له شأن كبير ، فلا يخرج القاضي منصرفه من عمله إلى البيت إلا في موكب مهيب ، فهو القاضي ومعه حاشيته وحراسه ، وذات يوم اعترضه يهودي فقير معدم في حالة يرثى لها في الطريق واستوقفه ، فوقف له القاضي في أبهة موكبه ، ورق لحاله لعله يكون له مظلمة ولم يستطع أن يصل إليه في دار القضاء ..
فقال اليهودي للقاضي - يزعم نبيكم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فأي سجن هذا الذي أنت فيه ؟! وأنت القاضي وقبضتك على البلاد والعباد في مصر ، وأنت تحيا حياة الملوك ..
وأي جنة هذه التي أنا فيها وأنا الفقير المعدم وأنت ترى حالي ؟!
فكان الجواب القاضي جوابا حكيما رائعا فقال له في لطف وعطف : بالنسبة لما أعده الله للمؤمنين في الجنة من سعة ونعيم مقيم ، وعفو ورحمة ومغفرة وراحة نفس ، وطمأنينة حال ، وقصور وخيام وحور عين وولدان وأنهار من ماء وخمر ولبن وعسل مصفى، ونعيم لا يخطر ببالك ، وفوق ذلك رؤية الله تعالى فأنا في سجن ، لأن الدنيا بالنسبة للآخرة عند الله لا تساوي جناح بعوضة ، وحضي من جناح البعوضة لا يكاد يكون شيئا..
وأما بالنسبة لما أعده الله للكفار في الجحيم من نار تلظى تدعو من أدبر وتولى نار تشوي الوجوه، ومن عذاب عظيم مقيم لا يفنى ، وحر تذوب منه الصخور والحديد ، والعذاب الشديد ، وشراب من حميم وقيح وصديد وغير ذلك ... فأنت الآن في عافية وسلامة من ذلك ، وأن النجاة من النار وذلك العذاب عافية لا يساويها شيء إلا الجنة ، فأنت في الجنة مادمت في عافية وسلامة وارحة من ذلك ، فلما سمع اليهودي ذلك أسلم وخرج من جنة الدنيا إلى سجنها ، ليفوز بما أعده الله للمؤمنين في الآخرة .
اللهم اغفر عنا واغفر لنا واجعلنا من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .