الرد بالأدلة والآثار على من لعن من قال إن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم في النار [ج1]
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى أصحابه الغر الميامين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
إن الناظر المتمعن في هذا المقال- الأبتر من البركة - بسبب أن صاحبه لم يفتتحه بالبسملة والحمد والثناء على الله ، بعنوان " ملعون من قال أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم في النار "ليدرك من أول وهلة أن السبب الذي دفعه لكتابته هو حبه للنبي صلى الله عليه وسلم ،ودفع الأذى عنه ،والغيرة على أبوي النبي صلى الله عليه وسلم – ونعم الحب ، ونعم الدفاع ونعم الغيرة - لو كانت بتعقل وعلم ، وعدل وورع ، إلا أن صاحب الموضوع لم يسلك هذا السبيل ، ولم ينتهج سبيل التحري والتحقيق والتدقيق ، بل خلط خلطا عجيبا ، وجاء بأغلوطات ظنها من الواضحات ، أو اختلط عليه الأمر حتى هدم ما بناه كالتي تنقض غزلها ، كما سأبينه- إن شاء الله - مع أنه يدعي أنه بلغ مبلغ المجتهدين ، بقوله : ولا أعلم ، ولا أدرى بأي طريق استقى البيهقي علومه الخاصة ،فذهب يصف بعض علماء الأمة كالإمام مسلم بن الحجاج إمام عصره والإمام النووي ،والبيهقي، وابن كثير بما لا يليق أن يوصف به ، منتقدا علماء الحديث وعلومه بطريقة ماكرة ، وخدعة ظاهرة ، من نظر فيها حسبها شيئا ، وهي على شفا جرف هار يكاد ينهار به في مهاوي الضلال ومعاقل الحدادين الجهال ، ولبيان الحق في الموضوع ، وإخراج ما ينفع الناس من زبده المصنوع ، ورد كلامه المكتوب والمسموع ،بالبرهان المشفوع ، بالحجة والدليل المقطوع ،لعله يرجع ويترك الخوض في الممنوع ، أقول سائلا المولى الإعانة لما توخيت من الإبانة إنه نعم المولى ونعم النصير .
أولا: لقد أنزل أبو أسامة الموضوع مبتورا من المقدمة ، ولم يذكر لنا من صاحب المقال ، حتى نعرف هل هو من العلماء الرجال الذين تشد إليهم الرحال أم من الرويبضات فنعرض عنهم في الحال؟ أو نبين ما عندهم من ضلال .
وثانيا : أنزله بعنوان [ ملعون من قال أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار ].
وهذا اللعن مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم فقد قال : << ليس المؤمن باللعان ولا الطعان ولا البذيء >>صحيح الجامع [ح5257].فلا يليق بمؤمن أن يلعن مسلما أخطأ في مسألة علمية فكيف بمن لعن عالما أو علماء أو جماهير الأمة نازعوه في مسألة علمية صح عندهم الحديث فيها ، هذا والله عين التعصب بالظلم والعدوان، واللعن بالباطل والبهتان .
ثالثا : لم يسند هذا اللعن عن ابن العربي رحمه الله ، ولم يذكر أين قاله ، مما يجد العبد في النفس منه شيئا ، فأنني أرفع بابن العربي عن هذا المستوى ... أن يكون قاله، وعلى فرض ذكر السند إليه ، وعزوه إلى مصدره لم يحقق صحة نسبته إليه ، وعلى فرض صحة نسبته إليه فهو مخطئ من جهة اللعن ، لا من جهة اجتهاده ، فلا ينبغي تقليده فيه ...
رابعا : إن هذا اللعن يستلزم منه لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عنه الحديث ، ويستلزم أيضا لعن كل من روى هذه الأحاديث ، وهذا أمر خطير إن قاله عن اعتقاد، أرأيت لو ثبت الحديث في الموضوع ، فهل يجوز لعن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وهل هناك أذى لله ورسوله أعظم من هذا ؟ وهذا جزؤه قال تعالى :{{ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا }} ألا تخشى أن يعود اللعن عليك وعلى قائله في الدنيا والآخرة ، ألم يكن الأجدر بك أن تتأدب مع جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم فتترك النقل عن ابن العربي ،ولا تعنون لموضوعك باللعن حتى إذا ثبت الاحتمال بصحة الأحاديث التي تشكك فيها تكون بريئا من التعرض للعن النبي صلى الله عليه وسلم ، وباقي العلماء الذين نقلوا عنه ذلك من صحابة وتابعين وتابعيهم بإحسان ..ولا ترجع عليك اللعنة .
