التودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن السؤال نصف العلم ....
===
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد :
فإن حسن الخلق نصف الدين كما جاء عن أنس بن مالك مرفوعا بإسناد صحيح .
وإن من حسن الخلق التودد إلى الناس والتحبب إليهم بالإيمان والإحسان ، والعلم والحلم ، والبر والخير ، والصبر والشكر ، والكلمة اللطيفة والمعاملة الأليفة ، والبشاشة للإخوان حتى تدفع الأضغان ، ومداراة الناس والحب لهم ما تحب للنفس ، بالمال وحسن المقال ، وبتحملهم ومساعدتهم وترك أذيتهم ..ونصحهم وقبول نصيحتهم ، ونصرتهم وعدم الانتصار منهم...
عن ميمون بن مهران قال : التودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن المسألة نصف الفقه ، ورفقك في معيشتك يلقى عنك نصف المؤونة . رواه ابن حبان في روضة العقلاء (٦٥) والبيهقي في شعب الإيمان (٤٣٦٣- ٦١٤٧) والمدخل إلى السنن( ٣٠١)والرامهرمزي في المحدث الفاصل (٢٧٥) من قوله ورواه الماوردي في الأمثال والحكم مرفوعا ، وابن عبد البر في بهجة المجالس بصيغة التمريض . والمرفوع حكم عليه الألباني بأنه موضوع في ضعيف الجامع (٢٢٨٦) . ولكنه صحيح إلى ميمون بن مهران من قوله، وورد عن الحسن البصري أيضا من قوله . كما في عيون الأخبار لابن قتيبة (٣/٢٨).
وهذا الأثر خرج مخرج المدح كقوله صلى الله عليه وسلم :(( الطهور شطر الإيمان ..)) مسلم في صحيحه (٢٢٣).
وقوله صلى الله عليه وسلم :(( إذا تزوج الرجل فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي)). وفي رواية : ( من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه ...) صحيح الترغيب والترهيب (١٩١٦). فالنصف الباقي هو في امتثال الواجبات ترك المنكرات فليتقي الله في ذلك.
وذكر فيه ثلاثة أمور هي نصف الفضل في بابها فليتقي امرؤ الباقي لاستكمال الفضل كله والشرف كله في تلك المراتب ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ، وإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ علَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سَائِرِ الطَّعَامِ » البخاري (٣٤١١) ومسلم (٢٤٣١).
١- فالتودد إلى الناس نصف العقل ، والنصف الباقي في إيمانه ودينه . فقد رود :" أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس"
ويمكن أن يستدل له بآيات كثيرة منها قوله تعالى :{{ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) }} .
وقوله تعالى :{{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}}.
وبقوله تعالى : {{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) }}.
وبقوله تعالى : {{ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) }}.
وقوله تعالى : {{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }}.
ومنها قوله تعالى :((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)). والآيات في هذا كثيرة .
وقد حض الإسلام على المؤاخاة والألفة بين المؤمنين ، والموادة لهم وقد ورد في فضل التودد والألفة والأخوة أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة وضعيفة .
منها : « - مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم ، وتَرَاحُمِهِم ، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» متفق عليه، البخاري (٦٠١١) ومسلم ( ٢٥٨٦).
ومنها :«أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، و أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً ، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا ، و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا ، و مَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، و مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ ، و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ ، و مَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ ، [ و إِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ» السلسلة الصحيحة (٩٠٦) وقال: صحيح.
ومنها : حديث رواه الطبراني في مكارم الاخلاق (١٢٩ ) والمعجم الأوسط (٦٠٧٠) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( أفضل الأعمال بعد الإيمان التودد إلى الناس )) وهو ضعيف وفي رواية (( رأس العقل بعد الإيمان ...)) ولا يصح رفعه .
قال أبو بكر الكلابادي في كتابه بحر الفوائد (٦٠) : التودد الإتيان بالأحوال التي يودك الناس ويحبونك من أجلها كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((... ازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس )). قلت : رواه ابن ماجة(٤١٠٢) وقال الألباني صحيح.
ثم قال الشيخ فمن زهد فيم في أيديهم ،وبذل لهم ما عنده ، وتحمل أثقالهم ، ولم يكلفهم حملها من نفسه ،وكف أذاه عنهم وتحمل أذاهم ، وأنصفهم ولم ينصف عنهم ، وأعانهم ولم يستعن بهم ،ونصرهم ولم ينتصر منهم ، فهذه أوصاف العقلاء من المؤمنين ...
إلى أن قال : فمن تخلق بها وعاشر الناس عليها وعاملهم بها وده الناس وهذه أوصاف العقلاء من الناس. انتهى .