وأيضا تصرف أبو أسامة في الموضوع ولم يميز المواطن التي تصرف فيها، حتى نفرق بين الرد على صاحب المقال، وبين ما تصرف فيه ، كما ذكر لنا أن الموضوع منقول ، ولكن لم يذكر من أين نقله ؟ فليعلم الأخ الكريم أن كل هذه المسائل مما تفقد الموضوع الأمانة العلمية وتنقص الثقة فيه عند أهل التوثيق و التحقيق للعلوم الشرعية .
ثالثا : ذكّرنا بملاحظة تنقض الموضوع وتهدمه من أصله وهي قوله :
ملاحظة: أتمنى على الإخوة أن يتناولوا الموضوع من جانبه العلمي فحسب.لأنفيه الرد الوافي والشافي.
فقوله : أتمنى على الإخوة أن يتناولوا الموضوع من جانبه العلمي ... جوابه أن يقال له: وهل أبقى صاحب المقال لقائل سبيلا للعلم وهو حشا موضوعه وملأه بالطعن، والتنقيص، وسوء الظن بالعلماء ، وعدم الأدب معهم ، وتجريحهم والجرأة عليهم .. حتى يتناول معه الموضوع من جانبه العلمي البحت ؟ وقد سد الباب أما من تسول له نفسه بالرد والبيان أنه حكم عليه مسبقا بأنه ملعون .. ومع ذلك فقد سولت لي نفسي أن أبين الحق لتنزل اللعنة بعد ذلك على من خالفه .. فأقول :
وهل هذه الجمل والعبارات من العلم والأدب ؟ ) زيَّن (مسلم) هكذا باستنتاجه الفطن ...
أنظر إلى هذه الادعاء والتنقيص ..
ورغم أنني على حد علمي لم أعرف أن مسلما كان فقيهزمانه لكي يحكم بهذا وحده...
ومدعيا على أبوي النبي ادعاءً عظيما كهذا، ثم تأكيدهفي عنوان الباب استنتاجه بجرأة أن أبا النبي في النار خالدا لا تنفعه شفاعةالنبي.
ولا أعلم أيضا كيف يملك النووي هذه الجرأة أولا ...
فكيف عرف ذلك وكيفتأكد منه وكيف أجاز لنفسه أن يقول ..
وهنا يكرر (النووي) ذات الجرأة ..
ثم يخلطالنووي في نهاية تعليقه خلطاً كبيرا ..
أو أنه إمعان في الجرأةوتأكيد لهوان ما يكتبه عليه قد جعلها عامدا من عند نفسه تتصف بالوصفين معا فهيمشركة كافرة، ويا للعجب من جرأة كهذه ..
وأما(البيهقي) فيزيد الجرأة إبداعاوشرحا..
ولا أدرى من أين استقى علومه الخاصة التي أكد منها أنهم كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا، فإما أنهرآهم بعينه وهم يعبدون الوثن قبل الإسلام وهذا خيال ومحال، أو لعل ذلك الجزمبعبادتهم الأوثان قد جاءه فى المنام.
وما قاله (ابن كثير) هو أعجب العجاب بل هوالتعنت بعينه والمغالاة بقبحها فلأنه لا يريد أن يرد..
وأخيرا : يقول: .. لأنفيه الرد الوافي والشافي.
فأقول :فأي وفاء يا أخي وأي شفاء في هذه العبارات وما سيأتي؟ لا، لا يا بني اسمحلي أن أقول لك : بل فيه الظلم ، والتعالم على أهل العلم ، وعدم الأدب معهم ..والجرأة والقبح ، والأذى ..وليس فيه من العلم إلا الخلط والتمويه ، والتلبيس سامحه الله .
وأين العلم في قوله : ولما بدأ عصر تدوين الحديث النبوي استحدث علماء الحديث دلائل وقرائنللتحقق من صدق أو كذب الإسناد - رواة الحديث ..