وبينها أيضا أبو حاتم ابن حبان في روضة العقلاء (ص٦٥) فقال : التحبب إلى الناس أسهل ما يكون وجها ، وأظهر ما يكون بشرا ، وأخصر ما يكون أمرا ، وأرفق ما يكون بهيا ، وأحسن ما يكون خلقا ، وألين ما يكون كنفا ، وأوسع ما يكون يدا ، وأدفع ما يكون أذى ، وأعظم ما يكون احتمالا ، فإذا كان المرء بهذا النعت ( يعني يتودد للناس بهذه الأخلاق) فلا يحزن من يحبه ، ولا يفرح من يحسده لأن من جعل رضا الناس تبعا لرضا الله وعاشرهم من حيث هم كل بما يستحق كما يحب أن يعاشروه استحق الكمال بالسؤدد وكان ممن كمل من رجال المؤمنين وعقلائهم. انتهى بتصرف يسير .
أما حسن السؤال : فقد أورد ابن أبي الدنيا في كتابه العقل وفضله ( ٦٦) عن محمد بن سيرين قال : (( كانوا يرون حسن السؤال يزيد في عقل الرجل )) وفي إصلاح المال (١٧٥) له : عن الحسن قال:" حسن السؤال نصف العلم" .
أورده الماوردي في أدب الدين والدنيا ( ٧٠) مرفوعا من حديث ابن عمر ولا يصح انظر السلسلة الضعيفة (١٥٧).
ولكن صح عن جملة من علماء السلف ففي التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة (٢١٥٢) عن سليمان بن يسار ، وفي تاريخ دمشق عن سليمان بن موسى . وإسنادهما صحيح.
وقد مر آنفا عن محمد بن سيرين .
٢- وحسن السؤال في طلب العلم والفتوى نصف الفقه ، لأن حسن السؤال يؤدي إلى حسن الإجابة ، وحسن الفهم وحسن التعلم على أحسن وجه .
قال المناوي في فيض القدير (٣/٥٧٥): حسن سؤال الطالب للعلم فإنه إذا أحسن أن يسأله أقبل عليه العالم (والمعلم ) بشراشره وألقى إليه ما في سرائره فكأنه حاز نصف العلم أول الطلب ، وكما أن حسن السؤال محمود في الأمور الدينية فكذلك هو محمود في الأمور الدنيوية .انتهى .
وانشد المبرد عن أبي سليمان العنزي :
فسل الفقيه تكن فقيها مثله --- لا خير في علم بغير تدبر . أدب الدين والدنيا (٧٠).
وانشد أبو الفضل الرياشي :
شفاء العمى حسن السؤال وإنما -- يطيل العمى طول السكوت على الجهل .تاريخ بغداد (٥/٣١٥). وورد بلفظ : شفاء العي ...
وانشد أحمد المنيني :
يا لبيبا يرتاد مجلس علم --- ثم يلقي السؤال من غير فهم.
حسن القول في سؤالك وأسأل --- إن حسن السؤال نصف العلم.
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (١٦٩): وللعلم ست مراتب أولها حسن السؤال .
وقال في حادي الأرواح (٦٨): ومفتاح العلم حسن السؤال . انتهى.
وحسن السؤال أهم أحد مراتب العلم ،ويكون باحترام الشيخ المسؤول ، والمعلم وتوقيره ، والتواضع له ومناداته بأحب الألقاب والكنى ، والدعاء له ، وحسن الجلوس بين يديه بأدب وتخشع ، وفي ذلك حديث جبريل الطويل عند مسلم في صحيحه .
واختيار العبارات الحسنة والجميلة في صيغة السؤال وأن يزن سؤاله بكلمات مفهومة واضحة ، ويكون السؤال فيما ينفع وواقع ، ويكون سؤاله سؤال متعلم طالب للحق غير متعنت ولا غبي ولا أحمق يسأل عن مستحيلات أو فرضيات غير ممكنة أو يسأل عن علل في الكون أو القدر أو مسائل شاذة لا طائل من ورائها .
ولا ينبغي أن يكون السؤال لاختبار الشيخ والعالم ، ولا للبروز على الأقران والظهور عليهم ، وإنما يكون قصده الفائدة وتحصيل الحق وظهوره لا غير.
وقضية السؤال مسألة مهمة وأدب قائم بنفسه في العلاقة بين الطالب والمعلم .
وحسن السؤال يشفي من الجهل ويرفع الحرج ويشرح الصدر قال صلى الله عليه وسلم :« ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ » .صحيح أبي داود للالباني(٣٣٦) وقال : حسن .