فقوله استحدث ، بمعنى استفعل ، وهو طلب الإحداث بمعنى أنهم ابتدعوا أشياء من عند أنفسهم ، ولم يتتبعوا أو يستقروا الأدلة من الكتاب والسنة ، ثم قعدوا منها قواعد وضوابط اصطلحوا على تسميتها بعلوم الحديث دراية وراية ، مما سماه صاحب الموضوع بمصطلحه الجديد -دلائل وقرائن – وهذا فيه طعن ضمني يؤكده قوله فيما بعد : ورغم نُبل ووجاهة الفكرة نظريا .. فقوله: نظريا .. وكأن العلماء لم يستعملوا هذا العلم في واقع الرواية على الوجه الصحيح ، حتى فلتت منهم فلتات عظيمة أبقت الحال على ما هو عليه من الاختلاط الذي يصفه صاحبنا ، ولم تستفد الأمة منه في غربلة السنة النبوية ..
ويؤكده قوله : فإنسلبيات مخيفة ومريعة قد نتجت عنها فيما بعد، حيث تطورت فكرة (الإسناد) تطورا عكسيافأصبح يمثل قيدا ليس على قبول الحديث، بل على رفضه بمعنى أنه إذا صح السند وكانرواة الحديث ثقات أو أثبات أو عدول (بتقدير البعض)...
أنظر أيها الناقل العاقل –وأنت المؤدب بالسفه -إلى الطعن في جهود جهابذة الأمة كيف يصفها بأنها أصبحت عكسية سلبية أثرت أيما تأثير على العقل الذي وقف حائرا أمام روايات صحت بها الأسانيد برواية الثقات الأثبات فأين الأدب يا صاحبي مع هؤلاء ؟ وأين العلم الذي تطالبنا به أيها الكريم ؟
وانظر إلى قوله : ...أدى ذلك طواعية وتبعية إلى قبولالحديث واستحالة رفضه ولو كان يناقض صريح القرآن، فتحول السند من كونه قيدا لقبولالحديث إلى قيد ضد رفضه، مما أدى إلى قبول وتدوين أحاديث تناقض وتضاد القرآن بوضوحوصراحة وجرأة، ومع أن المحدثين الأوائل وضعوا أول ضوابط قبول الحديث وهى وجوبية عدممخالفة الحديث لصريح القرآن، وما اقترفه أهل التراث يتمثل أمامنا فى الكثير منأحاديث الصحيحين ولكننا سنهتم في المقال بحديثين من هذه النوعية.
فقوله :.. أدى ذلك طواعية وتبعية إلى قبولالحديث واستحالة رفضه ولو كان يناقض صريح القرآن، فتحول السند من كونه قيدا لقبولالحديث إلى قيد ضد رفضه، مما أدى إلى قبول وتدوين أحاديث تناقض وتضاد القرآن بوضوحوصراحة وجرأة...
أقول: لم يقل أحد من علماء الحديث أنه يستحيل رفض السند ، بل ردوا كثير من الأسانيد ، لم تتوفر فيها الشروط والضوابط التي قعدوها لقبول الإسناد ، وقبلوا أسانيد أخرى ولم يجزم أحدهم بأنها قطعية إلا فيما تواتر ، وكانت عندهم دقة عجيبة أبهرت الأعداء استفاد منها أعداء الإسلام الآن وفي غابر الأيام، وكذلك قعدوا قواعد أخرى في أصول الفقه عملوا بها فيما بعد ، وهي أنهم تركوا أحاديث صحت أسانيدها لأن ظاهرها يخالف مقاصد الشرع، وعندي أمثلة كثيرة على هذا ، وقد بحثوا كل الأحاديث التي أشكلت عليهم مع القرآن أو مع بعضها البعض وجمعوا بينها، وأراحوا من بعدهم ، وخرجوا بأنه لا توجد أحاديث صحيحة تناقض صريح القرآن ، بل قالوا إن السنة مبينة للقرآن شارحة له ...وصدق الإمام أحمد رحمه الله حين قال في رسالته أصول السنة : ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفي ذلك وأحكم له فعليه الإيمان به والتسليم ..
واعلم أن الإسناد من خصائص هذه الأمة ، والإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء في الدين ، ولعمت الفوضى وتحرف الدين وبدل وغير ،فهل تجوز في عقلك أنه يمكن أن تحرس البيضة من الكسر بغير سلاح ، ولا وقوف عندها ولا محافظة عليها، هذا يستحيل عقلا وشرعا ،فالإسناد سلاح عظيم من أجل حماية حياض السنة من الكذب ، والتحريف والتغيير ، فقد أجمع العلماء سلفا وخلفا على قبول قواعد الإسناد ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم << إن أمتي لا تجتمع على ضلالة >> رواه أبو داود كتاب الفتن بلفظ<< وأن لا تجتمعوا على ضلالة >> و ابن ماجة كتاب الفتن ، وتلك القواعد مستقاة من الكتاب والسنة، وليست مستحدثة ، ولو قرأت مقدمة صحيح مسلم -الذي نلت منه- لعلمت قيمة تلك القواعد الذهبية التي قعدها أهل الحديث منهم الإمام مسلم رحمهم الله جميعا.
وأما قولك :..مما أدى إلى قبول وتدوين أحاديث تناقض وتضاد القرآن بوضوحوصراحة وجرأة...
هذا طعن في علماء الحديث ، كأنك تقول أنهم دونوا وقبلوا أحاديث باطلة تخالف صريح القرآن ، وتجرءوا على ذلك ، نعوذ بالله من الخذلان ومن هذا الهذيان ،الذي نقضته بنفسك بقولك :
.. ومع أن المحدثين الأوائل وضعوا أول ضوابط قبول الحديث وهى وجوبية عدممخالفة الحديث لصريح القرآن..
ألم تعلم أن مسلما من أولئك الأوائل الذين كان لهم النصيب الأوفر في نقل تقعيد كثير من القواعد المستنبطة من الكتاب والسنة بالأسانيد الثابتة الصحيحة ،والتي وافقه عليها أهل العلم ممن كان في عصره ، أو جاء بعده ، ولو قرأت مقدمة صحيحه لعملت ذلك ، ثم من تقصد بالأوائل ؟ لعلك لا تعرف أن رواة الحديث الذي استنكرته مع وجوده في صحيح مسلم هم من أولئك الأوائل كالحسن بن سفيان ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، والفضل بن دكين ، وإبراهيم بن سعد ، والإمام الزهري في سند آخر فقد رووا نفس الحديث من طريق آخر بالسند الصحيح عند الطبراني .. والإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه وغيرهم ..، فلو درست إسناده لعلمت أن الحديث رواه أولئك الأوائل الذين تشيد بهم ، وقد ورد الحديثان بطرق كثيرة فيها كثير من أولئك الأوائل ولم يقل أحدهم ما قلته أنت .. فأين العلم الذي تطالبنا به أيها الكريم ؟
ثم يأتي لينقض إشادته بالأوائل بهذه المقولة : وما اقترفه أهل التراث يتمثل أمامنا في الكثير من أحاديث الصحيحين ولكننا سنهتم في المقال بحديثين من هذه النوعية.
من هم أهل التراث الذين تقصد غير أهل الحديث الذين دونوا ونقلوا أحاديث تخالف صرح القرآن في زعمك؟ فإن علماء الحديث قاطبة ينكرون أن يكون هناك أحاديث صحيحة تخالف صريح القرآن وخاصة ما جاء في الصحيحين ، وإنما المعتزلة هم الذين ينكرون ذلك على قاعدتيهم المشئومتين ، التحسين والتقبيح العقليين ، فما رآه العقل حسنا فهو حسن حتى لو كان أبطل الباطل ، وما رآه العقل قبيحا فهو قبيح حتى لو كان حقا من القرآن أو السنة الصحيحة، وبهذا ردوا أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما ، ولم يثبت عن أحد من أهل الحديث أنه رد أحاديث في الصحيحين أو أحدهما ،حتى الذين انتقدوا عليهما أحاديث ، جاء آخرون من بعدهم وردوا تلك الانتقادات ، وإن كان عندك شيئا من ذلك فتفضل به مشكورا ، أما أنا فعندي أمثلة كثيرة على أن المعتزلة هم الذين ردوا أحاديث كثيرة ، وكانوا سببا في هذه الطامة التي آتيت بها ، أكتفي بذكر بعض الأمثلة عن واحد من المفكرين المعاصرين الذين تأثروا كثيرا بالاعتزال والفلسفة ،وهو الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله - الذي يصفه صاحب المقال بالقلب الشجاع ،وهو غارق في البدعة إلى القاع ، فقد رد أحاديث في البخاري ومسلم كما في بعض كتبه ، منها حديث الذباب ، وحديث ملك الموت الذي فيه أن موسى فقأ عينه ... فهذه الأمثلة هي أكبر من العقل ،والعقل عنده يردها والأسماع تمجها على حد تعبيره ، فوقف العقل حائرا أمامها فعمدوا إلى إنكارها أو تأويلها بحجة أنها تخالف القرآن أو العقل الذي فهم القرآن فهما علميا صحيحا أفضل من فهم السلف الصالح الذين رووا الأحاديث وقالوا نؤمن بها على مراد الله ومراد رسوله ، حتى جاء العلم المادي فكذب العقلانيين وأثبتها وحينها فقط سلموا بذلك ومع ذلك لم يرجعوا عن طريقتهم الفاسدة .وقالوا طريقة السلف أسلم وطرقة الخلف أعلم وأحكم ، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم عن يقولون إلا كذبا ، فطريقة السلف أعلم ، وأحكم ، وأسلم ، وطريقة الخلف أظلم وأجهل ومن العلم أعدم .
الآن دعنا نعود بك لنقف معا على بعض كلامه الذي جانب فيه الصواب ورمى فيه أولوا الألباب باللعن والطعن في الحديث ومخالفة صريح الكتاب فقال:
)زيَّن (مسلم) هكذا باستنتاجه الفطن باب الحديث باسم «بيان أنمن مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين« ولا أعلمكيف جزم (مسلم) بهذا ...
أولا:أتدري فيمن تتكلم ؟أأنت عاقل مسلم ، أم غافل مجرم ، إن الإمام مسلم إمام عصره بلا منازع .
قال الإمام الذهبي رحمه الله: هو الإمام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق صاحب الصحيح .سير أعلام النبلاء [ج12/557]وترجمته من السير حافلة بثناء العلماء عليه ، وأنه الإمام المبجل .
قال الإمام النووي رحمه الله : اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان البخاري ومسلم، وقد تلقتهما الأمة بالقبول .مقدمة شرح صحيح مسلم وكتابه الأسماء واللغات،[ج2/89/1].فإن التشكيك في الصحيحين تشكيك فيما تلقته الأمة بالقبول ، فهذا قولك : وما اقترفه أهل التراث يتمثل أمامنا في الكثير من أحاديث الصحيحين .. فهذا ما اقترفه أهل التراث عندك عامة فلم تستثني منهم إلا السيوطي وابن العربي ..وجاءوا ب [ سلبيات مخيفة ومريعة قد نتجت عنها فيما بعد، حيث تطورت فكرة (الإسناد) تطورا عكسيافأصبح يمثل قيدا ليس على قبول الحديث، بل على رفضه بمعنى أنه إذا صح السند وكانرواة الحديث ثقات أو أثبات أو عدول (بتقدير البعض)...
وقال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية في ترجمة الإمام مسلم. [ج11/33]صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء ، وذهب بعض المغاربة وعلي النيسابوري إلى تقديم صحيح مسلم على البخاري ...
وقال ابن حجر رحمه الله تهذيب التهذيب [ج10/114] حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله ، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى ،وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهاب .هذا قول الحافظ ابن حجر ، ولا يعرف الفضل لذوي الفضل إلا أهل الفضل . وقال ابن عقدة : قلما يقع الغلط لمسلم في الرجال لأنه كتب الحديث على وجهه .
وقال الحاكم : سمعت أبا الفضل محمد بن إبراهيم سمعت أحمد بن سلمة يقول عقد لمسلم مجلس المذاكرة فذكر له حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله وقدمت له سلة فيها تمر فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث . زاد غيره فكان ذلك سبب موته . هكذا هي همم الربانيين ، يدفع حياته ثمنا في سبيل التوثيق والتأكد من الحديث ، ويأتي مثلك أيها المتعالم لتنال من شموخ هؤلاء .
وقال فيه شيخه محمد بن عبد الوهاب الفراء كان مسلم من علماء الناس وأوعية العلم ما علمته إلا خيرا ..
وقال ابن الجارودي : حدثنا مسلم بن الحجاج وكان من أوعية العلم ، وقال ابن ابي حاتم : كتبت عنه وكان ثقة من الحفاظ له معرفة بالحديث .تهذيب التهذيب [ج10/115].
هذا هو الإمام الذي أطبقت الدنيا على فضله وقبول كتابه ،حتى وجد من أجدادك من يقدمه على البخاري ، وما وجدت أحدا جرحه أو طعن فيه ، حتى تأتي أنت -ولا أحد يسمع بعلمك- فتتجاوز كل هذه العصور وتقطع ظهور هذه الأجيال من الجبال الأثبات من أهل العلم لتطعن فيه وتصفه بأنه ليس بفقيه وليس له الأهلية ليحكم على حديث آحاد وإنما الأهلية لك لترد الحديث وتحكم عليه بأنه يخالف القرآن ، وكأن كل من نظر في صحيح مسلم من مئات الآلاف من العلماء على مر هذه العصور فاتهم هذا الفضل حتى أدركته أنت ، فالويل لك من الله يوم تلقاه .
إن قولك ذلك في الإمام مسلم ليس طعنا فيه فقط بل هو طعن في الأمة التي تلقت كتابه مع صحيح البخاري بالقبول ، ويُقصد بالأمة هنا العلماء ،ويستلزم منه أنهم غشوا باقي الأمة التي لم تطلع على الأحاديث التي تفرد بها مسلم أو أخرجها أيضا البخاري وهي تخالف صريح القرآن ، فجئت أنت لتطلعها على ما فات أولئك الجهابذة من النقاد ، فالله حسبك من هذا التطاول ، وهذا الاعتداء فانظر إلى هذه الأجيال من العلماء الماضين لم يتجرأ أحد منهم من أهل السنة على وصمه ووصفه بما وصفته بل كلهم يثني عليه ويجله على ما قدم للأمة ، حتى لو كان من بعض المنتقدين لبعض أحاديثه .
إن الإمام مسلما ما كان ليؤذي الله لأن أذية الرسول صلى الله عليه وسلم هي أذية لله تعالى ، وما كان له أن يخالف القرآن الكريم ،وهو الذي أوقف حياته في الحل والترحال على خدمة كتاب الله وسنة رسوله ، ودفع في سبيلها كل غال ونفيس حتى دفع حياته ثمنا للتأكد من حديث واحد نسب إليه ، ولو اطلعت على شيء من سيرته في طلبه للحديث وطريقة جمعه له ، والتعب الذي حصل له لما وسعك أن تفوه بكلمة فيه، وتتجرأ عليه بهذا الكلام المشين .
وانظر إلى قولك فيه : ورغم أنني على حد علمي لم أعرف أن (مسلما) كان فقيهزمانه لكي يحكم بهذا وحده، هكذا ابتداء على حديث آحاد، لم يشاركه في إخراجه معلمهوأستاذه..
فهذا أيضا من جهلك بترجمته وتطاولك على من أثنى عليه، وإلا فمتى علمت أن السلف كانوا يفرقون بين الفقه والحديث ، وهل الفقه غير الحديث ؟ وهل كان رسول الله فقيها أم محدثا، أم كليهما ؟ فإن قوله عليه الصلاة والسلام: << من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين >> أخرجاه في الصحيحين ، لا يعني به التفقه في الدين على طريقة الفقهاء خاصة من معرفة شروط الوضوء والصلاة ، والشرط والسبب والعلة ، والواجب والمستحب والمكروه والحرام، وغير ذلك من الأحكام والقواعد الفقهية ، وإنما يقصد به الفهم في الدين فهما صحيحا على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه ، على مراد الله ومراد رسوله ، وهذا الفهم هو الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم : << خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا >> أخرجاه في الصحيحين ، وقوله فقهوا أي بفتح الفاء وليس بكسرها . ثم أقول لك من أنت يرحمك الله وما مبلغك من العلم ؟ حتى تحكم على جبل من جبال العلم ذنبه أنه اتبع العلماء الذين قبله فخرج الحديث بإسناد على شرطه تبرأة للذمة ، ولم يكن بدعا منهم، فكيف حكمت عليه بأنه لا يسحن الحكم ابتداء على الأحاديث ، ثم سوغت لنفسك أنت فحكمت عليها ابتداء بأنها تخالف القرآن وأنها أحاديث آحاد ؟ فلم تقبلها ولو كانت ألف حديث ، وحديث في الصحيحين التي عبثت أيدي أهل التراث بهما على حد تعبيرك أيها الدعي؟
يتبع إن شاء الله ...